الفصل الرابع والسبعون

الإنجليز والإِسلام

الحكومة الإِنجليزية عدوة المسلمين عداءً شديدًا لالتهامها الممالك الإِسلامية، تغذ المسير إلى آرابها منها سالكة جادتها المعهودة من اللين والمواربة والخديعة والمخاتلة، فإن بلغ بها السعيُ حدًّا من الغرض فذلك، وإن عجزت أخذت طريقًا آخر لانتزاع قطعة من أيدي المسلمين بأية وسيلة وتسليمها لقوم من سواهم أيًّا كانوا، كأن لها لذة في نكاية أهل الدين وكأنها تبتغي السعادة في تذليلهم ومحو ما يكون من ملكهم، وكمال بهجتها في أن تراهم أذلاء عبيدًا لا يملكون من أمرهم شيئًا!

وفي تصانيف جلادستون وخطبه الضافية أيام الحرب العثمانية مع الروس ومقالات أشباهه نبأ، بل أصدق الأنباء عمَّا تكنه صدور الإنجليز من العداوة للمسلمين.

لهذه الحكومة طمعُ التمكن في أرض مصر، ولها من كل جبل قبضة وفي كل سبيل خطوة لتنال مطمعها، وهمتها اليوم في إرضاء بعض الدول على استبدادها بالأمر في مصر بما تسول لسياسييها من أوهام المنافع وخيالات الفوائد، وفي تثبيط بعضها بالمراوغات والتهديدات، فإن بلغت همتها مبلغ القصد فهو خيرُ ما تطلب، وإلا عقدتْ عزمها على نقل الولاية في مصر من أيدي المصريين والعثمانيين إلى أيدي أقوام آخرين.

هذا ما تُشير إليه جريدةُ الديلي نيوز الوزارية (الإِنجليزية) عند كلامها عن قناة السويس، حيث تقول: يمكن القطع بحياد القناة على الأساس الموضوع في برقية اللورد جرانفيل المرسلة إلى الدول في ٣ يناير سنة ١٨٨٣، وليست تلك الحيدة إلا حكمًا من أحكام النظام الذي وضعتْه الوزارة الإِنجليزية ليكون قاعدة تقوم عليها هيئة الحكومة المصرية بعد جلاء العساكر عنها.

ولكن لا يرى الإنجليز في حيدة القناة وحدها ضمانًا صحيحًا لوقاية مصر من غارة دولة أجنبية عليها، ولا كفالة كافية لاستقلالها، بل يمكن أن يذهب الرأي إلى ضرورة حيدة مصر نفسها بأن تحول حكومتها إلى حكومة سويسرية أو بلجيكية في إفريقيا وتوضع تحت حماية الدول عمومًا، فتؤمن الإغارة عليها من إحداها إذا آل الأمر إلى هذه الحال — والعياذ بالله — فهل يسمح أرباب الحماية أو السيادة بتفويض أعمال الإدارة والقضاء والمالية للمصريين العارفين بشئون بلادهم؟ كيف نظن هذا وقد سجل عليهم الإنجليز أنهم أضعف مِن أنْ يقوموا بعمل جزئي أو كلي في خدمة أوطانهم، وأن من الضروري لحياتهم أن يكونوا آلة صماء في أيدي غيرهم من الأوروبيين؟

قد يعقب ذلك — لو حصل — تشكيل مئات من المجالس في القُطر المصري، كلها تشبه المحاكم المختلطة، أما مجالس الفصل والقضاء — ابتدائية واستئنافية — فالأمرُ فيها بَيِّنٌ، وأما إدارة الداخلية والمالية وفروعها فلا تستقل بها دولةٌ من الدول؛ فإن طبيعة الأمر تأباه، فلا يتولى أعمالَها إلا مجالسُ مؤلَّفةٌ من أقوام مختلفة الأشكال واللغات متبائني الحكومات، ولو تفضل السائدون على المصريين عند بداية العمل لَسمحوا بأنْ يكون في كل مجلس واحد منهم إلى زمان محدود.

أولئك الأعضاء الأجانب وهم نواب دولهم لا يكون سيرهم إلا كما سار إخوانهم من قبل، كل منهم يستدعي من أبناء جلدته مَن يستخدمه في وجه من وجوه الأعمال التي يولي النظر فيها، وتقع بينهم المنافسات، ثم تكون المحاباة، كُلٌّ يتغاضى عما يأتيه الآخر ليتغاضى الآخر عنه، فلا تكون مدة حتى تضيق أرض مصر بالأجانب، ولا يعود فيها مقر لوطني، هذا إلى ما يتبعه من إقامة عسكر مختلط للمحافظة في المدن والأقاليم، فلا يبقى للمصريين إلا خسائس الأعمال يفلحون الأرض ويعانون الأعمال الشاقة ولكنهم أجراء عسفاء لغيرهم يؤدون ثمرات ما يكسبون إلى من لا يعرفون، يخرجون عن جميع ما كانوا نالوه في الأزمان الأخيرة من عهد محمد علي إلى الآن، ولا يمر زمن طويل إلا يصبحون كسكان الأمريكتين ينحسرون إلى بعض الأطراف القاصية عن العمران أو يندمجون مع الأجانب، فلا يوقف لهم على أثر صحيح، وتصير الأراضي المصرية مأهولةً بأخلاط مختلفة، كما في أراضي أمريكا الجنوبية والشمالية، ويقوم لفيف أولئك الأغراب مقام أبناء الأرض الصادقين، وهذا مما لا يسر عاقلًا وإن راق في نظر بعض المباركين.

وأملنا في الدولة العثمانية أن تقوم على قدم ثبت عليها الأسلافُ الأولون، وتقدم بعزيمة ثابتة على المطالبة بحقوقها في مصر وإعادتها إلى حالتها الأُولى قبل التدخُّل الإنجليزي، ثم تلقي بزمام الحكومة فيها إلى ذوي عزم من المصريين؛ صيانةً لحوزة الإِسلام.

وفي الظن أن دولة روسيا لا تفوتها هذه الفرصة لمساعدة العثمانيين؛ لتستميل إليها قلوبَهم، ولا تختلف عنها دولة فرنسا، فإن مصالح الدولتين في فتوحاتها بالبلاد الشرقية تَقضي على السياسيين فيهما — إن كانوا كما يقال سياسيين — بالاتحاد مع العثمانيين.١
١  مرة أُخرى هذا هو المأخذ الوحيد على الأفغاني؛ فهو لا يزال يُصر في صراعه الصحفي على طرد الإنجليز والأجانب واستبدالهما برمز الدولة العثمانية؛ لأنها — على حد قوله — صاحبةُ الحق الشرعي مع المصريين في إدارة البلاد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤