الهروب

سمعتْ كارلا صوت السيارة وهي قادمة حتى قبل أن تعتلي ذلك المرتفع الصغير في وسط الطريق، والذي يطلقون عليه التل هنا في الجوار. إنها هي، هكذا قالت لنفسها. رأت السيدة جاميسون — سيلفيا — في طريقها إلى منزلها بعد أن أمضت إجازتها في اليونان. ومن خلال باب الإسطبل — حيث وقفت مبتعدة حتى لا يستطيع أن يلمحها أحدٌ بسهولة — راحت ترقُب الطريق الذي كان على السيدة جاميسون أن تقطعه بالسيارة؛ فقد كان منزلها يبعد حوالي نصف ميل بطول الطريق عن منزل كلارك وكارلا.

ولو أن أحدًا على وشك الانعطاف بسيارته مقتربًا من بوابة منزلهم، لكان عليه أن يهدئ من سرعته الآن، ولكن لا يزال الأمل يداعب كارلا، فقالت في نفسها: «ليتها لا تكون هي.»

ولكنها كانت هي بالفعل. التفتت السيدة جاميسون مرة واحدة صوب منزل كارلا بسرعة — وقد كانت تبذل أقصى ما تستطيع وهي تراوغ بسيارتها عبر الحفر الصغيرة والأوحال التي خلَّفها المطر على الأرض المفروشة بالحصى — بَيْدَ أنها لم ترفع يدها عن عجلة القيادة لتلوِّح بها؛ إذ إنها لم تلحظ كارلا. لمحت كارلا ذراعها المكتسبة سمرة من الشمس وقد كشفت عنها حتى كتفها، وشعرها وقد أضحى فاتحًا عن ذي قبل؛ فقد أصبح يميل أكثر الآن إلى اللون الأبيض منه إلى اللون الأشقر الفضي، وقد لمحت أيضًا تعبيرًا ينمُّ عن الإصرار والحنق، وقد كانت هي نفسها منشغلة بهذا الحنق، تمامًا على النحو الحري بالسيدة جاميسون وهي تقطع مثل هذا الطريق. عندما أدارت السيدة جاميسون رأسها كان هناك شيءٌ أشبه بالنظرة اللامعة — التي تشي بالتساؤل والأمل — وهو الأمر الذي جعل كارلا تجفل.

إذن.

ربما لم يعلم كلارك بقدومها بعد. إن كان يجلس أمام جهاز الكمبيوتر، فلا بد وأن ظهره كان باتجاه النافذة والطريق.

ولكن قد تضطر السيدة جاميسون إلى أن تقطع رحلة أخرى، فربما لم تتوقف عند أيٍّ من مَحال البقالة لابتياع احتياجاتها وهي في طريقها من المطار إلى المنزل؛ إذ إنها لن تفعل حتى تصل إلى المنزل وترى ما الذي تحتاجه؛ وعندئذ قد يراها كلارك، أو قد يعرف بقدومها عندما يهبط الظلام وتُضاء أنوار منزلها، ولكنه شهر يوليو، ولا يحل الظلام حتى وقت متأخر، وربما يواتيها الشعور بالتعب والإرهاق فلا تحفل بأمر الأضواء، وقد تأوي إلى الفراش مبكرة.

ولكنها من ناحية أخرى، قد تهاتفهم في أي وقت من الآن.

•••

إنه موسم الأمطار، بل الأمطار الغزيرة؛ فهي أول شيء يترامى إلى مسامعك في الصباح؛ حيث تتساقط زخاتها محدِثة صوتًا عاليًا على سطح المنزل المتنقل. وترى الطرق وقد تراكمت بها الأوحال، والحشائش الطويلة غمرتها مياه المطر، وأوراق الشجر تبعث بالماء المنهمر على نحو عشوائي بين الحين والآخر حتى في تلك الأوقات التي لا تنهمر خلالها الأمطار وتبدو السماء وكأنها في سبيلها إلى الصفاء. وكانت كارلا كلما ذهبت للخارج في ذلك الوقت ترتدي تلك القبعة العالية العريضة من اللباد ذات الطابع الأسترالي القديم، وتدس بجديلتها الكثيفة الطويلة داخل القميص الذي ترتديه.

لم يأتِ أحدٌ لتَلَقِّي دروس الفروسية وتعلُّم ركوب الخيل عبر الطرق الوعرة، بالرغم من أن كلارك وكارلا جابوا حول المدينة واضعين الملصقات في كل المخيمات، والمقاهي، واللوحات الإعلانية المخصصة للسائحين، وفي أي مكان آخر يَرِد على أذهانهم. ولم يأتِ للدروس سوى بضعة تلاميذ، وكانوا من المجموعة التي تتردد بانتظام، وليسوا من مجموعات أطفال المدارس التي تمضي عطلاتها الصيفية، أو ممن تقلُّهم الحافلات من المخيمات الصيفية، وهو ما جعلهم مشغولين كثيرًا خلال الصيف الماضي. وحتى طلاب تلك المجموعة المنتظمة التي كانوا يعتمدون عليها، كان منهم من يأخذ إجازة من الدروس من أجل القيام برحلات أيام العطلة، أو من كان يلغي ببساطة تلك الدروس بسبب أحوال الطقس غير المشجعة، وإذا ما حدث واعتذر أحدهم في وقت متأخر، فإن كلارك كان يطالبه بثمن الوقت المهدر على أي حال. وحدث أن تذمر اثنان منهما، وغادرا بلا رجعة.

ولكن لا يزال هناك بعض الدخل يأتي إليهم من وراء العناية بثلاثة خيول. وكانت تلك الخيول الثلاثة، إضافة إلى الخيول الأربعة التي يمتلكونها تتجول بالخارج الآن، وتجوب بحرية في الحقول وسط الحشائش التي تظللها الأشجار. وبدا وكأنها لا تهتم بملاحظة توقُّف الأمطار في تلك اللحظة، وهو ما اعتادت عليه لبرهة في معظم الأيام خلال فترة ما بعد الظهيرة. أضحت السحب أكثر بياضًا وصفاءً، وسمحت بتخلل بعض الضوء خلالها بما يكفي لترتفع المعنويات، ولكنه ضوء خافت لا يصل إلى درجة إشراقة الشمس، بل سرعان ما يذوي قبل موعد العشاء.

انتهت كارلا من إزالة الروث من الإسطبل. واستغرقت وقتها المعتاد — فهي تهوى إيقاع أعمالها الروتينية اليومية، والمسافة العالية أسفل سقف الإسطبل، والروائح المنتشرة في المكان — وها هي قد ذهبت الآن لتتفقد حلقة التدريبات وترى مدى جفاف الأرض، وذلك في حال قدوم تلميذ الساعة الخامسة للتدريب.

معظم الأمطار التي تهطل بانتظام ليست أمطارًا غزيرة على وجه الخصوص، ولا تصاحبها أي رياح، غير أنه حدث في الأسبوع الماضي أن نشطت الرياح نشاطًا مفاجئًا، وأعقبها هبوب عاصفة شديدة راحت تهز قمم الأشجار العالية وصاحبها هطول أمطار غزيرة. وفي غضون ربع ساعة، كانت الرياح قد هدأت، ولكن سقطت من جرَّائها بعض فروع الأشجار وتمدَّدت بعرض الطريق، وهوت خطوط الطاقة الكهربائية المائية، وتمزَّق جزء كبير من السقيفة البلاستيكية التي تظلل حلقة التدريب. وتجمَّعت المياه مكوِّنة بركة صغيرة أشبه بالبحيرة في نهاية مضمار التدريب، وعكف كلارك على العمل إلى ما بعد حلول الظلام وهو يحاول حفر قناة لتصريف تلك المياه.

ولم يَقُم كلارك بإصلاح السقف إلى الآن، ولكنه وضع سياجًا من الأسلاك حول حلقة التدريب حتى لا تدلف الخيول وسط الأوحال، ووضعت كارلا علامات جديدة لتحديد مضمار أصغر للتدريب.

جلس كلارك يبحث عبر مواقع الإنترنت عن مكان يبتاع منه سقيفة، كأحد منافذ بيع الأشياء المستعملة، التي تعرض أسعارًا في متناول أيديهما، أو عن طريق شخص ما يريد الاستغناء عن مثل هذه المواد ويعرضها للبيع. فهو لن يذهب إلى متجر هاي آند روبرت باكلي لمواد البناء في المدينة، والذي يُطلق عليه متجر اللصوص والمنحرفين على الطريق السريع؛ فهو يدين لهم بالكثير من المال، علاوة على أنه قد تشاجر معهم من قبل.

ولا يتشاجر كلارك مع الأشخاص الذين يدين لهم بالأموال فحسب؛ فأسلوبه الودود الكيس، والذي يكون رائعًا في البداية، قد ينقلب فجأة إلى غضب شديد؛ فهناك على سبيل المثال بعض الأماكن التي لا يمكن أن يذهب إليها بسبب شجار ما، ويجعل كارلا تنوب عنه في ذلك. ومن بين هذه الأماكن متجر الأدوية؛ فقد حدث ذات مرة أن دفعت سيدة عجوز نفسها في صف الانتظار وتقدَّمته — كانت قد عادت لتأخذ شيئًا نسيته ورجعت مرة أخرى ودفعت بنفسها للأمام بدلًا من أن تقف في نهاية الصف — وعندئذ تذمَّر كلارك واشتكى، فقال له الكاشير: «إنها تعاني من انتفاخ الرئة.» فقال كلارك: «أحقًّا هو الأمر كذلك؟ وأنا عن نفسي أعاني من البواسير.» واستُدعي المدير المسئول وقال إن هذا ليس له داعٍ على الإطلاق. وفي المقهى الذي يقع على الطريق السريع لم يحصل على الخصم المعلن عنه على وجبة الإفطار؛ وذلك لأن الساعة كانت قد جاوزت الحادية عشرة صباحًا، واعترض كلارك على ذلك، ورمى قدح القهوة الذي طلبه على الأرض، والذي أوشك أن يصيب طفلًا في عربته كما قال القائمون على المقهى، فأجابهم بأن الطفل يبعد عن القهوة مسافة نصف ميل، وأن قدح القهوة سقط من يده لأنهم لم يقدِّموه بالسوار الخاص به، فأجابوه بأنه لم يطلبه، فرد بأنه لا ينبغي له أن يفعل.

قالت كارلا: «إنك تستشيط غضبًا.»

قال: «هكذا يتصرف الرجال.»

ولم تنبِس ببنت شفة عن شجاره مع جوي تاكر. وجوي تاكر هي أمينة مكتبة في المدينة تحتفظ بفرسها لديهما ليوفِّرا لها العناية اللازمة. كانت الفرس كستنائية اللون، حادة الطباع، تسمَّى ليزي، وتُطلق عليها جوي تاكر — عندما تكون في حالة مزاجية جيدة — ليزي بوردِن. وبالأمس توقفت لتلقي نظرة على الفرس، ولم تكن في حالة مزاجية جيدة، وراحت تشتكي بشأن السقف الذي لم يُصلح بعد، ومظهر ليزي الذي يبدو مزريًا، كما لو أنها مصابة بالبرد.

وفي حقيقة الأمر، لم يكن ثَمة مشكلة تتعلق بليزي. وقد حاول كلارك من جانبه أن يلطِّف الأمر حتى لا يفقد أعصابه، ولكن كانت جوي تاكر هي من انفجرت غاضبة، وقالت إن المكان ليس سوى مقلب للنفايات، وإن ليزي تستحق ما هو أفضل من ذلك، فرد كلارك قائلًا: «افعلي ما يتراءى لكِ.» ولم تأخذ جوي ليزي من المكان — أو أنها لم تفعل بعد — كما توقعت كارلا. وقد رفض كلارك — الذي كان يعامل الفرس كأنها حيوانه الأليف — أن يواصل اهتمامه بها. وحزنت الفرس نتيجة لتغيُّر المعاملة، فأصبحت أكثر عنادًا وتشبثًا أوقات التدريبات، وصارت تُحدِث جلبة كبيرة عند تقليم حوافرها، كما يفعلان كل يوم خشية نمو الفطريات. وكان على كارلا أن تحترس من عضة الفرس.

ولكن الشيء الأسوأ في اعتقاد كارلا هو غياب فلورا؛ وهي النعجة البيضاء الصغيرة التي تصاحب الخيل في الإسطبل وفي الحقول. فلم تلمح لها أثرًا منذ يومين، وتخشى كارلا أن يكون أحد الكلاب الشرسة أو ذئاب القيوط قد افترسها، أو حتى أن يكون قد فتك بها دبٌّ.

كانت قد رأت فلورا في أحلامها الليلة الماضية والليلة قبل الماضية. في الحلم الأول رأت فلورا وهي تقترب نحو الفراش وفي فمها تفاحة حمراء، ولكن في الحلم الثاني — ليلة البارحة — جرت فلورا مبتعدة عندما رأت كارلا تتجه نحوها. وبدت رجلها مصابة، ورغم ذلك هرولت مبتعدة. قادت فلورا كارلا إلى حاجز من الأسلاك الشائكة من ذلك النوع الذي تراه في ساحة المعارك، ثم تسللت فلورا خلاله، وقد جرحت ساقها ومعظم جسدها، ولكنها انزلقت خلاله مثل ثعبان البحر الأبيض وغابت عن النظر.

لمحت الخيول كارلا وهي تمر عبر حلقة التدريبات، وتحرَّكت جميعها حتى وصلت إلى السياج لكي تراها كارلا في اتجاه عودتها، وقد بدت الخيول متسخة بعض الشيء بالرغم من أغطيتها الجديدة الواردة من نيوزيلاندا. تحدثت إليها كارلا بصوت خفيض، واعتذرت لأنها جاءت خالية الوفاض. أخذت كارلا تُرَبِّت على أعناقها وتمسح على أنوفها برفق وتسألها إن كانت تعلم شيئًا عن فلورا.

أصدر جريس وجونيبر صهيلًا عاليًا، وراحا يحرِّكان أنفيهما لأعلى كما لو أنهما قد أدركا الاسم ويشاركانها القلق، ولكن ليزي دفعت برأسها بينهما وأخذت تدق برأسها على رأس جريس حتى تبعدها عن يد كارلا التي تُرَبِّت عليها، بل إنها عضَّت يدها، وأمضت كارلا بعدها بعض الوقت في توبيخها.

•••

حتى ثلاث سنوات مضت لم تكن كارلا تفكر في أمر المنازل المتنقلة، بل إنها لم تكن تطلق عليها مثل هذا الاسم أيضًا. ومثلها كمثل والديها، كانت تنظر إليها كشيء ينمُّ عن التكلف والمظهرية؛ فهناك بعض الأفراد يعيشون في عربات سكنية جاهزة، هذا كل ما في الأمر. ولم تكن هناك عربة سكنية تختلف عن الأخرى؛ فكلهم سواء، ولكن عندما انتقلت كارلا للعيش هنا، واختارت هذه الحياة مع كلارك، بدأت ترى الأشياء بطريقة مختلفة، فأخذت تردد تعبير المنزل المتنقل، وتلاحظ كيف يجهِّزونه ويعدُّونه؛ تلاحظ مثلًا أنواع الستائر التي يعلِّقونها، والطريقة التي يتمُّ بها طلاء الأطراف التزيينية، وكيفية إعداد الأرضيات والأفنية الداخلية، وبناء المزيد من الغرف. ولم تُطِق صبرًا حتى تُدخِل هي الأخرى تلك التحسينات.

وقد شاركها كلارك أفكارها لفترة؛ فقد قام بتركيب بضعة سلالم جديدة، فاستغرق بعض الوقت وهو يبحث عن درابزين من الحديد المُطوع. ولم يشتكِ بشأن النقود التي أنفقها على طلاء المطبخ، أو دورة المياه، أو شراء بعض المواد اللازمة من أجل الستائر. وكانت كارلا تقوم بمهام الطلاء على عجل آنذاك، فلم تكن تعرف وقتها أنه ينبغي نزع مفصلات باب الخزانة قبل طلائها، أو أنه يتعيَّن تبطين الستائر، التي بهت لونها الآن بعد مرور كل هذا الوقت.

ولكن الأمر الذي عارضه كلارك هو التخلص من الأبسطة، التي كانت متشابهة في كل غرفة، وهو الشيء الذي رغبت في تغييره بشدة. لقد كان البساط مقسَّمًا إلى مربعات بنية صغيرة، وكل مربع يحتوي على أنماط وخطوط مائلة وأشكال بنية اللون بلون الصدأ. وقد اعتقدت لفترة طويلة أن الخطوط المائلة والأشكال منظمة بنفس الطريقة داخل كل مربع، ثم كان لديها الوقت الكافي فيما بعد — بل وقتًا طويلًا — لكي تركز انتباهها وتتأملها جيدًا، ثم فطنت إلى أن هناك أربعة نماذج وأشكال مجتمعة معًا لتكون مربعات كبيرة متماثلة. وكانت تستطيع في كثير من الأحيان أن تلمح ذلك النسق بسهولة، وفي أحايين أخرى كانت تستغرق بعص الوقت لكي تتبيَّنه مرة أخرى.

لقد كانت تفعل ذلك وقت سقوط الأمطار، وعندما يكون مزاج كلارك معتلًّا بدرجة تملأ المنزل بالكآبة، ولا يريد أن يعير اهتمامه لأي شيء سوى شاشة جهاز الكمبيوتر، فإنه كان من الأفضل بالنسبة لها أن تختلق أو تتذكر عملًا تؤديه في الإسطبل. ومن عادة الخيل ألا تلتفت إليها عندما تبدو حزينة، ولكن فلورا — التي لم يكن من عادة كارلا أن تقيِّدها قط — هي الوحيدة التي كانت تقترب منها وتتمسَّح بها، وتنظر إليها بعينين خضراوين لامعتين تميل إلى الصفرة بتعبير هو أقرب إلى سخرية ودودة منه إلى التعاطف.

كانت فلورا لا تزال صغيرة عندما أحضرها كلارك من إحدى المزارع التي ذهب إليها لمساومة أصحابها على شراء أطقم للأحصنة، كان هؤلاء الأشخاص ممن سئموا حياة الريف، أو على الأقل من تربية الحيوانات، وقد أفلحوا في بيع الخيول، ولكنهم لم يستطيعوا التخلص من الماعز. كان كلارك قد سمع عن قدرة الماعز على جلب الإحساس بالراحة والطمأنينة داخل الإسطبل؛ لذا أراد أن يجرب ذلك، وكانا ينتويان أن يجعلا النعجة تتزاوج، ولكن لم تبدُ عليها أيٌّ من علامات البلوغ.

كانت فلورا في أول الأمر أشبه بحيوان كلارك المدلل، تتعقبه في كل مكان، وتُحدِث جلبة من أجل أن تلفت انتباهه، فكانت سريعة ورشيقة، ومحبَّة للعب كهُرَيْرة، وأشبه بفتاة ساذجة واقعة في الحب، وهو ما كان يدفعهما إلى الضحك. ولكن عندما تقدَّمت في العمر، أضحت أكثر ارتباطًا بكارلا، ومن خلال ذلك الارتباط أصبحت فجأة أكثر استكانة، وأقل نشاطًا ولعبًا، وبدت قادرة على إظهار بعضٍ من الدعابة والسخرية غير الصاخبة. كان أسلوب كارلا في معاملة الخيول ينطوي على الرفق والحزم، وأقرب إلى الأمومة، ولكن كانت رفقة فلورا مختلفة تمامًا، فلم تكن تسمح لكارلا بأي شعور بالسيادة عليها.

قالت وهي تخلع الحذاء الخاص بالإسطبل: «أمَا من أخبار بشأن فلورا؟» فقد كان كلارك قد نشر إعلانًا على شبكة الإنترنت يحمل عنوان «نعجة مفقودة».

أجابها بلهجة تنمُّ عن انشغاله، ولكنها تحمل بعض الود في ذات الوقت: «ليس بعد.» وكان في رأيه — وليست هي المرة الأولى التي يعبر فيها عن ذلك — أن فلورا قد ذهبت لتبحث لنفسها عن شريك للتزاوج.

ليس ثَمة خبرٌ عن السيدة جاميسون. أوقدت كارلا الغلاية، وكان كلارك يتمتم ببعض الكلمات لنفسه كما كان يفعل عادة وهو يجلس أمام شاشة الكمبيوتر.

كان يتحدث إلى الجهاز في بعض الأحيان، وقد يتفوَّه بكلمة «هراء» عندما يواجه صعوبة أو تحديًا ما، أو قد ينفجر ضاحكًا على مزحة، ولكنه لا يتذكرها عندما تسأله عنها فيما بعد.

نادته كارلا قائلة: «هل تريد قدحًا من الشاي؟» ولدهشتها الشديدة وجدته قد نهض من مكانه واتجه صوب المطبخ.

قال: «إذن كارلا …»

«ماذا؟»

«إذن، فقد اتصلت.»

«مَنْ؟»

«جلالة الملكة؛ الملكة سيلفيا، لقد عادت لتوِّها.»

«لم أسمع صوت سيارتها.»

«لم أسألك إن كنتِ قد سمعتِ.»

«إذن ما الشيء الذي اتصلت من أجله؟»

«لقد كانت تريدك أن تذهبي وتساعديها في ترتيب المنزل. هذا هو ما قالته. غدًا.»

«وبماذا أجبتها؟»

«لقد قلت لها: بكل تأكيد، ولكن من الأفضل أن تحادثيها بنفسك وتؤكدي على ذلك.»

قالت كارلا وهي تصب الشاي في الأقداح: «ولِمَ أفعل طالما أنك أخبرتها بذلك؟ لقد قمت بتنظيف المنزل بالفعل قبل أن تغادره، ولا أدري ما الذي يمكن أن أفعله ثانية بهذه السرعة.»

«لا تدرين، ربما تكون قد تسللتْ إلى المنزل بعض حيوانات الراكون وأحدثت بعض الفوضى.»

ردت قائلة: «لستُ مضطرة لمحادثتها في التو واللحظة، فأنا أريد أن أحتسي الشاي، ثم آخذ حمامًا.»

«لو عجَّلتِ بالأمر لكان أفضل.»

أخذت كارلا قدح الشاي معها إلى الحمام وهي ترد عليه قائلة: «علينا أن نذهب إلى المغسلة؛ فالمناشف عطنة الرائحة بالرغم من أنها قد جفَّت.»

قال: «لا تُديري دفة الحديث يا كارلا.»

وحتى بعد أن دخلت بالفعل لتأخذ حمامها وقف هو خلف الباب وقال لها:

«لن أسمح لك بالهروب من مسئولياتك يا كارلا.»

اعتقدتْ كارلا بعدما انتهت من حمامها أنه ربما لا يزال واقفًا في مكانه، ولكنه عاد ليجلس أمام شاشة الكمبيوتر. ارتدت ملابسها كما لو أنها ذاهبة إلى المدينة، وأملت في أنهما لو تمكنا من الخروج وذهبا إلى المغسلة، وجلسا في أحد المقاهي، فمن الممكن حينها أن يتحدثا بأسلوب مختلف، وأن تخفَّ حدة التوتر ويسود بعض الهدوء. اتجهت نحو غرفة المعيشة بخطوة رشيقة وطوَّقته بذراعيها من الخلف، ولكن بمجرد أن فعلت ذلك اعترتها موجة من الحزن — ربما كانت حرارة المياه هي ما جعلتها تطلق العنان لدموعها — وانحنت أمامه وهي تبكي منهارة.

رفع يده عن لوحة المفاتيح، ولكنه لم يحرك ساكنًا.

قالت: «لا تغضب مني.»

رد قائلًا: «لست غاضبًا، أنا فقط أكره تصرفك على هذا النحو، هذا كل ما في الأمر.»

«إنني أفعل هذا لأنك غاضب.»

«لا تملي عليَّ الحالة التي أنا عليها، إنك تخنقينني. فلتُعدِّي طعام العشاء.»

كان هذا هو ما قامت به بالفعل؛ إذ كان من الواضح أن متدرِّب الساعة الخامسة لن يأتي. أحضرت حبات البطاطس وشرعت في تقشيرها، ولم تتوقف دموعها عن الانهمار، حتى إنها لم تكن تتبين ما تفعله. جفَّفت وجهها بمنديل ورقي، ثم سحبت منديلًا آخر لتأخذه معها وذهبت للخارج وسط الأمطار. لم تتجه نحو الإسطبل؛ لأنه كان كئيبًا دون فلورا، بل سارت عبر الممر في اتجاه الغابة، وكانت الخيول في الحقل الآخر، وقد اقتربت من السياج لمشاهدة كارلا. وكانت كل الخيول — ما عدا ليزي التي أخذت تثب بأرجلها وتصهل — تفهم جيدًا أنها تركِّز انتباهها في مكان آخر.

•••

بدأ الأمر كله عند قراءة ذلك النعي؛ النعي الخاص بالسيد جاميسون. لقد كان ذلك في جريدة المدينة، وعُرِضَت صورته في أخبار المساء. قبل هذا بنحو عام لم يعرفا عن عائلة جاميسون سوى أنهم بعض الجيران المنغلقين على أنفسهم. كانت السيدة جاميسون تُدَرِّس علم النباتات في الجامعة التي تبعد عن مسكنهم بنحو أربعين ميلًا؛ لذا كان عليها أن تمضي وقتًا طويلًا في الطريق، أما السيد جاميسون، فقد كان شاعرًا.

كان الجميع يعرفون عنهم نفس القدر من المعلومات، إلا أن السيد جاميسون بدا مشغولًا بأشياء أخرى؛ لقد كان قوي البنيان صارمًا ويتميز بالنشاط والخفة برغم كونه شاعرًا ورجلًا متقدمًا في العمر، ربما يكبر السيدة جاميسون بنحو عشرين عامًا. كان قد طوَّر نظام الصرف بمنزله، ونظَّف المجرى المائي وفرشه بالصخور، وحرث حديقة المنزل وزرعها بالخضراوات وأحاطها بسياج، علاوة على أنه حفر ممرات عبر الغابة، وكان يعتني بكل ما هو بحاجة للإصلاح في منزله.

لقد كان منزلهم ثلاثيَّ الأضلاع على نحو غريب، شيَّده بمعاونة بعض أصدقائه منذ سنوات عدة على أطلال بيت مزرعة قديم. وقد قال عنهم البعض إنهم من الهيبيز، رغم أن السيد جاميسون كان كبيرًا في السن لدرجة لا تسمح له بأن ينتمي لهذه الحركة الشبابية، حتى قبل وجود السيدة جاميسون. وهناك قصة أخرى يتداولها الناس عن زراعتهم لمخدرات الماريجوانا في الغابة، وقيامهم ببيعها، وإخفاء النقود في برطمانات محكمة الغلق من الزجاج مدفونة حول مسكنهم. سمع كلارك بهذه القصة من أشخاص تعرَّف عليهم في المدينة، ولكنه عقَّب بأن ذلك ما هو إلا هراء.

وأضاف: «وإلا لكان أحدهم قد تسلل وحفر الأرض وأخرج النقود منذ زمن طويل؛ فلا بد وأن هناك من كان يستطيع أن يجد طريقة تجعله يُفصح عن مكان النقود.»

عندما قرأ كلٌّ من كارلا وكلارك النعي الخاص عَلِما لأول مرة بأن السيد ليون جاميسون كان قد حصل على جائزة مالية ضخمة قبل وفاته بنحو خمس سنوات؛ نالها عن كتابة الشعر، ولم يذكر أحد شيئًا عن هذا مطلقًا من قبل. يبدو أن الناس تصدق أن ثَمة أموالًا مُخبأة في برطمانات زجاجية مصدرها تجارة المخدرات، ولا تقتنع بأن النقود يمكن أن تأتي من كتابة الشعر.

بعد الوفاة بفترة قصيرة قال كلارك: «كان من الممكن أن نجعله يدفع لنا بعض النقود.»

أدركت كارلا على الفور ما يرمي إليه، ولكنها أخذت الحديث على محمل المزاح.

وقالت: «لقد فات أوان ذلك، لا يمكنك دفع النقود بعد الوفاة.»

«ربما لا يستطيع هو أن يدفع، إنما هي بمقدورها.»

«لقد ذهبتْ إلى اليونان.»

«إنها لن تمكث في اليونان إلى الأبد.»

ردَّت كارلا بهدوء أكثر: «إنها لا تعلم شيئًا.»

«لم أقل إنها تعلم.»

«ليس لديها أدنى فكرة عن الأمر.»

«يمكننا معالجة ذلك الأمر.»

ردت كارلا: «لا، لا يمكن ذلك.»

استمر كلارك في حديثه كما لو أنه لا يُنصت إليها بالمرة.

فقال: «بإمكاننا أن نقول إننا سنلجأ إلى القضاء؛ فالناس تحصل على النقود من وراء تلك الأمور طوال الوقت.»

«كيف تفعل ذلك؟ ليس بإمكانك مقاضاة رجل ميت.»

«سأهدِّد بالذهاب للصحف. شاعر مرموق ذو مكانة، وستتهافت الصحف على هذا الخبر. كل ما علينا أن نهدِّد بذلك وستنهار على الفور وتستسلم تحت الضغط.»

قالت كارلا: «لا بد وأنك تتخيل، أنت تمزح بالقطع.»

رد كلارك: «لا، لا أمزح في الواقع.»

أخبرته كارلا أنها لا تريد أن تتحدث بشأن هذا الأمر مرة أخرى، فوعدها كلارك بألا يفعل.

ولكنهما تحدَّثا بالفعل بشأنه في اليوم التالي، بل وفي اليوم الذي يليه ولعدة أيام بعدها. لقد كانت تراوده في بعض الأحيان أفكار وآراء غير قابلة للتطبيق، بل إنها قد تكون غير قانونية على الإطلاق، وكان يعبِّر عنها بشغف متزايد ثم يطرحها جانبًا دون أن تدري ما السبب. لو كانت الأمطار توقفت، أو تحول اليوم إلى مجرد يوم صيفي طبيعي، لتخلَّى هو عن فكرته كغيرها من الأفكار، لكن ذلك لم يحدث، وظل طوال الشهر الماضي يضرب على نفس الوتر كما لو أن الأمر يتسم بالجدية ومن الممكن تنفيذه على نحو مثالي. وكان السؤال المطروح هو كم من الأموال يمكن أن يطلباها؟ فلو طلبا مبلغًا ضئيلًا، فقد لا تأخذ السيدة حينها الموضوع مأخذ الجد، وتعتقد أنهما يخدعانها، وفي الوقت نفسه لو كان المبلغ ضخمًا، فربما تجفل وترفض وتصبح أكثر عنادًا.

توقفت كارلا عن قولها بأن الأمر مجرد مزحة، وبدلًا من ذلك، أخذت تخبره بأنه لن ينجح؛ لسبب واحد؛ وهو أن الناس يتوقعون أن يكون سلوك الشعراء على هذا النحو؛ لذا فالأمر لن يستحق سداد أي نقود للتغطية على الأمر وإخفائه.

فقال كلارك إنه من الممكن أن ينجح لو نُفِّذ على نحو سليم؛ فكل ما على كارلا أن تفعله هو أن تتصنَّع الانهيار وتقصَّ على السيدة جاميسون القصة بأكملها، ثم يتحرَّك كلارك بعدها، كما لو أنه اكتشف الأمر لتوِّه، ثم بعد ذلك ينفجر غاضبًا، ويهدد بأن يخبر العالم كله، بل سيجعل السيدة جاميسون هي التي تعرض النقود.

«لقد جُرحتِ؛ إذ تحرَّش بك ولحق بك الخزي والعار، وتأذيتُ أنا بدوري وشعرت بالخزي والمهانة لأنك زوجتي. إنها مسألة كرامة واحترام.»

كرَّر عليها هذا الحديث بهذا الأسلوب مرارًا وتكرارًا، وحاولتْ أن تثنيه عن ذلك ولكن بلا جدوى، فقد كان مصرًّا.

قال: «اتفقنا؟» فردت: «اتفقنا.»

•••

كل هذا بسبب ما قد كانت تحكيه له، وهي أشياء لا تستطيع أن تتراجع عنها أو تنكرها الآن.

«كان يُظهر اهتمامه بي في بعض الأحيان.»

«الرجل العجوز؟»

«أحيانًا كان يدعوني إلى غرفته عندما لا تكون زوجته هناك.»

«نعم.»

«عندما كانت تذهب للتسوق، ولا تكون الممرضة موجودة أيضًا.»

لقد كان ذلك بمثابة إلهام وفكرة جديدة منها، مما أسعده على الفور.

«وماذا كنتِ تفعلين حينها؟ هل كنتِ تدخلين إليه؟»

تصنَّعت الخجل وقالت: «في بعض الأحيان.»

«هل كان يستدعيك لغرفته إذن يا كارلا؟ ثم ماذا؟»

«كنت أذهب لأرى ماذا يريد.»

«وماذا كان يريد؟»

كانت كل تلك الأسئلة والإجابات تدور بينهما بهمس، حتى لو لم يكن هناك أحد يسمع، حتى عندما يكونان في أرض أحلامهما البعيدة … في الفراش. كانت كقصة ما قبل النوم؛ حيث تصبح التفاصيل أكثر أهمية، وبحاجة إلى إضافات في كل مرة، وكل ذلك بإحجام وممانعة يشوبهما الإقناع، وبخجل وضحكات، بل وبذاءة. ولم يكن هو وحده الذي يشعر بالشغف والإثارة والامتنان، بل كانت هي أيضًا كذلك؛ كانت حريصة على أن تسعده وتجعله يشعر بالإثارة، وأن تشعر هي نفسها بالإثارة، وكانت تشعر بالامتنان في كل مرة كان ينجح فيها هذا الأمر.

ولكن في جانب من عقلها كان ذلك حقيقيًّا؛ فقد كانت ترى ذلك العجوز الشهواني، وحركاته المشينة أسفل المُلاءة، حيث كان طريح الفراش حقًّا، ولا يتحدث كثيرًا في الغالب، ولكنه كان ماهرًا في لغة الإشارة، ويعبِّر عن رغبته وهو يحاول أن يَكِزَها أو يتلمَّسها؛ لكي يدفعها أن تشاركه فيما يريده من أفعال وعلاقة حميمية. لقد كان رفضها ضرورة، ولكنه مخيب لآمال كلارك إلى حدٍّ ما وبطريقة غريبة.

وبين الحين والآخر تأتي على ذهنها فكرة تحاول قمعها خشية أن تُفسِد كل شيء؛ فقد كانت تفكر في ذلك الجسد الهزيل الملفوف بالملاءة، وهو تحت تأثير المخدر ويزداد انكماشًا كل يوم في فراش المستشفى المستأجر، والذي لم تلمحه سوى مرات قليلة عندما تنسى السيدة جاميسون أو الممرضة إغلاق باب الغرفة، وكانت هي ذاتها لا تقترب منه بما هو أكثر من ذلك.

وفي واقع الأمر، كانت تخشى الذهاب إلى منزل عائلة جاميسون، لكنها كانت بحاجة إلى النقود، وكانت تشعر بالأسف من أجل السيدة جاميسون التي كانت تبدو كما لو كانت ممسوسة أو مرتبكة، كما لو كانت تسير وهي نائمة. ولمرة أو مرتين انفجرت كارلا ضاحكة وفعلت أشياء تافهة لمجرد أن تلطف الأجواء، وهو الشيء الذي تفعله مع أي متدرب جديد يمتطي الحصان لأول مرة ويشعر بالإحراج والخزي بسبب قلة مهاراته، وكانت تفعل نفس الشيء مع كلارك عندما لا تكون حالته المزاجية على ما يرام، ولكن لم يعد الأمر يُفلح معه، غير أن قصة السيد جاميسون كانت قد نجحت، بالقطع ودون شك.

•••

ليس ثَمة وسيلة لتفادي تلك الأوحال المتراكمة في الممر، أو الحشائش الطويلة المغمورة بطول الطريق، أو نباتات الجزر التي أينعت حديثًا، ولكن الهواء كان دافئًا بدرجة لم تشعر معها بأي برودة. لقد ابتلَّت ملابسها كما لو أنها كانت بسبب العرق المتساقط منها أو بسبب دموعها التي انسابت على وجهها واختلطت برذاذ المطر. خفَّت دموعها الآن، ولم تجد شيئًا تمسح به أنفها — فلقد تشبَّعت المناديل الورقية بالمياه — فانحنت نحو الأرض المغطاة بالأوحال وأخرجت ما في أنفها بقوة.

رفعت رأسها وراحت تُطلق صفيرًا طويلًا كالذي اعتادت عليه لتنادي على فلورا وعلى كلارك أيضًا. انتظرت بضع دقائق ثم أخذت تنادي باسمها، وراحت تكرِّر ذلك عدة مرات؛ فتنادي على الاسم وتطلق صفيرها.

ولم تردَّ عليها فلورا.

وبرغم هذا، كان هناك إحساس بالارتياح لشعورها بأن الألم الذي تشعر به الآن ما هو إلا لفقد فلورا — ربما فقدها للأبد — وذلك مقارنة بالفوضى التي اجتاحتها بشأن موضوع السيدة جاميسون وتعاستها المتأرجحة مع كلارك. على الأقل لم يكن غياب فلورا بسبب غلط اقترفته كارلا.

•••

في المنزل، لم يكن هناك ما تفعله سيلفيا سوى أن تفتح النوافذ فحسب، وأن تفكر — بشغف أثار خشيتها دون أن يكون سببًا في دهشتها — في موعد مجيء كارلا.

تم التخلص من كل الأدوات التي كان يستعملها في فترة المرض، وتنظيف غرفة النوم الخاصة به هو وسيلفيا — وهي الغرفة التي تُوفي بها — وترتيبها وكأن شيئًا لم يحدث فيها. لقد ساعدت كارلا في كل ذلك، وعاونت بكل طاقتها أثناء تلك الأيام العصيبة ما بين حرق الجثة والسفر إلى اليونان. وقد جمعوا كل قطعة من الملابس التي ارتداها ليون وتلك التي لم يرتدِها — بما في ذلك بعض الهدايا التي أهدتها له أخته والتي ما زالت في تغليفها — وحزموها داخل حقيبة السيارة وأعطوها «لمحل بيع الأشياء المستعملة». وحتى أقراص الدواء الخاصة به، وأدوات الحلاقة، وزجاجات المقويات التي لم تُفتح، والتي كانت تقيم أوَدَه طيلة الوقت، وعُلب مقرمشات السمسم التي كان يتناول منها بالعشرات، وزجاجات الملطِّف البلاستيكية التي كانت تريح ظهره، وجلد الغنم الذي كان يضطجع عليه؛ فقد جُمعت في أكياس القمامة وتم التخلص منها، ولم تحاول كارلا أن تقول أي شيء؛ فلم تقل قط: «ربما يمكن أن يستفيد منها شخص آخر.» أو أن تشير إلى أن هناك صندوقًا بأكمله من زجاجات الدواء لم يُفتح بعد. وعندما قالت سيلفيا: «ليتني لم آخذ الملابس إلى المدينة، ليتني قمت بإحراقها جميعًا في المحرقة.» لم تعبِّر كارلا عن دهشتها.

ثم قاموا بتنظيف الموقد، وتنظيف الخزانة، وغسلوا كل الجدران والنوافذ. وفي أحد الأيام كانت سيلفيا تجلس في غرفة المعيشة تتصفَّح رسائل التعزية التي تلقَّتها (لم يكن هناك وجود لأي مجموعة من الأوراق أو المفكرات، كما هو متوقع في منزل كاتب، أو حتى أعمال غير مكتملة أو مسودات لأعمال مكتوبة. لقد أخبرها منذ بضعة أشهر أنه قد تخلَّص من كل شيء «ودون أي ندم»).

لقد كان جدار المنزل المائل نحو الجنوب يحوي نوافذ ضخمة. ورفعت سيلفيا بصرها، وأثار دهشتها ضوء الشمس الذي يتخلل الأمطار؛ أو بالأحرى طيف كارلا، بساقيها العاريتين، وذراعيها المكشوفتين، وهي تعتلي سُلَّمًا، ووجهها الذي يكسوه الحزم مزيَّن بخصلات شعرها الملون بلون الهندباء الذي لم يسمح قصره بعقد جديلة. وكانت كارلا ترش زجاج النوافذ وتلمعه بكل همة ونشاط، وعندما لمحت سيلفيا وهي تنظر إليها توقفت عن ذلك، وراحت تحرك ذراعيها وتمدهما للأمام وترسم تعبيرات مضحكة بوجهها، وأخذتا تضحكان، وقد شعرت سيلفيا بأن موجة الضحك هذه تتدفق من أعماقها وتبعث فيهما بعض المرح. وعادت مرة أخرى تنظر إلى الأوراق التي بين يديها في حين استأنفت كارلا تنظيف الزجاج. وقد قررت سيلفيا أن كل تلك العبارات الرقيقة — سواء أكانت صادقة أو مصطنعة؛ للمدح أو للرثاء — ستلقى نفس مصير جلد الماشية أو مقرمشات السمسم.

وعندما سمعت كارلا وهي تنزل من فوق السُلَّم، وترامى إلى مسامعها وقع الحذاء ذي الرقبة على الأرضية، شعرت فجأة بالخجل. كانت لا تزال جالسة في مكانها وتحني رأسها عندما دخلت كارلا الغرفة ومرَّت بجانبها وهي في طريقها إلى المطبخ لكي تضع الدلو وقطع القماش بجوار المغسلة، وكانت كارلا لا تتوقف لحظة أثناء عملها؛ فقد كانت سريعة كالعصفور، ولكنها توقفت لتطبع قُبلة على رأس سيلفيا المحني، وراحت تتمتم بشيء لنفسها.

ظلت تلك القُبلة عالقة في ذهن سيلفيا منذ ذلك الحين، ولم تكن تعني شيئًا بعينه، بل مجرد قولها هوني عليكِ وابتهجي، أو أن الأمر على وشك الانتهاء. لقد كانت تعني أنهما صديقتان وفيَّتان مرَّتا بالكثير من الأوقات العصيبة، أو ربما تعني أن الشمس قد أشرقت، وأن كارلا تفكر في الحصول على مكان يلائم خيولها. ومع ذلك، فقد رأتها سيلفيا كبرعم زهرة مشرقة، تنتفش بتلاتها بداخلها بحرارة شديدة أشبه بهبَّات الحرارة في سن انقطاع الطمث.

وبين الحين والآخر كانت ثَمة طالبة صغيرة متميزة ممن يتلقَّون العلم لديها في محاضرات علم النباتات، وكانت مهارة تلك الطالبة، وتفانيها، وكبرياؤها الشديد واعتزازها بذاتها، أو ربما أيضًا ولعها بالعالم الطبيعي يذكِّرها بنفسها عندما كانت في سنِّها. ومثل أولئك الفتيات كنَّ يتقرَّبن من سيلفيا في ودٍّ وتبجيل؛ طلبًا لمزيد من التقرب والحميمية التي لم يكنَّ يتخيَّلن — في معظم الأحوال — أنهن سيحصلن عليها، وسرعان ما كنَّ يسبِّبن لها الضيق بسبب ذلك.

ولم تكن كارلا تشبه أولئك في شيء، وإن كانت تشبه أحدًا في حياة سيلفيا، فسيكون بعض الفتيات اللاتي عرفتهن في مدرستها الثانوية؛ هؤلاء الفتيات اللاتي يتَّسمن ببعض الذكاء ولسن متَّقدات الذكاء؛ فتيات يمارسن الرياضة ببساطة ولكن لا يدخلن ساحة المنافسة الشديدة، متفائلات ولسن مسبِّبات للمشاكل مفتقدات للتهذيب. ببساطة سعيدات بطبيعتهن.

•••

«في المكان الذي كنت أعيش فيه، في تلك القرية الصغيرة، بل شديدة الصغر، مع اثنتين من صديقاتي القديمات، كانت تقف حافلات السياح من آن لآخر، كما لو أنها ضلَّت طريقها، ويغادرها السائحون ويتلفَّتون حولهم وقد غلبتهم الحيرة؛ لأنهم لا يجدون شيئًا أو أي أماكن حولهم، فليس ثَمة شيء يبتاعونه.»

هكذا تحدثت سيلفيا عن اليونان. وكانت كارلا تجلس على بعد سنتيمترات. وأخيرًا كانت تجلس في الغرفة — تلك الغرفة التي طالما امتلأت بأفكار عنها — تلك الفتاة المبهرة، القلقة ذات الأطراف الضخمة؛ وكانت تبتسم بوهن، وتومئ برأسها ببطء.

قالت سيلفيا: «وكنت أنا أيضًا أشعر بالحيرة في البداية، كان الطقس شديد الحرارة، ولكن الأمر كان صحيحًا بشأن ضوء النهار، لقد كان رائعًا بحق، ثم قررتُ ما يمكن أن أقوم به، ولم تكن هناك سوى بعض الأشياء القليلة البسيطة، ولكنها كانت كافية لملء اليوم؛ فقد كنت أسير مسافة نصف ميل عبر الطريق لشراء القليل من الزيت، ونصف ميل آخر في الطريق المعاكس لشراء الخبز أو النبيذ، وهكذا ينقضي الصباح، ثم أتناول طعام الغداء تحت الأشجار، وبعد ذلك يكون الطقس حارًّا بدرجة شديدة؛ بحيث لا يكون بمقدورك فعل أي شيء سوى إغلاق مصراع النافذة والاستلقاء على الفراش، وربما القراءة. في البداية تقرئين، ثم تزداد الحرارة فتتوقفين حتى عن فعل ذلك، فلِمَ القراءة؟ وبعد أن ألاحظ أن الظلال امتدت، كنت أنهض لأمارس السباحة.»

قطعت سيلفيا حديثها قائلة: «أوه، كدت أنسى.»

ثم هبَّت من مكانها وذهبت لكي تحضر الهدية التي جاءت بها من اليونان، والتي لم تنسَ أمرها على الإطلاق في حقيقة الأمر؛ فلم تكن تريد أن تعطيها لكارلا على الفور، بل أرادت أن يأتي الأمر بصورة طبيعية، وحين كانت تتحدث كانت تفكر مقدمًا في اللحظة التي يمكن أن تذكر خلالها البحر، والذهاب للسباحة، وأن تقول — كما تقول الآن — لقد ذكرتني السباحة بالهدية؛ لأنها نسخة طبق الأصل من الحصان الذي وجدوه في البحر، وهو مصنوع من البرونز. لقد التقطوه بعد مرور كل هذا الوقت؛ إذ يعود للقرن الثاني قبل الميلاد.

عندما دخلت كارلا، وأخذت تبحث عن عمل تقوم به، قالت لها سيلفيا: «أوه، اجلسي لدقائق، فإنني لم أجد أحدًا أتحدث معه منذ أن عُدتُ من اليونان، أرجوكِ.» جلست كارلا على حافة المقعد، وساقاها منفرجتان بعض الشيء، واتكأت بيديها على ركبتيها، وبدت مكتئبة إلى حدٍّ ما. قالت وهي تحاول أن تبدو دمثة: «كيف كانت اليونان؟»

والآن وقفت، ورقائق الورق الشفاف تحيط بالحصان، ولم تكن قد أزالتها عنه تمامًا.

قالت سيلفيا: «يقال إنه يمثِّل خيل السباق، وهو يقفز تلك القفزات النهائية، أقصى ما يبذل من جهد في الدقائق الأخيرة من السباق. وكما ترين الصبي الفارس أيضًا، يدفع الحصان ليجري بأقصى ما يستطيع من قوة.»

لم تذكر لها أن ذلك الفارس الصغير قد ذكَّرها بكارلا، ولم تستطع أن تعرف السبب حتى الآن. لقد كان الولد لا يتعدى العاشرة أو الحادية عشرة. ربما قوة ورشاقة الذراع التي تقبض على الزمام، أو تلك التغضنات في جبهته الطفولية، أو ذلك الانهماك والجهد الخالص الذي يشبه بشكل أو بآخر طريقة سيلفيا في تنظيف النوافذ الضخمة في الربيع الماضي، وربما ساقاها القويتان داخل سروالها القصير، وكتفاها العريضتان، وضرباتها القوية فوق الزجاج لتنظيفه، ثم الطريقة التي مدَّت بها ذراعيها وجسمها على سبيل المزحة، والتي دفعت، بل أجبرت سيلفيا على الضحك.

قالت كارلا، وهي تتفحص بعناية التمثال الأخضر الصغير المصنوع من البرونز: «إنك ترين هذا، أشكرك بشدة.»

«على الرحب والسعة، لِنحتسِ القهوة، لقد أعددتُ بعضًا منها. كانت القهوة في اليونان ذات نكهة قوية بعض الشيء، ربما أكثر قوة مما أفضِّل، ولكن الخبز كان غاية في الروعة، ناهيك عن التين الناضج، لقد كان مدهشًا بحق. اجلسي لدقائق أخرى، أرجوكِ. عليكِ أن توقفيني عن الاسترسال هكذا. ماذا عن هنا؟ كيف كانت الحياة تسير هنا؟»

«لقد كانت تمطر معظم الوقت.»

ردَّت سيلفيا من خلال المطبخ الذي يقع عند نهاية الغرفة الكبيرة: «أرى هذا، أرى أنها كانت تمطر باستمرار.» قررتْ وهي تصب القهوة أن تخفي أمر الهدية الأخرى التي أحضرتها، إنها لم تكلِّفها شيئًا (في الواقع كلَّفها الحصان أكثر مما تتخيل الفتاة)، كانت مجرد صخرة صغيرة جميلة ذات لون أبيض ضارب إلى الوردي التقطتها من الطريق.

«هذه لكارلا.» هكذا قالت حينها لصديقتها ماجي التي كانت تسير بجوارها: «أعلم أنه قد يبدو الأمر ساذجًا، ولكني أرغب في أن يكون لديها قطعة صغيرة من هذه الأرض.»

كانت قد أخبرت صديقتها ماجي عن كارلا، كما أخبرت أيضًا صديقتها الأخرى سورايا، وكيف أن وجود الفتاة قد أصبح يعني الكثير والكثير لها، وأنه ثَمَّةَ رباط لا يمكن وصفه تولَّد بينهما، وهو الشيء الذي ساعدها وواساها في الأشهر الفظيعة التي مرت بها خلال الربيع الماضي.

«إنه لشيء جميل أن يرى المرء شخصًا كهذه؛ شخصًا صغير السن يمتلئ صحة وحيوية يأتي إلى المنزل.»

ضحكت كلٌّ من ماجي وسورايا بودٍّ، إلا أن ضحكاتهما شابها بعض الانزعاج.

قالت سورايا وهي تمد ذراعها البنية الممتلئة في كسل: «هناك دائمًا مثل هذه الفتاة.» وقالت ماجي: «نتعرض جميعنا لذلك في بعض الأحيان؛ إنه الافتتان بفتاة.»

شعرت سيلفيا بقليل من الغضب بسبب تلك الكلمة: افتتان.

قالت: «ربما يرجع ذلك إلى أنني وليون لم ننجب أطفالًا. إنه غباء … مشاعر أمومة موجَّهة في غير موضعها.»

تحدَّثت صديقتاها في الوقت نفسه، وقالتا شيئًا ما بطريقتين مختلفتين، مفاده أنه قد يكون حقًّا من الغباء، ولكنه الحب على أي حال.

•••

ولكن الفتاة، بالنسبة إلى سيلفيا اليوم، لا تشبه كارلا التي كانت تتذكَّرها سيلفيا في أي شيء؛ فلم تعد تغلب عليها تلك الروح المرحة الهادئة، ولم تعد ذلك الشخص الخالي من الهموم الذي لطالما لازمها في اليونان.

لقد كانت بالكاد تهتم بأمر الهدية، وكان يغلب عليها الحزن والكآبة وهي تمد يدها لتأخذ قدح القهوة.

قالت سيلفيا بحماس: «هناك شيء آخر أعتقد أنكِ كنتِ ستهوينه بشدة؛ وهو الماعز؛ فالماعز هناك كانت صغيرة الحجم للغاية حتى في تمام نموها. كان بعضها أبيض اللون والبعض الآخر كان مرقَّطًا، وكانت تقفز حول الصخور كأنها … كأنها أرواح منتشرة في المكان.» كانت تضحك بطريقة مصطنعة، ولم تستطع أن تمنع نفسها من الضحك. «لم أكن لتصيبني الدهشة إن وجدتُ أكاليل الزهور حول قرونها. كيف حال نعجتك الصغيرة؟ لقد نسيتُ اسمها.»

قالت كارلا: «فلورا.»

«فلورا.»

«لم يعد لها وجود.»

«لم يعد لها وجود؟ هل قمتِ ببيعها؟»

«لقد اختفت ولا نعلم مكانها.»

«أوه، إنني جد آسفة، ولكن أما من فرصة لعودتها مرة أخرى؟»

لم تُجِبها. نظرت سيلفيا مباشرة نحو الفتاة، وهو الشيء الذي لم تكن لتستطيع أن تفعله قبل الآن. وقد رأت عينيها مغرقة بالدموع، وتكسو وجهها بعض البقع، بل إنه في الواقع كان متسخًا بعض الشيء، وكانت تعتريها موجة من الحزن الشديد.

لم تفعل شيئًا لتتفادى نظرات سيلفيا. ضمت شفتيها، وأغلقت عينيها، وأخذت تهتز في مكانها للأمام وإلى الخلف كما لو أنها تصرخ بصوت مكتوم، وفجأة، ولصدمة سيلفيا، راحت تتأوَّه وتصرخ بالفعل. أخذت تصرخ وتبكي، وتحاول استنشاق الهواء، وسالت الدموع على خديها، وسالت أنفها، وراحت تتلفَّت حولها بحثًا عن شيء تمسح به وجهها. وهبَّت سيلفيا من مكانها وأحضرت حفنة من المناديل الورقية.

قالت، وهي تعتقد أنه من الأفضل أن تأخذ الفتاة بين ذراعيها: «لا تقلقي، ستكونين بخير، سيكون كل شيء على ما يرام. تفضَّلي المناديل.» إلا أنها لم يكن لديها أدنى رغبة في أن تفعل ذلك، وقد يزداد الأمر سوءًا إثر ذلك؛ فقد تشعر الفتاة بعدم رغبة سيلفيا في احتضانها، أو أنها انزعجت في الواقع بسبب ذلك الانفعال الصاخب.

وقالت كارلا شيئًا، وأخذت تقوله مرارًا.

لقد قالت: «مروِّع، مروِّع بحق.»

«لا عليكِ، جميعنا نكون بحاجة للبكاء في بعض الأحيان، لا بأس، لا تقلقي.»

«إنه أمر مروِّع.»

ولم تستطع سيلفيا أن تمنع نفسها من الشعور — إبَّان كل لحظة من لحظات التعاسة التي عبَّرت عنها كارلا — بأن الفتاة جعلت من نفسها واحدة من أولئك الطالبات الباكيات اللاتي يأتين لمكتب سيلفيا؛ فبعضهن يبكين بسبب الدرجات التي حصلن عليها، ولكن غالبًا ما يكون بكاءً متصنَّعًا، ويُظهرن بعض التشنجات المتكلفة غير المقنعة. أما عندما تكون الدموع حقيقية، وهو نادرًا ما يحدث، فيكون بسبب شيء يتعلق بقصة حب، أو بشجار مع الوالدين، أو بسبب حمل إحداهن.

«لا يتعلق الأمر بفقدان النعجة، أليس كذلك؟»

«لا، لا.»

قالت سيلفيا: «من الأفضل أن أُحضر لكِ كوبًا من الماء.»

واستغرقت بعض الوقت لإحضار كوب من الماء البارد، وهي تفكر فيما ينبغي أن تقوله أو تفعله بعد ذلك، وعندما عادت به كانت كارلا قد هدأت بالفعل.

قالت سيلفيا بينما تتجرع كارلا الماء: «والآن، ألستِ أفضل حالًا؟»

«نعم.»

«الأمر لا يتعلق بالنعجة، فما الخطب إذن؟»

«لا أستطيع أن أتحمَّل أكثر من هذا.»

ما الذي لا تستطيع تحمُّله؟

واتضح أن الأمر يتعلق بالزوج.

إنه يُظهر غضبه منها طوال الوقت، يتصرف كما لو أنه يكرهها. لم تعد تفعل أي شيء سليم، ولم تعد تقول أي شيء. إن الحياة معه ستصيبها بالجنون، بل إنها تعتقد في أحايين كثيرة أنها جُنَّت بالفعل، أو أنه هو الذي فقد عقله في أحيان أخرى.

«هل آذاكِ يا كارلا؟»

لا، إنه لم يؤذِها جسديًّا، ولكنه يبغضها، إنه يحتقرها، إنه لا يحتمل بكاءها، وهي لا تتوقف عن البكاء؛ لأنه يثور في وجهها دائمًا.

لم تعد تدري ما الذي يمكنها فعله.

قالت سيلفيا: «ربما تعرفين ما عليكِ فعله.»

شرعت كارلا في البكاء مرة أخرى وقالت: «هل أهرب؟ لو كان بمقدوري ذلك لكنت فعلته.»

«سأفعل أي شيء لأهرب، ولكني لا أستطيع؛ فليس معي أي نقود، وليس لدي مكان آوي إليه.»

قالت سيلفيا بأسلوب ناصح قدر الإمكان: «فكِّري جيدًا، هل هذا هو الحال بالفعل؟ أليس لديكِ أبوان؟ ألم تخبريني أنكِ نشأتِ في كينجستون ولكِ عائلة هناك؟»

كان أبواها قد انتقلا للعيش في بريتيش كولومبيا، وهما يكرهان كلارك، ولا يهتمان هل ماتت أم ما زالت على قيد الحياة.

وماذا عن الإخوة والأخوات؟

هناك أخ واحد يكبرها بتسع سنوات، متزوج ويقيم في تورونتو، لا يهتم لشأنها ولا يحب كلارك، وزوجته من ذلك النوع الذي يتسم بالتكبر والغرور.

«ألم تفكري في الذهاب إلى «مأوى السيدات»؟»

«لا يقبلونكِ هناك إلا إذا كنتِ قد تعرَّضت للضرب أو ما شابه، وسرعان ما يكتشف الجميع الأمر، وهو ما سيؤثر بالسلب على عملنا.»

ابتسمت سيلفيا في رقة وهي تقول:

«أهذا هو الوقت الذي تفكرين فيه في أمر العمل؟»

ضحكت كارلا وقالت: «أعرف هذا، أنا مجنونة.»

قالت سيلفيا: «أنصتي، أنصتي إليَّ جيدًا، لو كنتِ تملكين نقودًا كافية للرحيل، هل كنتِ سترحلين؟ وإلى أين ستذهبين؟ وماذا ستفعلين؟»

ردت كارلا سريعًا: «كنت أذهب إلى تورونتو، لكني لن أذهب إلى أخي، بل سأقيم في أي نُزُل صغير، وأبحث لنفسي عن وظيفة في أي إسطبل.»

«هل تعتقدين أنه بمقدورك فعل ذلك؟»

«لقد كنتُ أعمل في أحد إسطبلات الخيول في الصيف الذي قابلتُ فيه كلارك، ولقد أصبحت الآن أكثر تمرسًا من ذلك الحين، أكثر بكثير.»

«تتحدثين كما لو أنكِ قررتِ ذلك بالفعل.»

قالت كارلا: «لقد قررتُ ذلك الآن.»

«إذن متى يمكنكِ الرحيل إن كان بوسعك هذا؟»

«الآن، اليوم، في التوِّ واللحظة.»

«وهل كلُّ ما يمنعك هو قلة النقود؟»

أخذت كارلا نفسًا عميقًا وقالت: «كل ما يمنعني هو قلة النقود.»

قالت سيلفيا: «حسنًا، الآن أنصتي إلى ما سأعرضه عليك، أعتقد أنه لا ينبغي أن تذهبي إلى أي نُزُل، بل عليك استقلال الحافلة إلى تورونتو لتقيمي عند واحدة من صديقاتي وهي تُدعى روث ستايلس. إنها تمتلك منزلًا كبيرًا تقيم فيه بمفردها، وأعتقد أنها لن تمانع في أن يشاركها أحد الإقامة فيه، وبمقدورك أن تمكثي هناك حتى تجدي عملًا مناسبًا، وسأساعدك ببعض النقود، ولا بد أن هناك الكثير والكثير من إسطبلات الخيل في تورونتو.»

«هناك الكثير بالفعل.»

«ما رأيكِ إذن، هل تريدين مني أن أتصل هاتفيًّا لأعرف موعد تحرُّك الحافلة؟»

وافقت كارلا، وكانت ترتعد من الخوف، وأخذت تمرِّر يدها على فخذَيْها، وتحرِّك رأسها بعصبية من جانب إلى آخر.

قالت: «لا أصدِّق هذا، سأسدِّد لك المبلغ، أعني أشكرك بشدة، سأرد لك كل هذا. لا أدري ماذا أقول في الواقع.»

وكانت سيلفيا بالفعل تدير قرص الهاتف، وتطلب محطة الحافلات.

قالت: «اهدئي، إنني أحاول معرفة المواعيد.» وأخذت تُنصت، ثم أغلقت سماعة الهاتف، وأردفت: «أعلم أنكِ ستفعلين. هل اتفقنا بشأن روث؟ سأخبرها بالأمر، ولكن ثمة مشكلة واحدة.» نظرت سيلفيا لقميص كارلا وسروالها القصير على نحو انتقادي وقالت: «لا يمكنك أن تذهبي بتلك الملابس.»

قالت كارلا في فزع: «لا يمكنني الذهاب إلى المنزل لإحضار أي شيء، سأكون على ما يرام.»

«ولكن الحافلة مكيفة الهواء، وستتجمدين من البرودة، لا بد أن أعطيك شيئًا من عندي لترتديه، ألسنا بنفس الطول تقريبًا.»

«إنكِ أنحف بنحو عشر مرات.»

«لم أكن كذلك.»

واستقر الأمر في نهاية المطاف على سترة بنية اللون مصنوعة من الكتان، نادرًا ما كانت ترتديها سيلفيا — كانت تعتبر أن شراءها كان خطأً؛ فالتصميم كان غريبًا بعض الشيء — وسروال بني اللون ناسبها تمامًا، وقميص حريري بلون القشدة. وكان لا بد أن يتناسب حذاء كارلا الرياضي مع هذه الملابس؛ لأن مقاس قدميها كان أكبر بدرجتين عن مقاس سيلفيا.

ذهبت كارلا لتأخذ حمامًا — وهو الشيء الذي لم تهتم به عندما كانت في تلك الحالة المزاجية السيئة هذا الصباح — بينما حادثت سيلفيا روث هاتفيًّا ووجدت أنها ستكون في اجتماع ذاك المساء، ولكنها ستترك المفتاح عند بعض المستأجرين بالطابق الأعلى، وكل ما على كارلا فعله هو قرع جرس منزلهم فقط.

قالت روث: «ولكن عليها أن تستقل سيارة أجرة من موقف الحافلات، فهل هي في حالة جيدة تمكِّنها من ذلك؟»

ضحكت سيلفيا وقالت: «إنها ليست عرجاء، لا تقلقي، إنها مجرد شخص في موقف سيئ، كما يحدث في الكثير من الحالات.»

«حسنًا، هذا جيد، أعني أنه لأمر جيد أن تستطيع تخطِّي ذلك.»

«إنها قطعًا ليست عرجاء.» قالت تلك العبارة وهي تفكر في كارلا التي تقيس السروال والسترة المصنوعة من الكتان. كم شُفيت الفتاة الصغيرة سريعًا من نوبة اليأس التي كانت تعتريها، وكم تبدو جميلة في تلك الملابس الجديدة.

ستتوقف الحافلة في المدينة في الساعة الثانية وعشرين دقيقة. وقررت سيلفيا أن تُعدَّ البيض المقلي لطعام الغداء، وأن تفرش المائدة بالمفرش ذي اللون الأزرق الداكن، وأن تضع الأكواب المصنوعة من الكريستال، وتقدم لها زجاجة من النبيذ.

قالت سيلفيا عندما أطلت كارلا وكانت تبدو نظيفة ومشرقة في ملابسها التي استعارتها: «آمل أن تكوني جائعة لتتناولي قدرًا من الطعام.»

تورَّدت بشرتها المليئة بالنمش من أثر الاستحمام، وكان شعرها الداكن مبللًا بالمياه، وقد تحرَّر من ضفيرته، وانسدلت الخصلات التي لم تعد مجعدة على نحو جميل على رأسها، وقالت إنها بالفعل جائعة، ولكن عندما همَّت لتتناول قطعة من البيض المقلي، جعلت يداها المرتعشتان ذلك الأمر مستحيلًا.

«لا أدري لِمَ أرتعد من الخوف هكذا، فمن المفترض أن أشعر بالإثارة، فلم أتوقع أن يكون الأمر بهذه السهولة.»

قالت سيلفيا: «جاء الأمر بصورة مفاجئة تمامًا، ربما لا يبدو وكأنه أصبح أمرًا واقعًا الآن.»

«رغم كل شيء يبدو أنه بالفعل أمرٌ حقيقيٌّ الآن، أما قبل ذلك فقد كنتُ في ذهول.»

«ربما عندما تقررين فعل شيء، عندما تقررينه حقًّا، يكون الأمر على هذا النحو، أو هكذا يجب أن يكون.»

قالت كارلا بابتسامة واثقة، وقد احمرَّ وجهها: «هذا إن كان للمرء صديق حقيقي بمعنى الكلمة، أعني صديقًا مثلك.» ثم وضعت الشوكة والسكين، ورفعت كأس النبيذ بكلتا يديها بصعوبة، وقالت بصوت قلق: «نخب صديقتي الحقيقية. من المفترض ألا أتناول أي رشفة من النبيذ، ولكني سأفعل.»

قالت سيلفيا وهي تتظاهر بالسعادة: «وأنا أيضًا.» ولكنها سرعان ما أفسدت اللحظة حين قالت: «ألن تتصلي به هاتفيًّا؟ أم ماذا ستفعلين؟ يجب أن يعرف، على الأقل يجب أن يعرف مكانك في الوقت الذي ينتظر فيه عودتك إلى المنزل.»

قالت كارلا بانزعاج: «لا، ليس من خلال الهاتف، لا أستطيع ذلك، ربما يمكنك أنت أن …»

قالت سيلفيا: «لا، لا.»

«لا، هذا ضرب من الغباء، ما كان ينبغي أن أقول ذلك، لكن من الصعب التفكير بصورة سليمة الآن؛ فما ينبغي أن أفعله هو ترك ورقة صغيرة في صندوق البريد، لكني لا أريد أن يراها سريعًا. لا أريد حتى أنْ نمر من هناك ونحن في طريقنا للمدينة، أريد أن نسلك الطريق الخلفي، فإذا ما كتبتها … إذا ما كتبتها، فهل يمكنك أن تضعيها في صندوق البريد وأنت عائدة؟»

وافقت سيلفيا على ذلك؛ حيث إنها لم ترَ بديلًا أفضل.

أحضرت قلمًا وورقة، ثم صبَّت قليلًا من النبيذ.

جلست كارلا تفكر، ثم شرعت في كتابة بعض الكلمات القليلة.

•••

«لقد رحلتُ. سأكون على ما يرام.»

كانت هذه هي الكلمات التي قرأتها سيلفيا عندما فضَّت الورقة وهي في طريق عودتها من موقف الحافلات، وكانت واثقة من أن كارلا تعرف جيدًا كيف تكتب؛ إذ إنها أخطأت في تهجية الكلمة، إلا أنها كانت في حالة من الارتباك الشديد، ربما كانت مرتبكة بصورة أكثر مما تتخيلها سيلفيا. ولقد جعلها النبيذ تُخرِج ما بداخلها من كلام، ولكنه كلام لا يشوبه أي نوع من الحزن أو الكآبة. راحت تتحدث عن إسطبل الخيل الذي عملت به ورأت فيه كلارك لأول مرة، وكانت وقتها في الثامنة عشرة من عمرها وقد أنهت لتوِّها دراستها في المدرسة الثانوية. رغب والداها في أن تلتحق بالجامعة، ووافقت ما دام يمكنها أن تصبح طبيبة بيطرية وتعيش في الريف. لقد كانت من ذلك النوع من الفتيات الساذجات غير المسايرات للتطور، من الفتيات اللاتي يتندر الآخرون عليهن في المدرسة الثانوية، لكنها لم تكن تبالي بذلك.

كان كلارك من أفضل مدربي الفروسية لديهم، وكانت تلاحقه عشرات النساء؛ فقد كنَّ يأخذن دروسًا في ركوب الخيل لمجرد أن يتقرَّبن منه، وعمدت كارلا إلى أن تثير غيظه وتتندر على صديقاته، وكان يروق له ذلك في بادئ الأمر، ثم أصبح الأمر يثير ضيقه، فاعتذرت له كارلا، ثم حاولت أن تصلح الأمور بأن جعلته يتحدث عن حلمه — أو بالأحرى عن خطته — وكان في الواقع هو أن يمتلك مدرسةً للتدريب على ركوب الخيل؛ أو إسطبلًا للخيل، في مكان ما في الريف. وفي يوم من الأيام دخلت الإسطبل ورأته وهو ينشر سرج الخيل، فأدركت أنها قد وقعت في حبه.

وأدركت الآن أن الأمر كان مجرد جاذبية جنسية، ربما كان جاذبية جنسية فحسب.

•••

وعندما حلَّ فصل الخريف، وكان عليها أن تترك العمل لتلتحق بالجامعة في جيلف، رفضت أن تذهب، وقالت إنها ترغب في أن تؤجل ذلك للعام التالي.

كان كلارك يتميز بالذكاء، لكنه لم ينتظر حتى ينهي دراسته في المدرسة الثانوية، وانقطعت علاقته مع عائلته. لقد كان يعتقد أن العائلات بمثابة السم الذي يسري في الدم. وعمل مساعدًا في إحدى المصحات النفسية، ومشغلَ أسطوانات في إحدى محطات الإذاعة بليثبريدج بألبرتا، وأحدَ أفراد فرق صيانة الطرق السريعة بالقرب من ثاندر باي، وحلاقًا تحت التمرين، ومندوبَ مبيعات في متجر آرمي سيربلس؛ وكانت هذه هي الوظائف التي أخبرها بها فقط.

كانت كارلا تناديه «الجوَّال الغجري»، كما في إحدى الأغنيات القديمة التي كانت أمها تشدو بها في بعض الأوقات، وقد راحت تردِّدها طوال الوقت في جميع أركان المنزل، وشعرت أمها بأن هناك شيئًا ما وراءها.

وكانت كلمات الأغنية تقول:

نامت بالأمس في فراشها الوثير من الريش
تلتحف غطاءها الحريري
أما اليوم فستفترش الأرض الباردة الصلبة
في أحضان حبيبها الغجري.

قالت لها أمها: «إنه سيكسر قلبك في يوم ما، وهذا أمر مؤكد.» أما زوج أمها، الذي كان يعمل مهندسًا، فلم يَرَ أن لكلارك أي أهمية أو شأن، وقال عنه: «إنه فاشل، واحد من أولئك الهائمين على وجوههم.» كما لو أن كلارك مجرد حشرة يستطيع أن يزيحها عن ملابسه.

ردت كارلا قائلة: «هل يستطيع الهائم على وجهه أن يدَّخر النقود الكافية التي تمكِّنه من شراء مزرعة؟ وهو الأمر الذي فعله بالمناسبة.» فكان رده فقط: «لن أدخل في جدال معك.» وأضاف بأنها ليست ابنته على أي حال، كما لو أن تلك هي النقطة الحاسمة.

لذا كان من الطبيعي أن تهرب كارلا مع كلارك؛ فالطريقة التي تَعامَل بها والداها مع الأمر ضمنت ذلك بالفعل.

قالت سيلفيا: «هل ستحاولين الاتصال بوالديك عندما يستقر بك المقام في تورونتو؟»

رفعت كارلا حاجبيها، ومطَّت شفتيها وهي تقول: «كلا.»

لقد كانت بالقطع ثملةً بعض الشيء.

•••

وعند عودتها إلى المنزل، وبعدما تركت الرسالة في صندوق البريد، غسلت سيلفيا الأطباق التي كانت لا تزال على المائدة، وغسلت المقلاة وجفَّفتها، وألقت غطاء المائدة والمفارش الصغيرة ذات اللون الأزرق في سلة الغسيل، وفتحت النوافذ، وقد فعلت ذلك بشعور متضارب من الندم والقلق. كانت قد وضعت للفتاة قطعة صابون جديدة للاستحمام برائحة التفاح فعلقت رائحته في أرجاء المنزل، كما انتشرت رائحته بالسيارة أيضًا.

توقفت الأمطار شيئًا فشيئًا، ولم تستطع أن تجلس ساكنة، فخرجت لتتريض قليلًا عبر الممر الذي كان ليون قد نظَّفه وجعله ممهدًا، وقد تلاشت كميات الحصى التي فرشها في أماكن المستنقعات. اعتادا أن يذهبا للتريُّض كل ربيع بحثًا عن زهور الأوركيد البرية، وكانت تعلِّمه اسم كل زهرة من الزهور البرية، وكان ينسى أسماءها جميعًا، فيما عدا زهرة الثالوث البرية. اعتاد أن ينادي سيلفيا باسم الشاعرة الشهيرة دوروثي وردزورث.

وفي الربيع الماضي، ذهبتْ للخارج واقتطفتْ من أجله مجموعة من زهور الزنبق البنفسجي، لكنه نظر إلى الزهور — كما كان ينظر إليها في بعض الأحيان — بنظرات تحمل شيئًا من الوهن والإنكار.

أخذت تراقب كارلا وهي تصعد إلى الحافلة. لقد كان تعبيرها عن الامتنان صادقًا، وغير رسمي، وقد لوَّحت لها بمرح، كانت كارلا قد اعتادت على فكرة خلاصها.

عندما عادت سيلفيا إلى المنزل في نحو السادسة، أجرت مكالمة لتورونتو، حيث حادثت روث، وهي تعلم أن كارلا لم تصل بعد، ولكن سمعت آلة الرد الآلي.

قالت سيلفيا: «روث، أنا سيلفيا. بخصوص الفتاة التي أرسلتها إليك، آمل ألا تكون مصدر إزعاج لكِ، وأتمنى أن تسير الأمور على ما يرام. قد تجدينها معتزة بنفسها بعض الشيء، ولكنها فورة الشباب كما تعرفين، فقط أخبريني عندما تصل.»

وهاتفَتْها مرة أخرى قبل أن تأوي إلى الفراش، وسمعت ماكينة الرد الآلي مرة أخرى، فقالت: «سيلفيا مرة أخرى، أردتُ فقط الاطمئنان.» ثم وضعت السماعة. كان الوقت ما بين التاسعة والعاشرة، ولم يكن الظلام حالكًا بعد، ولا بد أن روث ما زالت بالخارج، والفتاة لن تلتقط سماعة الهاتف بالقطع في منزل غريب. حاولت أن تتذكر أسماء جيران روث المستأجرين بالطابق الأعلى؛ فهم بالطبع لم يأووا للفراش بعد، لكنها لم تستطع تذكُّر أسماء أيٍّ منهم، وكذلك فإن محاولة الاتصال تعني إثارة المزيد من الجلبة، وإبداء الكثير من القلق، وتحميل الأمر أكثر مما يستحق.

أوت إلى الفراش، ولكن كان من المستحيل البقاء في غرفة النوم طويلًا، فأخذت غطاءً خفيفًا واتجهت صوب غرفة المعيشة واستلقت فوق الأريكة، حيث اعتادت النوم خلال الثلاثة أشهر الأخيرة من حياة ليون. ولم تكن تعتقد أنها ستخلد إلى النوم على الأريكة كذلك، ولم يكن هناك ستائر على حافة النافذة فاستطاعت أن تتبيَّن من خلال منظر السماء أن القمر يضيئها بالرغم من أنها لا تراه.

كان الشيء التالي الذي رأته هو أنها في إحدى الحافلات في مكان ما — ربما تكون اليونان؟ — وبصحبتها أناس كثيرون لا تعرفهم، وكان المحرك يُصدر أصواتًا مزعجة، فاستيقظت لتدرك أن تلك الأصوات ما هي إلا قرعٌ على باب المنزل الأمامي.

«كارلا؟»

•••

ظلت كارلا تحني رأسها حتى غابت الحافلة عن المدينة، ورغم أن زجاج النوافذ ملون ولا يستطيع أحد من الخارج أن يرى ما بداخلها، إلا أنه كان عليها أن تتخذ حذرها خشية أن يلمحها أحد، أو أن يظهر كلارك فجأة؛ فربما يكون خارجًا لتوِّه من أحد المتاجر، أو يعبر الشارع، وهو لا يدري تمامًا بأنها في طريقها للرحيل، معتقدًا أنها فترة من فترات ما بعد الظهيرة التي تمر كالمعتاد، بل يعتقد أنها في طريقها لوضع مخططهما — أو مخططه بالأحرى — موضع التنفيذ، ويتوق لأن يعرف ما الذي آلت إليه الأمور.

بمجرد أن جاوزت الحافلة المناطق الداخلية وخرجت إلى الريف، رفعت رأسها وتنفَّست الصعداء، ورأت الحقول التي ازدانت بزهور البنفسج من خلال النوافذ. لقد أحاطها وجود السيدة جاميسون بنوع من الطمأنينة والسكينة الشديدتين، وجعل هروبها أكثر الأمور التي يمكن تخيلها تعقلًا، بل ربما الشيء الوحيد الذي ينمُّ عن احترام الذات يمكن لأي شخص في موقف كارلا أن يفعله. شعرت كارلا بقدرتها على أن تبدي ثقة غير معتادة في النفس، بل وحتى روح دعابة متعقلة، وهي تكشف عن حياتها بأسلوب لا بد وأن يجذب التعاطف، وفي الوقت نفسه ساخر وصادق، وحاولت أن ترقى، بقدر ما أمكن، إلى مستوى توقعات السيدة جاميسون. ساورها شعور بأنه ثَمَّةَ احتمال بأن تخذل السيدة جاميسون، التي فاجأتها بأنها شخصية تتسم بالحساسية والحزم في ذات الوقت، ولكنها اعتقدت أنها بالتأكيد لن تفعل ذلك.

إن لم تكن مضطرة إلى أن تبقى بجانبها لفترة طويلة.

كانت الشمس مشرقة، كما كان الحال منذ فترة، فعندما جلستا لتناول طعام الغداء، كانت تلقي بأشعتها على أكواب النبيذ فتزيدها تلألُؤًا، ولم تسقط أي أمطار منذ الصباح الباكر، وقد هبَّت بعض الرياح وكانت كافية لإزاحة الأعشاب المنتشرة عبر الطريق، وتلك الحشائش الضارة المزهرة بعيدًا عن مجموعات الأشجار الغارقة بمياه الأمطار. وكانت سحب الصيف، وليست تلك المشبعة بالأمطار، تنتشر وتتحرك بسرعة عبر السماء. كان الريف بأسره في حالة تغيُّر، في حالة تحرُّر، نحو إشراقة يوم من أيام يوليو، ولم تستطع أن تلمح مع ازدياد سرعة الحافلة كل ما خلَّفه الماضي القريب من آثار، ولم يكن هناك الكثير من البرك وسط الحقول التي تظهر أماكن البذور التي جرفتها الأمطار، ولم تلمح سيقان الذرة الضعيفة، أو أيًّا من الحبوب على أرضها.

جال بخاطرها أنه يجب عليها إخبار كلارك بذلك؛ أنهما ربما قد اختارا — لسبب غريب — ذلك الجانب الموحش المبتل من الريف، في حين أن هناك أماكن أخرى كان يمكن أن يحققا نجاحًا بها.

أو ربما لا يزال بإمكانهما تحقيق النجاح فيها.

ثم تذكَّرت أنها بالطبع لن تقول أي شيء من هذا القبيل لكلارك، لن تقوله ثانية مطلقًا؛ فهي لن تهتم بعد الآن بما يمكن أن يحدث له، أو لجريس، أو مايك، أو جونيبر، أو بلاك بيري، أو ليزي بوردِن. وإن حدث وعادت فلورا فلن تعرف بالأمر.

كانت تلك هي المرة الثانية التي تترك وراءها كل شيء؛ كانت المرة الأولى تشبه في أحداثها أغنية فرقة «البيتلز» القديمة؛ حيث تركت رسالة فوق المنضدة، وغادرت المنزل في الخامسة صباحًا، وقابلت كلارك في ساحة انتظار السيارات بالكنيسة عند نهاية الشارع، وكانت تتمتم بتلك الأغنية وهما يثرثران ويذهبان بعيدًا: «إنها تغادر المنزل، وداعًا وداعًا.» وقد استرجعت الآن منظر الشمس وهي تطل من خلفهما، وكيف كانت تنظر إلى يدَي كلارك وهو يمسك بعجلة القيادة، وتلمح الشعر الأسود الذي يكسو ساعدَيْه القوييين، وكانت تشم رائحة الشاحنة من الداخل؛ حيث رائحة الزيوت والمعادن، ورائحة الأدوات وإسطبلات الخيل. وقد كان النسيم البارد في صباح هذا اليوم من أيام الخريف يتسلَّل داخل الفواصل المعدنية بالشاحنة التي يعلوها الصدأ، وكانت من ذلك النوع من الشاحنات التي لم يحدث أن استقلَّها أحد من أفراد عائلتها، أو حدث وأن رأتها تمر من الشارع الذي كانت تقطن به.

وقد أثارها وأسعدها في ذلك الصباح انشغال كلارك بالطريق (فقد بلغا الطريق السريع ٤٠١)، واهتمامه بالشاحنة، وإجاباته المقتضبة، وعيونه الضيقة، بل وحتى بعض الضيق الذي أظهره إزاء سعادتها الطائشة. وأثارها أيضًا اضطراب حياته الماضية؛ شعوره بالوحدة التي أعلنها لها، والأسلوب اللطيف الناعم الذي يعامل به الخيل، ويعاملها به. لقد كانت تراه مهندسَ حياتهما القادمة، وكانت ترى نفسها أسيرةً له، وتعتبر خضوعها وإذعانها شيئًا منطقيًّا ورائعًا.

كتبت أمها تقول في الخطاب الوحيد الذي أرسلته لها، ولم ترد هي عليه: «إنكِ لا تعرفين قيمة ما تركتيه.» ولكنها في تلك اللحظات الباردة المضطربة من رحلة الصباح الباكر كانت تعرف جيدًا ماذا تركت وراءها، حتى وإن لم يكن لديها سوى فكرة مبهمة عما ستذهب إليه. لقد كرهت والديها، ومنزلها، والفناء الخلفي، ومجلدات صورهم، وعطلاتهم، ومستلزمات المطبخ ماركة كويزين آرت، و«دورة المياه الخاصة بالضيوف»، وغرفة الملابس، ونظام رش المرج بالمياه المدفون تحت الأرض، وفي الرسالة المختصرة التي تركتها لوالديها استخدمت كلمة «حقيقي».

لطالما كنت أشعر دومًا بالحاجة إلى أن أحيا حياة حقيقية صادقة، ولا أتوقع منكم أن تدركوا ما أعنيه.

توقفت الحافلة الآن عند أول بلدة على الطريق، وكانت نقطة الوقوف هي إحدى محطات الوقود. كانت محطة الوقود التي اعتادت هي وكلارك أن يذهبا إليها بالسيارة، في أولى أيام حياتهما معًا، للتزود بوقود زهيد الثمن. وفي تلك الأيام، ضم عالَمهما العديد من البلدات التي تحيط بالريف، وكانا يتصرفان كالسائحين؛ يتذوقان بعضًا من عينات الطعام الذي تقدمه حانات الفنادق الزهيدة مثل أقدام الخنزير، أو الكرنب المخلل المخمَّر، أو فطائر البطاطس، أو الجعة، ثم يشدوان بالأغاني في طريق عودتهما للمنزل مثل الحمقى.

ولكنهما بعد فترة اعتبرا تلك النزهات مضيعة للوقت والنقود، كانا يفعلان كما يفعل الناس قبل أن يدركوا حقيقة حياتهم.

كانت تبكي الآن؛ اغرورقت عيناها بالدموع من دون أن تدري، وأخذت تفكر في تورونتو، وأولى خطواتها القادمة هناك؛ سيارة الأجرة، المنزل الذي لم ترَه من قبل، الفراش الغريب الذي ستنام عليه بمفردها، وغدًا سوف تنظر في دليل الهاتف بحثًا عن عناوين الإسطبلات التي تدرِّب من يريد على ركوب الخيل، ثم تذهب إلى عناوينها بحثًا عن وظيفة لها هناك.

لم تستطع تخيُّل نفسها هناك، وهي تركب قطار الأنفاق، أو الترام، أو وهي تعتني بخيول جديدة، تتحدث إلى أشخاص جدد، تحيا على نحو يومي وسط حشود من البشر ليس من بينهم كلارك.

إنها حياة ومكان اختارتهما لهذا السبب بالتحديد؛ أن تكون حياة ليس فيها كلارك.

والشيء الغريب والمفزع الذي ظهر جليًّا أمامها بشأن ذلك العالم المستقبلي، كما تتخيله الآن، هو أنها لن تكون موجودة فيه؛ فقط ستتجول هنا وهناك، ستفتح فمها وتتحدث، ستفعل هذا وذاك، ولكنها لن تكون جزءًا منه في حقيقة الأمر؛ لن تنتمي إليه. والغريب والمتناقض في ذلك هو أنها تفعل كل هذا، وتستقل تلك الحافلة على أمل استعادة نفسها. وكما تقول السيدة جاميسون — وكما كانت تقول هي ذاتها بنوع من الرضا — «تتولى مسئولية حياتها» من دون أن يكون هناك أحد يصبُّ جام غضبه عليها، أو يسبِّب لها مزاجُه المتقلب الكثيرَ من التعاسة.

ولكن ما الذي ستهتم بشأنه؟ ما الذي سيشعرها أنها تحيا؟

وبينما كانت تهرب مبتعدة عنه — الآن — لا يزال كلارك يحتفظ بمكانه في حياتها، ولكن بعد أن تنجح في الهروب، وتستمر في حياتها، ما الذي ستضعه في مكانه؟ ما عساه — أو من عساه — يرقى لذلك التحدي ويحل محله؟

استطاعت أن تتوقف عن البكاء، ولكن سَرَت في جسدها رعدة. كانت في حالة سيئة، ولكن كان عليها أن تكون أكثر قوة، كان عليها أن تتماسك. كان كلارك يقول لها في بعض الأحيان وهو يدلف إلى إحدى الغرف التي انكمشت بداخلها محاولة كبت دموعها: «عليكِ أن تتماسكي.» وهو الشيء الذي عليها أن تفعله حقًّا الآن.

توقفت الحافلة في بلدة أخرى. كانت البلدة الثالثة التي بلغوها منذ استقلَّت الحافلة، مما يعني أنهم مروا ببلدة أخرى دون أن تلاحظ هي ذلك؛ فلا بد وأن الحافلة قد توقفت، وأن السائق قد ردَّد اسم البلدة، ولكنها لم تسمع أو ترى شيئًا في خضم موجة الخوف التي اعترتها. وسرعان ما سيصلون إلى الطريق السريع الرئيسي، وسيهرعون مباشرة نحو تورونتو.

وستضيع هي.

ستضيع بالفعل. ما الغاية من استقلالها إحدى سيارات الأجرة وإعطاء سائقها العنوان الجديد؟ وما جدوى أن تستيقظ في الصباح الباكر وتنظف أسنانها وتلتقي بالعالم من حولها؟ لمَ تريد أن تحصل على وظيفة؟ لمَ تضع الطعام في فمها؟ لمَ تستقل المواصلات العامة من مكان لمكان؟

انتابها شعور بأن قدميها تبعد عن جسمها بمسافة هائلة، وأن ساقيها، في ذلك السروال الجديد والنظيف غير المعتاد، تثقلهما أغلال حديدية. لقد كانت تغوص في الأرض كحصان مصاب لن يقوى على النهوض مرة أخرى.

امتلأت الحافلة ببعض الركاب الآخرين، وبالطرود التي كانت تنتظر في تلك البلدة. وها هي سيدة وطفلها في عربته يلوِّحان مودِّعين شخصًا ما، بينما يتحرك المبنى من خلفهما والمقهى الذي كان بمثابة محطة انتظار الحافلة. شعرت بأن هناك موجة تسللت عبر قوالب الطوب بالبناية ونوافذها، وكأنها على وشك أن تذيب كل شيء. ومع شعورها بأن حياتها في خطر، أخذت كارلا تدفع بكلٍّ من جسمها الضخم، وأطرافها التي كانت كالحديد الثقيل إلى الأمام. وراحت تتعثَّر في خطاها وهي تنادي بأعلى صوتها: «أنزلني هنا.»

جذب السائق مكابح السيارة وقال في حدة: «اعتقدت أنكِ ذاهبة إلى تورونتو؟» رمقها الركاب بنظرات مليئة بالفضول، ولم يكن لأحد أن يدري بكم الألم الهائل بداخلها.

«يجب أن أنزل هنا.»

«هناك دورة مياه في الخلف.»

«لا، لا، عليَّ أن أنزل هنا.»

«لن أنتظر، أتفهمين؟ هل معك أمتعة بالأسفل؟»

«لا، نعم. لا.»

«ليس لديك أمتعة؟»

قال أحد الركاب: «إنه رهاب الأماكن المغلقة. هذا كل ما في الأمر.»

قال السائق: «هل أنتِ مريضة؟»

«لا، لا، أريد أن أنزل فحسب.»

«حسنًا، لا بأس.»

تعال خذني، تعال خذني أرجوك.

سأفعل.

كانت سيلفيا قد نسيت أن تُحكِم غلق الباب، وأدركت أنه ينبغي لها أن تفعل ذلك الآن، لا أن تفتحه، ولكن كانت تلك الفكرة متأخرة، فقد فتحته بالفعل.

لكن ما من أحد بالباب.

لكنها كانت على يقين من أن صوت قرع الباب كان حقيقيًّا.

وأغلقت الباب، ولكنها أحكمت الغلق هذه المرة.

ترامى إلى مسامعها صوت غريب، نقرات عالية تصدر من جوانب النافذة. أضاءت الأنوار، لكنها لم ترَ شيئًا، فأطفأتها مرة أخرى. قد يكون صوت أحد الحيوانات — ربما يكون سنجابًا — ولم تكن الأبواب الفرنسية التي تفتح بين النوافذ وتؤدي إلى الفناء مُحكَمة الغلق أيضًا، فلم تكن مغلقة تمامًا، بل كانت مفتوحة بنحو بوصة أو ما شابه للتهوية. وشرعت في غلقها عندما سمعت صوت شخص يضحك بالقرب منها، وكأنه بجوارها في الغرفة.

قال الرجل: «إنه أنا، هل أفزعتك؟»

لقد كان ملاصقًا للزجاج، بجوارها تمامًا.

قال: «إنه أنا كلارك، كلارك الذي يقطن نهاية الشارع.»

لم تكن لتطلب منه أن يدخل، لكنها لن تغلق الباب في وجهه؛ فمن الممكن أن يجذب الأبواب قبل أن تفعل ذلك. ولم تكن ترغب في إضاءة الأنوار أيضًا؛ فقد كانت ترتدي قميصًا قصيرًا، كان ينبغي لها أن تجذب الغطاء من فوق الأريكة وتلفه حولها، ولكن كان الوقت قد فات لفعل ذلك.

قال: «أكنتِ ترغبين في تغيير ملابسك؟ إن ما أحمله هنا هو ما تحتاجينه تمامًا الآن.»

كان يحمل حقيبة تَسَوق في يده، دفع بها إليها ولكنه لم يحاول أن يقترب.

قالت في صوت قلق: «ما هذا؟»

قال: «انظري بنفسك لتري ما بداخلها، إنها ليست قنبلة، ها هي أمسكي بها.»

تحسَّست ما في داخل الحقيبة دون أن تنظر إليها، لقد كان بها شيء طري، ثم تبينت فيما بعد أزرار السترة، والقماش الحريري المصنوع منه القميص، والحزام في السروال.

قال: «اعتقدتُ أنه من الأفضل أن تستعيديها، إنها ملكك، أليس كذلك؟»

أطبقت على فكَّيها حتى لا تصطك أسنانها بعضها ببعض؛ حيث انتاب فمها وحلقها حالة من الجفاف المخيف.

قال بصوت هادئ: «عرفت أن تلك الأشياء تخصُّكِ.»

تحرَّك لسانها ككتلة من الصوف، وبالكاد استطاعت أن تقول: «أين كارلا؟»

«تقصدين زوجتي كارلا؟»

أصبحت ترى وجهه بوضوح أكثر الآن، واستطاعت أن تراه وهو يزهو بنفسه.

«زوجتي كارلا في المنزل، نائمة في فراشها، حيث يجب أن تكون.»

كان رجلًا وسيمًا، ولكنه ذو مظهر سخيف في نفس الوقت، وكان طويلًا، ونحيفًا، وقويَّ البنية، ولكن مع انحناءة تبدو مصطنعة. وقد بدا متكلِّفًا في محاولاته للتهديد المشوب بالزهو، وتدلَّت خصلة من خصلات شعره الأسود فوق جبهته، له شارب خفيف للغاية، عينان تمتلئان بالأمل والسخرية، وله ابتسامة صبيانية، ودائمًا ما تكون على حافة التجهم والعبوس.

كانت دومًا تكره رؤيته، وقد أخبرت ليون بمدى كرهها له، فقال لها إن الرجل لا يثق بنفسه، وإنه ودود ربما على نحو زائد عن الحد.

وحقيقة أنه لا يثق بذاته لن تجعلها تشعر بالأمان الآن.

قال: «إنها منهكة بعض الشيء بعد مغامرتها الصغيرة. كان ينبغي أن ترَيْ وجهك … أن تشاهدي النظرة التي ارتسمت على وجهك عندما تعرَّفتِ على تلك الملابس. ما الذي جال بخاطرك؟ هل اعتقدتِ أنني قتلتها؟»

قالت سيلفيا: «لقد اندهشتُ.»

«أراهن أنكِ فعلتِ، بعد مساعدتك الهائلة لها لكي تهرب.»

قالت سيلفيا بجهد كبير: «لقد ساعدتها … ساعدتها لأنها بدت لي في ضائقة.»

قال كما لو أنه يدرس الكلمة بعناية: «ضائقة …» ثم أردف قائلًا: «أعتقد أنها كانت كذلك بالفعل؛ لقد كانت في ضائقة شديدة عندما قفزت خارجة من تلك الحافلة، وهاتفتني كي أذهب وآخذها إلى المنزل. لقد كانت تبكي بشدة لدرجة أنني لم أفهم ما الذي كانت تقوله.»

«هل كانت ترغب في العودة؟»

«نعم، أتشكِّين أنها كانت ترغب في العودة؟ لقد كانت في حالة هستيرية وترغب بشدة في الرجوع. إنها فتاة ذات مشاعر متقلبة إلى أقصى حد، ولكني أعتقد أنكِ لا تعرفينها جيدًا مثلما أعرفها أنا.»

«ولكنها كانت شديدة السعادة برحيلها.»

«هل كانت كذلك حقًّا؟ حسنًا، سأصدقك، فأنا لم آتِ إلى هنا لأجادلك.»

لم تتفوَّه سيلفيا بحرف واحد.

«لقد أتيتُ إلى هنا لكي أقول لك إنني لا أقدِّر تدخلك في حياتي أنا وزوجتي.»

قالت سيلفيا وهي توقن جيدًا أنه من الأفضل لو صمتت: «إنها بشر بجانب كونها زوجتك.»

«يا إلهي، هل هي كذلك بالفعل؟ زوجتي من البشر؟ حقًّا؟ أشكرك على تلك المعلومة الثمينة. لا تحاولي أن تستغلي ذكاءك معي يا سيلفيا.»

«لا أستغل ذكائي.»

«حسنًا، أنا سعيد أنكِ لم تفعلي، فأنا لا أريد أن أنفجر غضبًا، لكن لديَّ أمران أود أن أقولهما لك؛ الأمر الأول هو أنني لا أريد أن تدسي أنفك في أي مكان، ولا في أي وقت في حياتي أو حياة زوجتي، والأمر الثاني أنني لن أدعها تأتي إلى هنا بعد الآن، وهي نفسها لن ترغب في المجيء، إنني على ثقة من ذلك، فهي تحمل فكرة سيئة عنكِ الآن. حان الوقت لتتعلمي كيف تنظفين منزلك بنفسك.»

قال: «والآن، هل هذا مفهوم؟»

«تمامًا.»

«أوه، آمل ذلك، أتمنى أن يكون الأمر كذلك.»

قالت سيلفيا: «نعم.»

«أوَتدرين ما الذي أفكر به الآن؟»

«ماذا؟»

«أعتقد أنكِ مدينة لي بشيء.»

«ما هو؟»

«أعتقد أنك مدينة لي — ربما — باعتذار.»

قالت سيلفيا: «حسنًا، إن كنتَ تعتقد ذلك، أنا آسفة.»

تحرك كلارك من مكانه، ربما ليذهب، ولكن مع حركة جسمه أطلقت صرخة عالية.

فراح يضحك، ثم وضع يده على إطار الباب ليتأكد أنها لم تغلقه.

قالت: «ما هذا؟»

فرد عليها: «ماذا؟» كما لو كانت تجرِّب خدعة ما ولكنها لم تنجح، ولكنه لمح شيئًا انعكست صورته على الزجاج، فاستدار بسرعة ليرى ما الأمر.

كانت هناك على مسافة ليست ببعيدة من المنزل قطعة واسعة من الأرض الضحلة، وكانت عادة ما تمتلئ بالضباب ليلًا في هذا الوقت من العام، وقد كساها الضباب في تلك الليلة، وطوال تلك الفترة، ولكن فجأة تغير ذلك الآن، فلقد تكاثف الضباب، واتخذ شكلًا منفصلًا، وحوَّل نفسه إلى شيء متوهج وله رأس حادة. في البداية اتخذ شكل كرة من الهندباء، تتقدم للأمام متعثرة، ثم سرعان ما انكمشت تلك الكرة لتتخذ شكل حيوان غريب لونه أبيض ناصع، أشبه بوحيد قرن عملاق يهرع في اتجاههما مندفعًا.

قال كلارك بهدوء وجدية: «يا إلهي!» ثم قبض على كتف سيلفيا. ولم يفزعها ذلك على الإطلاق؛ فلقد تقبَّلت ذلك وهي مدركة تمامًا أنه قد فعل هذا لكي يحميها أو ليُطَمئِن نفسه.

ثم اتضحت الرؤية؛ فمن بين الضباب الكثيف، ومن بين ضوءٍ عمل على تكبير الصورة — وهو ضوء اتضح أنه لسيارة كانت تمر عبر الطريق الخلفي، ربما بحثًا عن مكان لكي تقف فيه — من بين ذلك كله ظهرت نعجة بيضاء صغيرة تتهادى لا يكاد حجمها يزيد عن حجم كلب راعٍ.

ترك كلارك كتفها، ثم قال: «من أين أتيتِ بحق السماء؟»

قالت سيلفيا: «إنها نعجتكم، أليست هي؟»

قال: «فلورا، إنها فلورا.»

توقفت النعجة على بعد أقل من متر، وقد بدا عليها الخجل وهي تحني رأسها.

قال كلارك: «من أين أتيتِ يا فلورا؟ لقد أفزعتِنا.»

اقتربت فلورا، ولكنها لم تقوَ على رفع رأسها، وأخذت تتمسَّح في أرجل كلارك.

قال كلارك مرتجفًا: «يا لكِ من حيوان غبي، من أين أتيتِ؟»

قالت سيلفيا: «لقد كانت مفقودة.»

«نعم بالفعل، اعتقدنا في حقيقة الأمر أننا لن نراها ثانية.»

رفعت فلورا رأسها، وقد انعكس بريق ضوء القمر في عينيها.

قال لها كلارك: «لقد أفزعتِنا. أذهبتِ للبحث عن صديق؟ أفزعتِنا حقًّا، أليس كذلك؟ لقد خُيل إلينا أنكِ شبح.»

قالت سيلفيا: «إنه تأثير الضباب.» وقد خرجت من الباب ووقفت في الفناء الآن بعد أن شعرت بالأمان.

«نعم.»

«ثم جاء ضوء تلك السيارة.»

قال وقد استعاد رباطة جأشه: «بدت مثل شبحٍ.» وقد أسعده أنه فكر في هذا الوصف.

«نعم.»

قال وهو يُرَبِّت على فلورا: «نعجة من الفضاء الخارجي، هكذا أنتِ؛ نعجة لعينة من الفضاء الخارجي.» ولكن عندما مدت سيلفيا يدها الخالية لكي تفعل مثله — فقد كانت يدها الأخرى ما زالت ممسكة بحقيبة الملابس التي كانت ترتديها كارلا — خفضت فلورا رأسها كما لو كانت تتأهب لتنطحها.

قال كلارك: «إن ردود أفعال النعاج غير متوقعة؛ فقد يبدو أنها مستأنسة، لكنها ليست كذلك بعد أن تكبر.»

قالت سيلفيا: «وهل كبِرت؟ إنها تبدو صغيرة للغاية.»

«لقد كبرت، ولن تتجاوز ذلك.»

وقف كلاهما ينظران إلى النعجة كما لو كانا يتوقعان أنها ستوفر لهما مساحة أكبر من الحديث، ولكن كان من الواضح أن ذلك لن يحدث؛ فمنذ تلك اللحظة لم يكن باستطاعتهما المضي قدمًا واستئناف الحديث أو التراجع عما بدر منهما، اعتقدت سيلفيا أنها ربما لمحت مسحة من الندم فوق وجهه بسبب ذلك.

وقد أقرَّ هو قائلًا: «لقد تأخَّر الوقت.»

قالت سيلفيا وكأنها زيارة عادية: «أعتقد هذا.»

«حسنًا، هيا بنا يا فلورا، لقد حان الوقت للعودة إلى المنزل.»

«سأقوم ببعض الترتيبات الأخرى لطلب المساعدة إذا ما احتجتها، وعمومًا، فإنني لن أحتاجها الآن.» ثم أضافت ضاحكة: «وسأتوقف عن إزعاجك ومضايقتك.»

قال: «بالقطع، من الأفضل أن تدخلي الآن حتى لا تصابي بالبرد.»

«كان الناس في الماضي يعتقدون أن تكاثف الضباب بالليل يمثل خطورة.»

«هذا شيء جديد بالنسبة لي.»

قالت: «إذن طابت ليلتك، طابت ليلتك يا فلورا.»

ثم دق جرس الهاتف.

«أستأذنك.» وقد رفع يده واستدار وهو يقول: «طابت ليلتك.»

لقد كانت روث على الهاتف.

قالت سيلفيا: «أوه، لقد تغيَّرت الخطة.»

•••

لم تنَم؛ فقد كانت تفكر في تلك النعجة الصغيرة، التي بدا ظهورها من بين الضباب وكأنه شيء مليء بالسحر، وتساءلت لو مرَّ ليون بشيء كهذا كيف كان يمكن أن يتناوله؟ لو كانت شاعرة لكتبت قصيدة عما مرت به، ولكنها من خلال تجربتها كانت تدرك أن الموضوعات التي اعتقدت أنه يمكن للشاعر أن يعبر عنها لم تكن تروق لليون على الإطلاق.

•••

لم تسمع كارلا صوت كلارك وهو يغادر المنزل، ولكنها شعرت به عندما عاد.

أخبرها أنه خرج لتوِّه كي يتفقد الأمور حول الإسطبل.

«مرت سيارة عبر الطريق منذ فترة، وتساءلت عما يمكن أن يفعله أصحابها هنا، ولم أستطع النوم حتى خرجت لأطمئن بأن كل شيء على ما يرام.»

«وهل كان الأمر كذلك؟»

«على قدر ما رأيت.»

قال: «وبينما كنت بالخارج، أدركت أنني لا بد أن أقوم بزيارة لأول الطريق، لقد قمت بإعادة الملابس.»

اعتدلت كارلا وجلست في فراشها.

«هل أيقظتَها؟»

«لقد كانت مستيقظة، لقد سارت الأمور على ما يرام، لقد تبادلنا حديثًا قصيرًا.»

«أوه.»

«سارت الأمور على ما يرام.»

«لم تذكر لها شيئًا عن ذلك الأمر، أليس كذلك؟»

«بلى، لم أذكر لها شيئًا عن ذلك.»

«لقد كان الأمر كله مختلقًا، لقد كان كذلك بالفعل، يجب أن تصدقني، لقد كانت كذبة.»

«لا عليكِ، حسنًا.»

«يجب أن تصدقني.»

«أنا أصدقك.»

«لقد اختلقت كل هذا.»

«حسنًا.»

وصعد إلى الفراش.

قالت: «ساقاكَ باردتان كما لو أنهما قد ابتلتا.»

«إنه الندى الكثيف.»

قال: «اقتربي هنا، عندما قرأتُ رسالتك شعرت داخلي بالخواء. هذا صحيح. لو كنتِ تركتِني، لكنت شعرتُ بأنه لم يتبقَّ لي شيء في حياتي.»

•••

استمر الجو صحوًا، وراح الناس يحيي بعضهم بعضًا، في الشوارع، والمتاجر، وفي مكتب البريد، مشيرين إلى أن فصل الصيف قد وصل أخيرًا، وراحت الحشائش في المراعي، وحتى المحاصيل المنكمشة، ترفع رأسها معلنة تحيتها لقدوم الصيف. وجفَّت البرك والمستنقعات، وتحوَّل الطين إلى تراب، وهبَّت بعض الرياح الخفيفة الدافئة، وشعر كل فرد بقدرته على ممارسة مهامه مرة أخرى بهمة ونشاط. ولم يتوقف رنين الهاتف، وانهالت التساؤلات عن مواعيد سباقات الخيل، وعن أوقات التدريب، وأبدى القائمون على مخيمات الصيف اهتمامهم الآن، بعد أن ألغوا الرحلات المتجهة إلى المتاحف. واقتربت المركبات الصغيرة محملة بالأطفال الصغار دائمي الحركة، وراحت الخيول تقفز عبر السياج، وقد تحررت من أغطيتها.

نجح كلارك في العثور على تسقيفة كبيرة بما يكفي بسعر معقول، وقد أمضى طوال اليوم الأول الذي أعقب «يوم الهروب» (وهو الاسم الذي أطلقوه على رحلة كارلا بالحافلة) في إصلاح سقف حلقة التدريب.

وظلا طوال يومين يلوِّح أحدهما لآخر، وهما يؤديان أعمالهما اليومية المعتادة. وإذا ما تصادف ومرت كارلا بجواره ولم يكن هناك أحد يراهما، فإنها كانت تطبع قبلة على كتفه من فوق قماش قميصه الصيفي الخفيف.

قال لها: «إن حاولتِ مرة أخرى أن تهربي بعيدًا، فسأضربك.» فردت قائلة: «أحقًّا ستفعل؟»

«ماذا؟»

«تضربني؟»

«تمامًا، هو ذاك.» كانت روحه المعنوية مرتفعة بشدة، وكانت جاذبيته لا تقاوَم مثلما رأته أول مرة.

وكانت الطيور تنتشر في كل مكان، وقد امتلأت السماء بالطيور السوداء ذات الأجنحة الحمراء، وبعصافير أبي الحناء، وكان هناك زوج من اليمام راح يغرِّد منذ أن طلع الصباح، وظهرت الكثير من الغربان والنوارس التي انطلقت من فوق البحيرة في مهمات استطلاعية، بينما حطَّت طيور البغاث الضخمة فوق أحد أشجار السنديان الذابلة التي تقع على مسافة نصف ميل عند أطراف الغابة. وقد جلست في البداية لتجفف أجنحتها الكثيفة، وكانت ترفعها بين الحين والآخر في محاولة للتحليق؛ فقد كانت ترفرف وتطير في دورة حول المكان، ثم تجتمع وتنظِّم نفسها لكي تسمح للشمس والهواء الدافئ بأن يؤديا مهامهما في تجفيف أجنحتها. وفي غضون يوم أو نحو ذلك استردت الطيور قوتها، وحلقت عاليًا، ثم راحت تدور وتقترب من الأرض، وتختفي حينًا بين الغابات وتعاود مرة أخرى لتستقر فوق شجرتها الجرداء التي اعتادت عليها.

وظهرت جوي تاكر — مالكة ليزي — مرة أخرى وقد اكتسبت بشرتها بعض السمرة، ولكنها بدت ودودة هذه المرة. كانت قد سئمت من الأمطار وذهبت لتمضي إجازتها في تسلق جبال روكي، وها هي قد عادت الآن.

قال كلارك: «جئتِ في الوقت المناسب؛ أعني من حيث الطقس.» وراح هو وجوي تاكر يمزحان كما لو أنه لم يحدث بينهما شيء من قبل.

قالت: «تبدو ليزي في حالة جيدة، ولكن أين هي صديقتها الصغيرة؟ ما اسمها؟ … فلورا؟»

فقال كلارك: «رحلت، ربما ذهبت إلى جبال روكي.»

«ثمة الكثير من النعاج البرية هناك، نعاج ذات قرون رائعة.»

«لقد سمعت ذلك من قبل.»

•••

لنحو ثلاثة أو أربعة أيام انشغل كلٌّ من كلارك وكارلا في ممارسة أعمالهما بدرجة لم تمكِّنهما من الخروج وإلقاء نظرة على صندوق البريد، وعندما فتحته كارلا فيما بعد، وجدت به فاتورة الهاتف، وإعلانًا بجائزة قدرها مليون دولار إذا ما اشتركا في إحدى المجلات، وخطابًا من السيدة جاميسون.

عزيزتي كارلا

كنت أفكر في الأحداث التي وقعت في الأيام القليلة الماضية (ربما أقول الدرامية بعض الشيء)، وقد وجدت أنني كنت أتحدث إلى نفسي، غير أني في الواقع كنت أتحدث إليك، وقد حدث ذلك كثيرًا؛ لذا وجدت أنه من الأفضل أن أتحدث معك بالفعل حتى لو كان ذلك من خلال رسالة — وهي أفضل وسيلة في الوقت الحالي — ولا تقلقي، فليس عليكِ أن ترسلي أي رد.

واسترسلت السيدة جاميسون قائلة إنها كانت تخشى أن تكون قد بالغت في التدخل في حياة كارلا، وإنها ربما ارتكبت خطأً حين اعتقدت بأن سعادة كارلا وحريتها شيء واحد، ولكن كل ما كان يهمها هو سعادة كارلا فحسب، وأنها ترى أنه ينبغي لها — أي كارلا — أن تلتمس تلك السعادة في زواجها. وكل ما تأمله الآن أن تكون رحلة كارلا وأحاسيسها المضطربة قد ساعدتها على إخراج مشاعرها الحقيقية إلى السطح، وربما ساعدت زوجها أيضًا على أن يدرك مشاعره هو الآخر تجاهها.

وقالت إنها ستتفهم جيدًا إذا ما رغبت كارلا في تجنُّب الذهاب إليها في المستقبل، وإنها ستظل ممتنة لكارلا دومًا لحضورها ووقوفها بجانبها في مثل ذلك الوقت العصيب من حياتها.

ولكن كان الشيء الأغرب والأعجب بالنسبة لي في خضم كل تلك الأحداث هو ظهور فلورا مرة أخرى، بل إنه قد بدا لي أمرًا أشبه بالمعجزة. أين كانت طوال كل ذلك الوقت؟ ولمَ اختارت ذلك التوقيت بالذات للظهور؟ إنني على ثقة من أن زوجك قد وصف لكِ ما حدث. لقد كنا نتحدث عند باب الفناء، وكنت أنا أول من رأى ذلك الشيء الأبيض الذي ظهر لنا فجأة من وسط الظلام حيث كنت أنا في مواجهه باب الفناء. أعلم جيدًا بالطبع أن ذلك كان من تأثير الضباب، لكنه كان شيئًا مرعبًا بحق. أعتقد أنني أطلقت صيحة عالية حينها، وأظن أنني لم أمرَّ من قبل بمثل هذا الوجل بمعناه الحقيقي، بل إنني أعتقد أنه يجب أن أكون صادقة وأقول إنه إحساس بالفزع والخوف. وهكذا كنا رغم أننا شخصان راشدان إلا أننا تَسَمَّرنا في مكاننا من شدة الخوف وإذا بفلورا الصغيرة المفقودة تظهر من وسط الضباب.

كان هناك شيءٌ غريب ومميز في هذا الأمر. أعلم جيدًا أن فلورا ما هي إلا مجرد حيوان عادي صغير، وأنها قد ذهبت بعيدًا بحثًا عن شريك للتزاوج لكي تُنجب نعاجًا صغيرة. وبشكل أو بآخر فإن عودتها لا تتعلق على الإطلاق بحياتنا كبشر، إلا أنه برغم ذلك، فظهورها في تلك اللحظة كان له تأثير عميق على زوجك وعليَّ في آنٍ واحد؛ فعندما ينتاب اثنين من البشر فرَّقهما العداء شعورٌ بالحيرة — لا بالفزع — في الوقت نفسه لرؤيتهما شبحًا ما فإنه يتولَّد في تلك اللحظة رباط ما، ويجدان نفسيهما وقد اتحدا بطريقة غير متوقعة. اتحدا في الإنسانية؛ فهذا هو الوصف الوحيد الذي يمكن أن أطلقه. لقد تفرقنا تقريبًا كأصدقاء؛ لذا فإن فلورا وجدت مكانها في حياتي كملاك جميل، وأعتقد أنها كانت كذلك في حياة زوجك وحياتك.

مع خالص تحياتي: سيلفيا جاميسون

بمجرد أن انتهت كارلا من قراءة الرسالة، طوتها، ثم أحرقتها في الحوض، وقد ارتفعت ألسنة اللهب ارتفاعًا مزعجًا، وراحت كارلا تفتح ماء الصنوبر، وتلتقط البقايا المتفحمة المثيرة للاشمئزاز وألقت بها في المرحاض، وهو الأمر الذي كان ينبغي أن تفعله في بادئ الأمر.

ثم انشغلت كارلا في عملها لبقية اليوم، وفي اليوم التالي، وما تلاه. وخلال ذلك الوقت، كان عليها أن تأخذ فريقين في نزهة بالخارج فوق الخيول، وأن تعطي دروسًا لبعض الأطفال سواء أكانوا منفردين أو في مجموعات. وفي المساء، عندما كان يطوِّقها كلارك بذراعَيْه — فرغم كونه منشغلًا كما هو الآن، لم يكن يشعر قط بالتعب أو بالغضب للدرجة التي تمنعه من احتضانها — فإنها لم تكن تجد صعوبة في أن تكون متعاونة معه.

لقد كان الأمر يبدو كما لو أن إبرة قاتلة تخترق صدرها، وعليها أن تلتقط أنفاسها بهدوء وحذر؛ حتى تتجنب الشعور بها، ولكن كان عليها بين الحين والآخر أن تأخذ نفسًا عميقًا فتشعر أنها لا تزال موجودة في نفس المكان.

•••

أخذت سيلفيا شقة في المدينة الجامعية حيث تدرِّس، ولم تعرض منزلها للبيع، أو على الأقل لم تكن هناك لافتة أمامه تشير إلى ذلك. وذكرت الصحف أن ليون جاميسون حصل على إحدى الجوائز بعد وفاته، ولم يرد ذكر أي نقود هذه المرة تتعلق بالجائزة.

•••

وبحلول أيام الخريف الذهبية الجافة — وهو من الفصول المثمرة التي تدرُّ عليهم الربح — وجدت كارلا نفسها وقد اعتادت على التفكير الحاد الذي استقر بداخلها، ولكنه لم يعد حادًّا الآن، بل إنه لم يعد يثير دهشتها، ولكن ما أصبح مستقرًّا بداخلها هو بعض الأفكار المغرية؛ إغواء مستتر مستقر في ذاتها.

وكان كل ما عليها هو أن ترفع عينيها، أن تنظر فقط في اتجاه واحد، لتعرف إلى أين يمكن أن تتجه. تتريض في المساء عندما تنتهي من أعمالها المنزلية المعتادة، وتذهب إلى أطراف الغابة، حيث الشجرة الجرداء، وحيث تعقد الصقور الجارحة حفلاتها.

ثم ترى هناك تلك العظام الصغيرة القذرة ملقاة فوق الحشائش. والهيكل العظمي ما زال يتشبث به بعض الجلد الممزق الملطخ بالدماء؛ هيكل عظمي تستطيع أن تحمله ككوب الشاي بيد واحدة. تحمل المعرفة في يد واحدة.

أو ربما لا، لا يوجد شيء هناك.

ربما تكون قد حدثت أشياء أخرى، ربما يكون قد طارد فلورا حتى أبعدها، أو أوثقها في ظهر الشاحنة، وذهب بها إلى مسافة بعيدة ثم أطلق سراحها، قد يكون أعادها إلى المكان الذي أحضرها منه؛ لكي لا تكون موجودة أمامهما لتذكِّرهما دائمًا بما حدث.

قد تكون حرة.

مرت الأيام ولم تقترب كارلا من المكان، لقد قاومت ذلك الإغواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤