الخدع

١

قالت روبن ذات ليلة منذ سنوات: «سأموت، سأموت إن لم يكونوا قد انتهوا من تجهيز ذلك الرداء.»

كانوا يجلسون في الشرفة المظللة للمنزل الخشبي ذي اللون الأخضر الداكن القابع في شارع إيزاك. وكان ويلارد جريج — الذي يقطن في المنزل المجاور — يلعب الكونكان مع أخت روبن — جوان — على طاولة اللعب. كانت روبن تجلس على الأريكة وهي تتطلع في عبوس إلى إحدى المجلات. كانت رائحة التبغ تمتزج مع رائحة الكاتشاب المغلي المتصاعدة من مطبخ أحد المنازل القائمة على الطريق.

لمح ويلارد شِبه ابتسامة على وجه جوان قبل أن تتساءل في صوت غير مبالٍ: «ماذا قلتِ؟»

قالت روبن في تحدٍّ: «لقد قلت إنني سأموت، سأموت إن لم يكونوا قد انتهوا من تجهيز ذلك الرداء بحلول الغد؛ أعني من يقومون بتنظيفه.»

«هذا ما اعتقدتُ أنكِ قلتيه. ستموتين؟»

لا يستطيع أحد توجيه اللوم لجوان على أي ملاحظة من هذا النوع.

فقد كانت نبرة صوتها شديدة الاعتدال، واحتقارها يغلِّفه الهدوء الشديد، ولم تكن ابتسامتها — التي اختفت الآن — سوى حركة خفيفة لركن فمها.

قالت روبن بتحدٍّ: «نعم سأموت؛ فأنا أحتاجه بشدة.»

قالت جوان موجِّهة حديثها إلى ويلارد بلهجة مَن يفشي سرًّا: «إنها تحتاجه، ستموت بدونه، إنها ستذهب إلى المسرحية.»

قال ويلارد مستنكرًا: «والآن يا جوان!» كان والداه، وكذلك هو أيضًا، أصدقاء لوالدَي الفتاتين — كان لا يزال ينظر إليهما على أنهما فتاتين صغيرتين — والآن وبعد أن رحل الآباء والأمهات جميعهم فقد شعر أن من واجبه أن يمنع البنات — قدر المستطاع — من أن تضايق إحداهما الأخرى.

كانت جوان تبلغ من العمر الآن ثلاثين عامًا، أما روبن فكانت في السادسة والعشرين من العمر. كان جسم جوان طفوليًّا، ذات صدر نحيل، ووجه طويل شاحب، وشعر بني منسدل بنعومة. لم تحاول أن تتظاهر بأي شيء مطلقًا سوى أنها شخص غير محظوظ؛ فهي تقف في المنتصف ما بين مرحلة الطفولة والنضج الأنثوي. تعيقها إصابتها بمرض الربو الحاد والمستمر معها منذ الطفولة. ولا يمكن التوقع من شخصية مثل هذه — شخصية لا تستطيع أن تخطو إلى الخارج في الشتاء أو تُترك بمفردها طوال الليل — أن يكون لديها ذلك الأسلوب المدمر المتمثل في التقاط حماقات الآخرين ممن هم أكثر حظًّا منها والتندر عليها، أو أن تحمل كل هذا الكم من الاحتقار والازدراء. طيلة حياتهم بدا لويلارد أنه ظل يشاهد روبن ودموع الغضب تملأ عينيها، ويسمع جوان وهي تقول: «ما الخطب معكِ الآن؟»

لم تشعر روبن إلا بوخز بسيط الليلة، وغدًا هو يومها الذي تذهب فيه إلى مدينة ستراتفورد، وقد شعرت بالفعل أنها تعيش خارج نطاق جوان بعض الشيء.

سألها ويلارد في محاولة لتهدئة الأمور قدر ما يستطيع: «ما هي المسرحية يا روبن؟ أهي إحدى مسرحيات شكسبير؟»

«نعم، إنها مسرحية «كما تحب».»

«وهل بإمكانك متابعة مسرحيات شكسبير جيدًا؟»

قالت روبن إنه بإمكانها ذلك.

«إنكِ مذهلة.»

•••

تواظب روبن على فعل ذلك منذ خمس سنوات؛ فقد كانت تشاهد مسرحية واحدة كل موسم صيف. بدأ الأمر حينما كانت تعيش في ستراتفورد وتتمرن على التمريض. كانت قد ذهبت مع صديقة لها حصلت على تذكرتَيْن مجانيتين من عمتها التي كانت تعمل في مجال الأزياء. شعرت الفتاة صاحبة التذكرتين بالملل الشديد من العرض — كانت مسرحية «الملك لير» — لذا كتمت روبن مشاعرها ولم تفصح عن رأيها، فلم يكن بمقدورها أن تعبِّر عنه على أي حال، وكانت تفضِّل أن تغادر المسرح بمفردها، وألا تتحدث لأي شخص لأربع وعشرين ساعة على الأقل. عقدت عزمها حينها على أن تعود إلى المسرح مرة أخرى وأن تأتي بمفردها.

لن يكون ذلك بالشيء الصعب؛ فالمدينة التي نشأت بها، والتي كان عليها أن تحصل على عمل فيها من أجل جوان، لا تبعد سوى ثلاثين ميلًا فقط، والناس هناك يعرفون أن مسرحيات شكسبير تُعرض في ستراتفورد. بَيْدَ أن روبن لم تسمع بأن أحدًا ذهب إلى هناك ليشاهد إحداها؛ فالناس ممن هم في مستوى ويلارد يخشون أن ينظر إليهم الجمهور في المسرح بشيء من الازدراء وأن يُشعروهم بالدونية، بجانب صعوبة فهم لغة المسرحية، وتعذر المتابعة معها. أما الأشخاص من أمثال جوان فكانوا على ثقة تامة من أنه ما من أحد يمكنه أن يهوى مسرحيات شكسبير؛ لذا فإن حدث وذهب أحد من مدينتها فسيكون هذا مرجعه رغبة مَنْ يذهب في الاختلاط بعلية القوم، والذين بدورهم لا يستمتعون بها، بل يذهبون لمجرد أن يعلنوا أمام الآخرين أنهم قد ذهبوا واستمتعوا بالعرض. أما القلائل ممن اعتادوا مشاهدة العروض المسرحية فيفضلون الذهاب إلى مسرح رويال ألكس في تورونتو حين تقدِّم إحدى فرق برودواي الموسيقية عروضها هناك.

كانت روبن تهوى الجلوس في مقعد ذي موقع جيد؛ ولذا لم يكن بمقدورها سوى دفع ثمن تذكرة حفلة يوم السبت الصباحية؛ كي يمكنها الحصول على مثل هذا المقعد. اختارت مسرحية تُعرض في يوم من أيام إجازتها من المستشفى، ولم تكن قد قرأتها من قبل، ولم تهتم إن كانت من اللون الكوميدي أم التراجيدي. ولم ترَ مطلقًا شخصًا واحدًا هناك ممن تعرفهم سواء في المسرح أو بالخارج في شوارع المدينة، وكان ذلك يلائمها تمامًا. وقد قالت لها إحدى الممرضات اللائي يعملن معها ذات مرة: «ليس لديَّ ما يكفي من الشجاعة التي تمكنني من القيام بذلك بمفردي.» وقد جعل هذا روبن تدرك أنها بالقطع تختلف عمَّن عداها من الأخريات. لم تشعر من قبل براحة مثل تلك التي تشعر بها في مثل هذه الأوقات؛ حيث يحيط بها الغرباء فقط. وكانت بعد انتهاء العرض تتجول في شوارع وسط المدينة، بجانب النهر، وتبحث عن مكان أسعاره زهيدة كي تتناول فيه الطعام؛ وهو ما كان في العادة عبارة عن شطيرة تتناولها وهي جالسة على أحد المقاعد المرتفعة المقابلة للنضد. وفي تمام الثامنة إلا الثلث كانت تستقل القطار عائدة إلى منزلها؛ وهذا كل ما في الأمر، لكن تلك الساعات القليلة كانت تملؤها بيقين بأن تلك الحياة التي تعود إليها ثانية، والتي كانت تبدو بالنسبة لها مجرد شيء بديل وغير مرضٍ، ما هي إلا شيء مؤقت بمقدورها أن تتقبَّله وتتكيَّف معه إلى حين. كذلك فإن ثَمَّةَ بريقًا يطل خلف ذلك، خلف تلك الحياة، خلف كل شيء؛ بريق يتمثل في ضوء الشمس الذي تراه من خلال نوافذ القطار؛ فقد كان ضوء الشمس والظلال الممتدة في حقول الصيف أشبه ببقايا المسرحية التي لا يزال يتردد صداها في رأسها.

كانت قد شاهدت في العام الماضي مسرحية «أنطونيو وكليوباترا»، وعندما انتهى العرض المسرحي، سارت بجوار النهر كالمعتاد، ولاحظت أن هناك بجعة سوداء تسبح بخفة على سطحه — وكانت أول مرة ترى فيها بجعة بهذا اللون. كانت البجعة بمثابة دخيل بارع يسبح ويأكل على مقربة من البجع الأبيض. ربما كان تلألؤ أجنحة البجع الأبيض هو ما جعلها تفكر في تناول الطعام في أحد المطاعم الحقيقية هذه المرة وليس على النضد في مكان ما؛ فستذهب إلى أحد المطاعم حيث المفارش البيضاء، وبعض الزهور الندية المتفتحة، وكوب من النبيذ، وتتناول شيئًا لا تتناوله في المعتاد مثل بلح البحر، أو الدجاج. وأقدمت على تفحُّص حقيبتها لترى كم معها من النقود.

ولكن لم تكن حقيبتها موجودة؛ فالحقيبة الصغيرة المصنوعة من قماش الكشمير ذات السلسلة الفضية، والتي نادرًا ما تحملها، لم تكن معلقة على كتفها كالمعتاد. لقد فقدتها. سارت بمفردها كل ذلك الطريق من وسط المدينة حيث يقع المسرح دون أن تلاحظ أنها اختفت. وبالطبع لم تكن هناك أي جيوب في ردائها، وليست معها تذكرة عودة، أو أحمر شفاه، أو مشط، أو أي نقود، ولو حتى مبلغًا ضئيلًا.

تذكَّرت أنها كانت تضع الحقيبة على حِجرها طوال مدة المسرحية أسفل برنامج العرض. حتى برنامج العرض ليس معها الآن هو الآخر. أيكون الاثنان قد سقطا على الأرض؟ لكن لا؛ فهي تتذكر أن الحقيبة كانت معها في دورة المياه عندما ذهبت إلى دورة المياه الخاصة بالسيدات؛ فلقد قامت بتعليقها من سلسلتها الفضية على المِشجب الموجود خلف الباب، لكنها لم تتركها هناك؛ لا لم تتركها؛ فلقد تطلعت إلى نفسها في المرآة المثبَّتة فوق حوض غسيل الأيدي، وأخرجت منها المشط وراحت تعبث بخصلات شعرها. كان شعرها أسودَ ناعمًا، وبالرغم من أنها كانت تحاول أن تجعله منتفخًا كشعر جاكي كينيدي، وتقوم بلفِّه على بكرات الشعر ليلًا، فقد كان يميل للانسدال على كتفيها. أما فيما عدا ذلك فكانت سعيدة وراضية بما ترى من هيئتها. كانت عيناها ذواتَي لون رمادي يميل إلى الخضرة، أما حاجباها فكانا أسودين، وتميل بشرتها إلى السمرة؛ سواء حاولت أن تجعلها كذلك أم لا فهي مكتسبة لهذا اللون. وما كان يُظهِر جمال ذلك ويُضفي عليه المزيد من الجاذبية هو رداؤها القطني المنفوش بلون الأفوكادو الأخضر، والذي يضيق عند الخصر وبه صفٌّ من الثنيات والطيات الصغيرة عند منطقة الورك.

ذلك هو المكان الذي تركت فيه الحقيبة؛ هناك فوق النضد بجوار حوض غسيل الأيدي عندما كانت تتطلع إلى نفسها في إعجاب، وتستدير وتنظر بجانبها لتتمكن من رؤية فتحة الفستان المصممة على شكل رقم ٧ من الخلف؛ فقد كانت تعتقد أنها تبدو جميلة من الخلف، ولتتيقن من أن حمالة الصدر لا تظهر من تحت الثوب.

وفي خضم خيلائها وزهوها بذاتها، وسعادتها الزائفة بنفسها، خرجت مسرعة من دورة المياه تاركة حقيبة يدها.

صعدت من حافة النهر إلى الطريق واستدارت عائدة مرة أخرى في اتجاه المسرح من خلال أقصر الطرق وأكثرها استقامة، وسارت بأسرع ما يمكنها. لم يكن هناك أي جزء ظليل بطول الشارع، وكان المرور مزدحمًا في ذلك الوقت الحار من فترة ما بعد الظهيرة. كادت تجري؛ مما جعل العرق يتصبب من أسفل بطانة فستانها. سارت عبر ساحة انتظار السيارات عند محلات المخبوزات، والتي أصبحت خاوية الآن، ثم صعدت التل الصغير. لم يكن ثَمَّةَ منطقة ظليلة هناك، ولم ترَ أثرًا لأي شخص حول مبنى المسرح.

لكنه لم يكن مغلقًا. وقفت لنحو دقيقة في ردهة المسرح الخالية؛ حتى تستطيع أن ترى ما بالداخل جيدًا بعدما ضعفت رؤيتها نتيجة الضوء الساطع بالخارج. كانت تسمع ضربات قلبها، وقد برزت قطرات العرق من فوق شفتها العليا. كان شباك التذاكر مغلقًا، وكذا ركن المرطبات، وأُغلقت أبواب المسرح الداخلية. هبطت الدرج الذي يؤدي إلى دورة مياه السيدات، وحذاؤها يُحدث جلبة على سلالم الدرج الرخامية.

ليتها تكون مفتوحة، ليتها تكون مفتوحة، ليت الحقيبة هناك.

لا، لم يكن هناك شيء على النضد الناعم ذي التعريقات، ولا في داخل سلة المهملات، أو على أي مِشْجَب مثبَّت في أيٍّ من الأبواب.

شاهدت رجلًا يقوم بتنظيف أرضية البهو عندما صعدت لأعلى، وأخبرها أنها ربما تكون في مكتب المفقودات، لكنه كان مغلقًا. ترك ما يقوم بتنظيفه على مَضَضٍ وقادها نحو سلم آخر يؤدي إلى الأسفل حيث توجد غرفة صغيرة لا يوجد بها أي فتحات تهوية تحوي عدةَ مظلات، وبعض الطرود، بل وحتى السترات، والقبعات، وفراء ثعلب بنِّيًّا ذا مظهر مقزز، ولكن لا أثر لحقيبة من الكشمير تُحمل على الكتف.

قال: «حظ سيئ.»

قالت له في توسل: «هل من الممكن أن تكون أسفل مقعدي؟» قالتها رغم أنها كانت واثقة أنها ليست هناك.

«لقد انتهيت من تنظيف ذلك المكان بالفعل.»

لم يكن بيدها شيء آخر تفعله سوى أن تصعد الدرج وتسير عبر الردهة، وتخرج إلى الشارع.

سارت في الاتجاه المعاكس لساحة السيارات؛ بحثًا عن مكان ظليل تسير فيه. بمقدورها تخيُّل جوان وهي تقول لها إن عامل النظافة أخفى حقيبتها ليأخذها معه إلى منزله ليعطيها لزوجته أو ابنته؛ فهذا هو ما يفعلونه في مكان كهذا. كانت تبحث عن مقعد أو حافة جدار بارزة تستريح عليها بينما تقرر ما ستفعله وتحلل الأشياء التي مرت بها، إلا أنها لم ترَ ملمحًا لشيء حولها في أي مكان.

ظهر من ورائها كلبٌ ضخم، واصطدم بها بينما يمر من جانبها، كان كلبًا ذا لون بني داكن، وأرجل طويلة وتعبيرات يعلوها الزهو والعناد.

سمعت رجلًا ينادي قائلًا: «جونو، جونو، انتبهي إلى أين تذهبين.»

ثم وجَّه حديثه لروبن: «إنها كلبة صغيرة ووقحة، إنها تعتقد أنها تملك الرصيف، لكنها ليست شريرة. هل انتابك الخوف منها؟»

قالت روبن: «لا.» كان فقدانها لحقيبتها قد شغل كل تفكيرها، ولم ترَ أن مهاجمة كلب يمكن أن تطغى على ذلك.

«عادة ما يشعر الناس بالخوف الشديد عند رؤية كلاب الدوبرمان؛ فالشائع عن كلاب الدوبرمان أنها تتسم بالشراسة، إنها مدربة على أن تُظهر شراستها وعنفها عندما تقوم بالحراسة، لكنها لا تفعل ذلك عندما آخذها لتتريض.»

كانت روبن بالكاد تستطيع التفرقة بين سلالة كلب عن الآخر؛ إذ إن أسرتها لم تقتنِ يومًا كلبًا أو قطًّا بسبب مرض الربو الذي يلازم جوان.

قالت: «لا بأس.»

وبدلًا من السير في اتجاه المكان الذي تنتظر فيه الكلبة جونو، ناداها مالكها لتعاود أدراجها ثانية، وقام بتوثيق السلسلة التي يحملها في الطوق الذي ترتديه الكلبة، وقال: «إنني أطلق سراحها على الحشائش أسفل المسرح فقط؛ فهي تهوى ذلك، لكن كان ينبغي أن أقوم بتوثيقها هنا، إلا أنني تكاسلت عن فعل هذا. ماذا بكِ؟ هل أنتِ مريضة؟»

لم تشعر روبن حتى بالدهشة حيال ذلك التغيير في دفة الحوار. قالت: «فقدتُ حقيبتي. لقد كان خطئي، تركتُها بجوار حوض غسيل الأيدي في دورة المياه بالمسرح وعدت ثانية لأبحث عنها لكني لم أجدها. لقد مضيتُ وتركتها هناك بعد انتهاء المسرحية.»

«ما المسرحية التي كانت معروضة اليوم؟»

قالت: «أنطونيو وكليوباترا. إن بها كل نقودي بالإضافة إلى تذكرة العودة بالقطار.»

«هل أتيتِ بالقطار لتشاهدي أنطونيو وكليوباترا؟»

«نعم.»

تذكَّرتِ النصيحة التي كانت تسديها أمها إليها وإلى جوان بشأن السفر بالقطار، أو السفر بوجه عام لأي مكان؛ وهي الاحتفاظ دائمًا ببعض النقود وطيها وتثبيتها في الملابس الداخلية، وعدم التحدث إلى أي شخص غريب.

«علامَ تبتسمين؟»

«لا أدري.»

قال: «ابتسمي كيفما تشائين؛ لأنه يسعدني أن أُقرضك بعض النقود من أجل تذكرة القطار؛ متى سيغادر؟»

أخبرته بموعد قيام القطار، وقال: «حسنًا، لكن قبل أن تغادري عليكِ بتناول بعض الطعام، وإلا ستشعرين بالجوع ولن تستمتعي برحلة القطار. ليس معي شيء الآن؛ لأنني لا أحمل معي أي نقود عندما آخذ جونو في جولتها اليومية، لكن متجري لا يبعد كثيرًا عن هنا، تعالَي معي وسأجلب بعض النقود من الدرج.»

كان ذهنها مشغولًا إلى الآن، لدرجة أنها لم تلحظ أنه يتحدث بلكنة مختلفة. ما عساها أن تكون؟ إنها ليست بفرنسية أو ألمانية؛ فكلتاهما تستطيع أن تميزها؛ فهي تعرف الفرنسية من دراستها لها بالمدرسة، أما الألمانية فعرفتها من خلال بعض المهاجرين ممن يترددون أحيانًا على المستشفى التي تعمل بها لتلقِّي العلاج. والشيء الآخر الذي لاحظته هو أنه تحدَّث عن استمتاعها برحلة القطار، فما من أحد تعرفه تحدَّث عن شعور شخص بالغ بذلك، لكنه تحدث عن ذاك الأمر باعتباره شيئًا طبيعيًّا ولازمًا.

عند منعطف شارع داوني قال: «سننعطف في ذلك الاتجاه؛ فمنزلي يقع هناك.»

قال «منزلي»! ألم يَقُل «متجري» من قبل، ربما يقع متجره داخل المنزل.

لم تكن تشعر بالقلق، وتعجَّبت من ذلك الشعور فيما بعد. قبلت عرضه بالمساعدة دون لحظة تردد واحدة، وسمحت له بإنقاذها، ووجدت أنه من الطبيعي تمامًا ألا يحمل معه أي نقود أثناء تريُّضه، لكنه يستطيع إحضار النقود من درج النقود بالمتجر.

ربما كانت لكنته هي سبب عدم شعورها بالقلق؛ فقد كانت بعض الممرضات يتندرن على لكنة المزارعين الألمان وزوجاتهم، وكان ذلك بالطبع من وراء ظهورهم؛ لذا اعتادت روبن على معاملة هؤلاء الأشخاص ببعض المراعاة، كما لو أنهم يعانون من مشاكل في الكلام أو من التأخر العقلي، بالرغم من أنها كانت تعلم أن ذلك محض هراء؛ ولذا فاللكنة المختلفة تولِّد بداخلها نوعًا من الدماثة واللطف.

لم تكن قد أمعنت النظر فيه جيدًا؛ فقد كانت مستاءة بشدة في البداية، إلا أنه كان من الصعب بعد ذلك تَبَيُّن هيئته عن كَثَب؛ لأنهما كانا يسيران جنبًا إلى جنب. كان طويل القامة، وذا ساقين طويلتين أيضًا، ويسير بخطوات سريعة. والشيء الوحيد الذي لاحظته بالفعل هو شعاع الشمس المتلألئ فوق شعره القصير، وبدا لها أنه بلون الفضة اللامعة؛ لقد كان رماديًّا. أما جبهته العريضة العالية فهي الأخرى تلمع في ضوء الشمس، وتولَّد لديها انطباع بأنه من الجيل الذي يسبقها. بدا لطيفا وكيِّسا، ولكنه قليل الصبر بعض الشيء، من ذلك النوع من الأشخاص الذين يشبهون معلمي المدارس؛ إذ بدا مسيطرًا، يفرض الاحترام وليس الحميمية. استطاعت فيما بعد داخل المنزل أن ترى أن خصلات شعره الرمادية تختلط ببعض الخصلات الحمراء المشوبة بالاصفرار — بالرغم من أن بشرته كانت زيتونية تميل إلى السمرة، وهو شيء غير اعتيادي لذوي الشعر الأحمر — وكانت حركته داخل المنزل غريبة بعض الشيء كما لو أنه لم يعتَد على أي نوع من الصحبة في منزله. يُحتمل أنه يكبرها بنحو عشر سنوات على الأكثر.

كانت قد وثقت به لأسباب غير صحيحة؛ بَيْدَ أنها لم تكن مخطئة في ثقتها تلك.

كان المتجر يقع بالفعل داخل المنزل. وكان منزلًا صغيرًا بُني من القرميد، بدا أنه يعود لسنوات طويلة ماضية، وكان يقع في شارع تصطف به المباني المصممة في الأساس لتكون متاجر. كان هناك ذلك النوع من الأبواب الأمامية، ثم درجة واحدة للصعود، ونافذة من ذلك النوع الذي تجده في أي منزل عادي، وكانت هناك ساعة أنيقة معلَّقة بها. قام بفتح الباب؛ بَيْدَ أنه لم يقم بقلب اللافتة المكتوب عليها مغلق. زاحمتهما جونو وتقدَّمت طريقهما، واعتذر هو مرة أخرى عن سلوكها.

«إنها تعتقد أنه من واجبها أن تتيقن من أنه لا يوجد أحد ليس من حقه الوجود هنا، ولا تختلف عن ذلك كثيرًا عندما تذهب إلى الخارج.»

كان المكان مزدحمًا بالساعات ذات اللون الخشبي الداكن والفاتح، ذات الأرقام الملونة والقباب المطلية بالذهب. كانت موضوعة فوق الأرفف والأرضية، بل حتى فوق النضد الذي يتم خلاله المعاملات التجارية. وبخلاف ذلك كانت هناك بعض الساعات التي استقرت فوق المقاعد وأجزاؤها الداخلية مكشوفة. انسلت جونو من بينهما بمهارة وخفة، واستطاعا سماعها، وهي تصعد الدرج وتدب بقوائمها.

«هل تهتمين بالساعات؟»

قالت روبن قبل أن تفكر بأنه كان عليها أن تكون أكثر لطفًا: «لا.»

قال: «حسنًا؛ فليس عليَّ أن أسترسل في حديثي الجاذب عنها.» ثم قادها عبر الممر الذي اتخذته جونو مرورًا بأحد الأبواب الذي رجَّحت أن يكون باب دورة المياه، ثم صعدا درج السلم شديد الانحدار، وأصبحا أمام المطبخ الذي رأته لامعًا ومرتبًا ونظيفًا، وكانت جونو تنتظر بجانب صحن أحمر موضوع على الأرض وهي تهز ذيلها.

فقال لها: «عليكِ بالانتظار، ألا ترين أننا لدينا ضيف؟»

أفسح الطريق لروبن لكي تدلف إلى الحجرة الأمامية الواسعة والتي لم تغطِّ ألواحها الأرضية العريضة الملونة أي نوع من الأبسطة، ولا توجد أي ستائر على النوافذ؛ مجرد شيش نوافذ فحسب. كذلك كان يوجد نظام نقل الصوت العالي، والذي يحتل مساحة كبيرة من أحد الحوائط، وأريكة تمتد بطول الحائط المقابل من ذلك النوع الذي يتم جذبه للخارج فيصير فراشًا، كان هناك أيضًا مقعدان من القماش، وخزانة كُتب موضوع على أحد رفوفها مجموعة من الكتب، وعلى رفٍّ آخر مجموعة من المجلات المكدسة بعناية وترتيب، ولم ترَ أي لوحات أو وسائد أو أي نوع من أنواع الزخارف. كانت غرفة شخص عازب؛ حيث كل شيء موضوع في مكانه عن قصد، وله ضرورة، ويعبر عن رضا صاحبه وارتياحه لكل ما هو بسيط دون تكلف. كانت تختلف عن مقر إقامة العازب الآخر الوحيد الذي تعرفه روبن؛ فحجرة ويلارد جريج كانت أشبه بأحد المخيمات المهجورة التي تأسست مصادفة وسط أثاث والدَيْه المتوفيَيْن.

قال: «أين تفضلين الجلوس؟ على الأريكة؟ إنها مريحة أكثر من المقاعد، سأعدُّ لكِ قدحًا من القهوة. فلتجلسي هنا وتحتسيه بينما أعد لك طعام العشاء. ماذا تفعلين في الأوقات الأخرى ما بين انتهاء العرض المسرحي وإقلاع القطار إلى مدينتك؟»

إن الأجانب يتحدثون بطريقة مختلفة، ويتركون مساحة صمت بين الكلمات مثلما يفعل الممثلون.

قالت روبن: «أتريَّض فحسب ثم أذهب لتناول أي طعام.»

«كما كنتِ تفعلين اليوم إذن. أتشعرين بالملل وأنت تتناولين الطعام بمفردك؟»

«لا، أفكر حينها في المسرحية.»

كانت القهوة ذات نكهة قوية، لكنها اعتادت على مذاقها. لم تشعر أن عليها أن تعرض عليه المساعدة في المطبخ كما تفعل مع أي امرأة. نهضت من مكانها وقطعت أرض الحجرة وهي تكاد تسير على أطراف أصابعها، وأحضرت مجلة لتقرأ فيها، لكن حتى عندما أمسكت المجلة أيقنت أنه لا طائل من قراءتها؛ فالمجلة مطبوعة من ورقٍ بنِّي زهيد الثمن، ومكتوبة بلغة لم تستطع قراءتها أو فهمها.

بل إنها في الحقيقة أدركت بمجرد أن فتحتها وهي تضعها على حجرها أنها حتى لا تستطيع التعرف على أحرف الهجاء.

دلف إلى الحجرة حاملًا معه المزيد من القهوة.

قال: «أوه، إذن هل تستطيعين قراءة لغتي؟»

كانت لهجته تبدو ساخرة، لكنه تجنَّب النظر إليها؛ فقد بدا الأمر كما لو أنه قد شعر بالخجل في منزله.

أجابته قائلة: «إنني حتى لا أدري ما هي هذه اللغة.»

قال: «إنها اللغة الصربية. وبعض الناس يُطلقون عليها الصربية الكرواتية.»

«وهل أتيتَ من تلك البلد؟»

«إنني من مونتينيجرو.»

شعرت بالحيرة، إنها لا تعرف أين تقع مونتينيجرو. أهي بجوار اليونان؟ لا، تلك الأخرى هي مقدونيا.

قال: «مونتينيجرو في يوغسلافيا، أو هكذا يخبروننا، لكننا لا نعتقد هذا.»

قالت: «لم أكن أعتقد أن بمقدورك أن تخرج من واحدة من تلك الدول؛ أعني الدول الشيوعية. لم أكن أعتقد أنه يمكنك أن تتركها مثل الأشخاص العاديين وتخرج منها إلى الغرب.»

تحدَّث وكأن ذلك لم يستهوِهِ كثيرًا، أو كأنما قد نسي الأمر برمته وقال: «لا، بل بمقدورك هذا، بمقدورك أن تتركيها إن أردتِ. لقد غادرتها منذ ما يقرب من خمس سنوات، وقد أصبح الأمر أيسر الآن، وقريبًا ما سأعود إليها وأتوقع أن أغادرها ثانية على عجل. والآن عليَّ أن أعدَّ طعام العشاء وإلا ستذهبين وأنت جائعة.»

قالت روبن: «هناك شيء واحد فقط أود الاستفسار عنه؛ لمَ لا أستطيع قراءة هذه الأحرف؟ أعني ما هذه الأحرف؟ هل هذه هي الأبجدية الخاصة بموطنك؟»

«إنها الأبجدية السيريلية، مثل الأحرف اليونانية. والآن إنني أعدُّ الطعام.»

جلست وصفحات المجلة المطبوعة بالأبجدية الغريبة على حجرها، واعتقدت أنها دخلت إلى عالم غريب؛ قطعة صغيرة من عالم غريب في شارع داوني بستراتفورد، مونتينيجرو، الأبجدية السيريلية. اعتقدت أنه من الوقاحة أن تواصل طرح الأسئلة عن الأشياء التي تخصه، كما لو كان إحدى العينات التي تفحصها. كان عليها أن تتحكم في نفسها بالرغم من أن لديها الآن الكثير من الأسئلة.

راحت كل الساعات الموجودة بالطابق السفلي أو معظمها تدق؛ لقد كانت السابعة بالفعل.

ناداها من المطبخ: «هل هناك قطار آخر يقوم متأخرًا؟»

قالت: «نعم، في العاشرة إلا خمس دقائق.»

قال: «أهذا يناسبك؟ ألن يشعر أحدٌ بالقلق عليك؟»

قالت: «لا، جوان ستشعر بالاستياء، لكننا لا نستطيع أن نطلق على ذلك شعورًا بالقلق.»

•••

كان طعام العشاء عبارة عن اليخنة، أو نوع من الحساء الثقيل المقدم في صحون صغيرة مع قطع الخبز والنبيذ الأحمر.

قال: «إنه ستروجانوف اللحم، آمل أن يعجبك مذاقه.»

قالت بصدق: «إنه لذيذ حقًّا.» أما النبيذ فلم تكن واثقة من رأيها بشأنه؛ فهي تحبه أكثر حلاوة من ذلك. «أهذا ما تتناولونه في مونتينيجرو؟»

«لا، ليس تمامًا؛ فطعام مونتينيجرو ليس جيدًا، فنحن لا نشتهر بطعامنا.»

لذا كان من المناسب بالقطع أن تقول: «بِمَ تشتهرون؟»

سألها: «وماذا عن بلدك؟»

«أنا من كندا.»

«لا، أقصد ما تشتهرون به.»

أربكها ذلك، وشعرت بالغباء، لكنها مع ذلك ضحكت.

«لا أدري. أعتقد أننا لا نشتهر بشيء.»

«ما يشتهر به المونتينيجريون هو الصياح والصراخ والشجار؛ فهم مثل جونو بحاجة لتعلُّم النظام.»

نهض لتشغيل بعض الموسيقى، ولم يسألها عما تفضِّل سماعه، وكان هذا مريحًا لها؛ فلم تكن تريد أن يسألها عن مؤلفي الموسيقى الذين تهواهم، بينما كل من تستطيع ذكر أسمائهم هما موتسارت وبيتهوفن، ولا تثق حتى في أنه يمكنها التحدث عن مؤلفات أيٍّ منهما. إنها في الواقع كانت تهوى الموسيقى الشعبية، لكنها اعتقدت أنه ربما يرى اختيارها ذلك مزعجًا وبه شيء من التنازل، ومن الممكن أن يربط ذلك ببعض أفكارها عن مونتينيجرو.

قام بتشغيل نوع من موسيقى الجاز.

•••

لم يكن لروبن قط حبيب أو حتى صديق. كيف حدث هذا، أو لم يحدث؟ لا تدري. كان ذلك بسبب جوان بالقطع، لكن هناك بعض الفتيات اللاتي نجحن في إقامة علاقات على الرغم من أنهن كن مثلها؛ مُثقَلات بالأعباء. ربما يكون سبب ذلك راجعًا إلى أنها لم تُعِر المسألة الكثير من الاهتمام في الوقت المناسب؛ ففي المدينة التي عاشت بها، كانت معظم الفتيات يرتبطن بعلاقات جدية قبل أن ينهين دراستهن في المدرسة الثانوية، وبعضهن لا ينهين دراستهن وينتهي بهن المطاف بالزواج. أما الفتيات اللاتي كن ينتمين لطبقات أعلى — وهن قليلات من اللواتي استطاع أولياء أمورهن إرسالهن إلى الجامعة — فكان من المتوقع أن يقطعن علاقتهن بأي صديق من المدرسة الثانوية قبل الذهاب للبحث عن فرص أفضل. وسرعان ما تخطف فتيات أخريات الفتيان المنفصلين. أما الفتيات اللاتي لم يتحركن سريعًا فيجدن أنفسهن أمام اختيارات رديئة. وبعد سنٍّ معينة فإن أي رجل جديد يظهر قد يأتي ومعه زوجة بالفعل.

لكن روبن قد حصلت على فرصتها بالفعل. لقد ذهبت لتتمرن على التمريض، وهو الشيء الذي يفترض أنه منحها بداية جديدة؛ فالفتيات اللاتي تُمرَّن على التمريض واتتهن فرص الارتباط بالأطباء، أما هي فقد أخفقت في هذا أيضًا؛ إذ لم تدرك تلك الفرصة في حينها. لقد كانت تتسم بالجدية، وربما هنا كانت تكمن المشكلة. كانت جادة بشأن أشياء كمسرحية «الملك لير»، ولم تكن جادة بشأن استغلال حفلات الرقص وممارسة التنس. فبعض الجدية التي تتسم بها الفتاة قد تحوِّل عنها النظرات. بَيْدَ أنه من الصعب أن تفكر في حالة واحدة حَسدت فيها أي فتاة أخرى على رجل ارتبطت به، بل إنها لا تستطيع أن تفكر في أي شخص تمنَّت الارتباط به.

وهي ليست ضد فكرة الزواج كلية؛ إنها فقط تنتظر كما لو أنها فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، غير أنها بين الحين والآخر كانت تواجه وتدرك موقفها الحقيقي بأنها ليست كذلك. وفي بعض الأحيان كانت واحدة من السيدات اللاتي يعملن معها ترتِّب مقابلة لها مع أحد الأشخاص، ثم يحدث أن تتلقى صدمة من الشخص الذي يعتبره الآخرون مناسبًا لها. بل وحتى ويلارد أفزعها منذ وقت قريب حينما مزح قائلًا إنه عليه أن ينتقل للعيش معهم في يوم من الأيام ويعاونها في العناية بجوان.

كان هناك بعض الأشخاص يلتمسون لها العذر بالفعل، بل ويثنون عليها مسلِّمين بأنها قد حسمت أمرها من البداية وخططت لتكريس حياتها لأختها جوان.

•••

عندما انتهيا من تناول الطعام سألها إن كانت ترغب في جولة على ضفة النهر قبل أن تستقل القطار، ووافقت على الفور، لكنه أخبرها أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا عرف اسمها أولًا.

وقال لها: «قد أحتاج إلى تقديمك إلى أحدهم.»

أخبرته باسمها.

قال: «روبن على اسم الطائر؟»

قالت: «على اسم طائر الروبن ذي الصدر الأحمر.» قالتها تمامًا كما قالتها قبل ذلك مرارًا دون تفكير، شعرت بالحرج الشديد ولم يكن في استطاعتها فعل شيء سوى التحدث بعدم اكتراث.

«دورك الآن لكي تخبرني باسمك.»

كان اسمه دانييل، «إنه دانيلو في الواقع، لكنه هنا دانييل.»

قالت بنفس اللهجة الطائشة التي تولَّدت نتيجة شعورها بالحرج مما قالته عن طائر الروبن ذي الصدر الأحمر: «إذن ما هنا يستخدم هنا، ولكن أين تقطن هناك؟ أي في مونتينيجرو؛ هل تعيش في المدينة أم في الريف؟»

«لقد كنت أعيش في الجبال.»

بينما كانا يجلسان في الغرفة التي تعلو متجره كانت هناك مسافة تفصل بينهما، ولم تشعر مطلقًا بالخوف، ولم تتمنَّ مطلقًا أن تتبدل تلك المسافة بحركة فظة، أو جريئة، أو ماكرة من جانبه. وفي المناسبات القليلة التي حدث فيها ذلك مع رجال آخرين كانت تشعر بالحرج الشديد من أجلهم، ولكن للضرورة الآن كانت تسير هي وذلك الرجل جنبًا إلى جنب، وإذا ما حدث وصادفا شخصًا في طريقهما فقد تتلامس ذراعاهما معًا، أو ربما تحرَّكَ قليلًا خلفها ليفسح لها الطريق، وهنا قد تُلامس ذراعُه أو صدره ظهرها لثوانٍ. وقد خلَّفت هذه الاحتمالات، ونظرة الناس ممن يقابلانهم في الطريق لهما كعاشقَيْن، بداخلها نوعًا من الرجفة والتوتر اللذين يسريان من كتفَيْها إلى تلك الذراع التي لامسته.

سألها عن «أنطونيو وكليوباترا»، وهل راقت لها المسرحية أم لا، وأجابته بالإيجاب، وسألها عن أكثر جزء استهواها، فكانت مشاهد العناق الجريئة والمقنعة هي أول ما تبادر إلى ذهنها، لكنها لم تستطع أن تقول ذلك بالقطع.

قالت: «ذلك الجزء في النهاية عندما أوشكت على وضع الأفعى على جسدها.» كانت على وشك أن تقول: على صدرها، لكنها غيرت رأيها، لكن كلمة «جسدها» لم تبدُ أفضل، «ثم دخل ذلك الرجل العجوز وفي يده سلة التين وبداخلها الأفعى، وراحوا يمزحون. أعتقد أن هذا المشهد أعجبني؛ لأنك لا تتوقع شيئًا كهذا في تلك اللحظة؛ أعني أنني أحببت مشاهد أخرى أيضًا، لقد راقت لي جميعها، لكن ذلك المشهد كان مختلفًا.»

قال: «نعم، لقد أعجبني هذا المشهد أنا أيضًا.»

«هل شاهدتَ المسرحية؟»

«لا، إنني أدخر نقودي الآن، لكني قرأت العديد من أعمال شكسبير ذات مرة؛ فالطلبة يقرءونها عندما يتعلمون اللغة الإنجليزية. في الصباح كنت أتعلم كل شيء عن الساعات، وفي المساء كنت أتعلم اللغة الإنجليزية. وأنتِ ماذا تعلَّمتِ؟»

قالت: «لم أتعلم الكثير في الواقع من المدرسة، لكني بعد ذلك تعلمت ما يؤهلني لكي أصبح ممرضة.»

«أعتقد أنكِ تعلَّمتِ الكثير كي تصبحي ممرضة. أعتقد هذا.»

تحدثا بعد ذلك عن طقس المساء المعتدل، وكيف كان له وقع محبب عليهما، وأن فترة الليل قد امتدت بشكل ملحوظ بالرغم من أنهما لا يزال أمامهما شهر أغسطس كله. ثم تجاذبا الحديث بعد ذلك عن جونو وكيف أنها كانت تريد الخروج معهما، لكنها هدأت على الفور عندما ذكَّرها بأنها يجب أن تبقى لكي تحرس المتجر. بدا ذلك الحديث شيئًا فشيئًا وكأنه ذريعة متفق عليها للاسترسال؛ ستار تقليدي لشيء ينمو بداخلهما وأصبح حتميًّا ولا مفر من حدوثه بينهما.

لكن وسط أضواء محطة القطار تلاشى على الفور ذلك الشعور الذي كان غامضًا وواعدًا بحدوث أمرٍ ما. كان هناك الكثير من الأشخاص الذين اصطفوا أمام شباك التذاكر، ووقف هو خلفهم، منتظرًا دوره، ثم ابتاع لها تذكرة. ساروا على رصيف محطة القطار حيث ينتظر الركاب الآخرون.

قالت: «هلَّا كتبتَ اسمك كاملًا وعنوانك على قصاصة من الورق، وسوف أرسل لك النقود على الفور حالما أعود.»

حدَّثت نفسها قائلة بأن شيئًا ما سيحدث الآن، لكن لم يحدث شيء، ولم يطرأ جديد الآن. وداعًا، أشكركَ، سأرسل النقود، لا داعي للعجلة، أشكركَ، ليس ثَمَّةَ إزعاج، أشكركِ أنت أيضًا، وداعًا.

قال: «دعينا نَسِر هناك.» ثم سارا بطول رصيف المحطة بعيدًا عن أضوائها.

«من الأحرى ألا تقلقي بشأن النقود، ليست سوى مبلغ ضئيل، وقد لا تصل هنا على أي حال؛ لأني سأرحل من هنا قريبًا، وفي بعض الأحيان يصل البريد متأخرًا.»

«لكني يجب أن أردَّ لكَ نقودكَ.»

«سأقول لكِ كيف تردين نقودي إذن، هل تنصتين جيدًا؟»

«نعم.»

«سآتي إلى هنا الصيف القادم في نفس المكان، وذات المتجر، الصيف القادم؛ لذا ستختارين المسرحية التي تفضلينها وتأتين إلى هنا بالقطار ثم إلى المتجر.»

«سأردُّ لك النقود حينها؟»

«أوه، نعم، وسأعد طعام العشاء ونحتسي النبيذ، وسأخبرك بما حدث طيلة العام الماضي، وأنتِ كذلك ستقصين لي ما مر بك، وهناك شيء آخر أريده منك.»

«ما هو؟»

«سترتدين نفس الفستان؛ نفس فستانك الأخضر، ونفس تصفيفة الشعر.»

ضحكت قائلة: «حتى تعرفني.»

«نعم.»

وصلا إلى نهاية رصيف المحطة، وقال وهما يخطوان فوق الأرض المفروشة بالحصى: «احترسي.» ثم أردف: «اتفقنا؟»

قالت روبن: «نعم.» وقد بدا بعض الارتباك في صوتها؛ إما بسبب سطح الأرض غير الثابت بفعل الحصى، أو لأنه قد أمسكها من كتفيها ثم تحركت يداه لأسفل على ذراعَيْها العاريتين.

قال: «أعتقد أن لقاءنا كان شيئًا مهمًّا، أظن هذا، هل توافقينني في ذلك؟»

قالت: «نعم.»

«نعم، نعم هو كذلك.»

دسَّ يدَيْه تحت ذراعيها ليجذبها نحوه أكثر ويطوِّق خصرها بذراعيه، وراحا يتبادلان القبلات مرات ومرات.

كان حوار القبلات هامسًا رقيقًا، أخَّاذًا، يتسم بالجرأة والتحول. وعندما انتهيا كان كلاهما يرتعدان، واستطاع بصعوبة أن يستعيد رباطة جأشه ويحاول أن يتحدث بلهجة خالية من المشاعر.

«لن نتبادل أي رسائل؛ فالرسائل ليست بالفكرة الجيدة، سيتذكر أحدنا الآخر فحسب، وليس عليكِ أن تخبريني قبل أن تأتي، تعالَي فقط. إن كنتِ تحملين نفس المشاعر فستأتين فحسب.»

سمعا صوت القطار وهو قادم، وساعدها في الصعود إلى الرصيف ولم يلمسها ثانية، لكنه سار بسرعة بجوارها وتحسس شيئًا في جيبه.

وقبل أن يغادرها أعطاها قصاصة ورقة مطوية وقال: «كتبتُها قبل أن نغادر المتجر.»

وفي القطار قرأت اسمه؛ «دانيلو أدزيك»، والكلمات بييلويفيتشيه؛ قريتي.

•••

وصلت مدينتها وسارت في الظلام تعلوها الأشجار، ولم تكن جوان قد أوت إلى فراشها؛ حيث كانت جالسة تلعب لعبة سوليتير.

قالت روبن: «آسفة، لقد فاتني القطار الذي يغادر مبكرًا، تناولت لحم الستروجانوف على العشاء.»

«إذن، فهذا ما أشم رائحته الآن.»

«وكأسًا من النبيذ.»

«يمكنني أن أشم ذلك أيضًا.»

«أعتقد أنني سأذهب إلى الفراش مباشرة.»

«أظن أن عليكِ ذلك.»

تذكرت روبن في نفسها وهي تصعد الدرج بيتَ شعر للشاعر ويليام وردزوورث.

كم كان ما حدث شيئًا سخيفًا، بل إنه مدنِّس، إن جاز القول فإنه يُعد انتهاكًا للحرمات. ما معنى أن يقبِّلها رجل غريب في رصيف محطة القطار، ويطلب منها أن تقص عليه ما حدث لها في فترة عام. إن علمت جوان بأمر ذلك ماذا ستقول؟ رجل أجنبي؟ إن الأجانب يلتقطون الفتيات اللاتي لا يرتبط بهن أحدٌ آخر.

ظلت الأختان بالكاد تتبادلان الحديث لمدة أسبوعين، وقد شعرت جوان بالراحة عندما لم ترَ أي مكالمات هاتفية أو أي رسائل تأتي، وأن روبن لا تخرج في الأمسيات إلا للذهاب إلى المكتبة. إنها تدرك أن هناك شيئًا ما قد تغيَّر، لكنها لم تكن تعتقد أنه بالأمر الجاد، وبدأت تتندر وتلقي النكات مع ويلارد.

قالت ذات مرة على مسمع من روبن: «أوَتدري أن فتاتنا هنا قد بدأت تقوم بمغامرات غامضة في ستراتفورد؟ نعم. كما أُخبرك. أتت إلى المنزل تفوح منها رائحة الشراب واللحم. أتعرف ماذا كانت تشبه تلك الرائحة؟ رائحة القيء.»

كان في اعتقادها أن روبن ذهبت إلى أحد المطاعم الغريبة التي تقدم بعض الأطباق الأوروبية وطلبت كأسًا من النبيذ بجانب وجبتها؛ معتقدة أن ذلك يجعل منها فتاة راقية.

كانت روبن قد ذهبت إلى المكتبة لتقرأ شيئًا عن مونتينيجرو.

قرأت جزءًا يقول: «لأكثر من قرنَيْن من الزمن ظل أهل مونتينيجرو في صراع مع الأتراك والألبان وهو ما كان بالنسبة لهم واجب كل إنسان (ومن هنا شاع عن أهل مونتينيجرو أنهم يتسمون بالكبرياء ويميلون إلى العدائية والشجار وينفرون من العمل، وكان هذا مصدر تندُّر ونكات اليوغسلافيين).»

لكنها لم تستطع أن تعرف أي قرنَيْن يقصدهما الكتاب. قرأت عن الملوك، والقساوسة، والحروب، والنزاعات والاغتيالات، وقرأت عن أعظم القصائد الصربية على الإطلاق، والتي كانت تحمل عنوان: «جبل جارلاند»، والتي كتبها ملك مونتينيجرو. لم تستطع أن تحتفظ بكلمة مما قرأت فيما عدا الاسم، الاسم الحقيقي لمونتينيجرو، والذي لم تعرف كيف تنطقه؛ وهو جرنا جورا.

راحت تنظر إلى الخرائط حيث كان من الصعب أن تحدِّد مكان البلد ذاته، لكنها نجحت في النهاية من خلال العدسة المكبرة أن تتعرَّف على أسماء مدن عدة — ولم يوجد بينها اسم بييلويفيتشيه — واستطاعت أن تتعرف على أنهار موراكا وتارا، وترى السلاسل الجبلية المظللة في الخريطة، والتي بدت في كل مكان ما عدا وادي زيتا.

كان من الصعب تفسير احتياجها للاستمرار في ذلك الاستقصاء، ولم تحاول هي حتى تبريره (بالرغم من أن الجميع كانوا يلاحظون حضورها الدائم في المكتبة وانهماكها في القراءة)، لكن كان كل ما تحاول فعله — وهو شبه ما نجحت في فعله على الأقل — هو أن تحدد مكان دانيلو الفعلي وتاريخه الحقيقي، وأن تعتقد أنه بالقطع يعرف كل تلك الأسماء التي تتعلَّمها، وأن ذلك التاريخ هو ما قد تعلَّمه بالفعل في المدرسة، وأنه زار بعضًا من هذه الأماكن سواء عندما كان طفلًا أو شابًّا، وربما يزور هذه الأماكن في الوقت الحالي. وعندما تُلامس أصابعها اسمًا مطبوعًا لموقع على الخريطة، تشعر أنها ربما لمست المكان الذي يوجد به الآن.

حاولت أن تعرف أيضًا من خلال بعض الكتب والرسوم البيانية أي شيء يتعلق بصناعة الساعات، لكنها لم تنجح في ذلك.

ظل ملازمًا لها في أفكارها. كانت تفكِّر به عندما تستيقظ من النوم وفي أوقات الراحة بالمستشفى. وقد جعلتها احتفالات أعياد الميلاد تفكر في طقوس الكنيسة الأرثوذكسية — التي كانت قد قرأت عنها — حيث القساوسة ذوو اللحى الطويلة في زيهم الكهنوتي الذهبي، والشموع المتلألئة، وعبق البخور والترانيم الحزينة التي تتردد بلغة أجنبية. وقد جعلها الطقس البارد والجليد المتراكم فوق البحيرة تفكر في الشتاء في الجبال. شعرت وكأنها اختيرت لكي ترتبط بذلك الجزء الغريب من العالم، اختيرت لتلقى نوعًا غريبًا من القدر. واعتادت أن تردد على نفسها كلمات مثل «القدر» و«الحبيب» وليس «الصديق» وإنما «الحبيب». كانت تتذكر في بعض الأحيان أسلوبه العفوي الذي شابَهُ بعض التردد عندما تحدَّث عن الذهاب إلى بلده والخروج منها، وشعرت بالخوف عليه، وتخيلت أن يكون قد وقع في مكائد شريرة، أو مؤامرات تشبه مؤامرات السينما، أو أنه يواجه الأخطار والأهوال. ربما كان قراره بعدم تبادل الرسائل شيئًا جيدًا، لربما كانت حياتها ستُستنزف بالكامل في كتابتها وانتظارها؛ في كتابتها وانتظار الردود ثم انتظار الردود وكتابتها؛ وبالقطع في القلق الشديد الذي كان سيعتريها إن لم تصل تلك الخطابات.

لقد أصبح لديها الآن شيء تحمله معها طوال الوقت. كانت تدرك ذلك البريق الذي تولَّد بداخلها، في جسدها، وفي صوتها، بل وفي كل أفعالها. لقد جعلها تسير بطريقة مختلفة، وتبتسم دون سبب معلوم، وتعامل المرضى بحنان غريب. كانت سعادتها تكمن في التفكير مليًّا في شيء واحد في كل مرة، وكانت تفعل ذلك بينما تقوم بواجباتها، وعندما تتناول طعام العشاء مع جوان، كانت دائمًا ما تتذكر جدران الحجرة العارية، وخطوط الضوء المنعكسة عليها من خلال شيش النوافذ ذي الأضلع، وأوراق المجلة الخشنة برسوماتها التوضيحية القديمة الموضوعة بدلًا من الصور، والآنية الفخارية التي يحيط بها طوق أصفر، والتي قدم فيها لحم الستروجانوف. كانت تتذكر أيضًا كمامة جونو بلون الشوكولاتة، وقوائمها الطويلة القوية النحيلة، ثم تذكَّرت الهواء المنعش في الطريق، ورائحة أحواض الورد التي زرعتها بلدية المدينة، وأعمدة الإضاءة الممتدة بطول النهر، والتي تدافعت والتفت حولها أعداد غفيرة من الحشرات الصغيرة.

ذاك الانقباض في صدرها، وشعورها بنهاية الموقف، وحين عاد بتذكرتها، ثم بعد ذلك سيرهما معًا، والخطوات الوئيدة المدروسة، والهبوط من رصيف المحطة والسير على الحصى، وشعورها بالألم من خلال نعل حذائها الخفيف نتيجة سيرها على الحصى الصغيرة الحادة.

لم يتلاشَ شيء من ذاكرتها، كلما تكرَّر ذلك البرنامج في ذهنها، ظلَّت ذكرياتها وما أضفته عليها من زخارف جميلة تدبُّ بعمق في ذهنها.

«أعتقد أن لقاءنا كان شيئًا هامًّا.»

«نعم. نعم.»

•••

ومع ذلك عندما قدم شهر يونيو تأخرت في الذهاب؛ فلم تكن قد قررت بعد أي مسرحية ستشاهدها، أو أرسلت في حجز تذكرتها. وقد قررت في النهاية أن تختار الذكرى السنوية لذلك اليوم، فاختارت نفس اليوم الذي التقيا فيه العام الماضي، وكانت المسرحية المعروضة في ذلك اليوم هي مسرحية «كما تحب». وجال بخاطرها أنه يمكنها أن تذهب فقط إلى شارع داوني، وألا تهتم بأمر المسرحية؛ لأن ذهنها سيكون مشغولًا جدًّا وتشعر بالإثارة لدرجة لن تتمكن معها من متابعة معظم المسرحية، إلا أنها كانت تؤمن بالخرافات، وتخشى أن تغيِّر من نمط ذلك اليوم الذي اعتادت عليه. أحضرت تذكرتها، ثم أخذت فستانها الأخضر من أجل التنظيف. لم تَرتدِهِ منذ ذلك اليوم، لكنها كانت تريد أن يبدو زاهيًا وأنيقًا كالجديد.

لم تأتِ السيدة التي تقوم بالكواء في محل التنظيف لعدة أيام في ذلك الأسبوع؛ فقد كان ابنها مريضًا، لكنهم وعدوها بأن الفستان سيكون جاهزًا عندما تعود في صباح يوم السبت.

•••

قالت روبن: «سأموت، سأموت إن لم يكونوا قد انتهوا من تجهيز ذلك الرداء من أجل الغد.»

نظرت إلى جوان وويلارد وهما يلعبان الكونكان على مائدة اللعب. اعتادت أن تراهما على هذا النحو مرارًا. والآن من الممكن ألا تراهما هكذا ثانية. كم هما بعيدان عن شعورها بالتوتر والتحدي، إنها مغامرة حياتها.

لم يكن الفستان جاهزًا بعد؛ فالطفل لا يزال مريضًا. فكرت روبن في أن تأخذ الفستان إلى المنزل وتقوم بكيِّه بنفسها، لكنها اعتقدت أنها ستكون في حالة توتر شديدة لن تمكِّنها من القيام بالمهمة بشكل جيد؛ وخاصة أن جوان كانت تنظر إليها. فذهبت على الفور إلى وسط المدينة، صوب المتجر الوحيد الذي يبيع الفساتين، وكانت محظوظة — هكذا اعتقدت — لأنها وجدت فستانًا أخضر آخر كان يناسب مقاسها جيدًا، لكنه كان ذا خطوط مستقيمة وبلا أكمام. ولم يكن بلون الأفوكادو الأخضر، بل الأخضر الليموني. أخبرتها السيدة التي تبيع في المتجر بأن هذا اللون هو لون هذا العام، وأنه قد ذهبت موضة الفساتين الواسعة التي تضيق عند الخصر.

•••

ومن خلال نافذة القطار رأت الأمطار وقد بدأت تتساقط، ولم تكن تحمل معها مظلة. في المقعد المواجه لها جلس مسافر تعرفه من قبل، كانت سيدة أجرت عملية استئصال للمرارة منذ أشهر قليلة في المستشفى، وكانت لتلك السيدة ابنة متزوجة في ستراتفورد، وكانت من نوع الأشخاص الذين يعتقدون أنه طالما أن هناك شخصين يعرف أحدهما الآخر والتقيا في نفس القطار متوجِّهَيْن لنفس المكان، فعليهما إذن أن يتجاذبا أطراف الحديث دون توقف.

قالت: «إن ابنتي تنتظرني، وبإمكاننا اصطحابك إلى أي مكان ستذهبين إليه؛ وخاصة أنها تمطر.»

كان المطر قد توقف حينما وصلا ستراتفورد، بل كانت الشمس ساطعة والطقس حارًّا تمامًا؛ ومع هذا لم يكن في وسع روبن فعل شيء سوى أن تقبل عرض السيدة بركوب السيارة. جلست في المقعد الخلفي بجوار طفلين يتناولان الآيس كريم. لقد كانت معجزة أنه لم يتساقط أيٌّ من قطرات الفراولة أو البرتقال على ردائها.

لم تستطع الانتظار حتى انتهاء عرض المسرحية؛ إذ كانت تشعر برعشة في المسرح المكيَّف؛ لأن فستانها من قماش خفيف، كما أنه بلا أكمام، أو ربما كان شعورها بالتوتر هو سبب تلك الرعشة. شقَّت طريقها إلى نهاية الصف مقدِّمة اعتذارها للآخرين، ثم صعدت ذلك الممر بدرجاته غير المتساوية، وخرجت إلى البهو الذي يملؤه ضوء النهار. كانت السماء قد بدأت تمطر ثانية، وبشدة. وحيثما كانت بمفردها في دورة المياه — نفس المكان الذي فقدت فيه حقيبة نقودها — راحت تصفِّف شعرها الذي أفسدته الرطوبة؛ فالشعر الذي قامت بلفِّه كي يسترسل ناعمًا مفرودًا أصبح ينسدل في خصلات سوداء ناعمة ملتفة حول وجهها، ربما كان ينبغي لها أن تحضر معها مثبِّت الشعر. قامت بتصفيفه بأفضل شكل ممكن، وراحت تمشِّطه للوراء.

كانت الأمطار قد توقَّفت عندما غادرت المسرح، وسطعت الشمس مرة أخرى في كبد السماء، وراحت تلقي بأشعتها اللامعة فوق الرصيف المبتل. والآن انطلقت إلى وجهتها. شعرت بوهن في ساقَيْها يماثل تمامًا ما كانت تشعر به في تلك الأوقات التي كان ينبغي لها فيها التوجه إلى السبورة لحل مسألة رياضية، أو عندما كانت تضطر إلى الوقوف أمام الفصل لكي تلقي على مسامعهم أحد الدروس التي حفظوها. وسرعان ما أصبحت عند ناصية شارع داوني، وخلال دقائق من الآن ستتغير حياتها. لم تكن في أتم استعداد، لكنها لا تتحمَّل أي تأخير.

وعند مجموعة البنايات الثانية استطاعت أن تلمح أمامها ذلك المنزل الصغير الغريب الذي لا يزال في مكانه، الواقع بين الأبنية التقليدية التي تحوي بعض المتاجر المصطفة على جانبَيْه.

اقتربت أكثر فأكثر. كان الباب مفتوحًا كما هو الحال مع معظم المتاجر الممتدة بطول الطريق، ولم يكن في معظمها أجهزة تكييف هواء؛ فلم يكن هناك سوى باب به سلك لحجب الحشرات الطائرة.

صعدت درجتَي السلم ثم توقفت خارج المتجر، لكنها لم تدفع بابه، بل انتظرت لدقيقة حتى تعتاد عيناها على المكان شبه المظلم في الداخل، وحتى لا تتعثَّر وهي تدخل المكان.

ورأته هناك، في مكان عمله خلف النضد، مشغولًا في شيء ما أسفل المصباح الوحيد الموجود. كان منحنيًا للأمام، ورأت جانب وجهه؛ فقد كان منهمكًا في عمله الذي يؤديه في إصلاح إحدى الساعات. كانت تخشى أن يكون قد تغيَّر، بل خشيت في الواقع حقيقة أنها لا تتذكره جيدًا، أو أن مونتينيجرو قد أضفت بعض التغيير عليه؛ فيكون قد قص شعره بطريقة مختلفة، أو يكون قد أطلق لحيته. لكن لا، فإنه كما هو لم يطرأ عليه أي اختلاف. وكان المصباح الذي يتلألأ فوق رأسه يُظهر نفس خصلات شعره، التي كانت تلمع كما كانت من قبل؛ تلك الخصلات الرمادية التي تتخللها أخرى حمراء مشوبة باللون البني. كانت كتفاه عريضتين، بها قليل من التحدُّب، وكانت أكمام القميص مرفوعة لأعلى لتُظهر ذراعَيْه المفتولتين، وقد علا وجهه تعبير ينمُّ عن شدة التركيز، والاهتمام، والتقدير الشديد لما يقوم به، وللآلية التي يعمل بها. نفس النظرة المحفورة في ذهنها، بالرغم من أنها لم ترَه من قبل وهو يعمل. لقد كانت دائمًا تتخيل تلك النظرة وقد وجَّهها إليها.

لا، إنها لا تريد أن تخطو للداخل، لقد كانت تريده أن ينهض ويتجه نحوها ويفتح الباب؛ لذا نادته باسمه؛ دانييل. خجلت في آخر دقيقة من أن تناديه باسم دانيلو؛ خشية أن تنطق المقاطع الأجنبية بطريقة غريبة غير متقنة.

لم يسمعها، أو ربما لأنه كان منهمكًا فيما يعمله تأخَّر في النظر إليها، ثم رفع بصره لأعلى، لكن ليس باتجاهها؛ فقد بدا أنه يبحث عن شيء يحتاجه في تلك اللحظة، لكنه لمحها بالفعل في اللحظة التي رفع فيها عينيه، ثم قام بحذرٍ بإزاحة شيء ما بعيدًا عن طريقه، ودفع بنفسه للوراء من أمام طاولة العمل، ونهض من مكانه، وسار على مَضَض باتجاهها.

هزَّ رأسه قليلًا وهو ينظر إليها.

كانت يدها على وشك أن تدفع الباب؛ بَيْدَ أنها لم تفعل. انتظرت أن يتحدث، لكنه لم يفعل. هز رأسه مرة أخرى وظهر عليه الارتباك، ولم يحرك ساكنًا، ثم أزاح وجهه عنها، وجال ببصره في أنحاء المتجر؛ فقد راح ينظر إلى صف الساعات كما لو أنها ستمنحه بعض المعلومات، أو ستكون عونًا له. وعندما نظر مرة ثانية إلى وجهها، ارتعد، وبحركة لا إرادية، أو ربما لم تكن كذلك، كشف عن أسنانه الأمامية كما لو أن مرآها بثَّ فيه نوعًا من الخوف الحقيقي، وإدراكًا لوجود خطر محدق.

وقفت هناك، وقد تسمرت في مكانها كما لو أن هناك احتمالية أن يكون ذلك لعبة أو مزحة.

والآن اتجه نحوها ثانية كما لو أنه قد قرَّر ما سيقدم على فعله. ولم ينظر إليها ثانية، لكنه تصرف بشيء من التصميم والنفور — وفقًا لتصورها — ووضع يده على الباب الخشبي — باب المتجر الذي كان لا يزال مفتوحًا — وصفقه في وجهها.

كان هذا التصرف من جانبه بمثابة اختصار للوقت، وبفزع شديد فهمت ما كان يفعله؛ حيث لجأ إلى هذا التصرف لأنه كان السبيل الأيسر للتخلص منها بدلًا من شرح الأمور، ومواجهة دهشتها وحماقتها الأنثوية، ومشاعرها المجروحة، وربما دموعها وانهيارها المحتملَيْن.

•••

كان كل ما شعرت به هو الخزي؛ الخزي الشديد. لو كانت امرأة أخرى مكانها أكثر ثقة وخبرة لشعرت بالحنق ورحلت في غضب عارم، وليذهب للجحيم. كانت روبن قد سمعت امرأة في العمل تتحدث عن رجل هجرها، فكانت تقول: «لا يستحق سوى أن أبول عليه.» «لا تثقي في أي شيء يرتدي سروالًا.» لقد تصرَّفت تلك المرأة وكأنها لم تصبها الدهشة. وبداخلها، لم تكن روبن تشعر بالدهشة هي الأخرى، لكنها كانت تلوم نفسها. كان عليها أن تفهم جيدًا أن كلمات الصيف الماضي، والوعد والوداع عند محطة القطار، لم تكن سوى نوع من الحماقة؛ عطف غير ضروري نحو أنثى وحيدة فقدت حقيبة يدها، وتأتي لمشاهدة المسرحيات بمفردها. ربما شعر هو بالندم على ما حدث حتى قبل أن يصل إلى منزله، وتمنى ألا تكون قد أخذت كلماته على محمل الجد.

ومن المحتمل بشدة أن يكون قد تزوَّج في مونتينيجرو، وزوجته بالطابق الأعلى؛ وهو ما يفسر الانزعاج الذي علا وجهه وارتجافه والفزع الذي انتابه. وإن كان قد فكَّر في روبن، فسيكون من منطلق خوفه من أن تفعل ما فعلته؛ من أن تنسج أحلامها العذرية الساذجة، وتضع خططًا وهمية سخيفة. فربما كانت هناك العديد من النساء اللاتي جعلن من أنفسهن حمقاوات أمامه قبلها، وقد وجد سبلًا كثيرة للتخلص منهن. وكان ما فعله معها أحد هذه السبل. من الأفضل التعامل بقسوة بدلًا من إظهار العطف؛ فلا اعتذارات، أو تفسيرات، أو أي أمل، فقط تظاهرْ بأنكَ لا تعرفها، وإن لم ينجح هذا، اصفق الباب في وجهها؛ فكلما أبغضتك على نحو أسرع، كان هذا أفضل.

وبالرغم من ذلك فقد كان هذا الأسلوب شاقًّا مع بعض النساء.

وهو ما حدث معها تمامًا، وها هي الآن تبكي. نجحت في أن تحبس دموعها طول الطريق، لكنها انهمرت عندما وصلت إلى النهر. ورأت نفس البجعة السوداء تسبح وحيدة، نفس أسراب البط الصغيرة وآباؤها تصيح حولها، والشمس المنعكسة أشعتها على صفحة المياه. كان من الأفضل عدم محاولة الهروب، وعدم تجاهل تلك الضربة الموجعة؛ فإن فعلت ذلك لدقيقة، فستكون عرضة لأن يعاودها الألم مرة أخرى، لكن هذه المرة سيكون كطعنة قاتلة في الصدر.

•••

قالت جوان: «عدتِ في وقت أفضل هذا العام، كيف كانت المسرحية؟»

«لم أُكمل مشاهدتها، فبمجرد دخولي القاعة دخلت إحدى الحشرات الصغيرة الطائرة في عيني، فرحت أطرف بعيني عدة مرات، لكني لم أفلح في التخلص منها، فاضطررت للنهوض، والذهاب لدورة المياه كي أغسل عيني ببعض الماء لكي أخرجها، ثم أخرجت جزءًا منها في المنشفة، وقد قمت بفرك عيني الأخرى أيضًا.»

«تبدين وكأنك كنتِ تبكين بشدة، عندما أتيتِ اعتقدتُ أنها كانت مسرحية شديدة السواد. من الأحرى أن تغسلي عينك بالماء المالح.»

«كنتُ سأفعل.»

كان هناك بعض الأشياء الأخرى التي عقدت العزم على فعلها، أو بالأحرى عدم فعلها؛ ومنها أنها لن تذهب مطلقًا إلى ستراتفورد مجددًا، ولن تسير في الشوارع بمفردها، لن تشاهد مسرحيات مرة أخرى، ولا مزيد من الفساتين الخضراء؛ سواء تلك التي بلون الليمون أو الأفوكادو. ستتجنب سماع أي معلومات عن مونتينيجرو، ومن المفترض ألا يكون بالأمر الصعب.

٢

والآن أتى فصل الشتاء وقد تجمَّدت البحيرة تمامًا وصولًا إلى حاجز الأمواج. كان الثلج كثيفًا متراكمًا، وقد بدا في بعض الأماكن وكأن هناك أمواجًا هائلة قد تجمَّدت في طريقها. خرج العمال ليقوموا بإنزال أضواء أعياد الميلاد. انتشر مرض الأنفلونزا. عيون الناس تدمع عند السير عكس اتجاه الرياح، ومعظم النسوة يرتدين أزياء الشتاء من السراويل الثقيلة والمعاطف الثقيلة الخاصة بالتزلج على الجليد.

لكن روبن لم ترتدِ مثلهن؛ فعندما خطت خارج المصعد لتتفقد الطابق الثالث ثم الأخير من المستشفى كانت ترتدي معطفًا طويلًا أسود، وتنورة من الصوف رمادية اللون، وكنزة حريرية ذات لون بنفسجي فاتح يميل إلى الرمادي. وقد انسدل شعرها الرمادي بكثافة حتى كتفيها، وفي أذنيها قرط صغير من الألماس (جدير بالذكر، أن بعض النساء ذوات المظهر الأفضل والحيثية في المدينة هن اللائي لم يتزوجن)، ولم يكن عليها أن ترتدي زي الممرضات الآن؛ لأنها تعمل لجزء من الوقت وفي هذا الطابق فقط.

كان يمكنها أن تستقل المصعد حتى الطابق الثالث، لكن الهبوط هو ما كان صعبًا؛ فالممرضة الجالسة خلف النضد عليها أن تضغط على زر خفي للسماح لكَ بالنزول. فهذا الطابق هو جناح الأمراض النفسية، على الرغم من أنه من النادر أن يُطلق عليه الآخرون هذا المسمى. ولأنه يطل على الجانب الغربي من البحيرة تمامًا مثل شقة روبن فقد كان يُطلَق عليه في العادة فندق صنسيت، في حين أن بعض الأشخاص الأكبر سنًّا يُطلقون عليه رويال يورك. ومعظم المرضى يمكثون هنا لفترات قصيرة، بالرغم من أن تلك الفترات القصيرة تتكرر لبعضهم باستمرار. أما أولئك الذين يعانون من حالات مزمنة من الوُهام أو الانعزال أو الاكتئاب، فهم يُنقلون إلى مكان آخر في مستشفى المقاطعة، والذي يحمل، على نحو ملائم، اسم «دار الرعاية طويلة الأجل»، ويقع خارج المدينة مباشرة.

لم تتطور المدينة بشكل كبير خلال الأربعين عامًا الماضية، لكنها تغيرت؛ فقد تم تشييد اثنين من مراكز التسوق الضخمة، بينما كانت المتاجر الصغيرة في ذلك الميدان تصارع من أجل البقاء. كانت هناك بعض المنازل الجديدة التي شُيِّدت — مجمع مباني لكبار السن — وكانت تطل على المنحدر، وتم تحويل اثنين من المنازل الضخمة التي تطل على البحيرة إلى مجموعة من الشقق الصغيرة، وكان من حظ روبن أن حصلت على شقة فيها. أما المنزل الذي كانت تقطن به هي وجوان، والذي يقع في شارع إيزاك، فقد تم تجميله بأرضيات الفينيل وتحوَّل لمكتب للعقارات. أما منزل ويلارد فظل كما هو إلى حدٍّ ما. وكان ويلارد قد أصيب بسكتة دماغية منذ عدة أعوام، لكنه تحسَّن بشكل كبير بالرغم من أنه أصبح يسير على عكازين. وعندما كان في المستشفى، كانت روبن تراه كثيرًا، وكان يتحدث كثيرًا عن علاقة الجوار الطيبة التي كانت تربطه بها وبجوان، وأوقات المتعة والتسلية التي كانوا يمضونها في لعب الأوراق.

مضى على وفاة جوان الآن ثمانية عشر عامًا، وبعد أن قامت روبن ببيع المنزل ابتعدت عن كل مجتمعاتها وعلاقاتها القديمة؛ فلم تعد تذهب للكنيسة، وكانت بالكاد ترى الأشخاص الذين عرفتهم منذ الصغر ومَنْ كانت تذهب معهم إلى المدرسة، فيما عدا من يأتون منهم مرضًى لتلقي العلاج في المستشفى.

لاحت فرص الزواج مرة أخرى في وقت من أوقات حياتها، لكنها كانت محدودة؛ فقد كان هناك بعض الأرامل من الرجال الذين ظهروا حولها، والذين يعيشون بمفردهم. وكانوا في العادة يريدون نساءً لديهن خبرة في الزواج؛ رغم أن الوظيفة الجيدة ميزة لا يمكن تجاهلها هي الأخرى، لكن روبن أوضحت للجميع أنها لا تهتم بموضوع الزواج. ويقول الناس الذين تعرفهم منذ أن كانت صغيرة إنها لم تهتم مطلقًا بهذا الأمر، حتى إن بعضًا ممن تعرفهم الآن يقولون عنها إنها لا بد وأن تكون مثلية، لكن ربما تمنعها نشأتها في بيئة متخلفة تعجيزية من أن تصرِّح بذلك.

أصبحت هناك أنواع مختلفة من الناس يعيشون في المدينة في الوقت الحالي، وهؤلاء هم مَنْ أقامت معهم صداقات جديدة. وبعضهم يعيشون معًا دون زواج، ومنهم من وُلد في الهند، ومصر، وكوريا، والفلبين. استمرت أنماط الحياة القديمة، وبعض تقاليد الأيام الخوالي إلى حدٍّ ما، لكن ثَمَّةَ الكثير ممن لديهم أسلوبهم الخاص في حياتهم ولا يعرفون أي شيء عن هذا. بإمكانك أن تشتري أي نوع من الطعام تريده، وأن تجلس في صباح يوم جميل من أيام الآحاد على مائدة موضوعة على الرصيف وتحتسي القهوة اللذيذة وتستمتع بصوت أجراس الكنيسة وهي تدق دون أن تفكر في ممارسة أي طقس من طقوس العبادة. ولم يعد الشاطئ محاطًا بالمخازن وبمباني السكك الحديدية؛ فيمكنك الآن أن تسير على الممر الخشبي لمسافة ميل بطول البحيرة. وكان يوجد جمعية موسيقى الكورال، وجمعية الممثلين. وكانت روبن لا تزال عضوًا نشطًا في جمعية الممثلين، بالرغم من أنها لم تعد تقف على خشبة المسرح كثيرًا كما كانت تفعل من قبل. كانت قد قامت بالتمثيل منذ عدة سنوات في مسرحية هيدا جابلر، وكان رد الفعل العام بأنها مسرحية كريهة؛ بَيْدَ أنها أدت دور هيدا بمهارة واقتدار. وقال الناس إنها أدت الشخصية جيدًا رغم أن الشخصية تناقضها تمامًا في الواقع.

العديد من الناس هنا يذهبون إلى ستراتفورد هذه الأيام، لكنها كانت تذهب لمشاهدة المسرحيات في نياجرا بجوار البحيرة.

•••

لاحظت روبن ثلاثة أَسِرَّة وقد اصطفت أمام الحائط المقابل.

قالت لكورال الممرضة التي تقف خلف النضد: «ما الخطب؟»

قالت كورال في تشكُّك: «إنه أمر مؤقت؛ عملية إعادة توزيع.»

راحت روبن تعلِّق معطفها وحقيبتها في الخزانة الموضوعة خلف النضد، وأخبرتها كورال أن هذه الحالات وردت من مقاطعة بيرث، وقالت إنه نوع من التعديل نتيجة الازدحام هناك؛ فقد كان هناك نوع من الارتباك الشديد، ولم يكن مستشفى المقاطعة هنا مستعدًّا لاستقبالهم بعد؛ لذا قرر القائمون عليه نقلهم إلى هنا في الوقت الحالي.

«أعليَّ أن أذهب إليهم وأُلقي التحية؟»

«كما تشائين، لكن آخر مرة ألقيتُ عليهم نظرة كانوا جميعهم نائمين.»

كانت جوانب الأسِرَّة الثلاثة حيث يتمدد المرضى مرفوعةً لأعلى، وكانت كورال محقة، فبدا أنهم جميعًا يغطُّون في النوم. وكانوا امرأتين متقدمتين في العمر ورجلًا عجوزًا. استدارت روبن مبتعدة ثم ما لبثت أن عادت ثانية في نفس اللحظة، ووقفت تنظر نحو الرجل العجوز، كان فاغرًا فاه، وقد نُزع طاقم أسنانه إن كان لديه واحد. لم يفقد شعره بعد، بل كان له شعر قصير مَلأه الشيب. يبدو هزيلًا، ووجنتاه غائرتان، ولكن وجهه لا يزال عريضًا عند منطقة الصدغ، محتفظًا بلمحة من السيطرة التي شابها الاضطراب تمامًا كما رأته آخر مرة. رأت على جلده بقعًا باهتة، ذابلة فاتحة اللون تُقارب اللون الفضي، ربما أُزيلت منها خلايا سرطانية. كان جسمه واهنًا، تكاد ساقاه لا تُرى أسفل الغطاء، لكنه احتفظ بعرض صدره، وكتفاه عريضتان بعض الشيء، تمامًا كما كانت تتذكر.

قرأت البطاقة المعلَّقة في أرجل الفراش:

«ألكسندر أدزيك».

دانيلو، دانييل.

ربما كان هذا اسمه الثاني؛ ألكسندر، أو ربما كان يكذب وقد احتاط بأن اختلق كذبةً أو نصف كذبة من البداية حتى النهاية.

عادت إلى النضد وتحدثت إلى كورال قائلة:

«أما من معلومات بشأن هذا الرجل؟»

«لِمَ؟ أتعرفينه؟»

«أعتقد هذا.»

«سأرى إن كانت هناك معلومات عنه، وسأرسل في طلبها.»

قالت روبن: «لا داعي للعجلة، يمكنك ذلك عندما يسمح لك الوقت، إنه من باب الفضول فقط، من الأفضل أن أذهب الآن لألقي نظرة على مرضاي.»

كانت مهمة روبن هي أن تتحدث مع أولئك المرضى مرتين في الأسبوع، وأن تعد التقارير بشأنهم، والتي توضح درجة تراجع حالات الوُهام والاكتئاب لديهم، وكيفية تأثر حالتهم المزاجية بزيارات أقاربهم أو أزواجهم. عملت في ذلك القسم لسنوات؛ وذلك منذ أن كان هناك توجُّه نحو علاج المرضى النفسيين بالقرب من منازلهم، في السبعينيات، وكانت تعرف الكثير من الأشخاص الذين يداومون على التردد على المكان، وقد تلقت العديد من الدورات التدريبية الإضافية التي تؤهلها للتعامل مع الحالات النفسية، لكنه كان شيئًا تميل لممارسته على أي حال. فبعد فترة وجيزة من عودتها من ستراتفورد دون مشاهدة مسرحية «كما تحب»، شعرت بشيء يجذبها نحو ممارسة ذلك العمل؛ فقد كان هناك شيء غيَّر حياتها بالرغم من أنه لم يكن الشيء الذي تتوقع حدوثه.

كانت تُبقي السيد راي للنهاية؛ لأنه كان بوجه عام يأخذ معظم الوقت، لم يكن بإمكانها أن تمنحه كل الوقت الذي يريده؛ إذ كان ذلك الأمر يعتمد على مشكلات المرضى الآخرين. وقد رأت اليوم أن حالات بقية المرضى قد تحسَّنت بوجه عام؛ وذلك بفضل العقاقير التي يتناولونها، وكان كل ما يفعلونه هو الاعتذار عن الجلبة التي أحدثوها. أما السيد راي — الذي يعتقد أنه لم يتلقَّ التقدير والعرفان الكافيَيْن على إسهاماته في اكتشاف الحامض النووي أو دي إن إيه — فقد كان في حالة غضب شديدة بسبب خطاب أرسله لجيمس واتسون، أو جيم كما يطلق هو عليه.

قال: «ذلك الخطاب الذي أرسلته لجيم، لديَّ من الوعي والدراية ما يجعلني لا أرسل خطابًا كهذا دون أن أحتفظ بنسخة منه، لكني ذهبت بالأمس لأبحث بين ملفاتي وخَمِّني ماذا اكتشفت؟ خَمِّني.»

قالت روبن: «أخبرني أنت.»

«إنه غير موجود، لم أجده. لقد سُرق.»

«ربما وُضع في مكان آخر بالخطأ، دعني أبحث لك عنه.»

«ليس أمرًا مستغربًا، ربما كان عليَّ أن أستسلم منذ أمد طويل؛ فأنا أحارب ذوي السلطة والنفوذ. ومن ذا الذي يغلبهم إن حاربهم؟ أخبريني، هل عليَّ أن أستسلم؟»

«أنت من يقرر ذلك.»

وراح يردد على مسامعها، مرة ثانية، تفاصيل ما ألمَّ به من سوء حظ. لم يكن عالمًا، لكنه كان يعمل في مجال استقصاء الآراء، وكان يتابع التطورات العلمية طيلة حياته. ما من شكٍّ أن ما أعطاه لها من معلومات، بل وحتى الرسومات التوضيحية التي أعدَّها بقلم باهت، كانت كلها صحيحة، إلا أن القصة التي يرويها بشأن خداعه كانت سخيفة ومتوقعة، ومن المحتمل أنها مستقاة من بعض أفلام السينما أو التليفزيون.

لكنها كانت تحب ذلك الجزء من قصته الذي يصف فيه كيف يتم فك شفرة التركيب الحلزوني للحامض النووي، وكيف ينفصل الخيطان بعيدًا بعضهما عن بعض، ويريها كيف يحدث ذلك بأيدٍ ماهرة ممتنة، وكيف يبدأ كل خيط رحلته ويضاعف من نفسه بناءً على تعليماته الخاصة.

وكان ذلك يروق له هو الآخر، ويُشعره بالدهشة، حتى إن الدموع تترقرق في عينيه. وكانت هي دائمًا ما تشكره على أسلوب شرحه، وترغب في أن يتوقف عند هذا الحد، لكنه بالطبع لا يفعل.

ومع ذلك فقد كانت تعتقد أن حالته في تحسُّن؛ فعندما يبدأ في التعمق في بعض جوانب الظلم ويبحث في أسبابه، ويركز على بعض الأشياء الأخرى مثل الخطاب الذي سُرق منه، فهذا يعني أن هناك احتمالًا أن تسير حالته للأفضل.

وبقليل من التشجيع، وبتحويل جزء من انتباهه عن بعض الأشياء، كان من المحتمل أن يقع في غرامها. وهذا هو ما حدث مع اثنين من المرضى قبل الآن، وكلاهما كانا متزوجَيْن، لكن ذلك لم يمنعها من ممارسة العلاقة الحميمية معهما، وذلك بعد مغادرتهما المكان. ومع هذا، فمنذ ذاك الوقت تغيرت مشاعرهما، وشعر كلا المريضين بالامتنان لها، وأحسَّت هي بحسن نواياهما، وشعرت كما شعرا هم أيضًا بأن الأمر لم يَزِد عن مجرد حنين في غير مكانه.

وهي لا تشعر بالندم حيال ذلك؛ فليس هناك الآن سوى القليل الذي تشعر حياله بالندم، ليس من بينه بالطبع حياتها الجنسية، والتي كانت متقطعة وسرية، لكنها بوجه عام كانت باعثة على الراحة. وربما كان المجهود الذي تبذله كي تبقيها سرًّا ليس ضروريًّا بالنظر إلى ما يعتقده الناس عنها؛ فمن تعرفهم الآن كوَّنوا رأيهم على نحو خاطئ وقاطع تمامًا مثلما فعل مَنْ كانت تعرفهم منذ فترة طويلة.

•••

أعطتها كورال ورقة مطبوعة.

وقالت: «إنها لا تحتوي على الكثير من المعلومات.»

شكرتها روبن وقامت بطيها، واتجهت نحو الخزانة كي تضعها في حقيبتها؛ فقد كانت تريد أن تكون بمفردها عند قراءتها، لكنها لم تُطِق انتظارًا حتى تصل إلى المنزل. ذهبت إلى حجرة الاستراحة التي كانت مخصصة للصلاة، ولم يكن ثَمَّةَ أحدٌ بها في تلك اللحظة، فكان يغلِّفها الهدوء.

ألكسندر أدزيك، من مواليد الثالث من يوليو عام ١٩٢٤، بييلويفيتشيه، يوغوسلافيا. هاجر إلى كندا في التاسع والعشرين من مايو عام ١٩٦٢، ويقوم على رعايته أخوه دانيلو أدزيك المولود في الثالث من يوليو عام ١٩٢٤ في بييلويفيتشيه، وهو حاصل على الجنسية الكندية.

عاش ألكسندر أدزيك مع شقيقه دانيلو حتى وفاة الأخير في السابع من سبتمبر عام ١٩٩٥، ثم أُدخل دار الرعاية طويلة الأمد بمقاطعة بيرث في الخامس والعشرين من سبتمبر عام ١٩٩٥، وهو نزيل بها منذ ذلك التاريخ.

وألكسندر أدزيك أبكم أصم منذ ولادته، أو ربما كان ذلك نتيجة مرض أُصيب به بعد الولادة بفترة وجيزة، وعندما كان طفلًا لم يدخُل أي مؤسسات تعليم لذوي الاحتياجات الخاصة، ولم يتم تحديد مستوى ذكائه على الإطلاق، لكنَّه تدرب على إصلاح الساعات، ولم يتلقَّ أي تدريبات تُذكر على لغة الإشارة؛ فكان يعتمد اعتمادًا كليًّا على أخيه، ويبدو للعيان أنه يتعذر معالجته نفسيًّا. يعاني من الخمول الشديد، وليس لديه أي شهية للطعام. يُظهر سلوكًا عدوانيًّا بين الحين والآخر. حالته في تدهور بشكل عام منذ دخوله.

مستحيل!

إخوة!

توأم.

كانت روبن تريد أن تضع هذه الورقة أمام شخص ما، سُلطة ما.

هذا سخف، لا أقبله.

ومع ذلك.

كان ينبغي أن يؤهِّلها شكسبير لذلك؛ فالتوائم كانت دومًا سببًا للخلط ووقوع الكوارث في مسرحيات شكسبير. فمن المفترض أن هذه الخدع كانت وسيلة لغاية ما، وفي النهاية يُكشف الستار عن كل الأشياء الغامضة، وتُغفر كل الحيل والزلَّات، وتتأجج نيران الحب وما شابهها من عواطف من جديد، أما من خُدع فيتقبَّل ذلك بصدر رحب دون تذمُّر أو شكوى.

لا بد وأنه قد ذهب في مهمة قصيرة، قصيرة للغاية؛ فهو لم يكن ليستطيع أن يترك مثل هذا الأخ وحده لفترة طويلة. ربما كان الباب الشبكي مؤصدًا؛ فهي لم تحاول أن تدفعه لفتحه. ربما أخبر أخاه أن يغلق الباب وألا يفتحه ريثما يأخذ جونو في جولة حول البناية. لقد تساءلتْ حينها عن سبب غياب جونو.

لو كانت قد قدمت متأخرة قليلًا أو في وقت سابق عن ذلك بقليل، لو كانت قد انتظرت حتى نهاية عرض المسرحية أو لم تذهب لتشاهدها بالأساس، لو كانت تجاهلت أمر شعرها.

ثم ماذا؟ كيف كان يمكن أن ينجحا في تخطي الصعاب؛ هو مع ألكسندر وهي مع جوان؟ إن الأسلوب الذي تصرف به ألكسندر في هذا اليوم لم يكن يوحي بأنه سيتقبَّل أي دخيل أو أي تغييرات تطرأ. وبالقطع كانت جوان ستعاني هي الأخرى، لكن كان زواج روبن من شخص أجنبي سيكون أشد وطأة على جوان من وجود ألكسندر الأبكم الأصم في المنزل.

من الصعب الآن تقدير الأمور بالنظر إلى الظروف حينها.

لقد فسد كل شيء في يوم واحد، بل في دقيقتين، لكن ليس بسبب نوبات المشاعر الغاضبة، أو البدايات الصعبة، أو الصراعات، أو الآمال أو الخسائر؛ أي ليس من خلال الأسلوب الطويل المعتاد الذي عادة ما تفسد من خلاله الأمور. وإذا كان حقيقيًّا أن الأمور عادة ما تفسد، أليس الطريق الأسرع هو الأيسر في تحمُّلها؟

لكنك لا تستطيع أن تتبنى وجهة النظر هذه لنفسك، وكذلك روبن؛ فإلى الآن ما زالت تتوق لفرصتها؛ فهي لن تدخر لحظة امتنان للخدعة التي تعرَّضت لها، لكنها ستتحول في النهاية إلى الشعور بالامتنان لاكتشافها. إنه ذلك الاكتشاف الذي يترك كل شيء كاملًا حتى تحين لحظة ذاك التدخل البسيط التافه، ويتركك في حالة غضب شديد، لكنك تشعر ببعض الراحة إذا ما نظرت إلى الأمر عن بُعد ولا يعتريك شعور بالخزي.

•••

لقد كان بالقطع عالمًا آخر ذلك الذي وُجدا به هي وهو، تمامًا كأي عالم أُعد فوق خشبة المسرح؛ الترتيبات غير المحكمة، وابل القبلات، الاعتقاد الأرعن الذي طوَّقهما بأن كل شيء سيسير كما خططا له، ولكن الواقع كان غير ذلك. تحرَّكْ قيد أنملة في هذا الطريق أو ذاك وسيضيع منك كل شيء.

كان لدى روبن مرضًى يؤمنون بأنه ينبغي أن يوضع المشط وفرشاة الأسنان في ترتيب سليم، وكذلك الأحذية يجب أن توضع في الجهة الصحيحة، وينبغي عدُّ الخطوات وإلا ستكون النتيجة نوعًا من العقاب إن حدث أي تغيير.

وإن كانت قد أخفقت في شيء، فسيكون ذلك بسبب أمر الفستان الأخضر؛ فقد ارتدت يومها الفستان الخطأ بسبب السيدة التي كانت تعمل في متجر التنظيف وابنها الذي كان مريضًا.

تمنَّت لو بمقدورها أن تخبر أحدًا؛ تخبره هو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤