القوى

استريحي من دانتي

الثالث عشر من مارس عام ١٩٢٧. الآن يأتينا الشتاء، في الوقت الذي يُفترض فيه أننا نترقَّب قدوم الربيع. عواصف هائلة تسدُّ الشوارع وتغلق أبواب المدارس، وهناك من يقول إن رجلًا طاعنًا في السن خرج للسير في الطرقات ويحتمل أنه تجمَّد. خرجتُ اليوم مرتديةً حذاء الجليد، وسرت في منتصف الشارع تمامًا، ولم يكن هناك أثر فوق الجليد إلا لقدمي، وحينما عدت من المتجر كان الجليد قد غطَّى آثار قدمي تمامًا. كان السبب أن البحيرة لم تتجمد كما هو معتاد، وكانت الرياح القادمة من الغرب تحمل الرطوبة الكثيفة وتلقيها علينا في صورة جليد. ذهبتُ لشراء القهوة إضافة إلى غرض أو اثنين من الأشياء المهمة. من كنت سأرى في المتجر سوى تيسَّا نيتربي التي لم أرَها منذ عام تقريبا! كنت أشعر بالضيق لأنني قد لا أتمكن من الخروج لرؤيتها مطلقًا؛ لأنني كنت أحاول الاستمرار في صداقتي معها بعد أن تركَت المدرسة. أظن أنني الوحيدة التي حاولت. كانت ترتدي وشاحًا أسود كبيرًا يغطيها بالكامل، وكأنها خرجت لتوِّها من إحدى القصص. كانت ضخمة في نصفها العلوي بسبب وجهها العريض وشعرها الأسود المموج الكثيف والمتشابك، وكتفيها العريضتين، على الرغم من أن طولها لا يمكن أن يتجاوز خمسة أقدام. اكتفت بالابتسام فقط، إنها تيسَّا القديمة ذاتها. سألتها عن أحوالها، وهو الشيء الذي أفعله دائمًا عندما أراها، حقًّا؛ نظرًا لما كانت تعانيه من مرض امتد لفترة طويلة — أيًّا كانت — وهو الذي أخرجها من المدرسة عندما كانت تقارب الأربعة عشر عامًا. وكذلك فإنني أسألها عن ذلك لأنه ليس هناك الكثير الذي يمكن أن أسأل بصدده؛ فهي لا تنتمي إلى العالم الذي ننتمي جميعنا إليه؛ فهي لا تذهب لأي نوادٍ، ولا تستطيع المشاركة في أي أنشطة رياضية، ولا تحيا حياة اجتماعية طبيعية. إنها بالطبع تحيا حياة تضم أناسًا كثيرين، ولا غبار على ذلك، لكني لا أدري كيف أتحدث عن هذا الأمر، وربما هي أيضًا لا تدري كيف تتحدث عنه.

كان السيد ماك ويليامز يعاون زوجته في المتجر بسبب عدم تمكُّن الموظفين من الحضور، وكان شخصًا يحب إغاظة الآخرين على نحو مستفز، وشرع في إغاظة تيسَّا، وراح يسألها إن كانت تعلم بأمر قدوم العاصفة مسبقًا، ولمَ لم تخبر الجميع بشأنها، إلى آخر مثل هذه الأمور. طلبت منه السيدة ماك ويليامز أن يتوقف، وبدت تيسَّا وكأنها لم تسمع ما قاله، وطلبت علبة من السردين. انتابني فجأة شعور كريه وأنا أتخيلها تتناول عشاءها المكوَّن من علبة سردين. وهو شيء يصعب تصوره، ولا أرى سببًا يمنعها من طهي وجبتها كأي شخص آخر.

ومن الأخبار الهامة التي سمعتها في المتجر انهيارُ سقف مسرح فرسان بيثياس، وكان هذا هو المسرح الذي كنا سنعرض مسرحية «الجناديلي» على خشبته، والتي كان من المفترض أن يبدأ عرضها في نهاية مارس. ولا يتسع مسرح مبنى البلدية لعرضها، أما دار الأوبرا القديمة فهي تستخدم الآن لتخزين النعوش لصالح متجر أثاث هاي. ومن المفترض أننا لدينا بروفة الليلة، لكني لا أدري مَن الذي سيذهب إلى هناك وما ستسفر عنه الأمور.

•••

السادس عشر من مارس، قرار بوقف عرض مسرحية «الجناديلي» لهذا العام، ولم يكن قد ذهب إلى البروفة في مسرح مدرسة الأحد سوى ستة منا فقط؛ لذا توقفنا وذهبنا إلى منزل ويلف لاحتساء بعض القهوة. وأعلن ويلف أيضًا أنه كان قد قرر أن يكون هذا آخر عرض له بسبب انشغاله الشديد في عمله، وأنه لم يعد لديه متسع من الوقت، وعليهم أن يجدوا مغنيًا آخر. ستكون تلك ضربة قاصمة؛ لأنه الأفضل على الإطلاق.

ما زلت أشعر ببعض الاستغراب وأنا أنادي ويلف الطبيب باسمه الأول، حتى وإن كان يقارب الثلاثين فقط؛ فقد اعتاد الناس على أن يطلقوا على منزله منزل الطبيب كوجان، ولا يزال الكثيرون يطلقون عليه ذلك إلى الآن؛ حيث شُيد هذا المنزل خصوصًا لكي يكون منزل طبيب؛ إذ يقع جناح المكتب خارجه في أحد جوانب المنزل. لكن ويلف قام بإعادة بنائه من جديد؛ حيث قام بهدم بعض الحوائط تمامًا، فأصبح رحبًا وفسيحًا وأكثر إضاءة، ومازحه سيد رالستون قائلًا إنه يعدُّه من أجل زوجة المستقبل. كان ذلك موضوعًا شديد الحساسية بسبب وجود جيني، لكن ربما لم يكن سيد على علم بذلك الأمر (تلقت جيني ثلاثة عروض بالزواج؛ الأول من ويلف ربستون، ثم أعقبه عرض تومي شتلز، ثم عرض يوان ماكاي. طبيب، ثم طبيب عيون، ثم كاهن. إنها تكبرني بثمانية أشهر فقط، لكني لا أعتقد أن لديَّ أملًا بأن أحظى بما حظيت به. أظن أنها تغويهم بعض الشيء، بالرغم من أنها تقول دومًا إنها لا تستطيع أن تفهم ذلك الأمر، وتصيبها الدهشة الشديدة في كل مرة يطلبون فيها الزواج منها. أعتقد أن هنالك دائمًا أساليب تستطيعين من خلالها أن تحوِّلي كل شيء إلى مزحة، وتجعلي الآخرين يعرفون أنك لن ترحِّبي بعرض الزواج قبل أن تدعيهم يتمادون في الأمر ويجعلون من أنفسهم أضحوكة).

إذا ما حدث وألمَّ بي مرضٌ خطير فآمُل أن أتمكن من تمزيق تلك المذكرات، أو أن أتفحَّصها وأمحو أي شيء وضيع بها؛ خشية أن أموت فيقرأها الناس.

شرعنا في التحدث بأسلوب تشوبه الجدية بعض الشيء، ولا أدري السبب وراء ذلك. وتطرَّق الحوار إلى الأشياء التي تعلَّمناها في المدرسة، وكيف أن الكثير منها سقط من ذاكرتنا، بالفعل. وذكر أحدنا نادي النقاش الذي كان موجودًا في المدينة، وكيف أنه تم التخلص من كل هذه الأشياء بعد الحرب عندما أضحى الجميع يقتنون السيارات التي يتجولون بها، ويذهبون لمشاهدة الأفلام، وبدءوا في ممارسة لعبة الجولف. ومن بين الموضوعات الجادة التي اعتادوا الحديث عنها موضوعات من أمثال: «أيهما يمثِّل أهمية أكثر في تشكيل الشخصية الإنسانية؛ أهو العلم أم الأدب؟» هل بمقدور أي شخص تخيُّل إقناع الآخرين في الوقت الحالي بالتوجُّه للاستماع إلى ذلك؟ إننا أنفسنا نشعر بسخافة الأمر ونحن نجلس بطريقة غير منظمة ونتحدث عن ذلك الموضوع. ثم قالت جيني إنه علينا على الأقل أن نكوِّن ناديًا للقراءة، وجرَّنا ذلك للحديث عن الكتب الهامة التي كنا ننوي قراءتها، لكننا لم نشرع في ذلك على نحو جاد مطلقًا؛ فهناك كتاب «كلاسيكيات هارفرد» الذي يقبع هناك على الرف خلف الباب الزجاجي في غرفة المعيشة، ويمر عام وراء عام دون قراءته. قلت لمَ لا نقرأ كتاب «الحرب والسلام»؟ لكن جيني ادعت أنها قرأته بالفعل؛ لذا تطرَّق الأمر إلى عمل تصويت بين كتابَي «الفردوس المفقود» و«الكوميديا الإلهية»، وفاز كتاب «الكوميديا الإلهية». وكان كل ما نعرفه عنه هو أنه لا يحتوي على الكوميديا ومكتوب باللغة الإيطالية، بالرغم من أننا سنقرؤه باللغة الإنجليزية بطبيعة الحال. اعتقد سيد أنه مكتوب باللغة اللاتينية، وقال إنه قرأ شقًّا كبيرًا منه في فصل السيدة هيرت، وذلك يكفيه طيلة حياته، وصحنا جميعًا فيه، ثم تظاهر بأنه كان يعرف كل شيء طيلة الوقت. وعلى أي حال أمَا وقد توقَّف عرض «الجناديلي» فعلينا أن نخصص بعض الوقت للقراءة، وسنلتقي كل أسبوعين ليشجِّع كلٌّ منا الآخر.

أخذنا ويلف في جولة حول المنزل لنلقي نظرة عليه بأكمله. وكانت غرفة الطعام تقع على أحد جوانب الردهة، بينما تقع غرفة المعيشة على الجانب الآخر، وكان المطبخ يحوي الخزانات المدمجة في الحائط، وبه حوضان للغسيل، وأحدث موقد كهربائي. وهناك غرفة جديدة للغسيل بجانب الردهة الخلفية، ودورة مياه ذات طابع عصري. وكانت الخزانات متسعة بما يكفي للدخول فيها، ومثبَّت بأبوابها مرايا كبيرة بطول مَنْ يقف أمامها. غطَّت الأرضيات الخشبية اللامعة كل مكان في المنزل. وعندما عدتُ إلى منزلي شعرت أن المكان يفتقر إلى الأناقة، ويبدو رثًّا، وأن تلك الألواح الخشبية التي تكسو الجدران الداخلية تبدو كئيبة وذات طراز قديم. تحدثتُ مع أبي على الإفطار أنه بمقدورنا أن نشيِّد غرفة مشمسة بالقرب من غرفة الطعام حتى يكون لدينا غرفة واحدة على الأقل مشرقة وعصرية (نسيت أن أذكر أن ويلف لديه غرفة مشمسة تمتد من الجهة المقابلة للمنزل حتى مكتبه وتضفي توازنًا جميلًا). وجاء رد أبي متسائلًا فيمَ نحتاج ذلك ونحن لدينا شرفتان تستقبلان أشعة الشمس في الصباح وتصلحان للجلوس في المساء؟ لذا وجدتُ أنه من غير المرجح أن أصل لأي حلول فيما يتعلق بخطتي لتحسين المنزل.

•••

الأول من أبريل. أول شيء فعلته عندما استيقظتُ هو خداع أبي بكذبة. هرعت نحو الردهة وأنا أصرخ بأن هناك خفاشًا هبط من المدخنة ودخل إلى غرفتي، فاندفع خارجًا من دورة المياه وحمالة سرواله لأسفل ورغوة الصابون تغطي وجهه، وطلب مني أن أكفَّ عن الصراخ والهستيريا، وأن أذهب لأحضر المقشة. ذهبت لأحضرها، ثم اختبأت خلف الدرج الخلفي متظاهرةً بالخوف والفزع، بينما راح هو يضرب بقوة وقد ارتدى نظارته في محاولة منه للعثور على الخفاش. وقد أشفقت عليه في آخر الأمر، فصحت قائلة: «إنها كذبة أبريل!»

عقب ذلك هاتفتني جيني وقالت: «نانسي، ماذا أفعل؟ شعري يتساقط، إنه يغطي الوسادة، كُتل كبيرة من شعري الجميل تساقطت فوق الوسادة كلها، والآن لقد أصبحت شبه صلعاء، لن أغادر هذا المنزل ثانية، هل بمقدورك المجيء إلى هنا لنرى إذا ما يمكننا أن نصنع منه شعرًا مستعارًا؟»

فقلت بشيء من البرود: «امزجي فقط بعضًا من الدقيق والمياه وقومي بإلصاق الشعر مجددًا، ولكن أليس من الغريب أن يحدث ذلك الخطب في صباح يوم كذبة أبريل؟»

والآن يأتي الجزء الذي لا أتشوق لتسجيله.

سرت حتى منزل ويلف دون أن أنتظر طعام الإفطار؛ لأنني أعلم أنه يذهب إلى المستشفى مبكرًا. فتح الباب الأمامي بنفسه وهو يرتدي صدرية يظهر قميصه من تحتها. لم أفكر أن أتجه إلى المكتب؛ إذ اعتقدت أنه ما زال مغلقًا. وكانت تلك السيدة العجوز التي أوكلَ إليها أمر العناية بالمنزل — والتي لا أعرف حتى اسمها — تتحرك محدِثة ضجة عالية في المطبخ. كان من المفترض أن تفتح هي الباب، لكنه كان هناك في الردهة وعلى وشك المغادرة. قال: «نانسي، ما الأمر؟»

لم أتفوَّه بكلمة، لكنني نظرت إليه بوجه تبدو عليه علامات التألم، وقبضتُ بيدي على حلقي.

«ماذا ألمَّ بكِ يا نانسي؟»

ازداد انقباض يدي على حلقي، وتحدَّثت بصوت متحشرج، ورحت أهز رأسي لأشير إلى أنني لا أستطيع إخباره. يا له من شيء مثير للشفقة!

قال ويلف وهو يقودني خلال الردهة الجانبية ثم عبر باب المنزل حتى وصلنا إلى المكتب: «تفضلي من هنا.» رأيت تلك السيدة العجوز تختلس النظر، لكني لم أبين أنني لمحتها، استمررت فقط في تمثيليتي.

قال وهو يدفعني برفق نحو المقعد المخصص للمرضى ويضيء الأنوار: «والآن، ما الأمر؟» كانت الستائر لا تزال مُسدله، والمكان تنبعث منه رائحة المطهِّر القوية أو ما شابه ذلك. أخرج واحدة من العُصي التي تعمل على خفض اللسان، وتلك الأداة التي يستخدمها لإضاءة موضع الحلق ورؤيته من الداخل.

«والآن افتحي فمك بأقصى ما تستطيعين.»

فعلتُ ذلك، لكن قبل أن يضغط على لساني بذلك الخافض صحت قائلة: «كذبة أبريل.»

لم تبدُ على وجهه أي ابتسامة. قام بإخراج خافض اللسان وأطفأ النور في أداة الكشف، ولم يتفوه بكلمة حتى جذب الباب الخارجي للمكتب بعنف. ثم قال: «لديَّ مرضًى يجب أن أراهم. نانسي، لماذا لا تتعلمين أن تتصرفي حسبما يليق بعمرك؟»

أسرعتُ للخروج من المكان وأنا أشعر بخجل شديد، ولم تكن لديَّ الشجاعة لأسأله لماذا لم يتقبَّل تلك المزحة بصدر رحب! وبالقطع ستقوم تلك الفضولية في مطبخه بنشر ما حدث في المدينة بأكملها، وستقص على الجميع مدى الغضب الذي شعر به، وكيف أنني اضطررت إلى التسلل خارج المنزل وأنا أشعر بمهانة شديدة. ظللت في حالة سيئة طوال اليوم، ومن أسوأ المصادفات الغبية هي أني شعرت بالتعب، والحمى بالفعل، مع قليل من احتقان الحلق؛ لذا جلست في الغرفة الأمامية ووضعت غطاءً فوق ساقيَّ، وأخذت أقرأ كتاب دانتي القديم؛ فمساء الغد هو الموعد المحدد لاجتماع نادي القراءة؛ لذا ينبغي أن أتقدم على الباقين، لكن المشكلة أنه لم يعلق بذهني أي شيء مما قرأته؛ لأنني ظللت طوال وقت القراءة مشغولة بالتفكير؛ أي شيء تافه وغبي ذلك الذي أقدمت على فعله؟ إنني أكاد أسمعه وهو يخبرني بصوت حادٍّ أن أتصرف حسبما يليق بعمري. بَيْدَ أني وجدتني أتجادل معه في ذهني وأردد أنه ليس بالشيء البغيض أن تحظى ببعض المتعة في حياتك. أعتقد أن والده كان قسيسًا، فهل كان ذلك سببًا رئيسيًّا فيما هو عليه؟ إن عائلات أولئك القساوسة تتنقل كثيرًا؛ لذا ربما لم يتسع له الوقت لكي يتعرف على مجموعة من الأصدقاء ينشئون معًا ويفهمون معنى أن يلهوا معًا ويتصرفون بحماقة بعضهم مع بعض.

أستطيع رؤيته الآن وهو يفتح الباب بالصدرية التي يرتديها، وبقميصه المُنَشَّى؛ طويل القامة ونحيل يشبه السكين في حدته، شعره مصفف ومفروق بعناية، وله شارب مستقيم. يا لها من كارثة!

رحت أتساءل إن كان بإمكاني أن أبعث له برسالة أشرح له فيها أن المزحة في رأيي لا تُعد نوعًا من الإهانة. أم يا ترى من الأفضل أن أكتب مجرد اعتذار يتسم بالوقار واللياقة؟

لا أستطيع أن أتشاور في الأمر مع جيني؛ لأنه كان قد طلب الزواج منها؛ مما يعني أنه يراها شخصًا أكثر جدارة مني. كذلك فإنني في حالة مزاجية جعلتني أتساءل إن كان من الممكن أن تستخدم جيني تلك المعلومات ضدي وتنشرها سرًّا (حتى وإن كانت قد رفضت مطلبه).

•••

الرابع من أبريل. لم يظهر ويلف في اجتماع نادي القراءة؛ لأن زميلًا قديمًا له أصيب بسكتة دماغية؛ لذا كتبتُ رسالة لأبعثها له، وحاولت أن أجعلها في صورة اعتذار، لكن دون أن يشوبها الإهانة. كان ذلك الأمر يزعجني على نحو يفوق الحد، لكن لم تكن الرسالة هي مصدر ضيقي، إنما ما فعلته أنا.

•••

الثاني عشر من أبريل. تلقَّيت أكثر شيء أثار دهشتي خلال حياتي القصيرة الحمقاء وأنا أفتح الباب في ظهيرة ذلك اليوم. كان والدي قد وصل لتوِّه إلى المنزل وجلس يتناول العشاء، ووجدت ويلف بالباب. لم يردَّ مطلقًا على الرسالة التي بعثتُ له بها، وسلَّمت بأنه يشعر نحوي بالاشمئزاز، وينوي تجنُّبي للأبد، وكان كل ما في وسعي أن أفعله في المستقبل هو أن أحاول تجاهله؛ لأنني ليس لديَّ خيار آخر.

سألني إن كان أزعجني وقطع عليَّ وجبة العشاء.

لم يكن ليفعل؛ لأنني كنت قد قررت الامتناع عن تناول وجبة العشاء حتى أفقد خمسة أرطال من وزني. فبينما كان والدي والسيدة بوكس يتناولان عشاءهما، كنت قد ذهبت إلى غرفتي وأغلقت الباب فحسب، واستأنفت قراءة دانتي.

أجبته بالنفي.

سألني إن كنتُ أرغب في نزهة بالسيارة؛ فبإمكاننا أن نرى الثلوج وهي تتساقط فوق النهر. ثم استأنف حديثه موضحًا أنه ظل مستيقظًا طوال الليل، وأن عليه أن يفتح عيادته في الواحدة، وهو الأمر الذي لا يسمح له بأن يأخذ غفوة قصيرة؛ لذا فإن بعضًا من الهواء المتجدد سيشعره بالانتعاش. لم يوضِّح سبب بقائه مستيقظًا طوال الليل؛ لذا خمَّنت أن يكون السبب ولادة طفل، وأنه ظن أنني قد أشعر بالحرج إن أخبرني.

أخبرته أنني كنت على وشك قراءة الجزء المخصص لهذا اليوم.

قال: «امنحي نفسك راحة من دانتي لبعض الوقت.»

لذا ذهبتُ لأحضر معطفي، وأخبرت أبي بأني ذاهبة للخارج، واستقللت معه السيارة. توجَّهنا نحو الجسر الشمالي حيث تجمَّع العديد من الأشخاص؛ معظمهم من الرجال والأطفال في ساعة راحتهم لتناول العشاء؛ وذلك لكي يشاهدوا تجمعات الثلوج. لم تكن ثَمَّةَ كتل هائلة منه هذا العام؛ حيث تأخر فصل الشتاء كثيرًا في بدايته. ومع ذلك كانت الثلوج تصطدم بدعامات الجسر فتتفتت محدِثة بعض الصوت كما هو الحال دائمًا عندما تتخلل بعض تيارات المياه الصغيرة تلك الدعامات. وليس ثَمَّةَ ما تفعله سوى الوقوف والنظر إليها مشدوهًا ومسحورًا بمنظرها الأخَّاذ. شعرتُ ببرودة في قدميَّ. قد تكون الثلوج آخذة في الذوبان، لكن يبدو أن برودة الشتاء لم تستسلم بعد، وبدا الربيع بعيدًا كل البعد، وتساءلت أنَّى لبعض الناس أن يقفوا هناك ويعتبروه شيئًا مسليًا بدرجة تجعلهم يقفون ويرقبونه لساعات؟

لم يستغرق الأمر طويلًا ليشعر ويلف بالسأم أيضًا. عدنا أدراجنا إلى السيارة، وبدا كل واحد منا منتظرًا أن يتحدث الآخر، ثم قررتُ أن أستجمع شجاعتي لأواجه الموقف، وسألته مباشرة: «هل تلقيتَ رسالتي؟»

فقال إنه تلقَّاها بالفعل.

قلت له إنني شعرتُ بحماقة ما فعلت (كان ذلك صحيحًا، لكن ربما شاب لهجتي بعض الندم على نحو أكثر مما قصدت).

قال: «لا عليكِ، دعكِ من هذا.»

عاد بالسيارة للوراء ثم اتجه صوب المدينة وقال: «كنت آمل في طلب الزواج منك، غير أنني لم أُرِد أن أقولها هكذا، كنت أريد أن أمهِّد للأمر بصورة أفضل، في موقف أكثر ملاءمة.»

سألته قائلة: «هل تعني أنك كنت تأمل في ذلك ولكنك لا تريد ذلك الآن؟ أم تقصد أنك ترغب في ذلك بالفعل الآن؟»

أُقسِم أنني حين تفوَّهت بهذا لم أكن أستحثُّه على شيء، بل كنت أريد منه توضيحًا للأمور فقط.

قال: «أعني أنني أرغب بالفعل.»

خرجت كلمة «أوافق» من فمي حتى قبل أن أتغلب على صدمتي من المفاجأة. لا أدري كيف أفسر الأمر؛ لقد قلتُ أوافق بأسلوب هادئ مهذب دون أن يبدو عليَّ شغف أو لهفة؛ مثلما تقول أوافق على تناول قدح من الشاي. بل إنني لم أتصرف بأسلوب ينمُّ عن شعوري بالدهشة. بدا وكأنه عليَّ أن أعمل على أن نتخطَّى تلك اللحظة سريعًا لنشعر بعدها بالاسترخاء ونتصرف بصورة طبيعية، برغم حقيقة أنني لم أشعر مطلقًا بأي نوع من الراحة والاسترخاء مع ويلف؛ ففي بعض الأحيان كنت أشعر بالارتباك والحيرة نحوه، وكنت أراه مخيفًا ومضحكًا في ذات الوقت، إلا أنه منذ موقف كذبة أبريل التعيس لم يكن يعتريني سوى الشعور بالإحراج الشديد. أتمنى أنني لم أوافق على طلبه حينها لمجرد التغلب على ذلك الشعور بالإحراج. أتذكر وقتها أنني حدَّثت نفسي بأنه ربما كان عليَّ أن أسحب موافقتي، وأن أخبره أنني أحتاج المزيد من الوقت لأفكر في الأمر، لكنني بالكاد كنت أستطيع أن أفعل هذا دون أن أضع كلانا في حالة من الإحراج الشديد، بالإضافة إلى أنني لا أعرف ما هو الأمر الذي سأفكر به.

تمت خطبتي لويلف. لا أستطيع أن أصدِّق هذا. هل يسير الأمر على هذا النحو مع الجميع؟

•••

الرابع عشر من أبريل. جاء ويلف إلى منزلنا وتحدَّث مع أبي، وذهبت أنا لأتحدث مع جيني؛ فتحدثتُ إليها مباشرة وبصراحة، واعترفتُ لها أنني أشعر بالحرج وأنا أخبرها بذلك، ثم قلت لها إنني أتمنى ألا تمانع في أن تكون وصيفة الشرف. قالت إنها بالطبع لا تمانع، ثم تأثر كلانا بالموقف وتعانقنا، ونحن نتنفس الصعداء.

قالت: «لا يُقارن الزملاء بالأصدقاء مطلقًا.»

غلبت عليَّ حالة من التهور، وأخبرتها أن الخطأ كان خطأها على أي حال.

وأخبرتها أنني لم أستطع أن أتحمَّل فكرة أن تخذل فتاتان هذا الرجل المسكين.

•••

الثلاثون من مايو. لم أدوِّن شيئًا هنا منذ فترة طويلة؛ لأني كنت غارقة في دوامة من الأشياء التي يجب عليَّ إنجازها. حدَّدنا موعد الزفاف في العاشر من يوليو، وتعكف السيدة كورنيش على حياكة فستاني، وتُفقدني صوابي وأنا أقف أمامها مرتدية ملابسي الداخلية فقط وقد شبكتها جميعها بالدبابيس مع القماش وهي تصيح فيَّ بأن أقف ثابتة في مكاني. كان الفستان من قماش المركيزيت الأبيض، ولن يكون للفستان ذيل؛ لأنني أخشى أن أطأ فوقه وأتعثر فيه. ثم اشتريت جهاز العروس المكون من نصف دستة من قمصان النوم الصيفية، ورداء الكيمونو الياباني من الحرير المموج بنقوش زهرة الزنبق، وثلاث منامات شتوية، اشتريتها جميعًا من متجر سيمبسون في تورونتو. في الواقع ليست المنامة هي أفضل ما تبتاعه العروس في جهازها، ولكن قمصان النوم لا تُشعر بالدفء، وأنا أبغضها على أي حال؛ لأنها دائمًا ما تنكمش وتعلَّق عند الخصر في نهاية الأمر. وقد ابتعت كميات من القمصان الداخلية الحريرية وأشياء أخرى بلون الخوخ أو «بلون البشرة». قالت جيني إنه عليَّ أن أبتاع كميات من تلك الأشياء وأحتفظ بها كلما سنحت لي الفرصة؛ لأنه إن اندلعت حرب في الصين فستصبح الكثير من الملابس الحريرية نادرة للغاية؛ فهي تتابع الأخبار كعادتها دومًا. وكان رداؤها كوصيفة شرف من اللون الأزرق الفاتح.

وشرعت السيدة بوكس بالأمس في إعداد كعكة الزفاف، ومن المفترض أنها ستستغرق ستة أسابيع حتى يتم إعدادها وتنضج، وبذا سيتم إعدادها في آخر لحظة قبل الموعد. كان عليَّ أن أساعد في عملية التقليب والإعداد ليجلب لي ذلك الحظ، وكان العجين مثقلًا بالفواكه لدرجة اعتقدت معها أن ذراعيَّ ستسقطان. وكان أولي موجودًا، فراح يساعدني في التقليب دون أن تلاحظ السيدة بوكس. ما الحظ الذي سيجلبه ذلك؟ لا أدري.

أولي هو ابن عم ويلف، وقدم في زيارة إلى المدينة ستستمر شهرين. وبما أن ويلف ليس له أخ فسيكون هو — أولي — الإشبين. إنه يكبرني بسبعة أشهر فقط، فبدوت أنا وهو وكأننا لا نزال أطفالًا، بينما لم يكن ويلف كذلك (ولا أستطيع أن أتخيل أنه كان طفلًا بالفعل في يوم من الأيام). مكث أولي في مصحة لعلاج الدرن لمدة ثلاث سنوات، لكنه أصبح الآن في حال أفضل. أحدث له الأطباء انخماصًا جزئيًّا في إحدى رئتيه حينما كان هناك، كنتُ قد سمعت بهذا واعتقدت أنه ربما كان عليه أن يعيش برئة واحدة، لكن ذلك لم يكن صحيحًا؛ لقد قاموا بعمل ذلك حتى تتوقف الرئة عن وظيفتها بينما يعالجونها بالعقاقير ويعملون على تكيُّس العدوى؛ وذلك حتى لا تنشط (أترون كيف اكتسبتُ معرفة طبية الآن بما أنني خُطبت وسأتزوج من طبيب). وبينما كان ويلف يشرح ذلك، وضع أولي يده فوق أذنيه، وقال إنه لا يريد أن يفكر بما حدث لرئتيه، وراح يتظاهر بأنه أجوف من الداخل كعروسة مصنوعة من مادة السيليولويد. كانت شخصيته مناقضة لويلف تمامًا، إلا أنه كان هناك انسجام كبير بينهما.

أحمد الله أننا سنقوم بتزيين الكعك بطريقة محترفة عند صانع الحلوى؛ فلا أعتقد أن السيدة بوكس ستتحمل المزيد من الضغط.

•••

الحادي عشر من يونيو. بقي أقل من شهر على حفل الزفاف، يجب ألا أكون جالسة هنا الآن لأكتب، بل عليَّ أن أراجع قائمة هدايا الزفاف، لا أستطيع أن أصدق أن كل تلك الأشياء ستئول إليَّ. كان ويلف يلحُّ عليَّ في اختيار ورق الحائط. كنت أظن أن جميع الغرف مملطة بالجص ومدهونة باللون الأبيض؛ لأن ذلك هو ما يفضله ويلف، لكن يبدو أنه كان قد تركها كذلك حتى تختار زوجته المستقبلية ورق الحوائط. أخشى أنني كنت أبدو متحيرة بالمهمة، لكني استجمعت شتات نفسي وأخبرته أن ذلك ينمُّ عن كياسته ومراعاته للرأي الآخر، غير أني لا أستطيع تخيل ما أريده إلا بعد أن أنتقل للعيش هناك بالفعل (لا بد وأنه كان يتمنى أن يكون كل شيء قد تم الانتهاء منه حين عودتنا من شهر العسل)، لكني بذلك قد أرجأت كل شيء.

ما زلت أذهب إلى الطاحونة يومين في الأسبوع، وتوقعت نوعًا ما أن يستمر ذلك لما بعد الزواج، لكن أبي أخبرني أنه بالقطع لن يستمر الوضع على ما هو عليه. واستمر في حديثه كما لو أن تعيين امرأة متزوجة أمرٌ غير قانوني، ولا يتم التعيين إلا إذا كانت أرملة أو تعاني ظروفًا قاسية، لكني أوضحت له أنه ليس بتعيين طالما أنه لا يدفع لي راتبًا على أي حال. ثم شرع في قول ما كان متحرجًا من قوله في البداية، وهو أنه حينما أتزوج سيكون هناك فترات انقطاع أتوقف فيها عن ممارسة مهامي.

قال: «هناك أوقات لن تتمكني فيها من الخروج إلى الأماكن العامة.»

احمرَّ وجهي خجلًا كالبلهاء وقلت له: «لا أعرف شيئًا مما تتحدث عنه.»

لذا خطر على ذهنه (أي أبي) أنه سيكون شيئًا جيدًا إن حلَّ أولي مكاني فيما أقوم به من عمل، وأنه يأمل (أبي) أن يبذل أولي كل ما في وسعه في هذا النشاط التجاري، ويلمَّ به تمامًا ليتمكن في النهاية من تولي جميع الأعمال والمهام. ربما كان أبي يتمنى أن أتزوج شخصًا يمكنه القيام بذلك، برغم أنه يعتقد أن ويلف «شخص ممتاز ومن الطراز الأول». ولأن أولي غير مرتبط بأي عمل في الوقت الحالي، وهو شخص متعلم يتسم بالذكاء (رغم أني لا أعلم قدر التعليم الذي تلقَّاه وأين، إلا أنه من الواضح أن لديه قدرًا من المعرفة يفوق بالفعل أي شخص هنا)؛ لذا فهو الاختيار الأمثل؛ ولهذا السبب اصطحبته إلى المكتب بالأمس وأطلعته على الدفاتر وغير ذلك، وأخذه أبي وقدَّمه إلى الرجال هناك وإلى كلِّ مَن تصادف وجوده في المكان، وبدا وكأن الأمور تسير على ما يرام. كان أولي شخصًا نابهًا وأبدى قدرًا من الجدية في المكتب، ثم بدا مرحًا ينشر الضحكات (لكن في حدود) بين الرجال، بل إنه غيَّر من أسلوب حديثه بالقدر الصحيح، وكان أبي سعيدًا بهذا، وشعر بأنه جاء عونًا له. عندما ألقيت عليه تحية المساء قال: «إنه لمن حسن حظي أن يظهر ذلك الرجل هنا الآن. إنه شخص يبحث عن مستقبل ومكان يستقر به.»

لم أعارض ذلك، بل اعتقدت أن هناك فرصة كبيرة أمام أولي ليستقر هنا ويدير طاحونة الفرم، تمامًا مثلما كانت لديَّ أنا فرصة للمشاركة في عرض زيجفيلد فوليز المسرحي.

أعتقد أنه لا يسعه إلا أن يقوم بعمله على نحو متميز.

وفكَّرت ذات مرة بأن جيني يمكن أن تحمل عني مسئولية أولي. إنها مثقفة وتدخِّن، وبالرغم من أنها تذهب إلى الكنيسة فإن آراءها من ذلك النوع الذي يعتبره الآخرون إلحادية. وأخبرتني أنها لا تعتقد أن أولي سيئ المظهر بالرغم من أنه يُعدُّ قصير القامة (أعتقد أن طوله حوالي خمسة أقدام وثماني بوصات أو تسع)، وعيناه زرقاوان كما تحب، ولديه ذاك الشعر البني بلون حلوى الزبد الاسكتلندية، الذي يسقط بعضه في تموجات خفيفة فوق جبهته ويوحي ببعض الجاذبية المتعمدة. كان لطيفًا معها بالقطع حينما التقى بها وشجَّعها على أن تتحدث كثيرًا، وبعد أن غادرت إلى منزلها قال لي: «أعتقد أن صديقتك الصغيرة على قدر من الثقافة، أليس كذلك؟»

«صغيرة؟» إن جيني تكاد تماثله في الطول، وكنت على وشك أن أخبره بذلك، لكنه من الوضاعة أن أشير إلى شيء يتعلق بالطول وأنا أتحدث مع رجل يعاني من نقص في ذلك الجانب؛ لذا آثرت الصمت. ولم أدرِ ماذا أقول فيما يتعلق بجانب الثقافة؛ ففي رأيي أن جيني على قدر من الثقافة (فهل قرأ أولي مثلًا رواية الحرب والسلام؟) لكني لم أستطع أن أخمِّن من أسلوب كلامه إن كان يقصد أنها كذلك أم لا. وكل ما أستطيع قوله هو أنه إن كان يقصد أنها مثقفة، فذلك أمر لا يهتم به، أما إن لم تكن كذلك، فقد تصرَّفت وكأنها على قدر من الثقافة؛ وذلك شيء لا يهتم به أيضًا. كان ينبغي أن أقول شيئًا ثقيل الظل مثل: «إنني لا أستطيع أن أفهمك.» لكني بالقطع لم أفكر في شيء كهذا إلا فيما بعد، لكن الشيء الأسوأ هو أنه بمجرد أن قال ذلك تكوَّنت بداخلي بعض الأفكار والآراء بشأن جيني، وبينما كنت أدافع عنها (في أفكاري)، وجدتني بطريقة خبيثة أتفق معه تمامًا، ولا أدري إن كانت ستبدو — كما كانت — في رأيي على هذا القدر من الذكاء في المستقبل أم لا.

كان ويلف موجودًا بالقرب منا، وبالطبع سمع ذلك الحوار، لكنه لم يقل شيئًا. ربما كنت أستطيع أن أسأله إن لم يكن قد شعر بأنه يريد أن يدافع عن الفتاة التي تَقدَّم للزواج منها في يوم من الأيام، لكنني لن أصرح له مطلقًا بأني أعرف ذلك الأمر. كان عادة ما يسمعني أتحدث أنا وأولي وهو يحني رأسه قليلًا للأمام (وهو الأسلوب الذي يتبعه مع معظم الناس؛ فقد كان طويل القامة جدًّا) وعلى وجهه شبه ابتسامة. ولا أدري إن كانت ابتسامة أم أن تلك حركة فمه المعتادة. كانا يأتيان كلاهما في الأمسيات إلى منزلنا، وينتهي الأمر بأن يلعب كلٌّ من أبي وويلف الورق، بينما نمضي أنا وأولي الوقت في تجاذب أطراف الحديث على نحو متباسط، أو نلعب ثلاثتنا — أنا وأولي وويلف — لعبة البريدج التي تحتاج ثلاثة لاعبين (لم يعتَد أبي على لعب البريدج؛ لأنه يعتقد أنها تنمُّ عن الغرور والتكبر)، وفي بعض الأحيان كان ويلف يتلقى مكالمة هاتفية من المستشفى أو من إلسي بانتون (مديرة منزله التي لا أتذكر اسمها دومًا، فكنت أصيح سائلة السيدة بوكس) فيضطر للمغادرة، وفي أحيان أخرى عندما ننتهي من لعب الورق، كان يجلس قبالة البيانو ويشرع في العزف بمهارة دون أن يكون أمامه نوتة موسيقية، بل وربما يستطيع العزف في الظلام. كان أبي يتجول في الشرفة ثم يأتي ليجلس معي أنا وأولي، وينصت ثلاثتنا لعزفه ونتمايل على أنغامه. كان يبدو وقتها أن ويلف يعزف لنفسه وكأن أداءه غير موجَّه لنا؛ فلم يكن يهتم إن كنا ننصت له أم لا، أو إذا ما كنا قد بدأنا في الحديث ثانية، وهو ما كنا نقوم به بالفعل في بعض الأحيان؛ لأن معزوفاته قد تكون كلاسيكية بعض الشيء لأبي الذي كانت أغنيته المفضلة «منزلي القديم في كنتاكي». فكان ينتاب أبي حينها شعورٌ بعدم الراحة؛ فقد كان ذلك النوع من الموسيقى يُشعره بالدوار وكأن العالم يلفُّ من حوله؛ لذا كنا نبدأ في الحوار ثانية من أجل أبي. ثم يكون هو — أي أبي — من يبدأ في إخبار ويلف بأننا جميعًا استمتعنا بعزفه، فيشكره ويلف بأسلوب مهذب، لكنه يكون شارد الذهن. ولم نكن أنا وأولي نعقِّب بشيء؛ لأننا نعلم أنه في تلك الحالة لا يهتم برأينا بطريقة أو بأخرى.

وفي مرة من المرات دُهشت؛ إذ وجدت أولي يشدو بهمس مع عزف ويلف.

«الفجر يبزغ وبير جينت يتثاءب …»

فهمست قائلة: «ماذا؟»

قال أولي: «لا شيء، إنها الأغنية التي يعزفها.»

جعلتُه يتهجى ببطء ب-ي-ر-ج-ي-ن-ت.

ينبغي أن أعرف أكثر عن الموسيقى؛ فهي ستكون شيئًا مشتركًا بيني وبين ويلف.

أصبح الطقس حارًّا فجأة. تفتَّحت زهور الفاوانيا بالخارج وازداد حجمها، وتساقطت زهرات سبيريا من شجيراتها وكأنها ثلوج متساقطة. تجوَّلت السيدة بوكس بالخارج وألقت نظرة على الزهور وهي تقول إذا استمر الطقس هكذا فستجفُّ الزهور كلها بحلول موعد الزفاف.

وبينما أكتب هذا كنت قد احتسيت ثلاثة أقداح من القهوة ولم أصفف شعري بعد. قالت السيدة بوكس: «سيتعيَّن عليكِ تغيير نمط حياتك في القريب العاجل.»

قالت ذلك لأن إلسي ثينجامابوب أخبرت ويلف أنها ستستقيل من عملها حتى أكون أنا مسئولة عن تدبير شئون المنزل.

لذا فأنا الآن أغيِّر من أسلوب حياتي، ووداعًا لمذكراتي على الأقل في الوقت الحالي. كان دائمًا ما يلازمني ذلك الشعور بأن هناك شيئًا غريبًا سيحدث في حياتي؛ لذا من المهم أن أدوِّن كل شيء. فهل كان ذلك مجرد شعور؟

فتاة بلباس البحارة

قالت نانسي: «لا تعتقد أن بمقدورك أن تجلس هكذا في تراخٍ وتكاسل، لديَّ مفاجأة لك.»

قال أولي: «أنتِ دومًا محمَّلة بالمفاجآت.»

كان هذا يوم الأحد، وتمنَّى أولي أن يأخذ قسطًا من الراحة والاسترخاء. لقد كانت طاقة نانسي الزائدة شيئًا لا يُكِنُّ له أولي كثيرًا من التقدير.

افترض أولي أنها ستكون بحاجة إلى هذه الطاقة في القريب العاجل؛ لأنها ستساعد في شئون المنزل، وهو ما سيعتمد عليه ويلف بأسلوبه الاعتيادي الذي يشوبه بعض البرود.

توجَّه ويلف مباشرة إلى المستشفى بعد أن غادر الكنيسة، وعاد أولي لتناول العشاء مع نانسي ووالدها. كانوا عادة ما يتناولون إحدى الوجبات الخفيفة الباردة أيام الآحاد؛ فالسيدة بوكس تذهب إلى كنيستها في ذلك اليوم وتقضي فترة ما بعد الظهيرة تستمتع براحة طويلة في منزلها الصغير. ساعد أولي نانسي في تنظيف وترتيب المطبخ، وترامى إلى مسامعهم أصوات شخير تأتي من غرفة الطعام.

قال أولي بعد أن ألقى نظرة صوب الحجرة: «إنه أبيكِ، لقد غلبه النوم وهو جالس في مقعده الهزاز ومجلة «ساترداي إيفننج بوست» على ركبتيه.»

قالت نانسي: «إنه لا يعترف أبدًا أن النوم سيغلبه بعد ظهيرة أيام الآحاد؛ فهو يعتقد دومًا أنه سيقرأ.»

كانت نانسي ترتدي مئزرًا للمطبخ وتربطه حول خصرها؛ ولم يكن من ذلك النوع الذي يُستخدم في أعمال المطبخ الشاقة. قامت بخلعه وتعليقه فوق مقبض الباب، ونفشت شعرها أمام مرآة صغيرة مثبَّتة بجوار باب المطبخ.

قالت بصوت يشوبه الشكوى، لكنه لا ينم عن الاستياء: «إن مظهري غير مهندم.»

قال: «هذا حقيقي، ولا أدري ما الذي رآه ويلف فيكِ.»

قالت: «انتبه لكلماتك وإلا لكمتُك.»

قادته خارج باب المطبخ، ثم تجولا حول شجيرات الكشمش، وأسفل شجرة القيقب حيث كانت تضع أرجوحتها كما أخبرته بالفعل مرتين أو ثلاث مرات. ثم سارا بعد ذلك عبر الممر الخلفي حتى نهاية المربع السكني. لم يكن ثَمَّةَ أحد يقوم بجز الحشائش؛ فهذا يوم الأحد، بل لم يكن هناك أحد على الإطلاق في الأفنية الخلفية، وكانت كل المنازل مغلقة على ما بداخلها، ولها تلك الهيئة الشامخة الساترة على ما فيها كما لو أن بداخل كل منزل أناسًا أجلاء كوالد نانسي يغيبون مؤقتًا عن ذلك العالم وهم يأخذون ما يستحقونه من فترة راحة.

لكن هذا لا يعني أن الهدوء يغلف المدينة بأسرها؛ فبعد ظهيرة يوم الأحد هو الوقت الذي ينزح فيه أهل الريف وبعض من أهل قرى الريف إلى الشاطئ، الذي يبعد عنهم مسافة ربع ميل بالقرب من سفح الجرف. وهناك تختلط صيحات من يلعبون على الزلاقات المائية بصرخات الأطفال وهم يغطسون ويرشون بعضهم بعضًا بالمياه، وتسمع أصوات أبواق السيارات العالية، وعربات الآيس كريم وهي تطلق صفيرها، وهتافات الشباب وهم يتباهون بأنفسهم في حماس، وكذا أصوات الأمهات اللاتي يعتريهن القلق العارم. كل ذلك يمتزج في صيحة واحدة مختلطة.

وعند نهاية الممر، وعبر شارع أقل حالًا وغير ممهد، ظهر مبنًى مهجور قالت عنه نانسي إنه مستودع الثلج القديم، وامتدت خلفه قطعة أرض خاوية، وجسر خشبي يقع فوق قناة جافة، ثم وصلا بعد ذلك إلى طريق يتسع لمرور عربة واحدة؛ أو بالأدق عربة يجرها حصان واحد فقط. وعلى كلا جانبي هذا الطريق اصطف جدار من الشجيرات الشائكة بأوراقها الخضراء الصغيرة البراقة وقد تناثرت عليها بعض الزهور الجافة وردية اللون. ولم تكن تلك الشجيرات تسمح بتخلل النسيم، أو تُلقي بأي ظلال عليهما، وحاولت أغصانها أن تتشابك بكُمَّي قميص أولي.

قالت نانسي عندما سألها في ضيق عما لامسه: «إنها زهور برية.»

«أعتقد أن هذه هي المفاجأة، أليس كذلك؟»

«سترى.»

شعر بالحر الخانق في ذلك الممر الضيق، وتمنَّى لو أنها تبطئ من خطواتها. وكثيرًا ما أدهشه التفكير في طول الوقت الذي يمضيه في التجول مع تلك الفتاة، والتي لم تكن رائعة ومميزة بأي حال من الأحوال فيما عدا كونها مدللة، وتتسم بالجرأة التي تقارب حد الوقاحة والغرور بعض الشيء. ربما كان يحب إزعاجها. إنها فقط تتسم بذكاء يفوق سائر الفتيات، وهذا هو ما يجعله يفعل ذلك.

كل ما استطاع أن يراه، من على بعد، هو سقف أحد المنازل تحفُّه بعض الأشجار لتُلقي بظلالها فوقه فتغطِّيه، وبما أنه لم يكن هناك أمل في الحصول على أي معلومات من نانسي، راح الأمل يداعبه بالجلوس في مكان بارد ومنعش عندما يصلان إلى هناك.

قالت نانسي: «ربما لديها صحبة الآن. ربما عَلِمَت.»

رأوا عند المنعطف في نهاية الطريق سيارة قديمة شديدة الاتساخ من طراز فورد موديل تي.

قالت: «على أي حال إنها سيارة واحدة فقط، لنأمل أن يكونوا قاربوا على الانتهاء.»

لكنهم عندما بلغوا السيارة لم يخرج لهم أحد من المنزل الجميل ذي الطابق والنصف، المشيد من الطوب والذي يُطلق عليه الطوب الأبيض في هذا الجزء من المدينة، والطوب «الأصفر» في المنطقة التي أتى منها أولي (وهو في حقيقة الأمر ذو لون داكن ويبدو متسخًا). لم يكن هناك سور حول المنزل؛ مجرد حاجز من الأسلاك المحيطة بالفناء الذي يحتوي على حشائش غير مقلمة. ولم يكن هناك ممر أسمنتي من البوابة إلى باب المنزل، إنما مجرد طريق تغطِّيه القاذورات. وهو شيء معتاد خارج البلدة؛ فليس لدى كل المزارعين أرصفة ممهدة أو ماكينات لتهذيب الحشائش.

من المرجَّح أنه كانت توجد هنا أحواض من الزهور؛ على الأقل بعض من الزهور البيضاء والصفراء المنتشرة حول المنزل أو هناك وسط الحشائش الطويلة. كان على ثقة أنه كانت هناك بعض زهور الأقحوان، لكنه لم يهتم بسؤال نانسي؛ إذ يحتمل أن تُسمعه بعضًا من تصحيحاتها الساخرة.

قادته نانسي نحو أثر أصلي بقي من الأيام الخوالي الجميلة التي اتسمت بالبطء والتمهل؛ أرجوحة خشبية مكتملة غير مطلية، لها مقعدان يواجه أحدهما الآخر. ويبدو أن أحدًا لم يطأ الحشائش بالقرب منها في هذا المكان؛ فمن الواضح أن تلك الأرجوحة لم تُستخدم كثيرًا، وقد استقرت أسفل ظلال شجرتين مورقتين. وبمجرد أن استقرت نانسي فوقها نهضت ثانية وراحت تدفع نفسها للأمام وللخلف بعد أن ثبَّتت نفسها وسط المقعدين لتتحرك بذلك الشيء الغريب محدثة صريرًا عاليًا.

قالت: «سيجعلها هذا الصوت تعرف أننا هنا.»

قال: «يجعل من؟»

«تيسَّا.»

«أهي صديقة لك؟»

«بالطبع.»

قال أولي دون حماس: «أهي صديقة لك كبيرة في السن؟» كانت قد تسنَّت له العديد من الفرص ليرى كم كانت نانسي تضيع الكثير من وقتها وتُظهر ما يسمى — في بعض كتب الفتيات التي ربما تكون قد قرأتها أو التي تأثرت بها — بالجانب المشرق من شخصيتها. وقد جال بخاطره مضايقتها ومداعبتها البريئة للرجال الكبار في المصنع.

«لقد كنا نذهب للمدرسة معًا، أنا وتيسَّا.»

جعله ذلك يتذكر شيئًا آخر طاف بذهنه؛ الطريقة التي رتَّبت بها لقاءه مع جيني في محاولة لجذب كليهما للآخر.

قال أولي: «وما الشيء المثير للاهتمام فيها؟»

قالت له: «سترى. آه يا إلهي!»

قفزت من منتصف الأرجوحة واتجهت نحو طلمبة المياه اليدوية بالقرب من المنزل، وبدأت تضخ بهمة ونشاط. كان عليها أن تضخ طويلًا وبعزم شديد قبل أن يبدأ تدفُّق المياه. وحتى مع هذا المجهود لم يبدُ عليها أي أمارات للتعب، بل راحت تستمر في ضخ المياه لفترة قبل أن تملأ ذلك القدح المصنوع من القصدير والمعلَّق بجوار المضخة، ثم حملته، والمياه تفيض منه، واتجهت صوب الأرجوحة. واعتقد أولي من خلال تلك النظرة المتحمسة في عينيها أنها ستقدِّمه له على الفور، لكنها في الحقيقة رفعته نحو شفتيها وتجرعته بسعادة.

قالت وهي تعطيه إياه: «إنها ليست مياه البلدة، إنها مياه الآبار، يا لها من مياه لذيذة!»

كانت فتاة من ذلك النوع الذي يمكن أن يشرب المياه غير المعالَجة من أي قدح قصديري قديم معلق فوق أي مورد مياه (لقد جعلته المصائب التي ألمَّت بجسده أكثر دراية بمثل هذه المخاطر من أي شاب آخر)، وكانت هي شخصية تحب أن تتباهى بالطبع، لكنها كانت في الواقع متهورة بطبيعتها ومحِبَّة للمجازفة، ولديها قناعة تامة بأنها تحيا حياة جذابة.

لم يكن ليقول هذا عن نفسه، إلا أنه كانت لديه فكرة — لم يستطع أن يذكرها دون أن يضفي عليها روح الدعابة — وهي أنه خُلق لشيء غير اعتيادي، وأن حياته سيكون لها معنًى وقيمة مختلفة. وربما هذا هو ما جذب كليهما للآخر، لكن الفرق بينهما هو أنه سيستمر للحصول على ما يريد ولن يرضى بما هو أقل مثلما كان عليها أن تفعل هي — أو مثلما هي الآن بالفعل — كونها فتاة. وقد شعر بالراحة فجأة إزاء فكرة أن مجال الخيارات أمامه أوسع بكثير مما يتاح لأي فتاة، وجعله هذا أيضًا يشعر حيالها بالشفقة، وأن يمرح ويمزح معها. ثَمَّةَ أوقات مرَّت عليهما لم يكن هو بحاجة لأن يسأل خلالها عن سبب وجوده معها، حينما كان يشرع في إغاظتها أو حينما تعمد هي إلى مضايقته وإغاظته، وهو ما جعل الوقت يمر بسرعة دون أن يشعرا به.

كانت المياه لذيذة ومنعشة على نحو رائع.

قالت وهي تجلس في مواجهته: «هناك كثيرون يأتون لزيارة تيسَّا، ولا تعرف أبدًا الوقت الذي يوجد فيه أي شخص عندها.»

قال: «حقًّا؟» وطافت بذهنه فكرة متطرفة بعض الشيء؛ وهي أنها قد تكون على قدر من فساد الأخلاق والتحرر يجعلها تصادق فتاة منحرفة، عاهرة ريفية يتردد عليها الأشخاص دون التقيد برسميات، أو على الأقل لا تزال باقية على أواصر الصداقة بفتاة فسدت أخلاقها.

نجحت في قراءة أفكاره؛ فقد كانت لمَّاحة في بعض الأوقات وعلى قدر من الذكاء.

فقالت: «أوه، لا، إنني لم أقصد أي شيء من هذا القبيل. أوه، إنها أسوأ فكرة يمكن أن أسمعها على الإطلاق؛ فتيسَّا هي آخر فتاة على وجه الأرض يمكن أن … أوه هذا شيء مقزز. عليك أن تشعر بالخجل حيال ما فكرت به. إنها آخر فتاة … سترى بنفسك.» اكتسى وجهها بالحمرة.

فُتح الباب، وظهر رجل وامرأة في منتصف العمر تبدو عليهما علامات الإرهاق، ولكن ليس الإنهاك الشديد، كسيارتهما البالية، ودون إلقاء تحيات الوداع الطويلة المعتادة — أو أيٍّ من تحيات الوداع المسموعة على الإطلاق — سارا عبر الممر ونظرا نحو الأرجوحة ولمحا نانسي وأولي، لكنهما لم يتفوَّها بشيء. والغريب أن نانسي لم تقل شيئًا هي الأخرى، ولم تُلْقِ عليهما أي نوع من أنواع التحية الحارة. توجه الزوجان نحو جانبي السيارة ثم استقلاها وسارا بها مبتعدَيْن.

ثم ظهر شخص عند ظل مدخل الباب وصاحت نانسي قائلة:

«أهلًا، تيسَّا.»

كانت المرأة تشبه طفلًا قوي البنيان، لها رأس ضخم يغطيه شعر مجعد داكن اللون، ولها كتفان عريضتان، وساقان قصيرتان بدينتان. كانت ساقاها عاريتين، وترتدي لباسًا غريب المظهر؛ يتكون من تنورة وكنزة ذات ياقة تشبه ياقات البحَّارة. لقد كان غريبًا بالنسبة لهذا اليوم الحار على الأقل، بالإضافة إلى حقيقة أنها لم تعد فتاةً بالمدرسة. من المرجح أنها كانت ترتدي هذه الملابس منذ أيام الدراسة، ولأنها من الأشخاص المدبرين، احتفظت بها لترتديها هنا في المنزل؛ فمثل هذه الأنواع من الملابس لا تبلى، كما أنها — في رأي أولي — لا تضفي جاذبية على أجسام الفتيات؛ فهي تبدو كالحمقاء فيها، لا تختلف كثيرًا عن غالبية فتيات المدرسة.

جاءت به نانسي وقدَّمته إلى تيسَّا، وقال هو لتيسَّا — بذلك الأسلوب الذي ينطوي على التلميحات، والذي كان مقبولًا عادة لدى معظم الفتيات — بأنه سمع عنها الكثير.

قالت نانسي: «كلا، إنه لم يسمع عنكِ. لا تصدقي حرفًا مما يقوله، إنني أحضرته معي إلى هنا لأني لم أكن أدري ماذا أفعل به في حقيقة الأمر.»

كانت عينا تيسا ناعستَيْن، ولم تكونا شديدتي الاتساع، لكنهما كانتا بلونٍ أزرق فاتح يعكس عمقًا شديدًا على نحو مدهش. وعندما رفعتهما لتنظر نحو أولي زاد تألقهما دون أن يحملا أي تعبيرات تنمُّ عن المودة أو العداء أو حتى الفضول. كان بهما عمق وثقة جعلت من المستحيل على أولي أن يستمر في التلفظ بمجاملات سخيفة.

قالت وهي تتقدم أمامهما لتريهما الطريق: «من الأفضل أن تتفضلا بالدخول، آمل ألا تمانعا في أن أنتهي أولًا من مخض اللبن، لقد كنتُ أقوم بذلك بالفعل عندما قدمت آخر مجموعة فتوقفت حينها، لكن إن لم أستأنف ذلك العمل الآن فقد يفسد الزبد.»

قالت نانسي: «تقومين بمخض اللبن يوم الأحد؟ يا لكِ من فتاة شقية! أترى يا أولي هكذا يُصنع الزبد. أراهن أنكَ تعتقد أنه يأتي جاهزًا مباشرة من البقرة ثم يتم لفه ليرسل إلى المتجر.» ثم وجهت حديثها لتيسَّا: «هيا، باشري عملك، وإن شعرتِ بالتعب يمكنك أن تدعيني أجرب هذا العمل لبرهة. إنني قدمت إلى هنا كي أدعوك إلى حفل زفافي في الواقع.»

قالت تيسَّا: «لقد سمعت بهذا الأمر.»

«كنت سأرسل لك دعوة، لكني لم أكن أدري إن كنت ستنتبهين لها أم لا، واعتقدت أنه من الأفضل أن آتي إلى هنا وأضعك تحت التهديد حتى تؤكدي أنك ستأتين.»

توجَّهوا مباشرة نحو المطبخ، كانت ستائر النافذة مُسدلة وتلامس حافتها، وثَمة مروحة عالية فوقهم تحرك الهواء. كانت تنبعث من المكان رائحة الطبخ، ورائحة بعض النباتات التي تستخدم لقتل الحشرات الطائرة، ورائحة فحم القطران، وأقمشة تجفيف الصحون. ربما تكون كل هذه الروائح عالقة في الجدران وفي الألواح الأرضية منذ عشرات السنين، لكن هناك شخصًا ما تكلَّف عناء طلاء الخزانات والأبواب باللون الأزرق المائل إلى الأخضر، بالطبع هي تلك الفتاة التي تلتقط أنفاسها بصعوبة وتكاد تُطلق صوتًا كصوت الخنزير وهي تقوم بمخض اللبن.

نُثِرت أوراق الصحف حول المكان الذي تعمل به الفتاة في مخض اللبن لحماية الأرضية، التي حوت بعض النُّقر في مسارات المرور المعتادة حول المائدة وعند الموقد. كان أولي في العادة مهذبًا مع معظم فتيات المزارع، ويسألهن دومًا إن كن يرغبن في أن يساعدهن في مخض اللبن، إلا أنه في هذا الموقف لم يكن واثقًا من رغبته في ذلك. إن تيسَّا تلك لا تبدو متجهمة، بل تبدو أكبر من عمرها الحقيقي؛ فهي تتسم بالصراحة المنفرة والاستقلالية إلى حد كبير. حتى نانسي، هدأت بعد فترة ولم تعد تتحدث كثيرًا في وجودها.

تكوَّن الزبد، وقفزت نانسي لتلقي نظرة عليه، ونادته لكي يفعل ذلك هو أيضًا. وتعجَّب من لونه الباهت؛ فهو بالكاد أصفر، لكنه لم يقل شيئًا خشية أن توبِّخه نانسي على جهله، ثم قامت الفتاتان بوضع الكتلة اللزجة الباهتة على قطعة من القماش على الطاولة، ثم راحا يقرعانها قرعًا خفيفًا بملعقة التقليب الخشبية، وبعدها لفَّتاها في قطعة القماش بالكامل. رفعت تيسَّا بابًا في الأرض وحملتاها ونزلتا بها درجتين يوصلان إلى قبو صغير لم ينتبه هو لوجوده لولا أن رآه. وأطلقت نانسي صرخة عالية؛ فقد كادت قدمها أن تَزِلَّ. ظن أولي أن تيسا بمقدورها أن تنجز هذا العمل بصورة أفضل لو كانت بمفردها، لكنها لم تمانع أن تمنح نانسي مزية مساعدتها تمامًا كما يفعل المرء مع طفل لذيذ مشاكس. تركت نانسي تنظف الأرضية وترفع عنها أوراق الصحف، بينما فتحت هي زجاجات من عصير الليمون أحضرتها من القبو. أحضرت كتلة كبيرة من الثلج من مبرد صغير موضوع في أحد جوانب المطبخ، وقامت بغسلها لإزالة بعض نشارة الخشب العالقة بها، وقرعتها بالمطرقة، في حوض الغسيل، حتى تضع بعض الثلوج في أكوابهم. ومرة ثانية لم يعرض هو أي مساعدة أيضًا.

قالت نانسي بعدما تجرَّعت رشفة من عصير الليمون: «والآن يا تيسا، فقد حان الوقت، أَسْدي لي صنيعًا. أرجوكِ هيا.»

شربت تيسا كأس الليمون.

قالت نانسي: «أخبري أولي بما يحمله في جيبه، هيا، ولتبدئي بالجانب الأيمن.»

قالت تيسا دون أن ترفع بصرها نحوه: «أعتقد أنه يحمل حافظة نقوده.»

قالت نانسي: «أوه، استمري، هيا.»

قال أولي: «نعم، إنها أصابت؛ ففيه حافظة نقودي بالفعل. والآن، هل بإمكانها أن تخمِّن محتوياتها؟ فإنها لا تحوي الكثير.»

قالت نانسي: «لا عليك من ذلك، أخبريه يا تيسا بما يحتويه جيبه الأيمن أيضًا.»

قال أولي: «ما هذا على أي حال؟»

قالت نانسي في عذوبة: «هيا يا تيسا، أنت تعرفينني. أتذكرين؟ نحن أصدقاء منذ زمن، نحن أصدقاء منذ السنة الدراسية الأولى. هيا افعلي هذا من أجلي.»

قال أولي: «أهي لعبة؟ هل هذه لعبة اخترعتماها وحدكما وتتفقان عليها؟»

ضحكت نانسي من كلامه.

قالت: «ما الأمر؟ ماذا لديك في جيبك وتشعر بالخجل حياله؟ ألديك جورب قديم كريه الرائحة مثلًا؟»

قالت تيسا في هدوء: «قلم رصاص، بضع نقود، بعض العملات المعدنية، ولكني لا أستطيع أن أحدد قيمتها. أهناك قطعة من الورق مكتوب عليها؟ مطبوع عليها شيء؟»

قالت نانسي: «هيا أفرغ ما في جيبك يا أولي، أفرغ ما في جيبك.»

أردفت تيسا قائلة: «أوه، وقطعة من العلك. أعتقد قطعة من العلك هذا هو كل ما هناك.»

لم تكن العلكة ملفوفة بالورق، وإنما بقطعة من نسيج الكتان.

قال أولي: «لقد نسيتُ وجودها!» بالرغم من أنه لم يفعل.

وأفرغ ما في جيبه، فكان عبارة عن عقب قلم رصاص، بعض العملات المعدنية من النيكل والنحاس، قصاصة من إحدى الصحف مهترئة ومطوية.

قال وقد انتزعتها نانسي على الفور وفتحتها: «أعطانيها أحد الأشخاص.»

قرأت نانسي بصوت عالٍ: «نحن نهتم بشراء المخطوطات النادرة على أن تكون في حالة فوق الممتازة، مخطوطات في كلٍّ من الشعر والأدب، سيتم النظر بجدية إلى …»

انتزعها أولي من يدها.

«لقد أعطاني أحدهم إياها. كانوا يريدون معرفة رأيي إن كانت شيئًا مجديًا أم لا.»

«أوه، أولي.»

«لم أكن أدري أنها ما زالت موجودة، وهكذا الأمر مع قطعة العلك.»

«أوَلم تدهشك تيسا؟»

«بالطبع أنا مندهش، لقد نسيتُ أنا شخصيًّا ما أحمله.»

«أوَلم تُصِبك الدهشة من تيسا؟ مما عرفَتْه؟»

نجح أولي في منح تيسا ابتسامة، بالرغم من أنه كان منزعجًا بشدة، غير أنه لم يكن خطأها.

قال: «إن ما في جيبي يحمله الكثير من الرجال. عملات معدنية؟ بديهي. قلم رصاص …»

قالت نانسي: «وعلك؟»

«محتمل.»

«وماذا عن الورقة المطبوعة؟ تيسا قالت إنها مطبوعة.»

قال: «إنها قالت قصاصة ورق. إنها لم تعرف ما المكتوب عليها.» ثم وجَّه كلامه إلى تيسا قائلًا «لمْ تعرفي، أليس كذلك؟»

هزَّت رأسها نافية علمها، ونظرت باتجاه الباب وهي تنصت.

«أعتقد أن هناك سيارة بالخارج تسير عبر الممر.»

وكانت محقة؛ لقد سمعوا جميعًا صوتها الآن. ذهبت نانسي لتختلس نظرة من خلال الستائر، وخلال تلك اللحظة رمت تيسا أولي بابتسامة غير متوقعة. ولم تكن تلك الابتسامة تنم عن التواطؤ، أو الاعتذار، أو التدلل. ربما هي ابتسامة تنم عن الترحيب، لكنها خالية من أي دعوة صريحة. إنها مجرد تعبير عن الدفء؛ بعض من مشاعر اللطف تجاههما. وفي نفس الوقت حرَّكت كتفيها العريضتين؛ حيث أرختهما في ارتياح، كما لو أن الابتسامة غمرتها وتغلَّل ذلك الشعور في كيانها كله.

قالت نانسي: «أوه، رائع.» كان عليها أن تسيطر على ذلك الشعور بالإثارة، وكذلك أولي كان عليه أن يسيطر على شعوره الغريب بالدهشة والانجذاب.

فتحت تيسا الباب بينما كان هناك رجل يهبط من سيارته، وانتظر بجوار البوابة حتى تسير نانسي وأولي عبر الممر. كان يبدو في الستينيات من عمره، مكتنز الكتفين، تكسو وجهه ملامح جادة، يرتدي حلة صيفية فاتحة اللون، وقبعة من ماركة كريستي الإنجليزية الشهيرة. كانت سيارته كوبيه ذات طراز حديث. أومأ إلى نانسي وأولي برأسه سريعًا في احترام خلا من الفضول على نحو متعمد كما لو أنه أمسك لهما الباب الذي يُخرَج منه في إحدى عيادات الأطباء على سبيل المثال.

ولم يكَد باب تيسا يُغلق خلفه حتى ظهرت سيارة أخرى في أقصى نهاية الممر.

قالت نانسي: «إنه صفٌّ من السيارات، دائمًا ما يكون ما بعد ظهيرة أيام الأحد مزدحمًا؛ وبالأخص في الصيف على أي حال. يقطع الناس الأميال لكي يروها.»

«حتى تخبرهم بما يحملونه في جيوبهم؟»

تجاهلت نانسي تلك الملحوظة دون تعليق.

«إنهم يسألونها في الغالب عن أشياء فُقدت منهم، أشياء ثمينة بالنسبة لهم على أي حال.»

«هل تطلب أتعابًا مقابل ذلك؟»

«لا أعتقد هذا.»

«بل يجب عليها ذلك.»

«ولمَ؟»

«أوَليست فقيرة؟»

«إنها لا تموت من الجوع.»

«لكنها لا تصيب دائمًا فيما تقول.»

«أعتقد أنها تصيب بالفعل، وإلا لما تردد الناس عليها باستمرار، أليس كذلك؟»

تغيرت لهجة حديثهما بينما كانا يسيران جنبًا إلى جنب وسط شجيرات الورد عبر ذلك الممر الخانق المشرق بضوء الشمس. راحا يمسحان حبات العرق التي تساقطت على وجهيهما، ولم يعد لديهما أي طاقة يمكن استخدامها في النقد والجدال.

قال أولي: «لكني لم أفهم كيف تفعل ذلك؟»

قالت نانسي: «لا أعتقد أن أحدًا يفهم ذلك. إنها ليست الأشياء التي يفقدها الآخرون فحسب، إنها تستطيع أن تحدد مكان الجثث أيضًا.»

«الجثث؟»

«كان هناك رجل اعتقد الجميع أنه كان يعبر خطوط السكك الحديدية، وحدث أن هبَّت عليه عاصفة ثلجية علق فيها وتجمَّد حتى الموت، ولم يعثروا له على أثر، فطلبتْ منهم أن يبحثوا بجوار البحيرة عند سفح الجرف. وتأكَّد كلامها؛ فلم يكن موجودًا عند خطوط السكك الحديدية على الإطلاق. وذات مرة فُقدت بقرة فأخبرتهم أنها غرقت.»

قال أولي: «حسنًا، إن كان الأمر هكذا، لمَ لمْ يقم أحد بالتحقق من الأمر؟ أعني بصورة علمية.»

«إن هذا الأمر حقيقي مائة بالمائة.»

«لا أعني أنني لا أثق بها، لكني أريد أن أعرف كيف تفعل هذا، ألم تحاولي مرة سؤالها؟»

فاجأته نانسي بإجابتها حين قالت: «ألن يكون هذا نوعًا من الوقاحة؟»

بدا الآن أنها هي التي اكتفت بهذا القدر من المحادثة.

بَيْدَ أنه أصرَّ على مواصلة الحديث قائلًا: «إذن، هل كانت ترى بعض الأشياء الغريبة عندما كانت طفلة صغيرة بالمدرسة؟»

«لا. لا أدري، إنها لم تفصح عن شيء كهذا مطلقًا.»

«هل كان شأنها شأن أي شخص آخر؟»

«إنها لم تكن كذلك تمامًا، لكن مَنْ منا مثل الآخر؟ أعني أنني لا أعتقد مطلقًا أنني كنت كأي شخص آخر، أو أن جيني تعتقد أنها مثل أي شخص. أما تيسا فكانت تعيش في المكان الذي تحيا فيه الآن، وكان عليها أن تقوم بحلب البقرة قبل أن تأتي إلى المدرسة في الصباح، وهو شيء لم يكن أيٌّ منا يفعله. وكنت أحاول دومًا أن أكون صديقتها.»

قال أولي في هدوء: «أنا متأكد.»

استمرت في حديثها كأنها لم تسمع جملته.

«ومع ذلك أعتقد أن الأمر بدأ؛ أو أنه من المؤكد أنه بدأ عندما مرضت تيسا؛ فقد أصابها المرض عندما كنا في السنة الثانية من المدرسة الثانوية؛ فكانت تنتابها بعض النوبات، فتركتِ المدرسة، ولم تعد إليها مطلقًا، وهذا هو الوقت الذي انقطعت فيه صلتها بكل شيء.»

قال أولي: «أهي نوبات صرع؟»

ابتعدتْ عنه قليلًا وهي تقول: «إنني لم أسمع بشيء كهذا، كم كنتُ سَمِجة.»

توقَّف أولي عن السير وقال: «لمَ؟»

توقفت نانسي هي الأخرى.

«لقد اصطحبتُك إلى هناك عن قصد لأريك أننا لدينا شيء مميز هنا. هي. تيسا. أعني كي أريك تيسا.»

«نعم، ثم ماذا؟»

«لأنك تعتقد أنه ليس لدينا شيء هنا يستحق المشاهدة؛ فأنت تظن أننا لا نستحق إلا السخرية؛ جميعنا هنا؛ لذا أردت أن أريك شيئًا غريب الأطوار.»

«لا أستطيع أن أصفها بأنها غريبة الأطوار.»

«كان هذا مقصدي على الرغم من ذلك، ربما أستحق ضربة على رأسي.»

«ليس إلى هذه الدرجة.»

«عليَّ أن أذهب إليها لأعتذر.»

«لم أكن لأفعل ذلك.»

«حقًّا لن تفعل؟»

«لا.»

•••

في ذلك المساء، ساعد أولي نانسي في إعداد عشاء خفيف بارد. كانت السيدة بوكس قد تركت دجاجة مطهوة وسلطة الجيلي في المبرد، وكانت نانسي قد أعدت كعكة الملائكة يوم السبت كي تقدمها لهم مع الفراولة. قاموا بترتيب كل شيء في الشرفة التي اكتست بظلال ما بعد الظهيرة. وفيما بين الوجبة الرئيسية والحلوى، قام أولي بحمل الصحون وأواني السلطة إلى المطبخ.

قال فجأة: «أتساءل إن كان أحدهم قد فكَّر في إحضار وجبة طعام لذيذة لها أو شيء من هذا القبيل؛ مثل الدجاج أو الفراولة.»

كانت نانسي تنتقي أفضل حبات التوت الطازجة لتغمسها في سكر الفاكهة، وقالت بعد لحظة: «آسفة. ماذا قلت؟»

«أقصد تلك الفتاة؛ تيسا.»

قالت نانسي: «أوه، إن لديها الكثير من الدجاج، يمكنها أن تذبح إحداها وقتما تشاء. ولن تصيبني الدهشة إن عرفتُ أن لديها قطعة أرض زرعتها كلها بالتوت؛ فهم عادة ما يفعلون هذا في الريف.»

كان شعورها بالندم على اصطحابه لتيسا قد أراحها بعض الشيء، ولكن تلاشى هذا الإحساس الآن.

قال أولي: «ليست المسألة فقط أنها ليست غريبة الأطوار، بل إنها لا ترى نفسها كذلك.»

«أوه، بالطبع لا.»

«إنها راضية بما هي عليه. كذلك فإن عينيها لافتة للنظر.»

راحت نانسي تنادي على ويلف لتسأله إن كان يرغب في العزف على البيانو في حين تقوم هي بإعداد الحلوى وإحضارها لهم.

«ما زال أمامي خفق الكريمة، وبالطبع ستستغرق وقتًا طويلًا للغاية في هذا الطقس.»

قال ويلف إن بمقدورهم الانتظار؛ فهو يشعر ببعض التعب.

ومع ذلك، عزف ويلف قطعة موسيقية فيما بعد عندما انتهوا من تناول الحلوى وبدأ الظلام يغلف المكان. ولم يذهب والد نانسي لحضور قداس المساء في الكنيسة — فقد كان يعتقد أنه مطلب زائد عن الحد — لكنه لا يسمح بلعب أي نوع من أنواع لعب الورق أو الشطرنج أو النرد يوم الأحد، وراح يتصفَّح مجلة «ساترداي إيفننج بوست» مرة ثانية، بينما كان ويلف يعزف على البيانو. جلست نانسي على درج الشرفة، بعيدة عن مستوى نظر أبيها، وراحت تنفث دخان سيجارة وهي تأمل ألا يشمها والدها.

قالت لأولي الذي كان متكئًا على حافة الشرفة: «عندما أتزوج سأدخِّن وقتما أحب.»

كان أولي لا يدخن بالطبع بسبب إصابة رئتيه.

ضحك قائلًا: «على رسلكِ … أهذا سبب كافٍ لتفعلي ذلك؟»

كان ويلف يعزف مقطوعة تدعى «موسيقى ليلية صغيرة» لموتسارت من دون نوتة موسيقية.

قال أولي: «إنه ماهر، له يدان ماهرتان في العزف بالرغم من أن الفتيات كن يصفنها بأنها باردة.»

ومع ذلك لم يكن يفكر في تلك اللحظة في ويلف أو نانسي أو أمر زواجهما، بل كان يفكر في تيسا؛ في شخصيتها غريبة الأطوار، وهدوئها، وكان يسأل نفسه عما تفعله الآن في تلك الأمسية الطويلة الحارة حيث تقطن عند نهاية ذلك الطريق الضيق المليء بالورد البري. هل ما زال لديها بعض الزوار والمريدين؟ هل ما زالت منشغلة بحل المشكلات التي يواجهها الناس في حياتهم؟ أم أنها ذهبت للخارج وجلست على الأرجوحة وراحت تميل بها للأمام وللخلف محدثة صريرًا وهي تجلس وحيدة دون صحبة سوى القمر الذي ينير السماء؟

سيعرف في غضون فترة قصيرة أنها تمضي الأمسيات وهي تحمل دلاء المياه من المضخة لتروي بها أشجار الطماطم، وتقوم بتقليب التربة التي تحوي محاصيل البازلاء والبطاطس، وإن أراد فرصة للحديث معها فلا بد وأن يشاركها هو الآخر في هذه الأعمال أيضًا.

خلال ذلك الوقت انهمكت نانسي في ترتيبات حفل الزفاف بصورة أكبر، دون أن تولي تيسا أي جزء من تفكيرها، وكذلك هو، فيما عدا أنها أشارت لمرة أو اثنتين أنها لا تجده بجوارها في الوقت الذي احتاجت فيه إليه.

التاسع والعشرين من أبريل
عزيزي أولي

كنت أتوقع أن نسمع عنك منذ أن عدنا من مدينة كيبيك، وأصابتني الدهشة عندما لم تفعل (حتى في احتفالات أعياد الميلاد!) إلا أني بعدها أعتقد أنني استطعت اكتشاف السبب؛ كنت قد شرعت في محاولة الكتابة مرات عدة، لكني اضطررت أن أرجئ الكتابة حتى أتبين مشاعري. بإمكاني القول إن المقال أو القصة أو أيًّا ما تطلق عليها في مجلة «ساترداي نايت بوست» كانت حسنة الصياغة، وإنك حققت نجاحًا كبيرًا تفتخر به بانضمامك إلى تلك المجلة، إلا أن أبي لم يعجبه وصفك للميناء بأنه ميناء صغير على البحيرة، ويود فقط أن يذكِّرك بأنه أفضل ميناء على هذا الجانب من بحيرة هيورون وأكثرها ازدحامًا، أما بالنسبة لي فلم يَرُق لي وصفك للمكان بأنه «اعتيادي يفتقر للخيال والإثارة»، ولا أدري إن كان هذا المكان «اعتياديًّا» أكثر من أي مكان آخر، وماذا تتوقع أن يكون؟ مكانًا شاعريًّا؟

ومع هذا، فالمشكلة الأساسية الآن هي تيسا، وما سيفعله هذا بحياتها، ولا أتخيل أن ذلك طاف بذهنك. لم أستطع التوصل إليها عبر الهاتف، وليس بمقدوري أن أجلس خلف مقود السيارة الآن على نحو مريح (لأسباب أتركها لمخيلتك) لكي أذهب إليها. على أي حال فما ترامى إلى مسامعي هو أن هناك طوفانًا من الناس يذهبون إليها، حتى إنه بات من الصعب تمامًا على السيارات أن تصل إليها حاليًّا؛ حيث إن عربات الإنقاذ تنتشل سيارات الأشخاص حين تسقط في مصارف المياه (ولكنهم لا يَلقون على هذا العمل أي نوع من أنواع الثناء على جهدهم، إنما درسًا أخلاقيًّا عن أحوالنا المعيشية المتخلفة التي نحيا فيها)، والطريق في حالة من الفوضى والإهمال، ووصل إلى درجة من التهالك لا تسمح بالإصلاح، أما الزهور البرية فهي بالقطع شيء من الماضي لا وجود له الآن. وقد وصل مجلس البلدة بالفعل إلى حالة من السخط الشديد؛ لأنهم لا يدرون كم سيتكلَّف إصلاح كل ذلك، وكثير من الناس في حالة غضب شديدة؛ لأنهم يعتقدون أن تيسَّا هي مَنْ كانت وراء كل تلك الدعاية وترفل في الثراء، ولا يصدقون أنها تقوم بهذا كله دون مقابل، وإن كان هناك أحد قد جمع نقودًا من وراء ذلك فهو أنت. إنني أستعير كلام أبي حينما أقول لك ذلك؛ فأنا أعلم تمامًا أنك لست بالشخصية المرتزقة. لقد كنت أنت من استفدت؛ إذ حققت مجدًا من وراء طباعة الموضوع. سامحني إن صدمك كلامي بما فيه من سخرية؛ فلا بأس أن تكون شخصًا طموحًا، لكن ماذا عن مصلحة الآخرين؟

ربما كنت تتوقع خطاب تهنئة، لكن آمل أن تعذرني؛ فقد كنت أريد أن أزيح حملًا ثقيلًا عن صدري.

ومع هذا، هناك شيء إضافي، أريد أن أسألك بشأنه، هل كنت تفكر طوال الوقت في كتابة ذلك؟ لقد علمت أنك ترددت على منزل تيسا عدة مرات بمفردك. إنك لم تذكر ذلك لي مطلقًا، ولم تطلب مني أن أرافقك إلى هناك. لم تُشِر مطلقًا إلى أنك تود الحصول على مادة صحفية (أعتقد أن هذه هي الكلمة المناسبة للإشارة إلى الأمر)، وحسبما أتذكر فقد كتبتَ الموضوع برمته بطريقة فظة غلبت عليها الحدة، وليس ثَمَّةَ كلمة واحدة في الموضوع بأكمله تذكر فيها كيف أنني اصطحبتك إلى هناك أو قدمتك إلى تيسا، ليس هناك أي عرفان بذلك على الإطلاق، كما لم يكن هناك كلمة شكر أو تقدير ترسلها لي على نحو خاص. وإنني أتساءل إلى أي مدى كنت أمينًا مع تيسا فيما يخص نواياك؟ أو إذا ما كنت طلبت موافقتها على ممارسة — وأستشهد بكلماتك الآن — فضولك العلمي. هل شرحت لها ما ستفعله بها؟ أم أنك فقط ترددت عليها جيئة وذهابًا لاستغلال أولئك الناس «الاعتياديين» لتبدأ مستقبلك المهني بوصفك «كاتبًا»؟

حسنًا، حظًّا موفقًا يا أولي، ولا أتوقع أن أتلقَّى منك رسالة ثانية (فإننا لم نحظَ بشرف اتصالك بنا ولو مرة واحدة).

زوجة ابن عمك، نانسي

عزيزتي نانسي

أود أن أقول إنك تُحدِثين جلبة دون داعٍ؛ فإنْ عاجلًا أو آجلًا كان هناك من سيكتشف تيسا ويكتب عنها ليعلم الجميع، فلمَ لا يكون ذلك الشخص هو أنا؟ لقد تبلورت في ذهني فكرة كتابة الموضوع تدريجيًّا حينما ذهبت لأتحدث إليها، لقد كنت حقًّا أتصرف من منطلق فضولي العلمي، وهو الشيء الذي لن أعتذر عنه؛ فهو جزء من طبيعتي. يبدو أنك ترين أنه كان عليَّ أن أطلب موافقتك على كل خططي وتحركاتي، أو أن أخطرك بها في الوقت الذي كنت فيه في حالة من الانشغال الشديد والقلق بشأن فستان زفافك وحفلاتك أو كم الهدايا والصحون الفضية التي ستتلقينها أو الأشياء الأخرى التي يعلمها الله.

أما بالنسبة لتيسا، فإنك مخطئة تمامًا حينما اعتقدت أنني أغفلت أمر تيسا بعد أن ظهر المقال، أو أنني لم أضع في اعتباري ما سيُحدِثه هذا الأمر من أثر على حياتها؛ وفي حقيقة الأمر فإنني تلقيت منها رسالة قصيرة لا تشير إلى أن الأمور على تلك الدرجة من الفوضى التي وصفتِها. وعلى كل حال فلن يكون عليها أن تحتمل حياتها هناك على هذا النحو طويلًا؛ فأنا على اتصال ببعض الأشخاص ممن قرءوا المقال واهتموا بمحتواه كثيرًا. وهناك أبحاث تُجرى على مثل تلك الأمور ذات طبيعة قانونية، بعضها هنا إلا أن غالبيتها في الولايات المتحدة. أعتقد أن هناك بعض الاعتمادات المالية المتاحة للإنفاق على مثل هذا النوع من الأشياء، كما أن هناك اهتمامًا شديدًا بذلك الموضوع في الخارج؛ لذا فأنا أدرس بعض الفرص حول إمكانية الذهاب إلى بوسطن، أو بالتيمور أو نورث كارولينا؛ وذلك بالنسبة لتيسا لتكون من أفراد عينات البحث، وبالنسبة لي بوصفي صحفيًّا مختصًّا بالموضوعات العلمية من نفس النوعية.

أسفت على رأيك فيَّ بهذا الشكل القاسي. لم تذكري كيف تسير حياتك الزوجية ولم تشيري إلى أي شيء عنها سوى بخبر واحد مستتر (أهو حادث سعيد؟) ولم تذكري أي شيء عن ويلف، ولكني فهمت أنكما ذهبتما إلى مدينة كيبيك وأتمنى أن تكونا استمتعتما بها، وآمل أن يكون ويلف بخير وازدهار كما هو دائمًا.

أولي

عزيزتي تيسا

من الواضح أنكِ نزعتي أسلاك الهاتف، وربما كان شيئًا ضروريًّا بالقطع في خضم تلك الشهرة التي تتمتعين بها الآن. لا أقصد أن أبدو حاقدةً؛ فكثيرًا ما تخرج مني بعض الأشياء هذه الأيام بطريقة لم أكن أقصدها. إنني أنتظر مولودًا — لا أدري إن كنتِ سمعت بهذا أم لا — وهذا الأمر يجعل مني شخصية شديدة الحساسية وسريعة الغضب.

أتخيل أنكِ أصبحت الآن شديدة الانشغال وتمرِّين بأوقات يشوبها الارتباك مع كل ذلك الكم من الأشخاص الذين يأتون لزيارتك، وأعتقد أنه بات من الصعب أن تواصلي نمط حياتك الطبيعية. وإن أتيحت لك الفرصة سيكون شيئًا جميلًا أن أراكِ. فهذه دعوة مني لزيارتي إن كنت تأتين إلى المدينة (لقد علمتُ من المتجر أنهم يرسلون لك كل مواد البقالة التي تحتاجينها). إنك لم تَرَيْ منزلي الجديد من الداخل؛ أعني بعد أن أضفنا إليه بعض التجديدات حديثًا والجديد بالنسبة لي أنا أيضًا، كما أنك لم تَرَيْ منزلي القديم أيضًا؛ فقد خطر على ذهني الآن وأنا أكتب لك أنني كنت أنا دومًا من تذهب لزيارتك، وليس كثيرًا أيضًا كما كنتُ أريد؛ فالحياة دومًا مليئة بالكثير من المهام والمشاغل. وما بين الحصول على الأشياء وإنفاقها نستنفذ الكثير من قوانا. لِمَ نترك أنفسنا لننشغل إلى تلك الدرجة ويفوتنا فعل الأشياء التي كان يجب علينا إنجازها أو التي كنا نحب أن نقوم بها؟ أتذكرين كيف قمنا بقرع الزبد بالملعقة الخشبية القديمة؟ لقد استمتعت بها، كان هذا هو اليوم الذي أحضرتُ فيه أولي لزيارتك وآمل ألا تكوني نادمةً على تلك الزيارة.

والآن يا تيسا، آمل ألا تعتقدي بأني أدسُّ أنفي أو أتدخل فيما لا يعنيني، لكن أولي قد ذكر لي في خطاب أنه على اتصال ببعض الأشخاص الذين يُجرون بعض الأبحاث أو شيئًا من هذا القبيل في الولايات المتحدة، وأفترض أنه كان على اتصال بك بخصوص هذا الموضوع. لا أدري أي نوع من الأبحاث تلك التي يعنيها، لكني يجب أن أقول لك إني شعرت بأن الدم يتجمد في عروقي عندما قرأت ذلك الجزء من خطابه. لديَّ شعور دفين بأنه ليس بالشيء الجيد أن تغادري المكان هنا — إن كان هذا هو ما تفكرين به — وتذهبي إلى حيث لا يعرفك أحد أو يفكر بك أحد كصديقة أو شخصية طبيعية. شعرت فحسب أنه يجب عليَّ أن أقول لك ذلك.

هناك شيء آخر أشعر أنه ينبغي لي أن أخبرك به ولا أعرف كيف. فالأمر هكذا؛ فأولي بالقطع ليس بالشخص السيئ، لكنه ذو تأثير خاص — وأنا أفكر في هذا الأمر الآن، فتأثيره ليس فقط على النساء إنما على الرجال أيضًا — ولا يكمن الأمر في عدم معرفته بذلك، إنما هو لا يتحمل مسئولية ما يفعله ولا يدرك تَبِعاته. وبصراحة أكبر، فأنا لا أرى قَدَرًا أسوأ من الوقوع في حبه؛ إذ يبدو أنه قد تقرَّب منك بطريقة ما كي يكتب عنك أو عن تلك التجارب أو أيٍّ ما يحدث؛ وسيكون ودودًا ويتصرف بتلقائية، لكنك قد تخطئين فهم تصرفاته وتُفسرينها على نحو أكثر مما هي عليه في الحقيقة. أرجو ألا تغضبي من كلامي هذا، وأن تأتي لزيارتي.

نانسي

عزيزتي نانسي

أرجو ألا تشعري بالقلق تجاهي؛ فأولي على اتصال بي ويخبرني بكل شيء أولًا بأول. وفي الوقت الذي تصلك فيه هذه الرسالة نكون قد تزوَّجنا بالفعل، وربما وصلنا إلى الولايات المتحدة. وآسف بشدة لأني لم أتمكن من رؤية منزلك الجديد.

المخلصة تيسا

ثقبٌ في الرأس

كانت التلال في وسط ولاية ميشيجان الأمريكية مغطاة بغابات البلوط، وكانت زيارة نانسي الوحيدة إلى هذا المكان في خريف ١٩٦٨ بعدما اصفرَّت أوراق شجر البلوط، ولكنها لا تزال متشبثة بفروعها. كانت معتادة على مساحات الأراضي الواسعة التي تحوي أشجار الخشب الصلد، وليست الغابات التي تحوي العديد من أشجار القيقب الضخمة، التي صبغها الخريف باللون الأحمر والذهبي. أما الألوان الداكنة لأوراق شجر البلوط الكبيرة — بألوانها المتدرجة من الأصفر إلى البني — فلم تكن ترفع من معنوياتها كثيرًا، حتى عندما ينعكس ضوء الشمس فوقها.

كان التل الذي يقع عنده المستشفى الخاص عاريًا من أي أشجار، ويبعد مسافة من أي مدينة أو قرية أو حتى مزرعة مأهولة بالسكان. كانت بناية من ذلك النوع الذي يتم تحويله إلى مستشفى في أيٍّ من المدن الصغيرة بعدما كان قبل ذلك منزلًا كبيرًا لإحدى العائلات المهمة التي توفي جميع أفرادها أو لم يستطيعوا الاحتفاظ بالمنزل. كان بها نافذتان بارزتان إلى الخارج على جانبَي الباب الأمامي، أما الطابق الثالث فكان يحوي العديد من النوافذ المستقيمة على السقف المائل. كان المبنى مصنوعًا من الطوب القديم الذي بدا متسخًا، ولم يكن هناك أي شجيرات حوله، أو أي سياج من الأشجار، ولا يحيط به أي بستان من بساتين التفاح، مجرد بعض الحشائش المقلَّمة ومرأب مفروش بالحصى.

ولم يكن ثَمَّةَ مكان يمكن للمرء أن يختبئ به إن واتته فكرة الهروب من هذا المكان.

لم تكن لتخطر على ذهنها مثل تلك الفكرة — أو ليس بهذه السرعة — في الأيام التي سبقت مرض ويلف.

أوقفت سيارتها بجوار عدة سيارات أخرى، وتساءلت إن كانت هذه السيارات تخص فريق العمل بالمستشفى أم الزائرين. أيُّ عدد من الزائرين هذا الذي يمكنه أن يأتي إلى هذا المكان المنعزل؟

كان على المرء أن يصعد عددًا من درجات السلم كي يتمكن من قراءة اللافتة الموضوعة على الباب الأمامي، والتي تطلب منك الاتجاه نحو الباب الجانبي. رأت — على مسافة قصيرة جدًّا — بعض القضبان الحديدية على بعض النوافذ؛ بَيْدَ أن النوافذ الناتئة لم تكن تحمل تلك القضبان، ولا تغطيها الستائر؛ على عكس بعض النوافذ في الجزء العلوي والسفلي من المبنى حيث يوجد ما يمكن أن يكون قبوًا فوق الأرض.

أما الباب الذي يُنصح بالاتجاه إليه فيفتح على ذلك المستوى المنخفض من المبنى. دقَّت الجرس، ثم قرعت الباب ثم عادت فدقت الجرس ثانية. هُيئ لها أنها تسمعه يدق، لكنها لم تكن واثقة؛ لأن هناك جلبة كبيرة بالداخل. أمسكت بمقبض الباب في محاولة لفتحه، وومما أثار دهشتها — بالنظر إلى أن هناك قضبانًا حديدية على النوافذ — أن انفتح الباب. وجدت نفسها تقف عند عتبة المطبخ؛ مطبخ كبير مزدحم تابع لمؤسسة، ويعجُّ بالكثير من الناس الذين يقومون بغسل الصحون وتنظيف المكان بعد الغداء.

كانت نوافذ المطبخ عارية، وكان السقف عاليًا مما ساعد على تضخيم الضوضاء، وقد طُليت كافة الجدران والخزانات باللون الأبيض. وجدت عددًا من المصابيح المضاءة بالرغم من أن ضوء النهار كان لا يزال في أوجه.

بالطبع لاحظ مَنْ بداخل المطبخ وجودها على الفور، لكن أحدًا لم يتوجه لتحيتها أو لمعرفة سبب وجودها وما تفعله في هذا المكان.

لاحظت شيئًا آخر؛ فإلى جانب وطأة الجلبة والضوء، انتابها نفس الشعور الذي كان قد اعتراها في منزلها الجديد، والذي لا بد وأن أدركه أولئك الذين كانوا يأتون لزيارتها على نحو أكثر منها.

وهو ذلك الشعور بعدم الارتياح وأن ثَمَّةَ شيئًا غريبًا بالمكان، وأنه ليس بمقدورك أن تسيطر على ذلك الشعور أو تغيره، لكن كل ما بوسعك فعله هو مقاومته فحسب بكل ما أوتيت من قوة. غير أن هناك بعض الأشخاص الذين يستسلمون على الفور لذلك الشعور؛ فهم لا يدرون كيفية مقاومته، وربما يسيطر عليهم الغضب أو الخوف ويشعرون أن عليهم أن يفروا من المكان.

اقترب منها رجل يرتدي مئزرًا ويدفع أمامه عربة عليها صندوق من صناديق القمامة. ولم تدرِ إن كان قدِم لتحيتها أم أنه يسير في وجهته، فمر أمامها، لكنه كان يبتسم، وبدا ودودًا، فقدمت له نفسها وأخبرته عن الشخص الذي أتت لزيارته. أنصت إليها وأومأ برأسه عدة مرات، وازدادت ابتسامته اتساعًا، وشرع يهز رأسه ثانية ويُرَبِّت بأصابعه على فمه لكي يجعلها تدرك أنه لا يستطيع الكلام أو أنه غير مسموح له بذلك، كما يفعل الأشخاص في بعض الألعاب، واستمر في طريقه دافعًا العربة على نحو متخبِّط وقد سلك منحدرًا يؤدي إلى القبو بالطابق الأدنى.

إنه نزيل بالمكان وليس موظفًا. لا بد وأن هذا المكان من ذلك النوع الذي يعمل فيه النزلاء إن كان بمقدورهم هذا بالطبع. وتكمن الفكرة وراء ذلك في أنه من المحتمل أن يفيدهم هذا العمل، وقد يكون ذلك صحيحًا بالفعل.

أخيرًا ظهر شخص بدا أنه المسئول، وكانت امرأة في نفس عمر نانسي تقريبًا ترتدي حلة داكنة — فلم تكن ترتدي ذلك المئزر الأبيض الذي يرتديه معظم الأشخاص في المكان — وأخبرتها نانسي بكل شيء مجددًا. أخبرتها أنها تلقَّت منهم خطابًا، فقد قام أحد المرضى — أو أحد المقيمين كما يطلقون عليهم ويريدونك أن تطلق عليهم — بإخطارهم باسمها بوصفها الشخص الذي يمكن الاتصال به.

كانت محقَّة حينما اعتقدت أن الأشخاص الموجودين في المطبخ لم يكونوا من عمال المساعدة في أعمال المطبخ.

قالت رئيسة الممرضات وهي تنظر يمينًا ويسارًا في ابتسامة يشوبها بعض التحذير: «لكنهم يبدو عليهم أنهم يحبون العمل هنا؛ إنهم يفتخرون به.» ثم قادت نانسي نحو مكتبها الذي كان عبارة عن حجرة بعيدة عن المطبخ. وأثناء حديثهما اتضح أن عليها أن تتعامل مع كافة أنواع المقاطعات؛ فهي من يتخذ أي قرار يتعلق بالمطبخ والبت في أي شكوى عندما يدلف أحد من الباب مرتديًا مئزره الأبيض ومحدقًا فيهما. كذلك كان ينبغي لها أيضًا أن تنظر في بعض الملفات والفواتير أو الإخطارات التي ثُبِّتَت على خطافات على الحوائط على نحو لا يبدو مهنيًّا أو منظمًا. بالإضافة إلى استقبالها لبعض الزوار مثل نانسي.

«لقد قمنا بمراجعة السجلات القديمة لدينا، وأخذنا الأسماء المسجلة بها في خانة الأقارب.»

قالت نانسي: «لكني لست من الأقارب.»

«أيًّا كانت صفتك. ثم قمنا بكتابة خطابات على النحو الذي وصلك؛ وذلك حتى نحصل على بعض الإرشادات لنتمكن من معرفة الطريقة التي يرغب الأقارب التعامل بها مع مثل هذه الحالات، وفي الواقع لم نتلقَّ الكثير من الاستجابات. إنه للطف منكِ أن تقطعي كل تلك المسافة.»

سألتها نانسي عما تعنيه بعبارة «مثل هذه الحالات».

قالت لها رئيسة الممرضات إنها تعني الأشخاص الموجودين بالمكان منذ سنوات، وهم ربما لا ينتمون إليه بالأساس.

قالت: «أرجو أن تتفهمي أنني حديثة العهد بالمكان، لكني سأخبرك بما أعرفه.»

وفقًا لما روته فإن المكان كان يضم الكثير من الحالات، ولكنه تحديدًا للمختلين عقليًّا، أو لمن يعانون من الشيخوخة والخرف، أو لمن لا يُرجى تطورهم الذهني على نحو طبيعي بطريقة أو بأخرى، أو لأولئك الأشخاص الذين لا تستطيع عائلاتهم التكيف معهم أو لا تود ذلك؛ فقد كان هناك دائمًا، ولا يزال، نطاق واسع من تلك الحالات المتنوعة، لكن المرضى الأكثر خطورة يوضعون في الجناح الشمالي تحت الحراسة.

كان هذا المكان بالأساس مستشفًى خاصًّا يمتلكه أحد الأطباء ويقوم بإدارته. وبعد وفاته، تولت العائلة — عائلة الطبيب — مسئولية المكان، واتضح فيما بعد أنه كان لهم أسلوبهم الخاص في الإدارة. فقد تحوَّل جزء منه إلى مستشفًى خيري، وكانوا يقومون ببعض الإجراءات غير المعتادة للحصول على نوعٍ من الإعانات لمساعدة بعض المرضى الفقراء، غير أن تلك الحالات لم تكن تستحق هذه المساعدات الخيرية على الإطلاق.

بعض تلك الحالات ما زالت أسماؤها مقيدة بالسجلات رغم أنها توفيت، والبعض الآخر ليس له حق الوجود في المكان أو الأوراق اللازمة لذلك. ويعمل العديد منهم في المستشفى في مقابل الإقامة فيها، وقد يكون هذا بالشيء الجيد من أجل معنوياتهم، لكنه في الوقت نفسه شيء مخالف للوائح والقوانين.

ويُجرى في الوقت الحالي تحقيق شامل وسيتم غلق المكان؛ فقد أصبح عتيقًا على أي حال. لقد كانت سعته صغيرة، ولم تكن الأمور كما هي عليه الآن. وسيتم نقل الحالات الحرجة إلى مستشفًى كبير في فلينت أو لانسينج، لم يتحدد هذا الأمر بعد، ويمكن لبعض المرضى الذهاب إلى دور الإيواء، أو الدور الجماعية التي تأوي حالات الإعاقة الذهنية، كما هو التوجه الآن، وثَمة مجموعة أخرى يمكنهم تدبر أحوالهم إذا ما أقاموا مع أقاربهم.

وتدخل تيسا ضمن هذه الحالات؛ فقد كانت بحاجة لبعض جلسات العلاج بالكهرباء حينما قدمت إلى هنا، لكنها تتلقى أنواعًا بسيطة من العلاج منذ أمد طويل.

قالت نانسي: «معاملة بالصدمة؟»

قالت رئيسة الممرضات: «ربما معالجة بالصدمة.» قالت هذا وكأن إضافتها أحدثت فرقًا جوهريًّا. وأردفت قائلة: «أخبرتِني أنكِ لست قريبة لها. هل هذا يعني أنك لا تنوين اصطحابها معك؟»

قالت نانسي: «لديَّ زوج كان من المفترض أن يكون في مكان كهذا حسبما أعتقد، لكني أرعاه بالمنزل.»

قالت رئيسة الممرضات وهي تتنهد على نحو لا ينم عن تكذيبها لما يقال، ولكنه لا ينم عن تعاطفها كذلك: «أوه، حقًّا، لكن المشكلة تكمن في أنها ليست حتى مواطنة، وهي نفسها لا تعتقد أنها كذلك. إذن أظن أنك لا ترغبين في رؤيتها الآن، أليس كذلك؟»

قالت نانسي: «بالقطع أرغب في ذلك، فهذا ما قدمت لأجله.»

«أوه، حسنًا، إنها لا تبعد عن هنا كثيرًا؛ فهي موجودة بالمخبز، إنها تقوم بالخبز في هذا المكان منذ سنوات طويلة. أعتقد أنه كان هناك خباز يقوم بتلك المهمة في يوم من الأيام، لكنه عندما ترك العمل لم يقوموا بتعيين أحد مكانه، ولم يكن هناك حاجة لذلك؛ فهناك البديل وهو تيسَّا.»

قالت وهي تنهض من مكانها: «والآن، ربما ترغبين في أن آتي لك بعد فترة وأقول إن هناك ما أود التحدث معك بشأنه، ومن ثم يمكنك الخروج دون أن تشعر؛ فتيسا شخصية ذكية وتفهم ما يدور حولها، وبإمكانها توقع ما سيحدث، وقد تشعر ببعض الحزن حينما تراكِ وأنت تغادرين بدونها؛ لذا سأساعدك على أن تغادري خلسة.»

•••

لم يُصِب الشيب تيسا تمامًا، وكان شعرها المموج معقوصًا إلى الخلف في شبكة تمسك بشعرها، مما كشف عن جبهتها الخالية من أي تجاعيد، والتي بدت لها مشرقة، بل أعرض وأعلى وأكثر بياضًا عن ذي قبل. وقد اكتسب جسمها زيادة في الحجم أيضًا، وأضحت ذات قوام عريض. كان لها نهدان كبيران مستديران مشدودان يختبئان أسفل ملابس الخباز البيضاء. وبالرغم من تلك الحمولة وتلك الوضعية التي تتخذها في هذه اللحظة — حيث كانت منحنية على المائدة وتقوم بفرد رقاقة كبيرة من العجين — إلا أن كتفيها كانتا مفرودتَيْن في رشاقة وإجلال.

كانت تقف بمفردها في المخبز ولا يرافقها سوى فتاة طويلة نحيفة ذات ملامح جميلة، لا بل كانت سيدة، وكانت قسمات وجهها الجميل تتقلص باستمرار في حركات غريبة لاإرادية.

قالت تيسا: «أوه نانسي، إنه أنت.» كانت تتحدث بصورة طبيعية تمامًا بالرغم من أنها كانت تحاول التقاط أنفاسها بصعوبة وهي تتحدث في حميمية وود لاإرادي يميزان من يحملون الكثير من اللحم فوق عظامهم. «توقفي عما تفعلينه يا إلينور، لا تكوني سخيفة، اذهبي وأحضري مقعدًا لصديقتي.»

قالت في ارتباك وهي ترى نانسي تود معانقتها، كما يفعل الناس الآن: «أوه، إن الدقيق يلطخ ملابسي كلها، وهناك شيء آخر، فربما عضتك إلينور؛ فهي لا تحب أن يتودد إليَّ أحد.»

عادت إلينور سريعًا وهي تحمل مقعدًا، وتعمَّدت نانسي أن تنظر في وجهها مباشرة وتتحدث معها بلطف.

«أشكرك جزيل الشكر يا إلينور.»

قالت تيسا: «إنها لا تتحدث، لكنها مساعدتي المخلصة، ولا أستطيع أن أفعل شيئًا بدونها، أليس كذلك يا إلينور؟»

قالت نانسي: «لقد دُهشتُ عندما تعرفتِ عليَّ؛ فقد تغيرت كثيرًا عن الماضي وتقدمت في العمر.»

قالت تيسا: «نعم، لقد كنت أتساءل هل ستأتين حقًّا أم لا؟»

«كان من المحتمل أن أكون توفيت، هل تذكرين جيني روس؟ لقد توفيت.»

«نعم.»

كانت تيسا تصنع فطيرة مخبوزة؛ فقد قامت بقطع جزء من العجين على شكل دائرة، ثم قامت بفرده على صينية خبز معدنية، ثم رفعته وراحت تلف العجين بمهارة بيد واحدة وتقطعه بالسكين التي تمسكها بيدها الأخرى. وقامت بتكرار ذلك سريعًا عدة مرات.

قالت: «هل تُوفي ويلف؟»

«لا، ما زال حيًّا، لكنه أصيب بالجنون يا تيسا.»

أدركتْ نانسي متأخرًا أنه ليس من اللباقة أن تتفوه بشيء كهذا، وحاولت أن تُدخِل على الحديث بعض العبارات اللطيفة، فقالت: «وولفي المسكين؛ إنه يقوم بأشياء غريبة.» حاولت منذ سنوات أن تناديه بوولفي (كاسم تدليل مشتق من كلمة وولف التي تعني ذئب بالإنجليزية) معتقدة أن الاسم يتماشى وفكه الطويل وشاربه الرفيع وعينيه اللامعتين اللتين تعكسان شيئًا من الصرامة؛ بَيْدَ أن الاسم لم يَرُق له؛ فقد تشكَّك في أنه نوع من السخرية، فتوقفت عن مناداته به. أما الآن فلم يعد يعترض على ذلك، وكان مجرد تفوهها بهذا الاسم يُشعرها بأنها أكثر تألقًا وعطفًا تجاهه، وقد كان ذلك عونًا لها في ظل الظروف الراهنة.

«أصبح يبغض الأبسطة على سبيل المثال.»

«الأبسطة؟»

قالت نانسي وهي ترسم مستطيلًا في الهواء: «إنه يسير عبر الحجرة على هذا النحو.» ثم استطردت: «ولذا، اضطررتُ لإزاحة الأثاث بعيدًا عن الجدران؛ فهو يدور حول الحجرة بعيدًا عن البساط.» وانفجرت في الضحك بصورة غير متوقعة، إلا أن ضحكتها كانت تحمل نوعًا من الاعتذار.

قالت تيسا وهي تومئ برأسها، وقد اكتسى كلامها بنبرة تأكيد بحكم خبرتها وإقامتها بالمكان ومعرفتها بمن هم فيه: «الكثير من الأشخاص هنا يفعلون ذلك؛ فهم لا يرغبون في وجود حائل بينهم وبين الجدران.»

«إنه يعتمد عليَّ بشدة؛ فطوال الوقت ينادي «أين نانسي؟» إنني الوحيدة التي يضع فيها كامل ثقته هذه الأيام.»

مرة أخرى تحدَّثت تيسا بلهجة الخبير المحترف العالِم ببواطن الأمور: «هل بات عنيفًا؟»

«لا، لكنه مع ذلك يتشكك في كل شيء، إنه يعتقد أن الناس تأتي وتخبئ الأشياء منه؛ فيُهيَّأ له على سبيل المثال أن هناك من يغيِّر عقارب الساعة، بل وقد يغير الأيام في الصحيفة أيضًا، ثم يحدث أن يعود لطبيعته إذا ما ذكرت أي مشكلة طبية يعاني منها أحد الأشخاص ويقوم بتشخيصها على نحو سليم تمامًا. إن العقل لشيء عجيب وغريب حقًّا.»

وهنا أيضًا افتقر كلامها إلى الكياسة مرة أخرى.

«إنه مشوش، ولكنه ليس عنيفًا.»

«هذا شيء جيد.»

وضعت تيسا الصينية ثم راحت تضع الحشو على الفطيرة من وعاء ضخم ليس له ماركة معروفة، عليه ملصق مدون عليه «توت بري». وبدا أن الحشو كان ذا قوام خفيف ودبق.

قالت: «تفضلي يا إلينور، هذه البقايا لك.»

كانت إلينور تقف خلف مقعد نانسي مباشرة؛ وكانت نانسي تحرص على ألا تستدير وتنظر نحوها. انسلَّت إلينور وجلست أمام طاولة العجين دون أن ترفع بصرها نحوهما، وراحت تشكِّل قطع العجين التي خلَّفتها تيسا من تقطيعها بالسكين.

قالت تيسا: «لقد تُوفي ذلك الرجل، إنني أعرف هذا جيدًا.»

«عن أي رجل تتحدثين؟»

«هذا الرجل صديقك.»

«أولي، أتقصدين أن أولي تُوفي؟»

قالت تيسا: «ألا تعلمين ذلك؟»

«لا، لا أعلم.»

«ظننت أنك تعرفين. ألم يكن ويلف يعلم؟»

قالت نانسي بتلقائية مدافعة عن زوجها الذي ما زال على قيد الحياة: «تقصدين هل يعلم ويلف.»

قالت تيسا: «ظننت أنه يعرف، أليسا قريبَيْن؟»

لم تُجِبها نانسي. بالطبع كان عليها أن تعرف أن أولي قد توفي طالما أن تيسا موجودة في هذا المكان.

قالت تيسا: «أعتقد إذن أنه احتفظ بالأمر لنفسه.»

قالت نانسي: «لطالما كان ويلف بارعًا في المداراة. متى حدث ذلك؟ وهل كنتِ معه؟»

هزت تيسا رأسها لتقول لا، أو أنها لا تعرف.

«حسنًا، متى حدث ذلك؟ بماذا أخبروكِ؟»

«لم يخبرني أحد بشيء، إنهم لا يخبرونني بشيء على الإطلاق.»

«أوه تيسا.»

«كان لديَّ ثقب في رأسي، ظللت هكذا لفترة طويلة.»

قالت نانسي: «أكان الأمر مثلما كنت تعرفين الأشياء؟ أتذكرين الطريقة؟»

«لقد أعطوني بعضًا من الغاز.»

قالت نانسي في صرامة: «من؟ ماذا تعنين بأنهم أعطوكِ غازًا؟»

«المسئولون هنا، أعطوني الإبر.»

«لقد قلتِ إنهم أعطوك بعضًا من الغاز.»

«لقد أعطوني الإبر والغاز لعلاج رأسي حتى يجعلوني أنسى. هناك بعض الأشياء التي أتذكرها، لكني لا أستطيع تحديد وقت حدوثها. ظل هذا الثقب في رأسي لفترة طويلة.»

«هل تُوفي أولي قبل أن تأتي إلى هنا أم بعدها؟ ألا تذكرين كيف تُوفي؟»

«أوه، لقد رأيته، كانت رأسه مغطاة برداء أسود، وكان هناك حبل ملفوف حول عنقه. لقد فعل أحدهم ذلك.» أغلقت فمها وكأن شفتَيْها شُبِّكت إحداهما بالاخرى للحظة قبل أن تردف قائلة: «كان لا بد أن يُعدم أحدهم بالكرسي الكهربائي.»

«ربما كان هذا مجرد حلم سيئ، ربما اختلطت أحلامك بما حدث في الواقع.»

رفعت تيسا ذقنها وكأنها تود أن تقرر أمرًا ما وقالت: «لا ليس كذلك. لم تختلط أحلامي بالواقع.»

حدَّثت نانسي نفسها قائلة: إنها الصدمات الكهربائية، هل تخلِّف الصدمات الكهربائية ثقوبًا في الذاكرة؟ لا بد وأن هناك بعض المعلومات عن ذلك في السجلات الخاصة بها. ستذهب وتتحدث إلى رئيسة الممرضات ثانية.

راحت تنظر إلى ما تفعله إلينور ببقايا العجين؛ فقد كانت تشكِّلهم ببراعة وتصنع منها رءوسًا وأنوفًا وذيولًا وتلصقها ببعض لتكوِّن فئرانًا صغيرة من العجين.

وبحركات سريعة حادة راحت تيسا تشقُّ فتحاتٍ على الجزء العلوي من الفطائر حتى يتخللها الهواء، وقد دخلت قطع العجين الصغيرة المشكَّلة على هيئة فئران إلى الفرن مع الفطائر أيضًا.

مدَّت تيسا يدها كي تحضر لها إلينور منشفة صغيرة مبتلة لتمسح أي أثر للعجين الدبق أو غبار الدقيق من على المائدة.

قالت تيسا في صوت خفيض: «أحضري مقعدًا.» أحضرت إلينور المقعد ووضعته عند نهاية الطاولة لتجلس عليه تيسا بالقرب من مقعد نانسي.

قالت تيسا: «ربما يمكنك أن تذهبي لتُعِدِّي لنا قدحَيْن من الشاي، ولا تشغلي بالك، سنراقب ما صنعته جيدًا، سنراقب فئرانك الصغيرة.»

قالت لنانسي: «دعينا ننسَ كل ما كنا نتحدث بشأنه، ألم تكوني تنتظرين طفلًا في آخر مرة وصلتني منكِ رسالة؟ أكان ولدًا أم بنتًا؟»

قالت نانسي: «كان صبيًّا، لقد كان هذا منذ سنوات طويلة للغاية، وقد أنجبتُ بنتين بعده. لقد كبروا جميعهم الآن.»

«إن المرء لا يشعر بمقدار الوقت الذي يمر هنا، قد تكون تلك نعمة أو قد لا تكون. لا أدري. وماذا يعمل أولادك؟»

«الولد …»

«ما اسمه؟»

«آلان، ودرس الطب هو أيضًا.»

«إنه طبيب. هذا شيء جيد.»

«والفتاتان متزوجتان. وقد تزوج آلان أيضًا.»

«وما اسمهما؟ الفتاتان؟»

«سوزان وباتريشيا، وكلتاهما درست التمريض.»

«لقد اخترتِ أسماء لطيفة.»

أحضرت إلينور الشاي، وصبَّته تيسا. كانت الغلاية موضوعة على الموقد طوال الوقت.

قالت وهي تصب لنفسها في قدح به جزء مكسور: «إنه ليس بنوع فاخر من الخزف.»

قالت نانسي: «لا بأس به. هل تذكرين يا تيسا ما كنتِ تتمتعين به من قدرات في السابق؟ لقد كنت تستطيعين … لقد كانت لك القدرة على معرفة الأشياء والتنبؤ بها. كنت تستطيعين تحديد أماكن الأشياء لمن كانوا يأتون إليك ليسألوك عن مكان وجود ما فقدوه.»

قالت تيسا: «أوه، لا، كنت أتظاهر بذلك فقط.»

«لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا.»

«أشعر بألم في رأسي حينما أتحدث عن ذلك الأمر.»

«آسفة لذلك.»

ظهرت رئيسة الممرضات عند عتبة الباب.

قالت لنانسي: «لم أكن أود أن أزعجكما وأنتما تحتسيان الشاي، لكن هل تمانعين في المرور على مكتبي لدقيقة واحدة بعدما تنتهين من تناوله؟»

انتظرت تيسا بالكاد حتى تبتعد عن مرمى سمعهما.

وقالت: «وهكذا لن تضطري إلى وداعي.»

بدت وكأنها اعتادت قبول تلك المزحة المعتادة.

قالت: «إنها دومًا تقوم بتلك الخدعة. والجميع يعرفها. أعلم أنك لم تأتي لتأخذيني، وكيف لكِ ذلك؟»

«ليس ثَمَّةَ مشكلة تتعلق بكِ يا تيسا، بل إن الأمر يتعلق برعايتي لويلف.»

«هذا صحيح.»

«إنه يستحق أن أفعل له شيئًا. لقد حاول قدر استطاعته أن يكون بمثابة الزوج الصالح. لقد قطعت على نفسي عهدًا بألا يذهب لأي مؤسسة علاجية.»

قالت تيسا: «لا. لا تدعيه يذهب لأي مؤسسة علاجية.»

«يا إلهي! ما تلك الكلمات الغبية التي أتفوه بها؟»

كانت تيسا تبتسم، وقد لمحت نانسي في هذه الابتسامة نفس الشيء الذي كان يثير حيرتها منذ سنوات مضت. لم يكن نوعًا من الاستعلاء، إنما هي ابتسامة تحمل نوعًا من العطف والحنو غير العادي الذي لا مبرر له.

«إنه كرم منكِ أن تأتي لزيارتي يا نانسي، وكما ترين إني أحافظ على صحتي؛ فهذا شيء جيد على الأقل. من الأفضل أن تذهبي لتمري سريعًا على تلك المرأة.»

«ليس لديَّ أي نية في أن أتسلل خفية. بل أنوي أن أودعك.»

والآن ليس ثَمَّةَ وسيلة تستطيع من خلالها أن تسأل رئيسة الممرضات عما أخبرتها به تيسا، بل إنها لا تعرف إن كان من حقها أن تسأل بالأساس؛ على أي حال سيبدو الأمر وكأنها تتسلل خلسة من وراء ظهر تيسا، وقد يؤدي ذلك إلى نوع من الانتقام، ولكن ما الذي يحمل على الانتقام؟ حسنًا، في مكان كهذا لا يمكن للمرء أن يعرف.

«حسنًا، لا تودِّعيني قبل أن تتذوقي واحدًا من فئران إلينور. فئران إلينور العمياء. إنها تريدك أن تتذوقي أحدها. إنها تحبك الآن. ولا تقلقي، فأنا أتأكد بنفسي من أنها تحافظ على نظافة يديها جيدًا.»

أكلت نانسي فأرًا من المخبوزات، وأخبرت إلينور بأنها لذيذة جدًّا. وافقت إلينور على أن تبادلها السلام بالأيدي، وكذلك فعلت تيسا بعدها.

قالت تيسا في لهجة حادة ومنطقية: «إن لم يكن توفي، لماذا لم يأتِ إلى هنا ليأخذني؟ قال إنه سيفعل.»

أومأت نانسي برأسها وقالت: «سأكتب لك.»

•••

وكانت تعني هذا حقًّا، ولكن عندما عادت إلى منزلها وجدت أن ويلف يحتاج الكثير من الرعاية، وأصبحت زيارتها إلى ميشيجان مجرد شيء مربك في ذهنها، بل وبدت وكأنها وهمًا؛ لذا لم تفعل.

مربع، ودائرة، ونجمة

في أحد أيام أواخر الصيف في بداية السبعينيات، كانت هناك امرأة تتجول في فانكوفر؛ وهي مدينة من المدن التي لم تَزُرها مطلقًا من قبل، وعلى حد علمها لن تأتي لزيارتها ثانية. سارت من الفندق الذي كانت تنزل به في وسط المدينة حتى جسر شارع بورارد، وبعد فترة قصيرة وجدت نفسها في شارع فورث أفينيو. اشتهر شارع فورث أفينيو في ذلك الوقت بأنه يضم العديد من المحلات الصغيرة التي تبيع البخور، والكريستالات، والزهور الصناعية الضخمة، والملصقات الدعائية لسلفادور دالي وأغنية وايت رابيت، كذلك توجد به أيضًا العديد من المتاجر التي تبيع الملابس زهيدة الثمن؛ سواء تلك الرديئة ذات الألوان البراقة أو ذات الألوان الترابية التي تشبه الأغطية في ثقلها، وجميعها مصنوعة في مناطق فقيرة بالعالم لا يُسمع عنها إلا في الأساطير. وتبدو الموسيقى المنبعثة من هذه المتاجر وكأنها تهاجمك — بل تصدمك — حين تمر من جانبها، وكذلك هو الحال مع الروائح الغريبة التي تشعر بنكهتها الحلوة، وأولئك الصبية والفتيات أو الشباب والشابات المتكاسلين الذين يبيتون على أرصفة الشوارع. كانت المرأة قد سمعت وقرأت عن الثقافة الشبابية الجديدة، كما يطلقون عليها؛ فقد برزت هذه الثقافة وانتشرت منذ سنوات، ولكن يقال إنها في طريقها للتراجع والاختفاء الآن. غير أنها لم تتخيل مطلقًا أن تشق طريقها وسط تجمعاتها، أو أن تجد نفسها بمفردها، كما يبدو، في وسط هؤلاء الشباب.

كانت امرأة في السابعة والستين من عمرها؛ هزيلة الجسم بدرجة اختفت معها أردافها وقلَّ حجم صدرها، تتسم مشيتها بالسرعة وهي مرفوعة الرأس، وتجول بنظرها من ناحية إلى أخرى بأسلوب فيه نوع من التحدي والفضول.

وكل من كانت تراهم كانوا أصغر منها بثلاثين سنة على الأقل.

اقترب منها شاب وفتاة باحترام شابَهُ بعض الحماقة. كانا يضعان حول رأسيهما أطواقًا من الشرائط المجدولة، وأرادا أن يبيعاها لفافة صغيرة من الورق.

سألتهما إن كان حظها مدونًا بداخلها.

قالت الفتاة: «ربما.»

قال الفتى في لهجة استنكار: «إنها تحوي الحكمة.»

قالت نانسي وهي تضع دولارًا في القبعة المطرزة التي مدَّاها نحوها: «أوه، في تلك الحالة سآخذها.»

قالت نانسي وهي تبتسم ابتسامة عريضة لم تستطع إخفاءها ولم يبادلها الاثنان تلك الابتسامة: «والآن أخبراني باسمَيْكما.»

قالت الفتاة وهي تأخذ ورقة النقود وتدسها في جزء من ملابسها: «آدم وحواء.»

شرعت نانسي في تذكُّر لعبة طفولية كان بها هذه الأغنية: «آدم وحواء وقرصة موجعة ذهبوا إلى النهر مساء السبت …»

لكن الشاب والفتاة مشيا من أمامها وقد علت وجهيهما أمارات الضجر والازدراء.

يكفي هذا. وأكملت طريقها.

هل هناك أي قانون يمنع وجودي هنا؟

رأت مقهًى صغيرًا متواضعًا يضع لافتة على إحدى نوافذه، لم تتناول شيئًا منذ طعام الإفطار الذي قُدم إليها في الفندق. كانت الساعة جاوزت الرابعة. توقفت لترى ما يعلنون عنه.

قرأت عبارة «ما أجمل العشب!» وخلف تلك الكلمات المكتوبة بخط رديء رأت امرأة يبدو عليها الغضب تكاد تبكي وتكسوها التجاعيد؛ كان شعرها خفيفًا يطير إلى الخلف من على جبهتها وقرب وجنتيها، ذا لون بني يميل إلى الحمرة ومظهر جاف. تذكرت كلام مصفف الشعر وهو يقول إن الأفضل دائمًا أن تضفي لونًا أفتح من لون شعرك الطبيعي. وكان شعر نانسي بنيًّا داكنًا، يكاد يقترب من اللون الأسود.

لا، لم يكن كذلك. إن شعرها الآن أصبح رماديًّا.

مرات قليلة في حياتكَ — أو على الأقل هي مرات قليلة إن كنتِ امرأة — التي تفاجأ فيها بنفسك على هذا النحو دونما أي استعدادات. كان الأمر بالنسبة لها أشبه بتلك الأحلام المخيفة التي كانت ترى فيها نفسها تسير في الشارع مرتديةً رداء النوم أو ذلك الجزء العلوي من منامتها فقط دون أي مبالاة بالأمر.

خلال العشر أو الخمس عشرة سنة الماضية استطاعت أن تجد وقتًا تتطلع فيه بعين فاحصة إلى وجهها في الضوء الشديد حتى تستطيع أن ترى بشكل أفضل ما يمكن أن تخفيه مستحضرات التجميل، أو إن كان الوقت قد حان لكي تبدأ في تلوين شعرها بالصبغات، لكنها قط لم تتلقَّ صدمة كهذه عندما مرت عليها تلك اللحظة التي لم ترَ خلالها فقط أماكن العيوب القديمة أو الحديثة في جسدها أو حتى ذلك الانحدار الذي لا يمكن تجاهله، إنما فوجئت أمامها بشخص غريب عنها تمامًا.

شخص لم تعرفه من قبل، ولا ترغب في معرفته.

أبدلت تعبيرات وجهها على الفور، وظهر بعض الارتياح على قسماتها. يمكن أن نقول إنها تعرَّفت حينها على ذاتها. وسرعان ما فتَّشت بلهفة واشتياق عن الأمل بداخلها كما لو أنه لم تتبقَّ دقيقة واحدة لتفقدها. كانت بحاجة لوضع بعضٍ من مثبت الشعر حتى لا يتطاير شعرها هكذا حول وجهها، كما أنها تحتاج إلى أن تضع طلاء شفاه أكثر وضوحًا؛ فالأحمر المرجاني، والذي يصعب الحصول على درجته الآن، سيكون أفضل من ذلك البيج الكئيب المائل للوردي رغم أنه يساير الموضة ولونه طبيعي. جعلها تصميمها للحصول على ما تريد تستدير عائدة أدراجها مرة أخرى؛ فقد رأت متجرًا كبيرًا لأدوات التجميل على بعد ثلاث أو أربع بنايات إلى الخلف، كذلك فإن رغبتها في ألا تمر مرة أخرى من أمام آدم وحواء دفعتها لأن تعبر الطريق.

ولولا عبورها الطريق، لما كان ذلك اللقاء بينهما.

رأت شخصًا متقدمًا في العمر يسير على الرصيف؛ رجلًا ليس بالطويل، لكنه ممشوق الجسم قوي البنية، أصلع عند مقدمة الرأس حيث لا يوجد سوى بعض الشعر الأبيض الخفيف والمتطاير في كل اتجاه مثلها تمامًا. كان يرتدي قميصًا من قماش الدنيم مفتوحًا عند الرقبة، وسروالًا وسترة من طراز قديم. لم يكن به ثَمَّةَ ما يجعله يشبه الشباب الصغار الموجودين في الطريق؛ فشعره ليس معقوصًا على هيئة ذيل حصان، ولا يضع وشاحًا أو يرتدي الجينز. لم تكن لتظنَّه خطأً من ذلك النوع من الرجال الذي اعتادت أن تراه يوميًّا على مدار الأسبوعيين الماضيين.

عرفته على الفور؛ إنه أولي، لكنها تسمرت في مكانها؛ فقد كان لديها سبب وجيه لتعتقد أن ما تراه قد لا يكون حقيقة.

إنه أولي. ما زال على قيد الحياة! أولي.

رآها وقال: «أوه، نانسي!»

لا بد وأن التعبير الذي ارتسم على وجهها (بمجرد أن تغلَّبت على لحظة الفزع التي ألمَّت بها والتي بدا أنه لم يلحظها) يشبه كثيرًا ما ارتسم على وجهه هو الآخر من تعبيرات؛ ألا وهي الشك، والابتهاج، والاعتذار.

ولكن الاعتذار عن ماذا؟ هل لأنهما لم يفترقا كأصدقاء؟ أم لأنه لم يكن هناك أي تواصل بينهما خلال كل تلك السنوات الماضية؟ أم بسبب كل تلك التغيرات التي اعترتهما، والأسلوب الذي ينبغي أن يقدما به نفسيهما الآن، لا طائل من ذلك.

بالتأكيد كان لدى نانسي أسباب لشعورها بالصدمة أقوى مما كان لديه، لكنها لن تفصح عنها في تلك اللحظة على الأقل حتى يلتقطا أنفاسهما من وقع المفاجأة ويجمعا شتات نفسيهما.

قالت نانسي: «إنني هنا لليلة واحدة فقط؛ أعني أنني هنا منذ الليلة الماضية وسأمكث هنا الليلة أيضًا، لقد كنت في رحلة بحرية متجهة إلى ألاسكا بصحبة بعض الأرامل كبار السن؛ فقد توفي ويلف كما تعلم، منذ عام تقريبًا. أتضور جوعًا، فأنا أسير منذ فترة طويلة ولا أدري كيف بلغت هذا المكان.»

أضافت بشيء من الحماقة: «لم أكن أعلم أنك تعيش هنا.» لأنها لم تكن تعتقد أنه على قيد الحياة أصلًا؛ بَيْدَ أنها لم تكن واثقة من وفاته أيضًا. على حد علمها لم يكن لدى ويلف أي أخبار في هذا الشأن، بالرغم من أنها لم تحصل على الكثير من المعلومات من ويلف؛ لأنه كان قد فقد صوابه، وحتى في رحلاتها القصيرة إلى ميشيجان لرؤية تيسا لم تستطع أيضًا أن تحصل على أي معلومات.

قال أولي إنه لا يعيش في فانكوفر أيضًا، وإنه في زيارة إلى المدينة لفترة قصيرة فقط، وهو هنا لأسباب طبية، نوع من الفحوصات الروتينية. وأخبرها أنه يعيش في جزيرة تكسادا، وقال إن مكانها أمر معقد يطول شرحه، لكن يكفي القول إنه استقل ثلاث سفن وثلاث عبَّارات لكي يصل من هناك إلى هذه المدينة.

قادها إلى شاحنة بيضاء قذرة ماركة فولكسفاجن تقف في أحد الشوارع الجانبية، وتوجَّها إلى أحد المطاعم. اعتقدت أن السيارة تنبعث منها رائحة مياه المحيط، وأعشاب البحر ورائحة السمك والمطاط. اتضح فيما بعد أنه لا يتناول إلا السمك الآن، ولا يأكل اللحم على الإطلاق. كان المطعم — الذي لا يحوي أكثر من نصف دستة من الطاولات الصغيرة — يابانيًّا، وكان هناك صبي ياباني يقطع السمك بسرعة مخيفة خلف النضد، وكان له ذلك الوجه الحزين الجميل مثل وجه كاهن صغير. ناداه أولي قائلًا: «كيف الحال يا بيت؟» رد الشاب بلهجة أهل أمريكا الشمالية الساخرة ودون أن يغفل إيقاع كلماته: «رائع.» انتاب نانسي شعور بسيط بالانزعاج؛ فهل مَكْمَنه أن أولي تفوَّه باسم الشاب في حين أن الآخر لم يذكر اسم أولي؟ أم لأنها تمنَّت ألا يلحظ أولي أنها انتبهت لذلك؟ هناك بعض الأشخاص — وخصوصًا الرجال — يولون أهمية لصداقاتهم مع العاملين في المتاجر أو المطاعم.

لم تحتمل فكرة تناول السمك النَّيئ، فطلبت بعضًا من النودلز. كانت أعواد الأكل التي أحضرها الشاب غير مألوفة بالنسبة لها — فلم تكن تشبه تلك الأعواد الصينية التي استخدمتها مرة أو مرتين من قبل — ولكنهم لا يقدمون غيرها في هذا المكان.

والآن وبعد أن استقر بهما المقام آن لها أن تتحدث عن تيسا، لكن قد يكون من اللياقة أن تنتظر قليلًا حتى يبدأ هو في إخبارها.

لذا شرعت في التحدث عن رحلتها البحرية؛ فقالت إنها لن تذهب ثانية في مثل هذه الرحلات؛ فهي تخاف على حياتها؛ وليس هذا بسبب الطقس، بالرغم من أنه كان سيئًا في بعض الأوقات حيث تساقطت الأمطار وحجب الضباب الرؤية أحيانًا، بل إنهم حظوا برؤية كافية في الواقع حيث شاهدوا الكثير من المناظر الطبيعية تكفيهم ما تبقى لهم من العمر. مروا بالكثير من الجبال والجزر والصخور والمياه والأشجار. وكان كلُّ من في الرحلة يعلق قائلًا: أليس ذلك بالشيء الخلاب؟ أليس هذا مذهلًا؟

مذهل، خلاب، رائع، مذهل.

رأوا الدببة والفقمات وأسود البحر، ورأوا أيضًا أحد الحيتان، والتقط الجميع الصور، وكانوا يتصببون عرقًا وهم يلعنون كاميراتهم الجديدة خوفًا من ألا تعمل على نحو جيد. ثم غادروا المركب، واستقلوا القطار من المحطة الشهيرة حتى المدينة الشهيرة بتعدين الذهب، والتقطوا المزيد من الصور. وكان هناك بعض الممثلين الذين ارتدوا ملابس تعود لفترة تسعينيات القرن التاسع عشر، وماذا فعل معظم الناس هناك؟ اصطفوا لشراء الحلوى.

كانوا يرددون الأغاني في القطار وعلى المركب، وأسرفوا في الشراب، بل إن هناك من كانوا يبدءون يومهم منذ وقت الإفطار بلعب الأوراق والقمار، ثم الرقص كل ليلة، عشر سيدات عجائز مع رجل واحد متقدم في العمر.

«وضعت النساء جميعهن الأشرطة على رءوسهن، وتزيَّنَّ وصفَّفن شعورهن كالكلاب في العروض، وأصدقك القول؛ لقد كانت المنافسة شديدة.»

كان أولي يضحك عند بعض أجزاء من روايتها، بالرغم من أنها لمحته مرة وهو لا ينظر إليها، بل نحو النضد بشرود وبتعبير ينمُّ على القلق. كان قد انتهى من تناول الحساء وربما كان يفكر فيما يليها من طعام. ربما شعر ببعض التجاهل والاستخفاف عندما لم يُحضَر طعامه على الفور، شأنه في ذلك شأن بعض الرجال.

لم تفلح محاولات نانسي في إحكام سيطرتها على النودلز بتلك الأعواد.

«ثم رحت أتساءل، يا إلهي، ماذا أفعل هنا؟ كان الجميع يقولون لي باستمرار إن عليَّ أن أُرَفِّه عن نفسي. لقد ظل ويلف لسنوات فاقدًا لصوابه، وتغيَّرت شخصيته، وكنت أعتني به في المنزل. وبعد وفاته، كان الناس يقولون لي إنه عليَّ أن أخرج وأشارك في الأنشطة؛ كأن أنضم إلى نادي الكتاب للكبار، أو رابطة التجول في الطبيعة، أو الرسم بألوان المياه، بل إنهم حتى نصحوني أن أنضم إلى رابطة الزوار المتطوعين الذين يذهبون ويتطفلون على المخلوقات الفقيرة البائسة في المستشفيات، لكني لم أشعر بأي رغبة في أن أفعل ذلك، ثم بدأ الجميع ينصحونني ويكررون أن عليَّ أن أخرج وأستمتع بحياتي، وكذلك قال أولادي بأنني بحاجة إلى إجازة طويلة؛ لذا أخذت أفكر وأماطل في الأمر ولم أكن أعرف حقًّا إلى أين أذهب، ثم حدث وأن سألني أحدهم: لِمَ لا تذهبين في رحلة بحرية؟ لذا رحت أفكر في الأمر، بإمكاني أن أذهب بالفعل في رحلة بحرية.»

قال أولي: «شيء مثير للاهتمام؛ فأنا لا أعتقد أن فقدان زوجة يمكن أن يجعلني أفكر فيما بعد بأن أذهب في رحلة بحرية.»

واصلت نانسي الحديث دون توقف، وقالت: «هذا ذكاء منك.»

انتظرت أن يذكر شيئًا بشأن تيسا، لكن جاء الصبي بالسمك الذي سيتناوله وراح يأكل محاولًا إقناعها بأن تتذوق منه.

لكنها لم تفعل، بل إنها توقفت عن تناول الوجبة بالكلية، وأشعلت سيجارة.

قالت إنها كانت تترقَّب وتنتظر لترى ما سيكتبه بعد هذا السبق الصحفي الذي أحدث كل هذا الصخب. لقد أثبت ذلك المقال أنه كاتب جيد.

بدا متحيرًا لوهلة كما لو أنه لم يستطع تذكُّر ما تتحدث عنه، ثم هزَّ رأسه كما لو أنه دُهش من كلامها وقال بأن هذا كان منذ سنوات طويلة؛ طويلة جدًّا.

«لكن ليس هذا ما كنت أريده حقًّا.»

قالت نانسي: «ماذا تعني بذلك؟ لقد تغيرت عما كنت عليه، أليس كذلك؟ فلست كما كنت سابقًا.»

«بالطبع لا.»

«أعني أن هناك شيئًا مختلفًا بالأساس، لقد تغيَّرت من الناحية البدنية؛ فبنيتك مختلفة؛ كتفاك. أم أنني لا أتذكر جيدًا؟»

قال: هو كذلك تمامًا. أدرك أنه يريد أن يحيا حياة بها نوع من النشاط البدني، فما حدث بالترتيب هو أن ذلك اللعين عاوده مرة أخرى (خمَّنَت أنه يعني مرض السل)، وأدرك حينها أنه يفعل كل الأشياء الخاطئة؛ لذا قرَّر التغيير. كان هذا منذ سنوات. تلقَّى تدريبًا ليصبح صانع قوارب، ثم عمل مع رجل يدير مراكب صيد متخصصة في الصيد على أعماق كبيرة. وكان يعتني بمراكب يمتلكها أحد كبار الأثرياء. كان ذلك في ولاية أوريجون بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم عاد إلى كندا، ومكث هنا فترة في فانكوفر، وبعدها اشترى قطعة أرض في سيشلت تطل على البحر، وذلك عندما كانت الأسعار لا تزال زهيدة. ثم بدأ بعد ذلك في تجارة قوارب التجديف؛ فكان يقوم ببنائها وتأجيرها وبيعها وإعطاء بعض الدروس في صناعتها. ثم مرَّ عليه وقت شعر خلاله بأن سيشلت أصبحت مزدحمة للغاية؛ لذا تنازل عن قطعة الأرض لأحد أصدقائه بثمن بخس يكاد يكون بلا مقابل في الواقع. لقد كان هو الشخص الوحيد الذي لم يتمكن من تحقيق ثروة من قطعة أرض في سيشلت.

قال: «لكن حياتي لا تدور حول تحقيق الثروة فقط.»

كان قد سمع عن إمكانية الحصول على أرض في جزيرة تكسادا، وهو الآن لا يغادرها عادة. وهناك عمِلَ في أشياء كثيرة ليكسب قوته؛ استمر في العمل في مجال صناعة قوارب التجديف إلى جانب بعض أنشطة الصيد، وقد استعان به البعض عاملًا وبنَّاءً للمنازل ونجَّارًا.

قال: «أستطيع تدبير أمري.»

ثم حدَّثها عن المنزل الذي بناه لنفسه، كان يبدو من الخارج كوخًا خشبيًّا، لكنه كان رائعًا ومريحًا من الداخل، على الأقل بالنسبة له. كان به حجرة نوم علوية تحوي نافذة صغيرة مستديرة. كل شيء يحتاجه يجده أمامه في متناول يديه، كل شيء بالخارج؛ إذ لم يكن يوجد شيء في الخزانات. وعلى بعد خطوات قليلة من المنزل كان يوجد حوض للاستحمام غاطس تحت الأرض وسط حوض من الأعشاب العطرية، وكان يحمل المياه الساخنة إليه من خلال الدلو، ويجلس للاسترخاء أسفل النجوم حتى في الشتاء.

كان يزرع الخضراوات ويتشاركها مع الغزلان.

وطوال ذلك الوقت الذي كان يسرد فيه كل هذا، اعترت نانسي مشاعر حزن، ولم يكن ذلك بسبب عدم تصديقها لما يقوله — برغم التضارب الكبير — وإنما كانت بسبب حيرتها المتزايدة، ثم شعورها بالإحباط وخيبة الأمل. إنه يتحدث بنفس الأسلوب الذي يتحدث به الرجال الآخرون (فعلى سبيل المثال، كان يتحدث مثل رجل أمضت معه بعض الوقت أثناء رحلتها البحرية، حيث لم تكن شديدة التحفظ باستمرار، أو منطوية على ذاتها كما جعلت أولي يعتقد). الكثير من الرجال ليس لديهم ما يقولونه عن حياتهم سوى ما يتعلق بالمكان والزمان الذي يعيشون فيه، لكنَّ هناك رجالًا آخرين أكثر تطورًا ومواكبة لما يجري، يتحدثون بمثل هذا الكلام الذي يبدو اعتياديًّا على نحو ينم عن الخبرة، يظهر من حديثهم أن الحياة كالطريق الوعر، لكن المصائب تمهد الطريق للنجاحات، وثَمة دروس مستفادة، وبلا شك يأتي بعد الظلمة نور.

لم يكن لديها اعتراض بشأن الرجال الذين يتحدثون على هذا النحو — إذ كان يمكنها عادة أن تفكر في شيء آخر عندما يحدث ذلك — لكن عندما فعل أولي هذا وتحدَّث بتلك الطريقة، وهو يميل نحو المائدة الصغيرة المتهالكة ويمد يده نحو الطبق الخشبي الذي يحوي قطع السمكة المقززة، غمرها الشعور بالحزن.

إنه ليس نفس الشخص الذي عرفته، إنه حقًّا ليس نفس الشخص.

ولكن ماذا عنها؟ أوه، تكمن المشكلة في أنها هي ذاتها؛ نفس الشخصية لم تتغير. عندما كانت تتحدث عن الرحلة البحرية، كانت تشعر بالإثارة، وتستمتع وهي تتحدث هكذا وتنصت لنفسها، ولعبارات الوصف التي تنهال منها. ولم يكن ذلك في الواقع لأنه هو الأسلوب الذي اعتادت التحدث به إلى أولي، بل لأنه نفس الأسلوب الذي تمنَّت أن تتحدث به معه، بل إنها كانت في بعض الأحيان تتحدث معه هكذا في عقلها؛ وذلك بعد أن رحل ولم تَعُد تراه (ولكنها لم تكن تفعل ذلك بالطبع إلا بعد أن تغلَّبت على شعورها بالغضب نحوه فيما بعد). قد يحدث في بعض الأحيان أمرٌ ما يجعلها تحدِّث نفسها بأنها تتمنى أن تخبر أولي بشأن هذا أو ذاك، وعندما كانت تتحدث للآخرين بالأسلوب الذي ترغب به، كانت تتمادى في ذلك أحيانًا، وكان يمكنها حينئذ أن تخمِّن ما يفكرون به. لعلهم يقولون عنها ساخرة أو ناقدة أو حتى لاذعة، ولم يكن ويلف ليصفها بهذه الكلمات، ولكنه ربما كان يفكر مثلهم، لم تستطع قط أن تحدد. أما جيني فكانت تبتسم، ولكن ليس بطريقتها المعتادة. لقد أصبحت جيني في منتصف عمرها الذي لم تتزوج خلاله كتومةً وديعة، ومحبة للأعمال الخيرية (لكن السر وراء ذلك التغيير انكشف قبيل وفاتها عندما اعترفت أنها اعتنقت البوذية).

لذا كانت نانسي تفتقد أولي كثيرًا دون أن تعرف ما الذي تفتقده بالتحديد. افتقدت شيئًا مزعجًا يضطرم بداخله كالحمى الخفيفة؛ شيئًا لم تستطع أن تنتصر عليه. لقد اتضح فيما بعد أن الأشياء التي كانت تثير حنقها خلال الفترة القصيرة التي عرفته خلالها هي نفسها الأشياء التي لامست ذاتها واستمرت ذكراها في ذهنها وهي تستعيد ما مضى من أحداث.

والآن يتحدث إليها بشغف؛ يبتسم وهو ينظر في عينيها. لقد ذكَّرها بأسلوبه البسيط الذي كان يتبعه، والذي كان يجعل منه شخصية جذابة، لكنها كانت تعتقد أنه لم يكن يستخدم هذا الأسلوب معها.

كانت تخشى أن يقول لها: «إنني أُشعرك بالملل، أليس كذلك؟» أو أن يقول: «أوَليست الحياة رائعة؟»

قال: «لقد كنت محظوظًا للغاية، كنت محظوظًا في حياتي. أوه، أعرف أن بعض الأشخاص قد لا يعتقدون أني كنت كذلك؛ فقد يقولون إنني لا أستمر في أي عمل، أو إنني لم أجمع ثروة. وقد يقول البعض إنني أهدرت ذلك الوقت الذي كنت فيه فقيرًا بلا شيء، لكن ذلك ليس صحيحًا.»

أردف قائلًا وهو يرفع حاجبيه وعلى وجهه شبه ابتسامة عما فعله: «لقد سمعت ذلك النداء، حقًّا لقد سمعت ذلك النداء بأن أخرج عن إطار المألوف … أخرج عن إطار القيام بشيء عظيم ينادي به الجميع — أخرج عن إطار الذات. لقد كنت محظوظًا طوال الوقت؛ محظوظًا حتى بإصابتي بمرض السل؛ فقد منعتني هذه الإصابة من الالتحاق بالجامعة حيث كنت سأملأ عقلي بهراء، كما أنها منعت تجنيدي في الجيش في حالة نشوب الحرب.»

قالت نانسي: «لم تكن لتذهب للتجنيد على أي حال إن كنت رجلًا متزوجًا.»

(تساءلت ذات مرة بأسلوب ساخر أمام ويلف إن كان الإعفاء من التجنيد يمكن أن يكون سببًا للإقدام على الزواج.)

قال ويلف حينها: «إن أسباب الآخرين لا تهمني كثيرًا.» وأضاف أنه لن تكون هناك حرب على أي حال، ولم تنشب حرب بالفعل لعقد كامل بعد ذلك.

قال أولي: «حسنًا، نعم، لكن ذلك ليس بالشيء القانوني تمامًا، لقد كنت سابقًا لوقتي يا نانسي، لكني دائمًا ما كنت أنسى أنني لم أكن متزوجًا بمعنى الكلمة. ربما لأن تيسا كانت امرأة تتسم بالجدية الشديدة والتعقيد؛ فليس ثَمَّةَ نوع من المرونة أو الشعور بالراحة معها.»

قالت نانسي بأسلوب هادئ قدر المستطاع: «إذن، احكِ لي عنك أنت وتيسا.»

قال: «لقد كان ذلك الانهيار هو الذي عرقل كل شيء.»

استكمل حديثه موضحًا ما يعنيه بذلك؛ وهو أن حالتها فقدت كل الاهتمام، وكان من تبعات ذلك توقف التمويل؛ أي تمويل الأبحاث حول هذه الحالات. حدث تغيُّر في أساليب التفكير؛ خاصة مع عزوف المجتمع العلمي عما اعتبروه بالتأكيد نوعًا من العبث. قال إن بعض التجارب استمرت لفترة، لكن على نحو غير منظم. وحتى الأشخاص الذين كانوا أكثر اهتمامًا، وأكثر التزامًا — الأشخاص الذين كانوا على اتصال به، حتى لو لم يتصل هو بهم — فقد كانوا هم أول من ابتعد، ولم يردُّوا على الخطابات التي أرسلها إليهم، ولم يحاولوا التواصل معه بأي وسيلة إلى أن قاموا في النهاية بإرسال رسائل قصيرة من خلال سكرتيراتهم يخبرونه فيها بأن الاتفاق برمته أُلغي. وعاملوه هو وتيسا معاملة سيئة للغاية وكأنهم كمٌّ من القاذورات؛ كأشخاص انتهازيين يسببون الإزعاج؛ وذلك بمجرد أن تحوَّل مسار الأمور وتغيرت الدفة.

قال: «وبعد كل ما عانيناه ذهبنا إلى الأكاديميين ووضعنا أنفسنا تحت تصرفهم، ولم أجد منهم أي استفادة.»

قالت: «ظننت أن معظم تعاملاتك كانت مع الأطباء.»

«الأطباء، وصانعي المستقبل المهني، والأكاديميين.»

ولكي تبعده عن ذكريات هذه الجراح الأليمة، وعن ذلك المزاج السيئ، راحت تسأله عن التجارب التي أُجريت بالفعل.

قال بأنها كانت تتضمن جميعها استخدام البطاقات؛ ليست بطاقات عادية إنما بطاقات الإدراك الحسي الفائق وما تحتويه من رموز؛ منها الصليب، والدائرة، والنجمة، والخطوط المتعرجة، والمربع؛ فقد كانوا يضعون على المنضدة بطاقة واحدة لكل رمز ووجهها لأعلى بينما تخلط بقية أوراق اللعب وتقلب ليكون وجهها للأسفل. ومن المفترض أن تحدد تيسا أي رمز من الرموز التي أمامها يتطابق مع رمز أول بطاقة من البطاقات الموجودة. كان ذلك اختبار المطابقة المفتوحة، أما اختبار المطابقة المُعمَّاة فهو نفس الاختبار السابق فيما عدا أنه يتم قلب الكروت الخمسة الرئيسية. وكانت هناك عدة اختبارات أخرى ذات مستويات صعوبة متزايدة، تستخدم العملات والنرد في بعض الأحيان. وأحيانًا لا يستخدم أي شيء سوى صورة ذهنية؛ مجموعة من الصور الذهنية دون أن يكون هناك أي شيء مكتوب، وإما أن يجلس الشخص الخاضع للاختبار والمسئول عن الاختبار كلاهما في نفس الغرفة، أو في غرف منفصلة، أو يُبعَد أحدهما عن الآخر مسافة ربع ميل.

وقد تم مقارنة معدل نجاح تيسا بالنتائج التي يتم الحصول عليها بالصدفة البحتة أو وفقًا لنظرية الاحتمالات التي كان يعتقد أولي أنها تبلغ عشرين بالمائة.

لم يكن ثَمَّةَ شيء في الغرفة سوى مقعد، ومائدة، ومصباح إضاءة؛ تمامًا مثل غرفة التحقيقات، وكانت تيسا تخرج من الغرفة منهكةً تمامًا. وقد أزعجتها الرموز لساعات أينما نظرت، وبدأت نوبات الصداع تنتابها.

وكانت النتائج غير حاسمة، وظهرت كل أنواع الاعتراضات؛ ليس بشأن تيسا، وإنما بشأن الاختبارات وما إذا كانت معيبة أو بها نقص، فقال البعض إن الناس لديهم أفضلية في بعض الأشياء؛ إذ إنه عند إلقاء إحدى العملات على سبيل المثال فالكثيرون سيفضلون اختيار الصورة عن الكتابة، سيفعلون ذلك ببساطة؛ هذا كل ما في الأمر. وإضافة إلى ذلك ما قاله سابقًا عن المناخ العام وقتها، المناخ الفكري الذي كان يضع كل تلك الأبحاث في نطاق العبث.

•••

بدأ الظلام يهبط، ووُضعت لافتة «مغلق» على باب المطعم. وكان أولي يجد صعوبة في قراءة الفاتورة، واتضح أن السبب الذي أتى به إلى فانكوفر — ألا وهو المشكلة الطبية — له علاقة بعينَيْه. ضحكت نانسي وأخذت الفاتورة منه وسدَّدت الحساب.

«بالطبع أسدد الفاتورة؛ أوَلست الأرملة الثرية؟»

ولأنهم لم ينتهوا من حديثهم بعد — ولم ترَ نانسي مكانًا آخر بالجوار — فقد سارا حتى وصلا إلى مقهى دينيز لتناول القهوة.

قال أولي: «ربما كنتِ تريدين مكانًا أفخم، هل كنتِ تريدين بعض الشراب؟»

قالت نانسي سريعًا إنها تناولت كمية من الشراب على المركب تكفيها لفترة.

قال أولي: «لقد تناولتُ ما يكفيني طوال حياتي، لقد أقلعت عنه منذ خمس عشرة سنة؛ خمس عشرة سنة وتسعة أشهر تحديدًا. يمكنك التعرف على مَن كان سكيرًا في الماضي عندما يعد الأشهر.»

وخلال فترة إجراء التجارب، والتعامل مع المتخصصين في علم النفس الغيبي، كوَّن هو وتيسا صداقات جديدة؛ فتعرفا على بعض الأشخاص ممن كانوا يكسبون عيشهم عن طريق القدرات التي يتمتعون بها، وليس عن طريق الاهتمام بالعلم المزعوم، إنما من خلال ما يطلقون عليه قراءة المستقبل، أو قراءة الأفكار، أو توارد الخواطر، أو مختلف الأنشطة التي تتعلق بالنفس. منهم من استقر به المقام في أماكن جيدة حيث يعملون من خلال أحد المنازل، أو أمام واجهات أحد المحال التجارية وبقوا هناك لسنوات. هؤلاء هم الأشخاص الذين كانوا يُسدون النصائح الشخصية، ويتنبئون بالمستقبل، ويمارسون علم التنجيم، ونوعًا من أنواع العلاج البديل. وهناك فئة أخرى كانوا يقدِّمون العروض أمام العامة، وكان هذا يعني الانضمام إلى عروض تشبه عروض تشوتوكوا الترفيهية، والتي كانت تتضمن إلقاء بعض المحاضرات، وقراءات ومشاهد من مسرحيات شكسبير، وكان منهم من يغني غناء أوبراليًّا، بالإضافة إلى عرض شرائح عن بعض الرحلات والأسفار (محاضرات تعليمية وليست من أجل الترفيه فقط)، كل هذا ومرورًا حتى بالمهرجانات ذات الأسعار الزهيدة التي تتضمن بعض الفقرات المضحكة الخفيفة، وفقرات التنويم المغناطيسي، وفقرة لامرأة شبه عارية تلتحف بالثعابين. وبطبيعة الحال كان أولي وتيسا يعدَّان نفسيهما من المنتمين إلى الفئة الأولى؛ فالتثقيف وليس الترفيه هو بغيتهم في حقيقة الأمر، لكن للأسف مرة أخرى لم يكن التوقيت في صالحهم؛ فلقد انتهت تقريبًا مثل تلك العروض ذات المستوى الثقافي الأعلى؛ إذ أصبح بمقدور الناس أن تستمع إلى الموسيقى وأن تحصل على قسط من التثقيف من خلال الراديو، وقد شاهد الناس كافة المحاضرات المصورة عن الرحلات في قاعة الكنيسة.

واكتشف أولي وتيسا أن السبيل الوحيد لجني بعض المال هو الانضمام لتلك العروض المتنقلة والعمل في قاعات العروض والاجتماعات في البلدة أو في عروض الخريف. تشاركوا المسرح مع من يقومون بالتنويم المغناطيسي، والنساء اللاتي يلففن الثعابين حول أجسادهن، ومع من يعرضون المونولجات الرديئة، وفتيات عروض التعري اللاتي غطَّين أجسادهن بالريش، ولكن حتى ذلك النوع من العروض بدأ في الانحسار والاختفاء. إلا أن نشوب الحرب عمل على إنعاشه على نحو غريب بعض الشيء؛ إذ امتد لفترة — وإن كان هذا الامتداد مفتعلًا وغير طبيعي — عندما منعت عمليةُ ترشيد الغاز الناس من الذهاب إلى الملاهي الليلية في المدينة أو ارتياد دور السينما الكبرى. ولم يكن التليفزيون قد وصل بعد لتسليتهم بعروض السحر والحركات البهلوانية وهم جالسون على مقاعدهم الوثيرة بالمنزل. ومع بداية الخمسينيات، وظهور برنامج إد سوليفان وغيره كانت نهاية العروض في الواقع.

ومع ذلك كانت هناك بعض الحشود التي لا بأس بها لفترة من الوقت، وامتلأت القاعات عن آخرها؛ وكان أولي يستمتع بما يفعله؛ إذ كان في بعض الأحيان يلقي محاضرة بسيطة وجادة إلا أنها شائقة على سبيل الإحماء وتهيئة الجمهور وجذب انتباههم في الوقت نفسه. وسرعان ما أصبح أولي جزءًا من العرض، وكان عليهم إيجاد شيء أكثر إثارة مما يفعلونه؛ بإضافة نوع من الدراما والتشويق يفوق ما تفعله تيسا بمفردها. ثم كان هناك عامل آخر ينبغي وضعه في الاعتبار؛ استطاعت تيسا مواجهة الأمر على قدر ما تحتمل أعصابها وقدراتها البدنية، لكن ثبت أنه لا يمكن الاعتماد على قدراتها أيًّا كانت؛ فبدأت تضطرب وتخطئ في تخميناتها؛ لذا كان عليها التركيز بصورة لم تفعلها من قبل، ولكنها أخفقت كثيرًا واستمرت نوبات الصداع.

إن ما يشك به معظم الناس يكون صحيحًا، وشكوكهم في محلها؛ فمثل هذه العروض مليئة بالخدع والاحتيال والتضليل، وفي بعض الأحيان تكون كلها كذلك، ويكون هذا كل ما في الأمر، لكن ما يأمل به الناس، معظم الناس، يكون صادقًا وحقيقيًّا في بعض الأحيان؛ فهم يأملون بألا تكون تلك العروض كلها مجرد خدع. وبسبب وجود مؤدِّين على قدرٍ كبير من الأمانة والصدق مثل تيسا، وهي تعرف تلك الآمال وتتفهمها جيدًا — ومن عساه أن يفهمها أفضل منها؟ — استطاعوا أن يشرعوا في استخدام بعض الحيل والأشياء الروتينية التي كانت مضمونة النتائج؛ لأنه كان علينا أن نحقق نفس النتائج في كل ليلة.

وقد تكون الوسائل المستخدمة لتحقيق ذلك بسيطة للغاية، وواضحة مثل التقسيم الزائف في الصندوق الذي تدخل فيه السيدة التي يتم شقُّها إلى نصفين بالمنشار. فهناك ميكروفون خفي، والأكثر احتمالًا أن يتم استخدام شفرة بين الشخص الذي يؤدي على المسرح وشريكه الموجود وراء المسرح على الأرض. يمكننا اعتبار هذه الشفرات فنًّا في ذاتها؛ إنها شفوية وسرية، وليس ثَمَّةَ شيء مكتوب.

سألته نانسي إن كانت الشفرات المستخدمة بينه وبين تيسا تعد فنًّا في حد ذاتها؟

أشرق وجهه وقال: «لقد كان لها مدًى، وبينها فروق بسيطة.»

ثم أردف قائلًا: «كنا نبدو مُتصنعَيْن أيضًا في بعض الأحيان. كنت أرتدي عباءة سوداء …»

«أوه أولي، أحقًّا كنت ترتدي عباءة سوداء؟»

«بالقطع. عباءة سوداء، وكنت أطلب أحد المتطوعين من الجمهور وأخلع العباءة عني ثم ألفها حوله أو حولها، وذلك بعد أن تكون عينا تيسا معصوبتَيْن — حيث يقوم واحد من الجمهور بفعل ذلك ويتأكد من أن عينيها معصوبتان على نحو جيد — ثم أشرع أنا في مناداتها وأسألها: «من الذي أخفيه تحت العباءة؟» أو «من هو الشخص الذي أخفيه تحت العباءة؟» أو أقول المعطف بدلًا من العباءة أو القماش الأسود، أو «ما الذي أخفيه؟» أو «من الذي ترين؟» أو «ما لون الشعر؟» «هل الشخص طويل أم قصير؟» وبإمكاني أن أفعل ذلك من خلال الكلمات أو عن طريق التغييرات الطفيفة في طبقة الصوت. وهناك الكثير والكثير من التفاصيل. وكانت تلك فقرتنا الافتتاحية.»

«ينبغي أن تكتب عن تلك التجربة.»

«لقد كنتُ أنوي ذلك؛ لقد كنت أريد أن أكشف عن بعض أسرار المهنة، لكني تراجعت وأخذت أفكر من ذا الذي سيهتم بهذا على أي حال؟ فالناس إما يرغبون في أن يخدعهم الآخرون، أو لا يرغبون في ذلك؛ فهم لا يبحثون وراء الأدلة والحقائق. وهنالك شيء آخر فكرت به؛ وهو كتابة رواية بوليسية؛ إذ إن الوسط الذي كنا نعيش فيه كان ملائمًا لذلك. وظننت أنني أستطيع تحقيق أرباح طائلة ثم نترك البلد بعد ذلك، ثم فكرت بعدها في كتابة سيناريو أحد الأفلام. هل رأيتِ ذلك الفيلم الذي أخرجه فيليني؟»

أجابت نانسي بأنها لم تفعل.

«هراء. لا أقصد فيلم فيليني، بل الأفكار التي كانت لديَّ في ذلك الوقت.»

«حدِّثني عن تيسا.»

«لا بد وأنني قد كتبت لك، ألم أراسلك؟»

«لا.»

«أعتقد بأني كتبت لويلف.»

«أعتقد أنه كان سيخبرني بذلك.»

«حسنًا، ربما لم أفعل، أعتقد أني كنت في أسوأ أوقات حياتي.»

«في أي عام كان هذا؟»

لم يستطع أولي أن يتذكر ذلك، لكن كانت الحرب الكورية قد اندلعت، وهاري ترومان هو الرئيس وقتها. بدا في أول الأمر أن تيسا أصيبت بالأنفلونزا، لكن حالتها لم تتحسن، وأضحت أكثر وهنًا، وكانت تغطي جسمها كدمات غريبة؛ أصيبت بسرطان الدم.

كانا قد اختبئا في إحدى المدن التي تقع بالقرب من الجبال في قيظ الصيف، وأمِلا في الذهاب إلى كاليفورنيا قبل حلول الشتاء، لكنهما لم يتمكنا حتى من حجز تذاكر رحلتهما التالية، وسافرت المجموعة التي كانا برفقتها من دونهما. وحصل أولي على عمل في إذاعة المدينة؛ إذ استطاع أن يحسِّن من نبرة صوته وهو يقدِّم العرض مع تيسا، فراح يقرأ نشرة الأخبار في المذياع، بجانب الكثير من الإعلانات، وكان يكتب بعض هذه الإعلانات أيضًا حيث غاب المسئول عن ذلك لتلقي العلاج — أو شيء من هذا القبيل — في أحد المستشفيات الخاصة لعلاج إدمان الشراب.

وانتقل هو وتيسا من الفندق الذي كانا يقيمان به إلى إحدى الشقق المفروشة التي لم يكن بها — بطبيعة الحال — أي أجهزة تكييف، لكن لحسن الحظ كان بها شرفة صغيرة تتدلَّى أمامها إحدى الأشجار، وقد وضع أريكة بها حتى تستنشق تيسا الهواء المنعش؛ فلم يكن يريد أن يضطر لإيداعها في أي مستشفى — وهو الأمر الذي سيستلزم الكثير من الأموال بالطبع؛ إذ لم يكن لديهما أي نوع من التأمين — لكن كان في اعتقاده أيضًا أنها أكثر راحة وهدوءًا في ذلك المكان وهي ترى أوراق الأشجار وهي تتمايل، لكنه اضطر في نهاية الأمر أن يأخذها إلى المستشفى، وفي غضون أسبوعين كانت قد تُوفيت.

قالت نانسي: «هل دُفنت هناك؟ ألم يَجُل بخاطرك أنه كان بإمكاننا أن نرسل لك بعض النقود حينها؟»

قال: «لا؛ وأعني لا لكلا السؤالين؛ أعني أنني لم أفكر في طلب المال من أي شخص؛ إذ شعرت أنها مسئوليتي. وقمت بإحراق جثتها ثم غادرت المدينة على عجل ومعي رماد جسدها، حتى وصلت إلى الساحل. لقد كان هذا آخر شيء طلبَتْه مني في الواقع؛ كانت تريد أن تُحرق جثتها وأن يتناثر رمادها عبر أمواج المحيط الهادئ.»

إذن كان هذا هو ما فعله، كما حكى، وقد تذكَّر ساحل ولاية أوريجون، والشريط الساحلي الذي يقع بين المحيط والطريق السريع، وتذكَّر أيضًا الضباب وبرودة الصباح الباكر، ورائحة مياه البحر، ومنظر تلاطم الأمواج الباعث على الشجن والحزن. قام حينها بخلع حذائه، وشمَّر عن رجليه وراح يخوض المياه، واقتربت طيور النورس لترى إن كان يحمل شيئًا إليها، لكنه لم يكن يحمل سوى رماد تيسا.

قالت نانسي: «تيسا …» ثم لم تستطع أن تكمل عبارتها.

«أدمنتُ الشراب بعد هذا، وبالكاد استطعتُ تدبُّر أمري بطريقة أو بأخرى، لكني كنت أشعر أنني عديم النفع، إلى أن اضطررت إلى الإقلاع نهائيًّا عنه.»

لم يرفع بصره نحو نانسي وهو يتحدث. مرت لحظات ثقيلة كان يعبث خلالها بمنفضة السجائر.

قالت نانسي: «أعتقد أنكَ اكتشفت أن الحياة لا بد أن تستمر.»

تنهَّد. وكان تنهُّده ينم عن شيء من الارتياح واللوم.

«كلماتك قاسية يا نانسي.»

•••

قام بتوصيلها إلى الفندق الذي كانت تنزل به، وسمعت أصوات قعقعة عالية من التروس بالشاحنة، والتي كانت ترتج وتهتز بشدة.

لم يكن الفندق فاخرًا أو غاليَ الثمن، ولا يوجد به أي حارس، ولم يريا حتى باقة ضخمة من الزهور يمكن التطلع إليها بالداخل، ولكن عندما قال أولي: «أراهن أنه لم تقترب من هذا المكان سيارة كسيارتي التي تبدو كالكومة القديمة»، ضحكت نانسي ووافقته الرأي.

«وماذا عن عبَّارتك؟»

«لقد فاتتني، منذ وقت طويل.»

«أين ستبيت الليلة إذن؟»

«عند أصدقاء لي في هورس شو باي، أو سآتي إلى هنا إن شعرت بعدم الرغبة في أن أوقظهم. لقد قضيت هنا لياليَ كثيرة من قبل.»

كانت غرفتها مجهزة بفراشَيْن، فراشَيْن متماثِلَيْن. قد ينظر إليها أحدهم نظرة بها قدر من الاشمئزاز إن دخلت وهو معها، ولكنها بالقطع تستطيع تحمُّل ذلك؛ طالما أن الحقيقة تختلف تمامًا عما يمكن أن يظنه أي شخص.

أخذت نفسًا عميقًا كما لو أنها تهيئ نفسها لتقول شيئًا.

«لا يا نانسي.»

ظلت تنتظر كل هذا الوقت لكي يتفوه بكلمة واحدة صادقة. ظلت هكذا طيلة فترة ما بعد الظهيرة، وربما لجزء لا بأس به من حياتها؛ كانت تنتظر وها هو الآن قد قالها.

لا.

كان يمكن اعتبارها نوعًا من الرفض لعرض لم تتفوَّه به. كان يمكن أن تشعر بالصدمة حيال ما بدا وكأنه نوع من الغرور، أو شيء لا يحتمل.

ولكن في الواقع كان ما سمعته واضحًا ويتسم باللين والرقة، وبدا في تلك اللحظة وكأنه يحمل الكثير من التفهم شأنه شأن أي كلمة قيلت لها على الإطلاق. لا.

كانت تعلم خطورة أي شيء قد تقوله؛ خطورة رغبتها؛ لأنها لا تدري كُنْهَ تلك الرغبة؛ ورغبة تجاه ماذا؟ لقد أحجما عن أي شيء بينهما، أيًّا كان هذا الشيء منذ سنوات، وعليهما أن يفعلا ذلك بالقطع الآن؛ لأنهما كبِرا في السن، لم يكبرا بشدة، ولكنهما كبرا بدرجة تمنعهما من أن يبدو مظهرهما قبيحًا وسخيفًا. ومن سوء الحظ أنهما أمضيا الوقت معًا وهما يكذبان.

فقد كانت تكذب هي الأخرى حتى أثناء صمتها، وحتى في هذه اللحظة ستستمر في الكذب.

قالها ثانية: «لا.» ولكن في تواضع خالٍ من أي شعور بالحرج؛ «فلن تسير الأمور على نحو جيد.»

بالقطع لن تكون كذلك، وأحد أسباب هذا هو أن أول شيء ستفعله حينما تعود إلى منزلها هو أن تبعث برسالة لذلك المكان في ميشيجان لتعرف ما الذي حدث لتيسا ولتعود بها إلى حيث تنتمي.

•••

«يصبح الطريق سهلًا إن كنت حصيفًا بما يكفي لأن تسافر متخففًا من الأحمال.»

ظلت الورقة التي باعها إياها آدم وحواء في جيب سترتها، ولم تخرجها إلا في المرة التالية التي ارتدت فيها تلك السترة بعد قرابة عام من عودتها إلى منزلها، واعترتها بعض مشاعر الحيرة والقلق إزاء تلك الكلمات المطبوعة عليها.

لم يكن الطريق سهلًا؛ فالخطاب الذي أرسلته لميشيجان ارتدَّ إليها مرة أخرى دون أن يُفتح؛ فمن الواضح أنه لم يعد ذلك المستشفى موجودًا، لكن نانسي اكتشفت أن بإمكانها التحقيق في الأمر، وشرعت في أن تفعل ذلك. هناك هيئات يمكن مراسلتها للاستفسار، وهناك سجِّلات يمكن الكشف عنها إن أمكن. لم تفقد الأمل. إنها لن تعترف بأنه أصبح من الصعب أن تصل إلى مبتغاها.

أما في حالة أولي فإنها ربما أوشكت أن تعترف بذلك. كانت قد بعثت بخطاب إلى جزيرة تكسادا، معتقدة أن العنوان كافيًا؛ فلا بد وأن مَن يقطنون هناك أعداد قليلة ويمكن العثور على أيهم بسهولة، لكن الخطاب عاد مرة أخرى وهو يحمل كلمة واحدة فوق المظروف. «انتقل.»

لم تحتمل فكرة أن تفتحه ثانية وأن تقرأ ما كتبته. كانت واثقة أنها قالت الكثير؛ أكثر من اللازم.

ذباب على حافة النافذة

جلست في مقعد ويلف الريكلاينر القديم في الغرفة المشمسة بمنزلها. لم تكن تنوي الخلود للنوم، كان الوقت بعد الظهيرة في يوم من أيام الخريف وما زال الضوء ساطعًا؛ لقد كان في الواقع يوم مسابقة كأس نهائي دوري كرة القدم الكندي، ومن المفترض أنها في حفلة يشارك الجميع في إعداد طعامها ويشاهدون المباراة على التليفزيون، لكنها اعتذرت في الدقيقة الأخيرة. لقد اعتاد الناس مثل هذه الأشياء منها الآن؛ وما زال البعض يقولون إنهم قلقون حيالها، إلا أنها عندما تظهر ثانية في المحافل فإن بعضًا من عاداتها القديمة أو احتياجاتها تعيد تأكيد نفسها، وأحيانًا لا تستطيع منع نفسها من العودة لحياة التجمعات فيتوقف قلقهم عليها لفترة.

يقول أولادها إنهم يأملون ألا تكون قد اعتادت على العيش في الماضي والحنين إليه.

لكن ما تعتقد أنها تفعله، أو ما تريد أن تفعله إن أتيح لها الوقت، هو ألا تعيش في الماضي بقدر ما تريد أن تفتح ذلك الماضي وتلقي نظرة فاحصة على أحداثه.

إنها لا تعتقد أنها كانت نائمة حينما وجدت نفسها تدخل غرفة أخرى؛ فالغرفة المشمسة — تلك الغرفة الوضاءة خلفها — قد انكمشت لتصبح ردهة مظلمة. وكان مفتاح الفندق معلقًا في باب الغرفة، كما تعتقد أن ذلك هو مكانه المعتاد، بالرغم من أنه شيء لم تواجهه في حياتها.

كان مكانًا متواضعًا؛ حجرة متهالكة لمسافرين أنهكهم التعب. كان بها مصباح إضاءة يتدلى من السقف، وقضيب تتدلى منه شماعتان للملابس مصنوعتان من السلك، وستارة من قماش عليه نقوش من الزهور بألوان الأصفر والوردي يمكن جذبها لتخفي الملابس المعلقة عن النظر. ربما كانت الغاية من وراء نقوش الزهور المطبوعة على الستارة هو إضفاء مناخ من التفاؤل، وربما المرح والابتهاج، لكنها ولسبب مجهول كان لها تأثير عكسي.

ألقى أولي بنفسه فجأة فوق الفراش على نحو عنيف، حتى إن الزنبرك أطلق صوتًا بائسًا وكأنه يتأوه. بدا أنه وتيسا قد وصلا بالسيارة الآن، وقاد هو السيارة طوال الوقت. وقد جعله ذلك اليوم من أيام الربيع الحار والمحمَّل بالأتربة في حالة تعب غير عادية. وهي لا تستطيع القيادة. أحدثت قدرًا كبيرًا من الضوضاء وهي تفتح حقيبة الملابس، والمزيد من الضوضاء وهي تقف خلف ذلك الفاصل الخشبي داخل دورة المياه. تظاهر بالنوم عندما خرجت من دورة المياه، ولم يكن يطبق جفنَيْه تمامًا، فرآها وهي تنظر إلى مرآة منضدة الزينة المليئة بالبقع والرتوش في الأماكن التي أزيل فيها طلاء ظهر المرآة. كانت ترتدي تنورة طويلة تصل لكاحلها من قماش الساتان الأصفر، وجاكيت أسود قصيرًا، مع وشاح أسود مزركش بالزهور، يصل طول أهدابه لنحو نصف متر. كانت ملابسها من تصميمها، ولم تكن مبتكرة أو ملائمة لها. كانت بشرتها مصبوغة باللون الوردي، ولكنها لم تكن مشرقة. وضعت في شعرها المشابك وبعضًا من رذاذ تثبيت الشعر، وقد بدا شعرها بعد أن شدته وكأنها تعتمر خوذة سوداء. كانت تضع ظلال جفون باللون الأرجواني، وقد رفعت حاجبَيْها إلى أعلى وعززت من سوادهما كأجنحة الغراب. كانت تطبق جفنَيْها بشدة، وكأنه نوع من العقاب على عينَيْها الناعستَيْن. بدت — في الحقيقة — وكأنها ترزح تحت ثقل الملابس، ومساحيق التجميل وتصفيفة الشعر.

شعرت ببعض الضجيج الذي صدر عنه دون قصد، والذي كان ينم عن شيء من نفاد الصبر أو الشكوى. اقتربت من الفراش وانحنت لتخلع عنه حذاءه.

فطلب منها ألا تشغل بالها بذلك.

قال: «عليَّ أن أخرج ثانية بعد دقائق قليلة؛ يجب أن أذهب لأراهم.»

كان يقصد الناس الموجودين بالمسرح، أو منظمي العرض الترفيهي، أيًّا كانوا.

لم تتفوَّه بكلمة، بل وقفت أمام المرآة وهي تنظر لنفسها ولا تزال تشعر بثقل الملابس والزينة وشعرها الذي كان مستعارًا، وروحها، وراحت تتجول في الحجرة كما لو أن هناك أشياء لتفعلها، لكنها لم تجد أي شيء لتفعله.

•••

حتى عندما انحنت لتخلع حذاء أولي لم تنظر في وجهه. وإذا كان قد أغلق عينيه عندما استلقى على الفراش فذلك — كما كانت تعتقد — لأنه ربما يتجنب النظر إلى وجهها. لقد أصبحا زوجين محترفين؛ فهما ينامان، ويأكلان ويسافران معًا، بل قد يكون إيقاع تنفسهما واحدًا، لكنه لا يحدث أبدًا — فيما عدا خلال ذلك الوقت الذي يحملان فيه مسئولية أداء فقرتهما أمام الجمهور — أن ينظر أحدهما في وجه الآخر خشية أن يلمحا شيئًا مخيفًا.

لم يكن ثَمَّةَ مسافة كافية على الحائط لتستند عليها منضدة الزينة ذات المرآة المليئة بالبقع، بل كان جزء منها يبرز أمام النافذة فيحجب جزءًا من الضوء الذي يتسلل منها. نظرت نحوها بشكٍّ للحظات، ثم حاولت أن تستجمع قوتها لكي تحرك جانبًا منها لمسافة صغيرة إلى داخل الحجرة. التقطت أنفاسها وأزاحت الستارة الشبكية المتسخة جانبًا. وعند أقصى جانب من حافة النافذة التي كانت مختفية وراء الستارة ومنضدة الزينة رأت كومة صغيرة من الذباب الميت.

يبدو أن شخصًا ما أقام منذ فترة قريبة في تلك الغرفة وأمضى الوقت في قتل الذباب، ثم قام بجمعه في كومة وأخفاها في هذا المكان. لقد كان الذباب الميت مرتبًا على هيئة كومة هرمية غير متماسكة جيدًا.

صاحت عند رؤيتها لهذا المنظر، ولم يكن صياحها نابعًا من شعورها بالاشمئزاز أو الفزع، بل من المفاجأة، بل يمكنك أن تقول من الابتهاج. «أوه، أوه، أوه.» فتلك الحشرات قد أشعرتها بالسعادة كما لو أنها تشبه المجوهرات حينما تضعها أسفل الميكروسكوب. تلك الومضات باللون الأزرق، والذهبي، والزمردي! تلك الأجنحة الشفافة اللامعة! صاحت، لكن لم تكن صيحتها بسبب رؤيتها لبريق تلك الحشرات على حافة النافذة؛ فليس لديها ميكروسكوب، وقد فقدت الحشرات بريقها بعد أن ماتت.

بل صاحت لرؤيتها في هذا المكان؛ فقد رأت كومة من أجسام رقيقة مجتمعة معًا ومخبأة في تلك الزاوية وغطاها الغبار. لقد رأتها هكذا في مكانها قبل أن تضع يدها على منضدة الزينة أو تزيح الستائر. كانت تعرف أنها موجودة في ذلك المكان بالطريقة التي اعتادت بها معرفة الأشياء.

لكنها لم تعرف شيئًا منذ فترة طويلة، لم تعرف شيئًا، وكانت تعتمد على الخدع والخطط التي يتدربون عليها. كادت تنسى، لقد كانت تشك إن كانت هناك طرق أخرى بالأساس.

أيقظت أولي الآن، واقتحمت فترة الغفوة التي يقتنصها بصعوبة. صاح وهو يهب من مكانه: ما الأمر؟ ألدغكِ شيء؟

قالت: لا، ثم أشارت إلى الذباب.

«كنت أعرف أنها هنا.»

تفهَّم أولي على الفور ما كان يعنيه هذا الأمر بالنسبة لها، وقدَّر الارتياح الذي لا بد وأن شعرت به، رغم أنه لم يكن ليستطيع أن يشاركها سعادتها؛ لأنه كاد هو الآخر أن ينسى بعض الأشياء؛ كاد أن ينسى أنه آمَن بقدراتها في يوم من الأيام. إنه الآن لا يشعر إلا بالقلق حيالها وحيال نفسه، فيجب أن ينجح عرضهما الزائف.

قال: «متى عرفتِ بوجودها؟»

قالت: «عندما نظرت في المرآة، عندما نظرت إلى النافذة. لا أدري متى.»

شعرت بسعادة غامرة. لم تعتَد أن تشعر بالسعادة من عدمها حيال ما يمكن أن تفعله؛ فقد كانت تعتبر الأمر مسلمًا به. والآن لمعت عيناها كما لو أنها أزالت الغشاوة والأوساخ عنهما، وبدا صوتها كما لو أن حلقها أنعشته المياه الحلوة العذبة.

قال: نعم، نعم. سارت نحوه وطوَّقت عنقه بذراعيها وألصقت رأسها على صدره بشدة؛ مما جعل الأوراق التي في جيبه تُصدر بعض الخشخشة.

كانت بعض الأوراق السرية التي حصل عليها من رجل التقى به في إحدى هذه المدن؛ وهو طبيب يُعرف عنه أنه يعتني بأمثالهما من الجوَّالين، وكان يمنُّ عليهما في بعض الأحيان من خلال تأدية بعض الخدمات التي لا تدخل ضمن المعتاد. كان أولي قد أخبر الطبيب أنه يشعر بالقلق حيال زوجته، التي تستلقي في الفراش، وتحملق في السقف لساعات ويعلو وجهها علامات التركيز الشديد، وتظل أيامًا لا تتفوه خلالها بكلمة واحدة، فيما عدا ما هو ضروري أمام الجمهور فقط (كان هذا كله صحيحًا بالفعل). وراح يسأل نفسه، ثم الطبيب، إن كانت قدراتها غير العادية ليس لها علاقة في نهاية الأمر بنوع من الخلل الخطير في قواها العقلية وطبيعتها. لقد كانت تنتابها بعض النوبات المرضية في الماضي، وتساءل إن كان يمكن أن تتكرر ثانية. إنها ليست شخصًا ذا طبيعة سيئة، وليس لها أي عادات سيئة، لكنها ليست شخصًا طبيعيًّا، إنها فقط شخصية متفردة، والعيش مع شخص متفرد يمكن أن يسبب نوعًا من الإرهاق والتوتر بقدر لا يستطيع أن يتحمله أي إنسان. تفهَّم الطبيب ما قاله، وأخبره بمكان يمكن أن يأخذها إليه لكي تأخذ قسطًا من الراحة.

كان يخشى أن تسأله عن مصدر تلك الخشخشة التي سمعتها عندما التصقت به بشدة. لم يكن يريد أن يقول بعض الأوراق؛ مما سيدفعها للسؤال: أي أوراق؟

لكن إن كانت قد استعادت هذه القوى — وهذا اعتقاده، إلى جانب استعادته هو لتقديره واهتمامه الشديد بها، والذي كاد أن ينساه — إن كانت قد عادت إلى سابق عهدها، أليس من المحتمل أن تعرف ما كان مدونًا في تلك الأوراق دون حتى أنْ تكلف نفسها عناء النظر إليها وقراءتها؟

إنها بالفعل تعرف شيئًا، لكنها تحاول جاهدة أن تتجاهله.

إن كانت معرفتها تعني استعادتها لما كانت تملكه ذات يوم، وهو استخدام عينيها ذات النظرات المتعمقة، والوحي الذي ينطق به لسانها على الفور، أفلن تكون أفضل بدون تلك القوى؟ وإن كان الأمر أنها هي من تخلَّت عن تلك القوى والقدرات، وليس العكس، ألن ترحب بذلك التغيير؟

كانت تعتقد أنه بمقدورهما أن يفعلا شيئًا آخر؛ أن يعيشا حياة أخرى مختلفة.

حدَّث نفسه بأنه سيتخلص من تلك الأوراق بأسرع وقت ممكن، وسينسى الفكرة برمتها؛ فإنه هو الآخر قادر على التحلي بالأمل والاحترام.

نعم نعم، كانت تيسا تشعر بكم الوعيد الذي صدر عن صوت الخشخشة الخافت أسفل وجنتيها.

•••

كان الشعور بالراحة المؤقتة قد خفَّف قليلًا من حدة الأمور، وبعث نوعًا من الراحة. كان شعورًا جليًّا قويًّا بدرجة شعرت معها نانسي أن المستقبل المعلوم يتهاوى تحت سطوته ويتناثر بعيدًا كأوراق الأشجار القديمة القذرة.

•••

لكن تلك اللحظة كانت تحمل في الانتظار شعورًا بعدم الاستقرار، وقد عزمت نانسي أن تتجاهله، ولكن لا طائل من ذلك؛ فإنها تدرك الآن بالفعل أن هناك من يبعدها، ويجذبها بعيدًا عن هذين الشخصين ويعيدها إلى ذاتها ثانية. يبدو وكأن شخصًا يتسم بالحسم والهدوء قد أخذ على عاتقه مهمة إخراجها من تلك الغرفة ذات الشماعات المصنوعة من السلك والستارة المنقوشة بالزهور؛ أيمكن أن يكون ويلف؟ شيء ما يقودها برقة وبإصرار بعيدًا عما بدأ ينهار وراءها، ينهار ويتحول ببطء إلى السواد الذي يشبه السُخام والرماد الناعم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤