الباكستان بين الماضي والحاضر

figure

مفارقة متعمدة

منذ سنتين (أي في سنة ١٩٥٠) صدر في إنجلترا كتاب باللغة الإنجليزية اسمه «خمسة آلاف سنة من تاريخ الباكستان» لمؤلفه (ر.ا.م.هويلر) Wheeler مدير الحفريات السابق في الحكومة الهندية.

مفارقة بينة على غلاف الكتاب، واعتراف في أول سطر من سطور المقدمة بتعمد هذه المفارقة؛ لأن أمم الأرض جميعًا كانت تعلم يوم صدور هذا الكتاب أن الباكستان دولة جديدة لم يكد يمضي على إنشائها أربع سنوات، وأنها جديدة باسمها كما أنها جديدة بنشأتها؛ لأنه اسم لم يكن معروفًا في لغة من اللغات قبل الربع الثاني من القرن العشرين.

جاء في السطر الأول من مقدمة الكتاب «إن عنوان هذا الكتاب مفارقة متعمدة، ولكنها تشتمل على حقيقة أساسية.»

أما هذه الحقيقة الأساسية فهي أن البلاد التي شملتها الباكستان الآن — أو شملت معظمها — هي الهند التي عرفتها الأمم قديمًا، ثم أطلقوا اسمها على البلاد الهندية كلها في القرون الأخيرة، فلم يعرف الفرس والصينيون واليونان والعرب شيئًا يُذكر عن داخل البلاد الهندية، وكلما وصلوا إليه وهمهم أن يعرفوه هو مداخل الهند الغربية على بحر العرب ومداخل الهند الشرقية على خليج البنغال، وهذه على وجه التقريب هي دولة الباكستان اليوم.

قصد السياح والتجار والغزاة إلى تلك الشواطئ قبل آلاف السنين، وحملوا منها السلع والمحصولات إلى أرجاء العالم شرقًا وغربًا، وتبين من «الحفريات» الحديثة أن الحضارة على تلك الشواطئ معرقة في القِدم، وأنها عرفت فنونًا من الأبنية والمصنوعات تشهد لأهلها بالخبرة في العمارة والصناعة، وتترجم عن ثقافة دينية متقدمة بالقياس إلى المعتقدات التي كانت شائعة في تلك البقاع قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة، ولا يزال علماء الحفريات يكشفون بين آونة وأخرى عن معلومات تتم مواضع النقص في ذلك التاريخ العتيق.

ويؤخذ من المعلومات المكشوفة، ومن التواريخ المعروفة؛ أن مسالك التجارة والسياحة بين الهند والعالم الغربي قد اطردت في سبلها المطروقة التي عهدها الناس إلى أواخر القرون الوسطى، وهي سبل البحر إلى العراق واليمن، ثم سبل البر منها إلى مصر والشام.

وقد كانت الدول الكبرى في العصر القديم تتسابق إلى السيادة على تلك السبل، فبسطت فارس سلطانها على اليمن لتجمع بين يديها سائر السبل من شبه الجزيرة العربية، وأراد الرومان أن ينتزعوا هذه السبل جميعًا فجردوا حملاتهم على العراق واليمن، وقنعوا آخر الأمر بالسيادة على منتصف الطريق، فتكفلوا بحماية الأمراء الغساسنة في صحراء الشام، ورشحوا للملك في مكة قبل الإسلام زعيمًا من قريش يدينون له بالطاعة في ظل قيصر، ولم يكن في طاقة قيصر أن يفرض الملك عليهم بالقوة فهددهم بإغلاق أبواب الشام في وجوههم، وأمر الغساسنة بالترصد لهم على تلك الأبواب، وحال ضعف الدولة الرومانية في ذلك العصر دون مرماها في جوف الصحراء.

وهكذا استقلت مكة بطريق التجارة من الهند، إلى اليمن، إلى مصر والشام.

وهكذا نسج التاريخ إحدى موافقاته التي تمتد من مئات السنين قبل الدعوة المسيحية إلى مئات السنين بعد الدعوة المحمدية، وجاز لمن شاء أن يقول: إن الباكستان أقامت مكة قبل الإسلام، وإن مكة — بعد الإسلام — قد أقامت الباكستان.

أراد الفراعنة من قديم الزمن، ثم أراد القياصرة بعدهم، أن يجعلوا البحر طريقًا لتجارة الهند فغلبتهم سفينة الصحراء وانتظمت رحلة الشتاء ورحلة الصيف على أمواج الرمال، كما كانت قبل ملك القياصرة والفراعنة، واستقرت لهما مرحلة وسطى في منتصف الحجاز، فذاك حيث قامت مكة في الجاهلية الأولى، تتلقى قوافل الشتاء من الجنوب، ثم تلقي بها مع قوافل الصيف إلى الشمال.

الباكستان الجديدة

وبعد سبع وأربعين وتسعمائة وألف سنة من الميلاد المسيحي، ولدت الباكستان الجديدة باسمها، والجديدة بأسباب وجودها، إلا سببًا واحدًا غير جديد عليها، وهو الدين الذي ظهرت رسالته في مكة منذ أربعة عشر قرنًا، ولولاه لكان للشرق كله تاريخ غير تاريخه المعلوم.

معجزة من معجزات الإيمان التي لا تنقضي مع الزمن: معجزة تتحدى التجارة، وتتحدى المنفعة، وتتحدى سلطان الدول، وتتحدى المعقول والظنون، وتتغير السبل ويتغير السالكون فيها، ويبقى الإيمان فيصنعها معجزة خارقة لم يصدق بها أحد قبل وجودها، ثم توجد فيصدق بها من يرى ويسمع، وتصبح بعد ذلك سندًا للعقول التي عرفت بها الممكن والمستحيل، وقد كانت تخلط خلطها الذريع بين الممكن والمستحيل.

أمكن ما لم يكن في الإمكان.

شجرة تحمل تسعين مليونًا من الفروع الآدمية، تنقطع جذورها جميعًا، وتنغرس جذورها، ولا تذبل ولا تفنى، بل يسرع إليها النماء والإيراق، ومن حيث قدر لها الذبول والفناء.

معجزة في زراعة الشجر.

أما في زراعة الأمم فوصفها بالإعجاز قصد واعتدال، ولو كانت مع الزارعين هنا كل معداتهم لعظمت المشقة وناءت بها كواهل العصبة أولي القوة، ولكنهم كانوا يغرسون المعدات كما يغرسون الفروع، ويخلقون التربة كما يخلقون غروسها وثمارها، ولا قبل لهم بالانتظار، يومًا أو بعض يوم؛ إذ كل يوم جديد، يأتيهم بقطع جديد، ووصل جديد.

لقد حسبوا عدد المهاجرين إلى الباكستان فبلغوا ثمانية ملايين: حسبوا عدد المهاجرين وحدهم كأنما كان سكان الباكستان الذين بقوا فيها قد خرجوا من عداد المهاجرين المتنقلين، وما بقي منهم أحد على قراره الذي استقر عليه قبل نشأة الباكستان، وما كان منهم أحد إلا وهو في حكم المهاجر من مكان إلى مكان، المنقطع عن منبت في طريقه إلى منبت، الماثل على أبواب حكومته يسألها عن مصيره ومصير مورده ومصدره، وكلما أشير له إلى مصير إذا به قد تحول وتحول معه ألف مصير، والمدد متلاحق متسابق، والسكوت عنه يومًا مشكلة تتبعها مشكلات.

دوامة في إعصار، ولا سبيل إلى الدوار؛ لأن الدوار غرق عاجل بغير قرار.

•••

وقد قيل: إن الإخفاق صدمة وإن النجاح عبء يكبر كلما كبر النجاح.

وأطوار الأمم تتوالى بالشواهد على صدمات الإخفاق وأعباء النجاح في مختلف العصور، أما في عصرنا الحاضر فهذا المثل أقرب الأمثلة على أعباء النجاح التي تخف إلى جانبها صدمات الإخفاق.

وقد كان الزعماء المشرفون على بناء الدولة الجديدة ينتظرون عونًا موعودًا ويتأهبون للمتاعب كما قدروها، فأما العون المنظور فلم يأت، وأما المتاعب فقد جاء منها ما هو مقدور وما ليس بمقدور.

كان للباكستان حصة من أموال الدولة يقضي اتفاق التقسيم بتسليمها إليها، فلم يتسلموها.

ونقلت إليها في الطريق بعض الودائع التي لا خير في احتجازها، فاغتالها الطريق نهبًا وإتلافًا قبل أن تبلغ الحدود.

وخرجت الباكستان من القسمة بظلم المكان بعد ظلم السياسة، فكان نصيبها من ودائع الأرض، ومن الخيرات التي لا تنقل، أصغر النصيبين، وكادت أن تخلو من المصانع والمدارس كما خلت من أنفس المناجم وأصلح الموانئ، ولم تظفر بحصة قط في تراث التقسيم إلا كانت هي المرجوحة المزهود فيها من الحصتين.

أما المتاعب التي جاءتهم على غير انتظار، أو على خلاف ما قدروه، فأولها متاعب الطابور الخامس مأجورًا وغير مأجور، فاستغل الدساسون ربكة القلق التي ساورت أصحاب المصالح وزينوا للضعفاء منهم أن ينفصلوا باختيارهم؛ لأن علاقاتهم بأقاليم الهند أوثق من علاقاتهم بأقاليم الباكستان، وأشاع بعضهم أن الحكومة في صدد إلغاء اللهجة البنغالية التي يتكلمها أكثر من نصف السكان، وأشاعوا أن القبائل ستحكم على نظام جديد، وهي تلك القبائل التي لم تعرف نظامًا للحكم منذ آلاف السنين غير نظامها الموروث، وأشاعوا أن الحكومة سترفض الدين و«تتفرنج» في تقرير قواعد التعليم والقضاء، وكان على ولاة الأمر أن يلاحقوا هذه الإشاعات بالتكذيب العملي تكذيب الوقائع الملموسة قبل أن تستفحل وتستعصي على التدبير؛ لأن تكذيب الأقوال في هذه الأحوال قلما يصغى إليه.

وعرف القائد الأعظم أن العدو الأكبر في هذه الغاشية المتراكبة هو الرشوة والسوق السوداء، فضرب على أيدي المفسدين من الموظفين والتجار بغير رحمة، ولم يكن له مناص من قمع الرشوة والعمل على استئصالها من دواوين الحكومة؛ لأن التجارة الصادرة كلها قد آلت إلى أيدي الدولة، فلا أمل في عمار الدولة مع العبث والفساد في الدواوين.

ولا نطيل في سرد المتاعب، ولا في سرد الجهود التي تغلبت عليها، فقد تغني عن الإطالة هنا مقابلة الأرقام في باب واحد بين السنة الأولى بعد التأسيس والسنة الخامسة؛ إذ ارتفعت موارد الدولة من نحو ستمائة وسبعين مليون روبية إلى نحو ألف ومائتين وسبعين مليونًا، وزاد الوارد على المنصرف بعد أن كانت ميزانية الدولة منصرفًا لا مورد له على الأكثر غير القروض.

أما نظام الحكم في الدولة فهو قائم على أساس الديمقراطية والدستور، وأن تكون الأقاليم مستقلة في حدودها مشتركة في الشئون التي تتوحد في الدولة، وهي شئون الدفاع والسياسة الخارجية وتدبير العملة، وأن تسأل الوزارة أمام الهيئة النيابية في العاصمة، ويختار كل إقليم هيئته النيابية التي تراقب حكومته، وسيحرص الدستور على تمثيل المصالح في جميع الطبقات، وينص على تخصيص الدوائر لتمثيل الصناعة، والزراعة، والتجارة، والعمال، ومعاهد التعليم العليا، ويعطي المنبوذين من البرهميين الذين فضلوا الإقامة في الباكستان على الهجرة إلى الهند حقًّا يخولهم أن ينفردوا بانتخاب ممثليهم، وكذلك يعطي هذا الحق للمسيحيين حيث يكمل لهم عدد يستقل بالانتخاب.

والعصبة الإسلامية اليوم هي الجماعة السياسية التي تتمثل فيها آراء القادة في الباكستان، ولكنها لا تتألف من حزب واحد في مذاهب السياسة والاجتماع؛ إذ يوجد فيها غلاة الاشتراكيين كما يوجد فيها غلاة المحافظين، ويوجد فيها من يحاربون رأس المال ومن يؤيدونه ويستديمونه، ويوجد فيها على الأغلب الأعم من يرون أن الإسلام طريق ثالث بين طريق رأس المال وطريق الشيوعية، ويمكن أن يقال إن العصبة الإسلامية تعبر عن مبادئ المؤمنين بقيام دولة الباكستان، خلافًا لمن كانوا يعارضون قيامها ويتخذون لهم وجهة غير وجهتها، ولهذا تعتبر العصبة أن من يعارضونها من خارجها معارضون لتكوين الدولة في أساسها، وتسمح بالمعارضة في داخلها ولا تسمح بالمعارضة من خارجها، ونحسب أن الحذر من هذه المعارضة في دور التكوين وشيك أن يتسهل بعد تصعيب، وأن يكون زواله علامة على زوال الخطر على كيان الدولة وسلامة المجتمع، فلا تصبح معارضة العصبة معارضة للدولة والأمة، ولا تحتاج أحزاب السياسة إلى رقابة غير رقابة الرأي العام.

•••

ليس في وسع منصف أن ينظر إلى العمل الرائع الذي تم في هذه الدولة الناشئة خلال خمس سنوات بغير نظرات الإكبار، وليس في وسع منصف أن ينكر عليهم صدقهم واقتدارهم وحسن تصريفهم للأمور التي تجل أحيانًا وتدق أحيانًا عن التصريف، وليس في وسع منصف أن يضن عليهم بالمعاذير فيما عرض لهم من النقص وتورطوا فيه من الأخطاء، وليس في وسع منصف أن ينفي عنهم كل نقص ويعصمهم من كل خطأ، فمن يتكلم عن العصمة لا يتكلم عن إنسان.

إلا أن الشهادة التي هي أعظم وأشرف من كل شهادة لهؤلاء القادة هي التعالي عن استغلال الغرائز الثائرة؛ تمكينًا لأنفسهم في مناصب الحكم، وتمهيدًا للبقاء فيها وتغشية لأعين الجماهير عن التنبه لما يقعون فيه من الأخطاء، ويؤخذ عليهم من العيوب.

ففي مثل هذا الموقف، بل في أهون من هذا الموقف، يندر أن نرى زعيمًا يتعفف عن كسب «الحماسة الشعبية» له ولسلطانه بإذكاء الضغينة وإثارة العصبية، وتغذية الكراهية بين الطوائف والأقوام بكل ما يلعج الخواطر ويلهب النفوس، ويفتح آذانها كل يوم لما يلقيه في روعها، ويغلق آذانها كل يوم عن سماع الحق والإصغاء إلى النقد الصحيح.

رأينا هذا في دولة النازيين، وفي دولة الفاشيين، وفي دولة الشيوعيين، ورأينا زعماء هذه الدعوات يحرضون طائفة على طائفة، وحزبًا على حزب، وجيلًا على جيل، بل رأيناهم يحرضون أقوامهم على العالم بأسره مصوريه لهم في صورة العدو الذي يتحفز لهم ويتربص بهم، ويتحين الفرص للانقضاض عليهم، ولا يبالون ما وراء هذا الغل الدفين من شر يحيق بهم وبمن حولهم، ولا يسلم منه قريب ولا بعيد.

فمن الشهادة العالية لقادة الباكستان أنهم تغلبوا على هذا الإغراء مع وفرة المغريات وكثرة العداوات، وأنهم لم يتعففوا عن إثارة الغرائز وكفى، بل عقدوا العزائم على تصفية القلوب وغسل الصدور ومحو الترات، وجعلوا هجيراهم أن يقربوا بين المفترقين ويفثأوا سورة الغاضبين، واستهدفوا من جراء ذلك للغيلة والإيذاء، ممن حسبوا طيشًا منهم وجهالة أن حسم العداء والبغضاء ممالأة للأعداء.

هذه شهادة لهم أرفع من كل شهادة بالخبرة والاقتدار على التصرف في الأزمات والمفاجآت؛ لأنها تسجل لهم أنهم قادة أمة وليسوا مجرد حكام محترفين للسياسة، وأن إخلاصهم لأمانتهم مقدم عندهم على الإخلاص لمناصبهم ومنافعهم، وهي روح شماء لولاها لما أنجزت الباكستان بعض ما أنجزته في أقل من خمس سنوات، وبمثلها في الأمم الهندية والآسيوية على العموم يرجى أن تنحل العقد الشائكة وتنحسم المنازعات المتشعبة، فإن أمم الشرق أحوج إلى القوى التي تبددها تلك العقد والمنازعات على غير جدوى، وأحق أن تتوفر بها على لم شملها وجمع عزائمها، والتعاون فيما بينها على أداء رسالتها الإنسانية واللحاق بركب الحضارة الذي تخلفت عنه عدة قرون.

دروس نافعة

ما أكثر معارض البحث والنظر في سيرة الباكستان وسيرة قائدها الأعظم: كلها معارض بحث ونظر، وكلها دروس تجدد آراء الدراسين فيما فهموه قديمًا من أسرار المجتمعات، وظواهر الدول التي خيل إليهم أنهم فرغوا منها أو يئسوا من الفصل فيها، ومنها ما هو فيصل التفرقة في مسألة المسائل جميعًا، وهي مسألة العالم ومصيره أو مسألة الجماعات البشرية وبواعث تكوينها وتماسك أجزائها.

هل الحكم كله في مسألة المسائل هذه للمعدة أو للضمير؟ هل للبطولة شأن في حياة الأقوام أو هي في حياة الأقوام صفر على اليسار؟ هل المادة وحدها هي الترجمان المفسر للتاريخ، أو لهذا التاريخ مفسرات أخرى قد تهزم تفسير المادة وتنقضه وتتحداه؟

في موقف الفصل هذا نجحت الدولة الطارئة كأنما بعث بها الغيب فيصلًا للتفرقة في هذا التنازع بين الضمير والمعدة على مستقبل الأمم، ومصير الجماعات الإنسانية.

نجحت هذه الدولة الطارئة من جهة لتبسط حكمها على مسافة من الأرض ومن الجهة الأخرى لتبسط حكمها على مسألة المسائل وقضية القضايا، وتصحح للمفكرين آراءهم وتصحح للعقول مناهجها في التفكير، وتضع الأسناد بين القائلين بالمذاهب السياسية أو الاجتماعية عملًا لا قولًا، وواقعًا لا جدلًا، بل عملًا واقعًا في جثمان يملأ الآفاق، ويحصيه الحساب بألوف الفراسخ وملايين الأرواح.

وقد وصلت إلينا، ونحن نكتب الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب، مجموعة البحوث الدولية عن السنة المتداخلة بين سنتي ١٩٥٠ و١٩٥١، ونعني بها المجموعة التي تطبعها جامعة هارفارد بإشراف الأستاذ بادلفورد Padelford العالم الخبير بشئون الدراسات الدولية، فإذا بقيام الباكستان قد دخل في عداد الأسانيد التي تجدد المقررات والمعلومات عن بواعث التاريخ الكبرى، وعن التعريف الصحيح لمعنى الأمة ومعنى الجنس أو السلالة.
يقول سير ارنست باركر في باب القومية على ضوء التجارب العصرية:

ليست الأمة حقيقة بدنية من دم واحد، ولكنها حقيقة عقلية أو نفسية من تراث واحد.

واستطرد البحث إلى العامل الديني في تكوين الأمم فقال الأستاذ: «كان الرأي الشائع إلى زمن قريب أن أثر الدين في تكوين الأمم يتضاءل ويضمحل، وهذا الاعتقاد في تضاؤل أثر الدين في شئون السياسة يتطلب التنقيح بعد قيام دولتين على أثر الحرب قائمتين على الوشائج الدينية؛ وهما دولة الباكستان المسلمة، ودولة إسرائيل اليهودية.»

ثم استطرد الباحث إلى سحر البطولة وفعله في استجاشة الآمال والأحلام بين الأمم الآسيوية في العصر الحاضر، فاعتد «الشخصيات» المقدسة عاملًا من أقوى العوامل في تطور الأمم وتحويل مجراها.

من هذا الجانب الفسيح الرحاب ينظر إلى قضية الباكستان كل من ينظرون إلى حاضر الإنسان ومصيره، وإلى الدوافع الفعالة في حركات آحاده وجماعاته، ولا ينحصر النظر إلى تلك القضية في نطاق المسائل الشرقية والمسائل الإسلامية، ومهما يكن دين المعتقد أو رأيه في الأديان فليس محور النظر هنا عقيدة مسلم أو عقيدة مسيحي، أو عقيدة برهمي، أو تفضيل عقيدة على عقيدة، أو إثبات عقيدة وتفنيد أخرى، وإنما محور النظر هو: معدة أو ضمير؟ جسد أو روح؟ بطولة إنسانية أو تكرار أعداد وأرقام؟

ومن فضل الباكستان في نشأتها أنها قامت فرجحت في ميزان التاريخ جانب الضمير، ومن حق كل مؤمن بعقيدة يدين بها ضميره أن يغتبط بهذا الترجيح، سواء في ذلك المسلمون والبرهميون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤