الرواد والآباء

figure
السيد أحمد خان.

أستاذ الزعماء

من أصدق الأقوال في تلخيص قضية الباكستان كلمة الزعيم الهندي المعتدل جوكهيل؛ إذ يقول لأبناء قومه تيسيرًا لفهم مطالب المسلمين: «إنكم لو كنتم في موضعهم لطلبتم مثل مطالبهم، وشعرتم بالحاجة إلى ضمان كالضمان الذي يحتاجون إليه.»

وجوكهيل هذا هو قدوة الزعماء الهنديين في السماحة ورحابة الصدر، وهو أستاذ جناح السياسي في صباه وقدوته في مسألة الطوائف والأحزاب، وكان جناح يقول: إنه يطمح إلى شيء واحد؛ وهو أن يكون جوكهيل من المسلمين.

قال جوكهيل كلمته تلك: وقد نجمت دعوة الطوائف وتشعب الخلاف عليها في الربع الأول من القرن العشرين، وكانت هذه الحقيقة واضحة أمام عينيه وهو ينظر إلى مفترق الطريق، ولكنها — قبل أن يفترق الطريقان — لم تكن واضحة هذا الوضوح أمام زعماء المسلمين، بل أمام أشدهم مغالاة في طلب الانفصال، ولا استثناء في ذلك لزعيم هؤلاء الزعماء وأستاذهم وموحي الفكرة التي نشأ منها المؤتمر الهندي والعصبة الإسلامية على السواء، وهو «السيد أحمد خان».

كان السيد أحمد خان هو الرائد الأول للباكستان، وتلاه أعوانه وتلاميذه فبدءوا كما بدأ، ثم انتهوا كما انتهى: بدءوا يعملون يدًا واحدة مع الهنديين على إمكان الوحدة، ثم حاول كل منهم محاولته وانتهى منها بعقله وتدبيره إلى حيث انتهت بداهة الجماهير، فتوافرت للحركة كل قوتها من تلاقي الرءوس والقلوب على عقيدة قد تمحصت من جميع جوانبها، وانتهى منها كل شك يخالج نفوس القادة أو الأتباع.

وكان السيد أحمد خان مثالًا عاليًا للرجل العظيم الذي يثبت للناس من حين إلى حين أن الغيرة الدينية البالغة والشعور الإنساني الأكمل لا يتناقضان، بل يمتزجان ويتعاونان، فلما وقعت الفتنة التي اشتهرت بفتنة العصيان Mutiny أنقذ من الموت كثيرًا من الإنجليز، كما أنقذ كثيرًا من الوطنيين، ولم تحتمل نفسه الكريمة أن يرى إنسانًا أعزل يفتك به مطاردوه كأنه فريسة ينفرد بها وحوش ضراة.

وحفظ له الذين أنقذهم هذا الجميل، ومنهم رجل إنجليزي اشتهر بين القوم؛ لأنه يُسمى باسم الشاعر الكبير وليام شكسبير، بلغ من وفائه له أنه كان يلازمه حيثما استطاع، وملازمته هذه هي التي تجعل لكلمته معناها في هذا السياق. فإنه سمعه زمنًا طويلًا يتكلم عن تقدم الهند ونهضة الهند وحقوق الهند، فلما سمعه لأول مرة يذكر تقدم المسلمين ويفردهم بالقول دهش وبدت عليه الدهشة، ولم يكتمه سبب دهشته فقال له: «هذه أول مرة أسمعك فيها تتكلم عن المسلمين وحدهم، وكنت على الدوام تهتم بمصالح أبناء وطنك أجمعين.» فأجابه الرجل العظيم الذي اشتُهر بصراحته كما اشتُهر بحكمته: «إنني اليوم مؤمن بأن القومين — كما وردت الكلمة في العبارة الأردية — لن يخلصا النية في أمر واحد، وليس بينهما اليوم عداء مكشوف، ولكن هذا العداء سينكشف في المستقبل من جراء من يسمونهم بالطائفة المتعلمة، ومن يعش يرَ.»

قال شكسبير: «إني ليحزنني أن تصدق هذه النبوءة.» فقال السيد أحمد: «وإنني أيضًا لحزين جد الحزن من أجل هذا، ولكنني منه على يقين …» ولم تمض فترة وجيزة حتى تحقق كلاهما أن خلوص النيات في قضية الوحدة مستحيل.

•••

كان السيد أحمد خان ماردًا من مردة الإصلاح الأفذاذ في كل زمن وكل أمة، وكانت شخصيته من الرحابة والقوة بحيث تحتمل الكثير من النقائض في مقاييس الأوساط، ولم يكن وسطًا في مقياس من تلك المقاييس.

كان كما قدمنا غيورًا شديد الغيرة على أبناء دينه، ولكنها غيرة لم تكن تحجب شعوره الإنساني في أوقات اللدد والشحناء، كما يحدث أحيانًا لأصحاب النفوس الصغار.

وكان لفرط غيرته معدودًا من المتعصبين في رأي بعض خصومه ومعارضيه، ولكنه كان في رأي المتعصبين متهمًا بالإلحاد والمروق، وتعرض للقتل مرتين من جراء هذا الاتهام.

وكان من سياسته أن يسالم الدولة الحاكمة حتى يرتقي بقومه إلى الشأو الذي يمكِّنهم من ولاية الحكم عند تمام الاستقلال، ولكنه لم يفهم قط من المسالمة أنها ملق وازدلاف، بل كانت صراحته تسلكه عند أناس من الحاكمين في عداد المهيجين، وقد ترك حفلة الدربار غضبًا واحتجاجًا على التمييز في كراسي الجلوس بين الإنجليز والوطنيين.

وكان ينكر على الإنجليز في وجوههم تعاليهم على الرعية الوطنية ويحذرهم عاقبة هذا الكبرياء، ولكنه كان يكتب إلى خاصته وهو في بلاد الإنجليز؛ فيصارحهم في ألم شديد معترفًا بأن الفارق بين المجتمع الإنجليزي والمجتمع الهندي كالفارق بين جماعة من الآدميين وقطيع من العجماوات.

ويعجب أصحابه لأمره بين النصح بالتقية السياسية وبين مجاهرته بكل ما يعتقده مجاهرة لا تعرف التقية والحيطة، ولا ترهب المقاومة والمعارضة، وكانت الدعوة الوهابية في إبانها حين نشط لدعوة الإصلاح، وكان يأخذ عليها اليبوسة والمبالغة في التحرج، فإذا قيل له: ما بالك إذن تنحو نحوهم في مجابهة الناس بما ينفرون منه، وتصر على مجابهتهم وهم نافرون، قال: إذن أنا وهابي الوهابيين إن كانت الوهابية أن تجهر بما تدين.

المارد الحق

والمارد الحق إنما يبدو لنا في جبروته، بل في ضخامة جبروته، إذا عرفنا أنه عمل ونجح في عمله، وأدرك غاية النجاح مع كثرة خصومه، وكثرة الآراء التي تعارض رأيه حتى بين أعوانه ومريديه.

فإذا مضيت في استقصاء علاقاته مع من حوله جزمت أنه لم يكن على وفاق مع أحد، لم يكن على وفاق مع الإنجليز، ولم يكن على وفاق مع البراهمة، ولم يكن على مع المسلمين المحافظين، ولم يكن على وفاق مع المسلمين المجددين، ولكنه عمل ونجح في عمله غاية النجاح الذي يتسنى لأحد في موقفه، وكان له أعوان من جميع هؤلاء المخالفين، طائعين أو كارهين، أو ليس فيهم كارهون على التحقيق، بل مستسلمون يفوضون الأمر ويستسلمون.

مرجع ذلك إلى الثقة بصدقه وإخلاصه، ولكن لا إلى هذه الثقة وحدها؛ لأن الصادق المخلص في غير قوة وعزم قد يفلح فلاح فرد، ولا يتسنى له أن يفلح في انتزاع الملايين من جمودهم وتحويلهم عنوة من حال إلى حال.

مرجع ذلك إلى القوة الماردة التي أسلست له قبل كل شيء زمام الثقة بنفسه، فوثق به كل من تحدث إليه وعمل معه وأيقن بيقينه، ونظر الرجل إلى مهمته الضخمة فوزنها بميزان قوته وإخلاصه، فإذا هي مستطاعة مفهومة محدودة الأهداف، وإذا هو يمضي فيها مضي سالك الطريق المعبد الذلول، ولو غيره نظر إلى ذلك الطريق قبل المضي فيه لأحجم ولم يمضِ، وأحجم وراءه كل من رآه يقدم وينثني بعد إقدام.

خالف الجميع ولكنه جمعهم بغير خلاف على رأي واحد، وهو رأيهم في صلاحه وقدرته، وأنه يعني ما يقول ويعمل ما يعنيه، وحسب الأعمال الكبار نجاحًا أن يتفق العاملون لها على الإيمان بقائدهم فيها، وإن اختلفوا بعد ذلك أي اختلاف.

وكأنما كان هناك ارتباط بين تاريخ أسرة السيد أحمد خان وتاريخ الحركات الدينية ودعوات الإصلاح في الهند، فوصل أجداده إلى دلهي مهاجرين من جزيرة العرب في إبان دعوة السلطان أكبر، الذي حاول التوفيق بين الأديان؛ فأخرج منها جميعًا دينًا موحدًا عُرف يومئذ بدين أكبر، ومات بموت صاحبه. وكان جد السيد في زمرة المعارضين له بإمامة شيخ الطريقة النقشبندية وزملائه المعروفين باسم المجددين، وقد كان شاه غلام علي رئيس المجددين صديقًا للسيد متقي والد السيد أحمد، ولم يكن للولي الموقر عقب، فكان يقول: إن أولاد متقي هم أولاده في الله والروح، وشغل نفسه بتعليم الطفل كتابة اللغة العربية وتلقينه بعض الأحكام والفروض.

وينمى السيد أحمد من ناحية أمه إلى الخوجة فريد الدين أعلم أهل زمانه بين المسلمين بالعلوم الرياضية والعقلية، وصاحب الكفاية الملحوظة التي جعلت «هاستنج» يندبه لنظارة الكلية التي أنشأها لتعليم الوطنيين، وجعلت ولاة الأمر من إنجليز وهنديين يندبونه لمهام الوزارة والسفارة في إيران وبرما، وقد سمع به أكبر شاه الثاني فعهد إليه بوزارة القصر والخزانة، وكان نظامه الدقيق في الشئون المالية سببًا للحنق عليه.

ويعزى إلى هذا العلامة أكبر الأثر في تنشئته حفيده على النشأة العقلية والحياة العصرية؛ إذ كان أبوه منقطعًا عن الدنيا في نسكه ومصاحبته للأولياء، فكانت أمه تعيش أشهرًا متواليات في بيت أبيها ومعها الصبي اليقظ المتنبه لكل ما يراه حوله ويسمعه من أحاديث جده العظيم.

وأول أثر من آثار هذه التربية أن الصبي لم ينهج نهج أسرته من ناحية أبيه في مقاطعة الوظائف أو مقاطعة كل ما له علاقة بالحكومة، فلما مات أبوه (١٨٣٦م) وهو يناهز التاسعة عشرة قبل التوظف في المحاكم، وانتقل من الأعمال الكتابية إلى أعمال القضاء في بضع سنوات، ونشبت الثورة وهو يتولى القضاء بمدينة بجنور؛ فكان مسلكه مع أبناء قومه ومع الإنجليز والبرهميين أول شهادة له عند الأقربين والغرباء برجاحة العقل وسماحة الطبع وعلو الهمة، وأول مناسبة وضعت مشكلة الهند بجميع أجناسها وأقوامها في موضعها الصحيح.

خرج الإنجليز من تلك الفتنة الطاحنة حائرين في تفسير بواعثها يعتقدون أنهم مضللون، ولا يعرفون كيف يهتدون، وجعلتهم تلك الحيرة مستعدين للإصغاء إلى كل نصيحة، فلم يجدوا أمامهم أقدر على النصيحة وأشجع على إبدائها من القاضي الجريء الخبير، فأما العقلاء منهم فقد لمسوا الصدق في بيانه لبواعث الفتنة ووسائل علاجها، وأما المتهورون منهم فقد حسبوه من دعاة الهياج الذين يبذرون بين الأمة الهندية بذور الفتنة من جديد، وكانت خلاصة رأيه أن الإدارة الإنجليزية هي المسئولة عن تذمر المحكومين؛ لأنها تحكمهم بغير مشاركة منهم في الرأي، وعلى غير علم بما يساورهم من شعور، وتغلبت الحكمة على التهور فأخذت الحكومة البريطانية بمشورته وعولت على تنحية الشركة التي كانت تنفرد بحكم البلاد إلى ذلك الحين، وأن تقيم الحكم على أساس الشورى والتدرج في التمثيل النيابي، وإشراك المتعلمين من الوطنيين في مجالس الحكام، وهي مجالس شورية كادت أن تنحصر في الإنجليز، ولم تكن لأعضائها معرفة بمطالب القوم، ولا اطلاع على شكاواهم ومظالمهم، لترفعهم عن معاشرة أبناء البلاد.

الاستعمار يحارب المسلمين

وولدت على أعقاب الثورة فكرة المؤتمر الوطني فبرزت مع الفكرة مشكلات التمثيل النيابي والحكومة الوطنية، وجعلت هذه المشكلات تتفاقم كلما تدرج الوطنيون في مطالب الحكم الذاتي والاستقلال بالإدارة والسياسة.

برزت مشكلات الحكومة الوطنية وأولها حرمان المسلمين من الحكم بتدبير السياسة البريطانية، أو من جراء هذه السياسة حين يكون الحرمان نتيجة غير مقصودة لوقائع الأحوال بعد دخول الهند في حوزة الدولة البريطانية.

كان المسلمون حكامًا فأخذ الإنجليز منهم وظائف الحكومة الكبرى، وحذروهم في الوظائف الصغيرة فأكثروا فيها من البراهمة والبوذيين وسائر الهنديين، وأخلوها أو كادوا يخلونها من المسلمين.

وكان بين المسلمين أصحاب ضياع واسعة فانتزعها المرابون، وأتى قانون تسوية الأرض على بقيتها، وأسلمها إلى الجباة كما تقدم أو إلى الزراع الصغار.

وكانت الثقافة الفارسية هي ثقافة المسلمين، فجاءت المدارس الأوروبية الحديثة ولم يقبل عليها المسلمون؛ لأنها كانت على الأكثر في أيدي المبشرين والمتفرنجين.

وقد وصف هذه الحالة إنجليزي منصف هو الدكتور وليام هنتر فقال عن أسر المسلمين من كبار الزراع: «لو أراد سياسي أن يثير ضجة في مجلس النواب لما احتاج إلى أكثر من سرد صادق لقصة هذه الأسر في البنغال.»

ثم استطرد إلى الوظائف فقال: إن القيادة العليا التي كانت من وظائف المسلمين قد نزعت بطبيعة الحال من جميع الهنود: «أما الوظائف الأخرى فكانت مشغولة هكذا في سنة ١٨٦٩ … أربع عشرة وظيفة من وظائف المهندسين بدرجاتها الثلاث يشغلها الهنديون، وليس معهم مسلم واحد، وكان بين المهندسين تحت التمرين أربعة هنديين وإنجليزيان، وليس معهم مسلم واحد، وكان بين وكلاء المهندسين أربعة وعشرون هنديًّا، ومسلم واحد، وبين المشرفين مسلمان وثلاثة وستون هنديًّا، ولم يكن في إدارة الحسابات مسلم واحد مع موظفيه الهنديين وعدتهم خمسون، وكذلك لم يكن في ديوان الرؤساء الثانويين مسلم واحد مع اثنين وعشرين من الهنديين.»

وهذه النسبة هي التي أحصاها الدكتور هنتر في البنغال، وهي نسبة نموذجية يُقاس عليها في سائر الأقاليم، ومنها ما هو أسوأ حالًا بالنسبة للموظفين وأصحاب الأرض المسلمين من ذلك الإقليم.

نظر السيد أحمد خان إلى هذه الحالة، وعرف من حقائقها ما لم يعرفه الدكتور هنتر ولا غيره من الإنجليز؛ لأن صاحب الدار كما يُقال أدرى بالذي فيها، فأدرك عاقبة الحكم النيابي الذي تتولاه كثرة الناخبين، وعلم أنه حكم لا نصيب فيه للنواب ولا للموظفين ولا للساسة من المسلمين.

ومما زاد هذا الرأي اختمارًا في نفسه قيام الدعوة القومية الهندية على أساس محاربة الإنجليز والمسلمين على السواء، بغير مواربة ولا مجاملة، فقد بدأت هذه الدعوة بعد حركة الفتنة، وظهر أنها تنتشر ولا تنحسر كما كان مرجوًا في أول عهدها؛ إذ كان أناس من المتفائلين يحسبون أنها رد فعل للفتنة لا يلبث أن يستقر على قرار ثابت من الهوادة والاعتدال، وقد كان السيد أحمد خان أبعد منهم نظرًا، وأعرف منهم بالحقائق فتشاءم من الحركة منذ نشأتها، وحققت الأيام ظنه، فلم يوجد في المؤتمر الوطني على عهد الزعيم طيلاق، أكبر المجاهرين بالعصبية الهندية، أكثر من سبعة عشر عضوًا بين سبعمائة وخمسة وستين (سنة ١٩٠٥).

رجل عمل

وفضل الزعيم الكبير أنه كان رجل عمل، ولم يكن رجل شكوى وانتقاد وكفي، فأول ما عمله لإصلاح هذه الحالة السيئة أنه أسس كلية «عليجرة» على النظام الحديث للتعليم العالي والدراسات الجامعية، وهذه الكلية هي التي أنجبت قادة الأمة الإسلامية في الهند إلا العدد القليل ممن حافظوا على التعلم في المدارس الدينية، ومن مصائب الدنيا أن هذا العمل الجليل الذي عُرفت آثاره اليوم كان مثار السخط على الرجل بين الجامدين أنصار القديم، فأشاعوا بين أتباعهم أن السيد أحمد خان صنيعة للإنجليز، وأنه زنديق يريد تكفير شبان المسلمين، ويبيع ضميره في سبيل الوظائف والزلفى عند ولاة الأمور، ولم يغنه مع هؤلاء الجهلاء ما هو معلوم من رفضه كل منحة مالية تبرع بها الإنجليز لمكافأته على أثر الفتنة، وقد كان يرفض تلك المنح مع ضيق الحال به يومئذ حتى هم بالهجرة إلى مصر؛ كما قال في خطاب وصف به عواقب الفتنة وسوء منقلب المسلمين بعدها.

إلا أن قلبه الكبير لم يستسلم قط لليأس في أحرج الأوقات فمضى في تأسيس الكلية، وجعل شعاره في الإصلاح الاجتماعي كلمة واحدة كررها ثلاث مرات وهي: «علم، ثم علم، ثم علم» ودع كل شيء بعد ذلك لما يثمره التعليم.

أما في ميدان السياسة فقد أعلن رأيه منذ سنة ١٨٨٣ عند الكلام على المجالس المحلية فقال في خطاب صراح: «إن نظام التمثيل بالانتخاب يعني تمثيل مصالح الكثرة وآرائها، وهو خير الأنظمة ولا ريب حيث يكون السكان من جنس واحد وعقيدة واحدة، ولكنه … في بلاد كالهند حيث فواصل الدين على أشدها، وحيث التعليم لم يجر على سواء بين طوائف السكان، يقترن بأضرار جمة لا تنحصر في الشئون الاقتصادية … وما دامت فوارق الجنس والعقيدة وحواجز الطبقة تعمل عملها الخطير في حياة الهند الاجتماعية السياسية، وتسيطر على سكانها في المسائل التي ترتبط بالإدارة والثروة … فليس من المستطاع الاعتماد على النظام الانتخابي بمأمن من العواقب؛ لأن الطائفة الكبرى ستغمر الطائفة الصغرى، ويذهب الجمهور الجاهل مذاهب في اعتبار الحكومة مسئولة عن كل تصرف من شأنه أن يزيد مشكلات الجنس والعقيدة شدة على شدة …»

عاش السيد أحمد بعد أن أعلن هذا الرأي خمس عشرة سنة، لم يحدث في خلالها ما يحمله على تغيير رأيه أو تعديله، بل كان كل ما حدث في هذه الفترة مضاعفًا لمخاوفه مؤيدًا لاعتقاده، فراجت في الهند الشمالية دعوة «آريا سماج»، وأعلن الزعيم البرهمي طيلاق دعوة «شيفاجي» التي تنادي بتخليص الهند من الإنجليز والمسلمين الأجانب، وتعتبر المسلمين جميعًا «ميلاش»؛ أي دخلاء، وتصايح من هنا وهناك بعض الدعاة بإبطال اللغة الأردية وحذف الكلمات الفارسية والعربية التي دخلت في اللغة الهندية، ومات الزعيم الكبير وهو أشد ما يكون يقينًا بأن قضية الهند لا تُحل إلا على قاعدة واحدة، وهي اعتبارها قضية قومين أو أمتين.

طريق النصر

ولمن يشاء على نحو من أنحاء التعبير أن يقول: إن الزعيم البرهمي طيلاق كان شريكًا قويًّا لأحمد خان في تدعيم بناء الباكستان، وإن تحريضه في هذا الباب كان أقوى من حض الزعيم المسلم مع اختلاف المقصد والواسطة، فما من أحد من رواد الباكستان عمل على إقناع المسلمين بضرورة الانفصال كما عمل طيلاق، ولا نحسب أن هذه الخطة كانت طيشًا من الرجل أو جهلًا منه بالعواقب، ولكنه على الأرجح علم أن النزعة الوطنية وحدها لا تكفي لتنبيه أبناء قومه وإيقاظ نخوتهم؛ فعمد إلى نزعة تستثار بها القوة في طبائعهم؛ وهي نزعة العقيدة التي تمتزج بعاداتهم وموروثاتهم وأحوال معيشتهم، وتعمد أن يلهبها ويستفز النفوس من جانبها غير جاهل بالعواقب أو مندفع مع الطيش والرعونة، فهجم وهو يقصد الهجوم ويحسب أنه دون غيره طريق النصر المرسوم.

على أن السيد أحمد خان قد أثبت في حياته وبعد مماته أنه كان بحق مربي قادة ومربي أمم، فإنه أخرج من مدرسته تلاميذ يستقلون بالرأي، ولا ينقادون ليقين أستاذهم انقياد المقلد المتبع الذي يمشي وراء دليله مغمض العينين؛ فما من واحد من خريجي عليجرة أو مريديه المقربين إلا وقد اجتهد في قضية الوحدة اجتهاده، وعالج ما استطاع أن يوحد أقوامه وبلاده، وما من واحد منهم قد بدأ من حيث انتهى الزعيم الكبير، بل عاد كل منهم إلى أول الطريق يبدؤها حيث قدر أنه واصل إلى الغاية التي التوت على زعيمه، ونهج كل منهم نهجه غير مقلد لزعيمه، ولا مقلد لعامل آخر من زملائه وأبناء مدرسته.

كان بحق مربي قادة ومربي أمم، وصدقت فراسته حين لخص القيادة النافعة كلها في كلمة واحدة: وهي «علم ثم علم ثم علم» … وليست هناك قيادة لا تضل بصاحبها أقوم من قيادة التعليم.

أما تربيته الأمم فقد ظهرت في بعثه الحياة بين قومه في زمرة أنصاره وخصومه، وقد عيب عليه بلسان أقرب المقربين إليه أنه كان مفرطًا في الصراحة، عنيدًا في الحق، صلبًا في مقارعة المعارضين بالحجة الواضحة وإن كانت مؤلمة جارحة، ولكن هذه الصراحة التي لا تعرف المواربة هي التي ابتعثت القوة والثقة في معسكره ومعسكر خصومه، فمات والمعسكران معًا في حركة دائمة واستعداد متجدد، واستفادت أفكاره ممن أيدوها وممن فندوها على السواء، وكان كل تلميذ له يعمل وكل معارض له يعمل، وكل عمل يثمر بعض الثمرة، ويغرس من ثمرته شجرة نامية وارفة الظلال.

الشاعر «ألطاف»

من مريديه الذين والاهم بعطفه وتأييده الشاعر ألطاف حسين «حالي» الملقب بشمس العلماء، وقد فطن السيد لعبقريته، وعلم فضل الشعر في تربية الأقوام الناهضة؛ فاقترح عليه أن ينظم ملحمة شعرية مطولة في تقدم الإسلام وتأخره، فنظمها وأهداها إلى كلية عليجرة، وعرفت باسم المسدسات، واستظهرها كثير من شبان عصره وشيوخه، وكان «الحالي» صوفيًّا على مذهب محيي الدين ابن عربي في حب جميع الناس ومصافاة جميع الأمم، يقول كما قال محيي الدين:

أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني

بل كان فضل النبي الأكبر كما قال في ختام قصيده «إنه صديق كل نفس إنسانية، عطوف على القريب والبعيد، سواء عنده المكي، والزنجي، والشامي، غفور للمسيء، يسدي الخير حتى إلى فاعلي الشرور.»

وكانت له قصيدة في الوطنية يقول فيها: «إن أردت خيرًا لوطنك فلا تنظر إلى أحد من أبنائه نظرة الغريب، سيان المسلم والهندستاني، والبوذي، والبرهمي، فارعهم جميعًا بعين الحب وسوِّ بينهم كما تسوِّي بين إنساني عينيك.»

وفي إحدى مسدساته يقول عن القرآن: «أول ما نتعلمه من كتاب الهدى أن الناس جميعًا أسرة الله، وأنه لا يحب الله إلا من يحب خليقته، ذلك هو الإخلاص الحق وتلك هي العقيدة والإيمان، أن يكون الإنسان في عون الإنسان.»

وفي مقطوعة أخرى يقول: «دع الشحناء مع من يدين بغير دينك … وأحجم عن الأذى، وقابل الأذى بالإحسان، وليأت بعد ذلك من يقول إن الدنيا جهنم فلينظر إلى هذا الفردوس.»

وقد عمل الشاعر على التقريب بين الأمتين بالتقريب بين اللغتين، فنظم مقاطيع من الشعر في لغة يفهمها المتكلمون بالأردية والمتكلمون بالهندستانية، وقيل إن غاندي قرأ قصيدته «شكوى الأيم» فقال: «لو تكلم أهل الهند يومًا بلغة واحدة فبهذه اللغة يتكلمون»، وكتب في مقدمة ديوانه أن المسلمين يحسنون صنعًا لو استغنوا عن الكلمات الغامضة من العربية والفارسية، وأن الهندستانيين خلقاء أن يتعلموا الأردية؛ لأنها هندستانية متطورة.

وهذا مثل من العاطفة الدينية الصوفية التي كان شعراء الإسلام من بيئة السيد أحمد يواجهون بها قضية الوحدة.

وإذا كان «الحالي» قد واجه قضية الوحدة بالروح الصوفية؛ فقد واجهها الأخوان محمد علي وشوكت علي بالروح الرياضية، وأيد محمد علي حركة المقاطعة التي قام بها غاندي بفتوى دينية تحرم على المسلمين خدمة الشرطة والجيش، ونادى بأن سياسة أستاذه السيد أحمد التي تقوم على محاسنة الدولة البريطانية قد انقضى عهدها، ووجب على العاملين في سياسة الهند أن يحاربوا تلك الدولة بكل ما يستطيعون، ثم انتهى الأمر بعودته إلى رأي أستاذه في قضية الوحدة، فقال في المؤتمر الإسلامي قبل غاندي بأكثر من ربع قرن: «إننا نعارض غاندي؛ لأن حركته ليست بالحركة التي ترمي إلى استقلال الهند كلها، وإنما هي حركة يُراد بها أن يظل السبعون مليونًا من المسلمين عالة على جماعة «المهاسبها» … وهي الجماعة المتطرفة التي جاهرت غير مرة بأن الحل السريع لمشكلة الهند هو استئصال من فيها من المسلمين.

الشاعر إقبال

ومن تلاميذ السيد أحمد رواد الباكستان الشاعر محمد إقبال، الذي اشتهر باسم شاعر الإسلام، فقد كان أبناء قومه، يسلكونه بين غلاة الوطنيين «الناشو ناليست» طلاب الوحدة، فما زال مع الزمن حتى آمن باستحالة الوحدة. ودُعي مرة إلى محفل «منيرفا» المشترك بين أبناء جميع الأديان والأقوام، فكتب إلى الداعين (في سنة ١٩٠٩) يقول: «لقد كنت أرى وأعتقد أن الخلافات الدينية ينبغي أن تمحى في هذه البلاد، ولا أزال أعمل لذلك في حياتي الخاصة، ولكنني أجد اليوم أن محافظة كل من الأمتين على كيانها مطلوب بين المسلمين والهندستانيين، وأن الوطن الموحد في الهند لمن الأحلام الجميلة التي تروق الأمزجة الشعرية، ولكنه عند النظر إلى الأحوال الحاضرة والنزعات الباطنة في ضمائر الأمتين يبدو غير قابل للتحقيق.»

وقد تخرج من عليجرة وغيرها رواد كثيرون لفكرة الباكستان، كلهم اجتهدوا في الوحدة، وكلهم آمنوا باستحالتها، ولعل صاحب الترجمة — القائد الأعظم — كان آخر من بقي على أمل الوحدة بين أولئك الرواد، وهذه هي العبرة ذات الدلالة الكبرى في هذا الباب.

إلا أن حركات الجماهير أعمق في الدلالة على ضرورة الباكستان من هذا التطور في آراء القادة والزعماء. وقد أسلفنا أن الجماهير أُلهمت بالفطرة ما قرره القادة والزعماء بالروية والاستقراء بعد طول العناء، ولكننا لا نقصد بذلك أن الجماهير قد اندفعت في وجهتها اندفاعًا لا علة له ولا تردد في مقدماته ودواعيه؛ إذ الواقع أن علة هذا الاتجاه في الجماهير أوضح من علل التطور في عقول قادتها وزعمائها، وإنما الفرق بينها وبينهم في اتجاهها أنها تنقاد للسبب المعقول ولا تعلم أنه سبب انقيادها، ولكنه سبب معقول على كل حال.

العصبة الإسلامية

فلما أسست العصبة الإسلامية (سنة ١٩٠٦) كان تأسيسها تلبية لشكوى المسلمين في الأقاليم التي هم قلة ضئيلة فيها إلى جانب الهندستانيين أو البرهميين والبوذيين، ولم يقبل عليها المسلمون الذين هم كثرة في أقاليم إلا بعد فترة غير قصيرة، وكانت جماعة «المهاسبها» التي تقدم ذكرها هي الحافز لهم على الاعتصام بالعصبة، والاحتراس من عاقبة الاندماج في وطن واحد يسمع فيه صوت هذه الجماعة بين أقوى الأصوات الغالبة على نفوس جماهيره.

فالقلة الهندستانية في الأقاليم الإسلامية تمادت في تعصبها الذميم إلى أقصى حدوده، وثبت من إحصاءات الاشتراك في العصبة الإسلامية أنها لم تنتشر بين تلك الأقاليم عند تأسيس العصبة، ولكنها بلغت غاية الانتشار بعد ثورة «المهاسبها» وتوقح كُتابها وخطباؤها على مقدسات الدين الإسلامي؛ ومنها كرامة نبيه عليه السلام، وجعلت مكانة العصبة بين أهل تلك الأقاليم تتوطد وتستقر كلما تجاوبت أرجاء الهند بتلبية «الدعاية» الهوجاء التي انتهت بمقتل «المهاتما» الهندي؛ لأنه أنكر على الجماعة تعصبها الذميم.

وأعمق من حركات الجماهير الإسلامية وأطوار القادة والزعماء في الدلالة على استحالة الوحدة؛ أن المنبوذين أنفسهم — وهم من أعرق السكان في الهند — قد اتخذوا مع حزب المؤتمر موقفًا كموقف العصبة الإسلامية، بل أشد لددًا في الخصومة، وأعلن زعيمهم الدكتور (امبدكار) أن عناية غاندي بالمنبوذين إنما هي عناية يريد بها أن تستقل الهند خالصة لقومه، وأن قومه بالنسبة إلى المنبوذين كالأوروبيين بلا خلاف. وأصر الدكتور امبدكار على هذا الموقف بعد الوصايا المتكررة من غاندي بإنصاف المنبوذين، وتسميتهم باسم الهاريجان؛ أي أبناء الله. وقد يمهد له العذر في إصراره أن وزارة المؤتمر بمدراس — وهي وزارة يؤيدها ستة وعشرون من النواب المنبوذين — رفضت قرار اقترحه الزعيم «راجاه» يبيح للمنبوذين دخول المعابد الهندية، ولولا أن هؤلاء المنبوذين لا تضمهم في الهند أماكن قابلة للاستقلال، وأنهم هم أنفسهم مستسلمون لقسمتهم؛ لأنها جزء من عقيدتهم، لوجدت في الهند دولة منبوذة مستقلة يسكنها أربعون مليونًا أو يزيدون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤