الملتقى

والملتقى هو ملتقى القضية وزعيمها، ملتقى الباكستان والرجل الذي رشحته الحوادث لقيادة المساعي المتشعبة التي جمعت شملها وأبرزتها كما هي اليوم دولة بين كبريات الدول في القارة الآسيوية، وفي العالم بأسره.

وفي سنة ١٩٠٦ أخذت بريطانيا العظمى تفكر في توسيع نصيب الهنود من الحكومة الذاتية.

وفي هذه السنة اجتمع في «دكا» زعماء المسلمين لإنشاء العصبة الإسلامية.

وفي سنة ١٩٠٨ — بعد سنتين من إنشاء العصبة — توجه وفد من زعماء المسلمين إلى اللورد منتو — حاكم الهند — يطلبون منه وضع قواعد للانتخاب تكفل تمثيل المسلمين في المجالس النيابية التي تشترك في الحكومة الذاتية، وإن كان اشتراكًا في حدود الشورى وإبداء الآراء لا يتجاوزهما إلى حدود الإبرام والتنفيذ والحكومة الفعلية.

لم يكن جناح من مؤسسي العصبة، ولم يكن كذلك من أعضاء الوفد الذي عرض مطالب المسلمين على الحاكم العام.

ولا يُفهم من هذا أنه كان يقاطع الحركة الإسلامية ويجهل دواعيها، وإنما يُفهم منه أنه كان إلى ذلك الحين يعتقد أن المؤتمر أداة صالحة لخدمة الهنود جميعًا من مسلمين وبرهميين، وظل على هذا الاعتقاد بعد إنشاء العصبة بسبع سنوات.

ولما أيقن أن وجود العصبة لازم لرعاية المصالح الإسلامية، وقبل الانضمام إليها طلب من شاهديه أن يقررا في كتاب ترشيحه أن رعاية هذه المصالح لا تعني بحال من الأحوال نقض الولاء للقضية القومية الكبرى التي وقف عليها حياته.

وفي سنة ١٩١٤ كان هو رئيس البعثة الهندية التي قصدت لندن لشرح القضية الهندية، وتوضيح المطالب التي ينتظر أهل الهند تحقيقها بعد نهاية الحرب العظمى.

وفي سنة ١٩١٦ كان هو رئيس اللجنة التي تألفت للاحتفال بمقدم غاندي من إفريقية الجنوبية، وكان رئيسًا لفرع من أكبر فروع العصبة المؤلفة لتوسيع حقوق الحكم الذاتي، وهو فرع بومباي.

ويمكن أن يقال: إن وفاة الزعيم البرهمي جوكهيل في سنة ١٩١٥ كانت هي مفترق الطريق بينه وبين سياسة العمل الموحد في القضية الهندية، وأول الطريق الذي التقى فيه بقضية الباكستان وأصبحت قضيتها فيه هي قضية قائدها الأعظم بغير افتراق.

كان جوكهيل رجلًا نادرًا في نبله وحكمته وسماحة عقله، وكانت قدرته على فهم موقف قومه وغير قومه هي الهبة الزعامية الكبرى التي انفرد بها، أو كاد أن ينفرد بها بين زعماء البرهميين.

كان يتقبل بالارتياح نظم الانتخاب التي تعطي المسلمين ضمانهم في المجالس النيابية ودواوين الحكومة، وكان يتقبل بالارتياح ما هو أكبر من ذلك وأدعى إلى التوفيق بين الأكثرية والأقلية من أبناء البلاد الهندية جمعاء، وذلك هو النظام الاتحادي «الفدرالي» إذا لم يكن منه بد في عهد الحكومة الوطنية.

وقد كانت هذه السياسة التي انتهجها الزعيم البرهمي النبيل من إملاء الواقع، كما كانت من إملاء سماحته وحكمته وبُعد نظره.

كانت من إملاء الواقع؛ لأن الشقاق على السلطان عبث وهو محصور في أيدي القوة الأجنبية، وكان من الحماقة أن يتقاتل البرهميون والمسلمين على سلطان لم تنزل عنه بريطانيا العظمى، ولم يكن ظاهرًا في السنوات الأولى من القرن العشرين أنها تنوي النزول عنه في وقت قريب.

فانتهج جوكهيل خطة التوفيق؛ لأنها أسمح الخطط وأحكمها وأوفقها لسياسة الواقع، ومضى على هذه الخطة في خلال زعامته التي انتهت بوفاته قبل نهاية الحرب العالمية، فكانت هذه الكارثة ضربة قاصمة لسياسة الوحدة وتضافر الجهود القومية.

وقد تتلمذ جناح على جوكهيل وأعجب به، وحافظ على الولاء له وإقناع المسلمين بمجاراته في ولائه، فلما قضى الرجل (في شهر فبراير سنة ١٩١٥) بدأ الانحراف في دوائر المؤتمر عن ذلك النهج القويم، وأخذت الشكوك والظنون تساور تلميذه الكبير وتقنعه بضرورة العزلة التي كان يجاهد عقله ونفسه على رفض الاقتناع بها غاية جهده.

ولكنه لم يعجل ولم ييأس، ولم يكن من دأبه أن يتراجع سريعًا عن رأي آمن به وثابر زمنًا على تنفيذه، فحاول بعد سنة من وفاة جوكهيل أن يقرب بين العصبة والمؤتمر، وأسندت إليه رئاسة مجلس العصبة في سنة ١٩١٦ فتعمد أن يعقده في مدينة «لكناو» حيث انعقدت جلسة المؤتمر الكبرى في تلك السنة.

وقد واصل سعيه حتى اتفقت العصبة والمؤتمر على المسائل المختلف عليها جميعًا، وخرجت الهيئتان بالميثاق المشترك بينهما، فأطلق الفريقان على جناح لقب «سفير الوحدة»، واشتهر بين البرهميين والإنجليز باسم رسول السلام.

إن المساجلات التي دارت بين الفريقين بعد ميثاق «لكناو» تملأ المجلدات الضخام، وتضل القارئ في تيه من المتناقضات والتهم والردود لا يسعنا في هذه الرسالة أن نستقصيها أو نلخصها، وليست بنا حاجة إلى استقصاء لها أو تلخيص، ولكننا نحيط بها جميعًا إذا رجعنا إلى سياسة الواقع في عهد جوكهيل، وسياسة الواقع في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.

لقد أسلفنا أن سياسة الواقع في عهد جوكهيل كانت تهديه إلى قبول الضمانات المطلوبة للمسلمين؛ لأن الخلاف عليها عبث مع استئثار الدولة البريطانية بالسلطان واجتماع أزمة الحكم كلها في يديها، سواء في الهند أو العاصمة البريطانية.

أما سياسة الواقع في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية فقد كانت على نقيض تلك السياسة.

كان نزول الإنجليز عن السلطان قد أصبح في حكم الواقع القريب، وكان من المحقق عند البرهميين والمسلمين أن السلطان «الفعلي» سينقل رويدًا رويدًا إلى أيدي الهنود، ومنهم من كان كبير الأمل في انتقاله دفعة واحدة خلال سنوات لا تجاوز أصابع اليد الواحدة.

ولهذا أخذ ساسة المؤتمر يرفضون ما قبلوه واعتبروه من الحلول المعتدلة قبل ذلك، وكلما أصبحت السلطة القومية حقيقة واقعة أنكر ساسة المؤتمر شيئًا مما كان مقبولًا عندهم، وتشبثوا باحتكار القيادة واحتكار دعوى النيابة عن الهند قاطبة، فمنهم لا من غيرهم تصدر الأوامر والمشورات ومعهم لا مع غيرهم يتفق الإنجليز ونواب الطوائف.

وجرت الانتخابات مرات فأبى ساسة المؤتمر أن يعترفوا بنائب ناجح ما لم يكن عضوًا في المؤتمر، مقرًّا لسياسته ومواثيقه.

وأنكروا حق العصبة في النيابة عن مسلمي الهند وقالوا: إنها جماعة من جماعات كثيرة، ثم صمدوا على هذا الإنكار بعد ثبوت هذه النيابة بنسبة النجاح بين المرشحين، فقابلت العصبة إنكارًا بإنكار، وأعلنت أنها لا تعترف بالمسلمين أعضاء المؤتمر ما لم يكونوا أعضاء في العصبة ممثلين لها بتزكية منها.

•••

وشاعت فكرة الانفصال وجعلت تزداد شيوعًا كلما ازداد اليقين بصعوبة التفاهم على ضمانات الحكومة الموحدة، ونادى غاندي من جانبه باستحالة الفصل بين التوأمين السياميين اللذين تجمعهما بنية واحدة تموت بانفصال أحدهما عن الآخر.

ونادى حزب المؤتمر بشعاره الذي لا يتحول عنه وهو «الاستيلاء أولًا ثم التقسيم ثانيًا»، وأن البرهميين والمسلمين عليهم معًا أن يناضلوا في سبيل الاستيلاء على الحكم القومي، ثم يعملوا على التقسيم بعد الاستيلاء عليه.

وطفق جناح يُجيب على هذا الشعار بشعار مثله يلخص به موقفه وموقف العصبة الإسلامية، وهو أن المسلمين لا يناضلون في سبيل عبوديتهم.

وجاء يوم يئس فيه القائد الأعظم كل اليأس من التفاهم على ضمانات الحكومة الموحدة، وأجمع النية على ضرورة الانفصال.

ويبدو من وقائع شتى أنه كان على حق في يأسه وتعويله الحاسم على فض الخلاف بإقامة دولتين منفصلتين.

ولا نطيل في سرد هذه الوقائع؛ لأنها كما أسلفنا تستوعب المجلدات الضخام في الشرح والمناقضة والرد وإعادة الرد من الجانبين، ولكن واقعة كشمير بعد الانفصال مثل يغني عن أمثلة كثيرة على صعوبة التفاهم بالبينات والحجج المنطقية والمقاييس العامة التي يتفق عليها الطرفان، بل يتفق عليها جميع الأطراف.

وخلاصة الواقعة أن سلطان حيدر أباد المسلم همَّ بالانضمام إلى الباكستان فأنذرته حكومة الهند ألا يفعل، وأتبعت الإنذار باحتلال بلاده عنوة؛ لأنها ترى أن المعول على الشعب لا على السلطان، فلما أرادت الباكستان أن تطبق هذا المبدأ نفسه وتلحق بها ولاية كشمير التي يبلغ المسلمون في جميع أقاليمها — ومنها إقليم جمو — أكثر من سبعين في المائة، رفضت حكومة الهند هذا المبدأ، وأعلنت أنها تقاومه بالقوة العسكرية، مع أن الكثرة الغالبة بين أبناء حيدر أباد من المنبوذين الذين لجأوا إلى الولاية الإسلامية؛ لأنهم لا يقبلون المهانة التي يُعاملون بها بين البراهمة. أما أبناء كشمير المسلمون فلا فاصل بينهم وبين إخوانهم، في العقيدة ولا في الميول السياسية ولا في الموقع الجغرافي والعلاقات الاقتصادية.

ومن هذا المثل المشهود على ملأ من العالم تتضح صعوبة التفاهم في الأمور الداخلية على مبدأ متفق عليه بغير ضمان.

خلاف في الأسس

ولا يستوفى البيان عن طبيعة الخلاف بين جناح وساسة المؤتمر إذا حصرناه كله في قضية الباكستان.

فالواقع أنه خلاف في أسس التفكير يتناول السياسة الهندية في جميع مناحيه، ولا يقف عند القضية الإسلامية البرهمية.

فقد كان جناح يستغرب سياسة غاندي، ولا يؤمن بجدوى «التنسك» ورفض الحضارة، ومقاطعة الوظائف والمصانع والصناعات العصرية برمتها، ويقول: إنه يريد حملة تضرب الهدف ولا تضرب صاحبها، وضرب الهدف في رأيه إنما يكون بالوسائل السياسية، ووسائل المقاومة الفعالة عند لزومها.

وغاندي في اعتقادنا رجل عظيم أو روح عظيم كما وصفناه في كتابنا عنه بعد مقتله، ولكن المؤيدين لمذهبه والمعارضين له متفقون على أنه رجل برهمي في كل قطرة من قطرات دمه، وكل باعث من بواعث روحه: أساليبه برهمية ووسائله برهمية ومثله العليا برهمية وصيامه ومقاومته السلبية، ودعوته إلى الاهمسا من صميم النحلة البرهمية، وغايته من حركته أن يجعل الهند «رام راج»؛ أي مملكة الإله «رام» رب البراهمة، وهو الرب الذي انطلق لسانه بدعائه ساعة أصيب برصاص الجاني المعتدي عليه.

وإن هذه الزعامة المستغرقة في البرهمية لتستدعي بطبيعتها زعامة أخرى تقابلها وتشبهها في تمثيل قضيتها، والعمل بروحها في أداء رسالتها، فلم يكن مع قيام غاندي مناص من قيام جناح أو من يحل في محل جناح.

وقد كان استقلال الرأي يدفع بجناح إلى مخالفة المؤتمر ومخالفة العصبة الإسلامية في وقت واحد.

كان يخالف المؤتمر في سياسة غاندي المستغرقة في البرهمية، وكان يُخالف العصبة وجمهرة المسلمين الهنود في حركة الخلافة؛ لأنه زاول السياسة ومسألة الخلافة تكاد تلفظ أنفاسها، واشتد حزنه في إبان حركة الخلافة لضياع هذا الجهد في غير طائل ينفع مسلمي الهند أو ينفع الخليفة والخلافة، فهجر الهند وأوشك أن يعتزل السياسة، وراح يقيم فترة في البلاد الإنجليزية إلى أن تهدأ السورة وتثوب الأمور إلى قرارها.

فأما خلافه مع حزب المؤتمر فلم ينحسم، وأما خلافه مع العصبة فقد انحسم بانقضاء اللجاج في مشكلة الخلافة، وأصبح مصير الخلافة معززًا لقيام دولة إسلامية مستقلة في البلاد الهندية، فلا يجتمع على مسلمي الهند ضياع الخلافة وضياع الاستقلال إلى آخر الزمان.

الأمل الأكبر

لا جرم يدرك الشاعر الملهم محمد إقبال أن الرجل قد خلصته الحوادث، ومحصته التجارب ومحضته آراءه وحصافته لمهمة فريدة لا يضارعه في الاستعداد لها أحد من أبناء عصره، فذكره غير مرة أنه هو الأمل الأكبر لقيادة الحركة الإسلامية وبناء صرح الدولة المرجوة، فكتب إليه قبل قيام الباكستان بأكثر من عشر سنوات يقول له: «إنني أعلم أنك رجل جم المشاغل، ولكني أرجو ألا تضجرك كتابتي إليك حينًا بعد حين؛ إذ أنت المسلم الوحيد في الهند الذي يحق للأمة كلها أن تتطلع إليه لقيادتها في هذه الزوبعة التي تهب على شمال الهند الغربية، وإنني لمبلغك أننا نعيش فعلًا في حرب أهلية لولا الشرطة والجيش لعمت في مثل لمح البصر.»

وذاك أن الشاعر الملهم على غيرته الدينية كان يأنف من استجداء المعونة للخلافة، ويقول عن الوفود التي تؤم الغرب لطلب هذه المعونة: إنها ذهبت تحمل «الكوز» لتحمل فيه فضلات المحسنين!

ومن طرائف هذه القضية أن «الاسم» الذي تُسمى به قد وجد لها في إبانه، (سنة ١٩٣٣) فسماها «رحمة علي» أرض الطهر، واتخذ هذا الاسم من حروف أسماء الأقاليم التي يراد تكوين الباكستان منها، وهي بنجاب، وأسام، وكشمير، وسند وتليها «تان» من اسم بلوشستان.

وقد قيل بحق: إن الباكستان دولة خلق اسمها قانوني وألهمها ضميرها شاعر، وأقام لها بنيتها التي تحمل اسمها وضميرها قائد، أو قائد أعظم، هو جناح.

وخير تلخيص للموقف قبل قيام الباكستان بأشهر معدودات أن نرجع إلى حديث للقائد الأعظم أفضى به إلى مندوب صحيفة «المصور» قبل انتهاء سنة ١٩٤٦ ببضعة أيام؛ يذكر فيها المشابهات بين قضية الهند وقضية مصر والمناقضات بينهما، وفيه يقول: «إذا لم يتحقق الباكستان في الهند فإن الشرق الأوسط كله — وبخاصة مصر — سيكون في خطر من التوسع الهندوكي الاستعماري المنتظر، وسيتخذ هذا الاستعمار الهندوكي طابعًا أشد خطرًا وشناعة من الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.»

ثم قال: «إذا لم يوافق الهندوكيون على مشروع الباكستان فلن نشترك معهم في الجمعية التشريعية التي ينادون بها، أما الكونجرس الهندي المقترح لتوحيد الهند تحت حكومة مركزية؛ فمشروع استعماري محض، يحتمل كثيرًا أن يهدد منطقة الشرق الأوسط كلها بالخطر، بحجة أنها المجال الحيوي والسوق القريبة للمنتجات الهندوكية، على طريقة المرحوم هتلر!»

واستطرد قائلًا: «إن أعدل حل للقضية الهندية هو إيجاد دولتين هنديتين إحداهما منفصلة عن الأخرى: الأولى مسلمة في الشمال الغربي، والأخرى هندوكية في الشمال الشرقي، يتبادل بينهما السكان حتى لا يكون في أيهما قلة طائفية، ويقوم بينهما أساس للتفاهم المشترك وتبادل المعونة.»

وأشار إلى وحدة وادي النيل فقال: «ليس ثمة تعارض بين دعوتي هذه الانفصالية ورضاي عن اتحاد وادي النيل، ولا عن الاتحاد بين مسلمي مصر وأقباطها، لاتفاق اللغة والعادات والتقاليد بين شطري الوادي، فضلًا عن الشعور والتشابه العجيب في تكوين المصري والسوداني، ولكن يدعو إلى الانفصال بين المسلمين والهندوكيين الاختلاف في كل شيء حتى في الأكل، فإن الهندوكي لا يُريد المسلم أن يأكل لحم البقرة التي يعبدها.

وإذا كان الأقباط في مصر يعيشون في صفاء ووئام مع المسلمين؛ فإن الأمر بين المسلمين والهندوس مختلف جدًّا؛ لأن الأقباط يؤلفون عشرة أو خمسة عشرة في المائة من مجموع السكان الذين لا يجاوزون عشرين مليونًا، أما مسلمو الهند فهم حوالي مائة مليون، ويستطيعون أن ينشئوا دولة قوية. ومساحة مصر صغيرة بخلاف الهند؛ فهي أكبر من القارة الأوروبية، ومن السهل أن تنقسم إلى دولتين عظيمتين، وفي الإسلام والمسيحية تسامح ولا تتجاوز الفروق بينهما شئون العبادة الخاصة، أما الديانة الهندوسية فهي التي تسير الهندوس في كل شئون حياتهم، وبينها وبين الأديان السماوية المعروفة فوارق كبيرة جدًّا تحمل في ثناياها كل أسباب النزاع والخصومة.»

مهمة غير سهلة

مهمة وجدت قائدها وقائد وجد مهمته …

تهيأ لقيادتها وتهيأت لقيادته خلال سنوات متتابعات أبانت فيها الحوادث ما يلزم ومن يلزم: ما يلزم من العمل ومن يلزم لإنجاز ذلك العمل، وانتفى من الوسط كل باعث من بواعث القيادة التي تحاول أن تقنع بغير ما يوجبه الواقع من براهين الصدق في الإقناع.

هذا كما أسلفنا غير مرة هو تفسير الأعجوبة النادرة في قيادة القائد الأعظم: أعجوبة قائد للجماهير يخاطبها بلهجة كأنها لهجة العالم في المصنع أو لهجة القاضي في سجلات الأحكام.

لكن الفارق بعيد بين مهمة مهيأة ومهمة ممهدة مذللة. إن المهمة الممهدة سهلة مذللة المصاعب تتطلب من العامل لها جهد إتمام وتكملة، لا جهد تأسيس وإنشاء.

أما المهمة المهيأة فقد تكون أعسر مهمة يتولاها صاحبها، وكل ما هنالك أنه يتولاها هو ولا يتولاها غيره؛ لأنه أقدر على مصاعبها من الآخرين.

كانت قضية الباكستان مهمة مهيأة لقيادة جناح، ولم تكن مهمة ممهدة له أو لغيره من القادة.

كانت عظيمة المصاعب كأعظم ما تكون المصاعب في إقامة الدول، وغاية ما هنالك أنها المصاعب التي وجدت صاحبها المستعد لها المقتدر على إنجازها، بما اختص به من ملكات ومن صفات، وأهمها الصدق الصراح.

كان شعور المسلمين بالحاجة إلى الباكستان درجات، فليس أصحاب الكثرة في أقاليمهم كأصحاب القلة فيها …

أصحاب القلة في أقاليمهم أشد حاجة إلى الدولة المستقلة، ولكنهم سينتقلون من بيئاتهم التي تعاقب عليها آباؤهم وأجدادهم، وسينتزعون أنفسهم انتزاعًا من المولد العزيز، ومن مورد الرزق، ومن مآلف الصبا والشباب …

وأصحاب الكثرة في أقاليمهم أقل حاجة إلى الدولة المستقلة، ولكنهم يعاشرون قلة من البراهمة المتهوسين بالعصبية الدينية، فيلمسون على قرب بوادر النقمة وقلة الأمان، ويهمهم أن يخلص لهم ضمان دائم كضمان الباكستان.

والمسلمون بعد مذاهب وطوائف: سنيون، وشيعة، وإماميون، وإسماعيليون ومن طائفة القادياني أو طائفة الفرائض، أو غير ذلك من طوائف الأئمة والدعاة.

وهم على هذا متفاوتون في الغيرة والحماسة، متباينون في العمل للدولة الجديدة، يتساءلون على أي أساس تُقام، وإلى أية غاية تهدف، ومتى يكون البدء بتوطيد الأساس والهدف إلى الغاية.

هل تكون دولة مدنية أو دولة إلهية؟ وهل تكون كذلك دفعة واحدة أو على تدرج وأناة؟ وعشائر البادية والجبال ما شأنها؟ هل تحكم حكمًا عصريًّا أو تحكم بنظامها الموروث الذي تتغير الدول ولا يتغير؟

واللغة — لغة التعليم والعبادة — كانت هي أيضًا مثار الخلاف والإشاعة المتناقضة: هل تُفرض الأردية وحدها وتُلغى البنغالية؟ أو تبقى البنغالية للتعليم والمعاملة في بعض الجهات وتعم الأردية جميع الجهات؟

نوازع ودوافع تضطرب فيها العقول والظنون وتتضارب فيها الأمزجة والأهواء، ولا سيما في الفوج الأول قبل الاستقرار والطمأنينة، وقبل جلاء النيات والغايات.

واقترنت هذه العوامل الطبيعية بعوامل أخرى غير طبيعية من تلفيق الدسائس والنفاق، فكانت هناك جماعات إسلامية ظاهرها الخدمة العامة وباطنها خدمة المأجورين للسياسة الأجنبية، وفرصتها هي هذه الفرصة في أوائل الحركة بين المتشابهات والمتناقضات، وبين مواقع التهم ومطارح الأطماع.

وعجيب، أو ليس بعجيب على الوجه الذي تختاره، أن يتعرض خادم الباكستان الأكبر في معترك هذه الظنون والنوازع لجريمة اغتيال لم يتعرض لها عدو من أعداء الباكستان الدخلاء أو الأصلاء في البلاد، وأن يكون مدبر اغتياله أحد المدينين له بنعمة الحرية والإنقاذ.

حدثت هذه المحاولة — محاولة اغتيال جناح — في صيف سنة ١٩٤٣ والقائد عائد إلى بومباي من إحدى رحلاته، وأذاعت الصحف نبأ عودته وموعد وصوله، فذهب فتى من جماعة «خاكسار» يتربص به عند وصوله، ولم يتمكن من مقاربته لاشتداد الزحام في استقباله، فقصد إلى قصره ساعة الغداء، وكأنه علم من قبل أنها ساعة الراحة لمعظم الخدم ما عدا القائمين بإعداد المائدة للقائد الأعظم وضيوفه، فتلقاه بواب القصر بالترحاب كما يتلقى الزوار، وقاده إلى الكاتب الخاص الموكل بالاستماع إلى من يطلبون المقابلة، ودخل جناح المكتب في هذه اللحظة فرأى الفتى وسأل كاتبه عنه، فأبلغه ما سمعه منه، وأنه يرغب في محادثته لمسألة هامة، فأمر جناح كاتبه أن يعطيه ورقة يكتب فيها كل ما يطلبه، ويبلغه بعدها عن موعد يلقاه فيه لإتمام حديثه، وإذا بالشاب يهجم على القائد العام ويهم بأن يطعنه في صدره بمدية أخرجها من طيات ثيابه، وتمكن فعلًا من إصابته بجرح غير ذي بال، ورفع يده ليتم فعلته فأدركه البواب قبل أن يعيد الكرة واعتقله وهو يصيح: «دعوني دعوني … لست مأجورًا … إن شيخي يأمرني بقتله …»

وقد حوكم الفتى وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات، وتبين أنه ينتمي إلى تلك الجماعة جماعة خاكسار؛ أي جماعة الأرضيين أو الترابيين الذين تسموا بهذا الاسم تواضعًا وإظهارًا للفقر والمتربة، ولهم نظام فاشي ونزعة شيوعية، ورئيسهم عناية الله المشرقي من خريجي جامعة كمبردج، أنشأ الجماعة في البنجاب سنة ١٩٣١، وحلت جماعته سنة ١٩٤١ واعتقل كما اعتقل غيره من رؤسائها، ثم أُفرج عنه في السنة التالية بمساعي العصبة الإسلامية وشفاعة القائد الأعظم، فجُوزي على هذه الشفاعة بعد سنة واحدة بتدبير تلك المؤامرة للقضاء عليه.

تلك بعض المصاعب الشعورية أو النفسانية التي كان على القائد العام أن يعالجها ويصرف أذاها في سبيل تأسيس الباكستان.

والمصاعب المادية في غنى عن البيان؛ لأنها تشمل فيما تشمله تنظيم المواصلات لنقل المهاجرين إلى الباكستان والمهاجرين منها، وإعداد المساكن، وإعداد الأعمال ومرافق المعيشة لكل ساكن على حسب صناعته وموطن تلك الصناعة من الدولة الجديدة، والإنفاق على الدولة من خزانة لا مال فيها ولا مورد لها بعد من الضريبة أو الإنتاج أو القروض الميسورة، ويكفي في تقريب هذه الصعوبات إلى الأذهان أن نستعيد آراء المعقبين على اقتراح إنشاء الباكستان عند شيوعه وتسامع الناس به في أقطار العالم لأول مرة، فقد كان تعقيبهم جميعًا يتلخص في كلمة واحدة هي كلمة «مستحيل».

وربما علم جناح من هذه المصاعب ما لم يعلمه غيره، وربما كان جناح أولى من غيره بالحكم على المشروع بالاستحالة، لو كان مجرد العلم كافيًا لتقدير الاستحالة ونفض اليدين من الفكرة منذ اللحظة الأولى.

إلا أن الأب الذي ينظر إلى ابنه المريض بالداء المعضل الميئوس منه يحكم عليه حكمًا غير حكم العواد، وغير حكم الأطباء أنفسهم، وإن كانوا من صانعي المعجزات.

إن الأب يعرف هنا ما لا يعرفه العواد ولا يعرفه الأطباء، يعرف أن ابنه يجب أن يعيش، ولا يقصر همه على أن يسأل هل سيعيش أو لا يعيش؟

وليس تصويرنا لتقدير المصاعب على هذه الصورة في نظر القائد الأعظم تصويرًا نعتمد فيه على التخيل أو تشبيهات المجاز.

كلا! إن البرنامج العملي الذي حفظته أقوال القائد العام ومساعيه وتمهيداته تدل دلالة غير مقصودة على أن كلمة «الواجب» هي مفتاحه الوحيد الذي يفتح به المغلقات، ويقتحم به السدود ويذلل به العقبات.

فإذا سأل سائل: هل تذلل هذه المصاعب أو لا تذلل كان جوابه الأول: هل هناك محيد من تذليلها؟ فإن كان تذليلها هو الواجب الوحيد فلتذلل ولتخلق وسائل التذليل واحدة بعد أخرى حتى تزول المصاعب من الطريق الذي لا محيد منه وليس عنه حول، فإنما النكول عن الواجب هنا أصعب من الهجوم عليه واطراد السير في طريقه على عجل أو على مهل، وهل عنه حول أو منه محيد؟

حادثه الصحفي الخبير بالقضية الهندية بيفرلي نيكولاس صاحب كتاب حكم على الهند فسأله: «إن أعم الاعتراضات التي توجه إليك من نقادك؛ أنك لم توضح الباكستان توضيحًا دقيقًا، وأن هناك تفصيلات جمة تتعلق بالدفاع والمرافق الاقتصادية وطوائف الأقليات أهملتها وتركتها عمدًا غامضة مبهمة … فما قولك في هذه الاعتراضات؟ وهل يبدو لك أنها من قبيل النقد المنصف المعقول؟»

قال جناح: «إنها ليست من الإنصاف ولا من حسن الفهم للأمور، وبخاصة حين تأتي من إنجليزي ليست له أية معرفة بتاريخه، فإن أيرلندة حين فصلت جاءت الوثيقة التي دونت قرار فصلها في نحو عشرة أسطر، نعم عشرة أسطر من الحروف المطبوعة لتسوية نزاع معقد لا يصدق العقل مبلغ تعقيده، قد سمم السياسة البريطانية عدة قرون، وتركت جميع تفصيلاته للمستقبل، وما أقدر المستقبل من فيصل جدير بالإعجاب في كثير من الأوقات! وها أنا ذا قد أعطيت العالم من البيان ما يزيد كثيرًا على عشرة أسطر لبيان المبادئ والوقائع التي تدور عليها قضية الباكستان، ولكنه من وراء طاقة الإنسان كائنًا من كان أن يدون في الورق تفصيلًا سابقًا لا يخرم منه حرف عند تنفيذه، ونعلم عدا هذا من تاريخ الهند أن هذا التفصيل لا ضرورة له على الإطلاق، فأين كان هذا التفصيل حين تقرر فصل بورما في مؤتمر المائدة المستديرة؟ وأين كان هذا التفصيل حين فصلت السند من بومباي؟ لم يكن له وجود، لم يوجد ولم تكن ثمة حاجة لأن يوجد، وكان المبدأ المهم في القضية أن قاعدة الانفصال تقررت، ويأتي كل شيء بعد ذلك في حينه.»

قال بيفرلي: «كيف تصور «الأمر المهم» في قضية الباكستان؟»

قال: «في خمس كلمات … إن المسلمين أمة … فإن سلمت هذا وجب أن تسلم تسليم الرجل الأمين. إن حق الباكستان قائم، ووجب أن تسلمه ولو كانت مصاعبها مائة ضعف المصاعب الماثلة في الواقع.»

قال الصحفي: «أتنظر إلى الناحية الدينية حين تقول الباكستان أمة؟»

قال جناح: «بعض النظر لا كله … ولتذكر أن الإسلام ليس عقيدة وحسب، بل هو آداب وسلوك عملية واقعية، وإنني لأنظر إلى الناحية الحيوية، وإلى كل شيء ذي بال في حياة الإنسان، إنني لأنظر إلى تاريخنا وإلى أبطالنا وإلى فنوننا، وإلى عمائرنا وآثارنا وموسيقانا وقوانيننا وفقه شريعتنا.»

وسكت الصحفي يكتب، وتركه القائد يكتب لحظة ثم قال: «في جميع هذه الشئون نظرتنا لا تختلف وحسب، بل تناقض النظرة البرهمية، نحن أناس مختلفون، مختلفون في الأسماء والملابس والأطعمة، مختلفون في الحياة الاقتصادية وفي مثل التربية والتعليم، وفي معاملتنا للنساء، وفي مسلكنا مع الحيوان … وخذ إليك مسألة البقرة الأبدية … نحن نأكلها والبراهمة يعبدونها، وقد يخطر للإنجليزي أن هذه «العبادة» تقليد من التقاليد التي تصلح للفرجة، وبقية من تراث الأيام الخالية. لكن الأمر على نقيض ذلك، ومنذ أيام فقط أصبحت مشكلة البقرة في مدينتنا هذه إحدى مشاكل الأمن العام … وما مشكلة البقرة بعد إلا واحدة من ألوف.»

ثم صمت لحظة ونظر إلى الصحفي سائلًا: «ماذا كتبت؟»

قال: «إنما كتبت أن المسلمين أمة …»

قال: «وأنت على يقين من صدقها؟»

قال: «نعم!»

فقال جناح وعلى فمه ابتسامة: «فأي سؤال بعدها تسأل؟»

قال الصحفي: «أول سؤال اقتصادي: فهل المسلمون عسيون أن يصبحوا أغنى أو أفقر بعد قيام الباكستان؟ وهل في نيتكم فرض مكوس بينكم وبين أرجاء الهند الأخرى؟»

وأعرض جناح عن الجواب ليسأل كما قال على سبيل التغيير: «هبهم سألوك ماذا تفضل: إنجلترا غنية في حكم الجرمان أو إنجلترا فقيرة في حكم نفسها؟»

فأجاب الصحفي قائلًا ومعرضًا أيضًا عن الجواب: «قلما أحتاج إلى جواب.»

فعاد جناح يقول: «أولست ترى إذن أن سؤالك سمل مرجوع؟ إن المثل الأعلى أمامنا أرفع من المتاع الشخصي والراحة الموقوتة، والمسلمون أمة مخشوشنة دءوب صابرة، فإذا كان قيام باكستان وشيكًا أن يزيدهم قليلًا من الدأب والنحافة فلا شكاية، ولكن ما بالها تزيدهم دأبًا ونحافة؟ وماذا هناك مما يوحي الظن بأن هبة القومية ستوقر كواهل الأمة من جانب الثروة الاقتصادية؟ إن أمة مستقلة عدتها نحو مائة مليون، قلما يقع في الخاطر، وإن كانوا عاجلًا لا يملكون كفايتهم ولا يحسنون الصناعة، أنهم يصيرون إلى حال أسوأ من حالهم وهو مبعثرون غير منظمين تحت سيادة مائتين وخمسين مليونًا يستغلونهم، وإنه لما يعييني تصورًا أن يقال: إن الباكستان استحالة اقتصادية بعد معاهدة فرساي، فإن الأدمغة الكبار التي قطعت في أوروبة قطعًا مشتتة مزرية بين حدود ملفقة متقاطعة لهي آخر من يحق لها أن تكلمنا في مصاعب الاقتصاد، وهي لدينا أيسر من ذاك …»

إنها إذن مهمة غير سهلة وغير ممهدة، وليست هي كذلك في رأي صاحبها، ولا في رأي أحد من المتطلعين إليها من داخلها أو خارجها، ولكن الباكستان ينبغي أن توجد ولو كانت المصاعب التي تعترضها مائة ضعف مصاعبها؛ لأن وجودها واجب لا محيد عنه، وبهذا المعيار يوازن جناح بين كفة المصاعب وكفة الواجب، أما سائر ما في الحديث المتقدم من الموازنات بين الأزمات والحلول في إقامة الدول الناشئة شرقًا وغربًا؛ فهو آية أخرى على القضية التي تهيأت لصاحبها، وتهيأ للاضطلاع بها على بعدها من السهولة ومن التمهيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤