أسرته وطفولته

أسرة القائد

أسرته من أصل برهمي، وقد أسلم أحد أجداده منذ قرن متحولًا من البرهمية إلى النحلة الإسماعيلية، وهي نحلة لها دعاة عاملون ذوو نشاط وذكاء عملوا في الهند الغربية وعلى حدودها منذ ألف سنة، وكان من دعاتهم في تلك البقاع قبل ألف سنة والد الفيلسوف ابن سينا كما هو معلوم.

وكأنما شاءت الأقدار أن يكون جناح بتاريخه وتاريخ أسرته حجة قائمة على الحقيقة العظمى في تكوين النفس الهندية، وهي أن الدين قد شغل في هذه النفس مكان كل عاطفة عامة: شغل فيها مكان الوطنية والعصبية والجامعة القومية، وصبغ فيها الأفكار، والأذواق، والآداب العملية، والنظرية بصبغته؛ فهو طبيعة أخرى كالطبيعة التي تركبها الفطرة في بنية الجسم والضمير.

رأينا فيما تقدم كيف كان الزعيمان جناح وغاندي يتقابلان، أو يتناقضان، في أساليب العمل ودوافع الحركات السياسية وفلسفة الحياة العامة والحياة الشخصية، ويكاد القائل أن يقول: هو التناقض بين الفطرة الآرية والفطرة السامية، أو هو الاختلاف بين كيان إنسان عريق في الهندية، وإنسان عريق في العربية منتقل إلى الهند مع العرب الذين انتقلوا إليها بعد الإسلام.

ويكاد القائل أن يقول: إنها خصائص الأجناس، وإن المهاتما يعمل في السياسة بسليقة والقائد الأعظم يعمل فيها بسليقة أخرى.

لكنه يرجع إلى تاريخ القائد الأعظم فإذا هو برهمي كالمهاتما في أصوله العريقة ويرجع إلى ملامح القائد الأعظم فلا يرى هنديًّا أقوى منه تمثيلًا للسمات الهندية، وإمعانًا في المحافظة على سحناء السلالة وقسماتها وشمائلها.

هندي في الهنديين

واختلفت العقيدة في الأسرة منذ ثلاثة أجيال، وعاشت هذه الأجيال الثلاثة بعقيدة جديدة بينها وبين الله وبينها وبين الناس؛ تغيرت نظرتها إلى الدنيا وما وراءها، وتغيرت عاداتها في الطعام والكساء ومقاييسها للأعمال والأخلاق، وجاء العرف الذي لا يقصد ما يصنع، ولكنه يصنع ما ليس يصنعه الذين يطيلون القصد والروية، فإذا بزعيم المسلمين يسمى «القائد الأعظم»، وإذا بزعيم البراهمة يسمى «المهاتما» … ولا فارق أصدق ولا أعمق ولا أدق من الفارق بين الزعيمين وبين الأمتين وبين الثقافتين في عقلية الواحد وعقلية الجماعة.

وكأنما شاءت الأقدار من جانب آخر أن يكون جناح بنحلته الدينية صالحًا للمهمة السياسية التي تصدى لها وقادته حوادث زمانه إليها، فإن القدرة على التنظيم وتوجيه الحركات السياسية قديمة في الإسماعيليين، وسماحتهم في الإحاطة بالجمهرة العامة والنخبة المختارة معًا قد أصبحت تقليدًا من تقاليدهم التاريخية، وقد بلغت هذه السماحة غايتها في عصر الجامعة الإسلامية والحرية الفكرية، وبلغت غاية غايتها في جناح نفسه، فقد كان يلغي كل تسمية طائفية تُطلق على المعاهد العامة، وقد غير أسماء بعض المعاهد؛ لأنها تشير إلى فروق بين نحلة ونحلة من النحل الإسلامية، وجاء انتماؤه إلى الإسماعيليين النزاريين — مع هذه السماحة التي تسع الناس جميعًا — مرجحًا قويًّا لزعامته ومزيلًا للخوف من كثرة الطائفة وانتشارها. فإن الإسماعيليين النزاريين قلة صغيرة في الأمة الإسلامية الهندية، وقد ذكرنا الاطمئنان إلى زعيم ينتمي إليها باطمئنان الأمم في أوروبة إلى اختيار ملوكها من أسر الممالك الصغيرة؛ لأن هذا الاختيار أمان من غلبة الأقوياء على الضعفاء، وكذلك أحس المسلمون — على غير قصد ولا تدبير — أنهم يطمئنون إلى زعامة رجل يعول على الجميع، ولا يستأثر بسلطان طائفته على مقاليد الجاه والسطوة، فهو أهل لخدمة الجميع بتأييد الجميع.

طفولته

نشأ جناح في أسرة برهمية أسلمت في القرن الماضي، وانتقل جده بعد فتنة سنة ١٨٥٧ بخمس سنوات إلى بومباي ثم كراتشي، وكان أبوه «بونجا جنه» ثاني أبناء أبيه يعمل في شركتهم التجارية واحدًا من مديريها الذين يشتركون في إدارتها لاتساع نطاقها ورواج أعمالها، وكانت معظم أعمالها في تصدير الجلود وملحقاتها، ثم لحق بها الكساد من جراء القلاقل السياسية والأزمات الاقتصادية قبل أن يتم جناح تعليمه في إنجلترا حوالي سنة ١٨٩٧.

و«محمد علي» هو الولد الثاني لأبيه، ولد في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر سنة ١٨٧٦، وتعلم دروسه الأولى في مكتب من مكاتب التعليم بكراتشي، ثم انتقل إلى بومباي لإتمام تعليمه في مدرستها الابتدائية، وتدرج منها إلى مدرستها العالية التابعة للجماعة الإسلامية، ثم عاد إلى كراتشي لينتظم في مدرسة السند العليا، وحصل على الإجازة التي ترشحه للتعليم الجامعي من معهد البعثة الكنسية المسيحية سنة ١٨٩٦ وهو في السادسة عشرة من عمره.

والأخبار المحفوظة عن الطفل «محمد علي» جد قليلة، ولا يروى عن أيامه في المدارس الأولية والثانوية غير النذر اليسير، ولكنه على نزارته يدل على طفولة نجيبة مجتهدة، وعلى ذكاء ألمعي يلفت النظر، ويوحي إلى أصدقاء أبيه من الطبقة الحاكمة أنه أهل للتفوق في التعليم العالي، وأن مدارس الهند في ذلك الزمن لا تكفي لتثقيف ملكاته واستيفاء تعليمه، فقد كان أبوه يعده للعمل التجاري ويقنع بنصيب الشاب الهندي من العلم في المدرسة الثانوية، ثم تدريبه بعد ذلك على مصاحبته في التجارة إلى أن يستقل برأس مال يغنيه أو يشاركه في إدارة تجارته الواسعة، ولكن صديقه السير فردريك جرافت لمح في الصبي الناشئ مخايل ذكاء نادر يرشحه للمراكز العليا؛ فنصح لأبيه غير مرة أن يرسله إلى إحدى الجامعات الأمريكية، واختار له دراسة الحقوق والعلوم الإدارية؛ لأنها هي «المعرفة» اللازمة لمناصب الرئاسة في الحكومة.

وفي كتاب «نوادر مشرقة في حياة القائد الأعظم» لمؤلفه الأستاذ صديقي قصة رواها عن سيدة من كبار سيدات الأسرة تنبئ عن ولع شديد بالقراءة، واستيعاب الكتب غير المدرسية شهدت بوادره في الطفل جناح ولما يبلغ الثامنة من عمره.

قال: زارت السيدة منزلهم بعد غيبة طويلة، ولم تمض عليها غير أيام قليلة حتى لحظت أن النور يتأخر بالليل في حجرة الأطفال، فخطر لها أن الصغار ناموا قبل أن يطفئوا المصباح، وقصدت إلى الحجرة لإطفائه، ولكنها وجدت وهي تخطو إلى داخل الحجرة ما لم يكن لها في حساب: وجدت إخوة جناح وأخته نيامًا وهو جالس مستغرق في القراءة، وأدهشها أنه في مثل تلك السن الباكرة يغوص في مطالعاته حتى لا يتنبه لدخولها، وسكتت لحظة ثم بدا لها أن تفاتحه الحديث، فقالت مدللة: ماذا يسهرك إلى هذه الساعة ياجنيح؟

فراعها أن يرد عليها الصغير جناح قائلًا: «سيدتي … أرجوك أن تخفضي صوتك قليلًا.»

قالت: «لمه؟»

قال: «إن إخوتي مستغرقون في النوم ولا أحب أن أقلقهم.»

وكان هو يتكلم هامسًا حتى اضطرت السيدة أن تتقدم خطوات أخرى إلى المائدة التي كان يجلس عليها لتسمع كلماته، وسألته: «ما بالك تحجب نصف المصباح؟»

قال: «إنني أفعل ذلك دائمًا لأبعد الشعاع عن أعين الصغار.»

قالت السيدة: «أتعلم كم الساعة الآن؟»

قال: «نعم يا سيدتي، ولكن السهر إلى هذه الساعة مألوف عندي.»

قالت: «أَوَلا تكفيك ساعات النهار للمطالعة؟»

قال: «لا! بل أنا مع قراءتي بالليل لا أجد الوقت كافيًا لمطالعة الكتب التي أريد الاطلاع عليها، وأحسب أنني لن أصبح شيئًا مذكورًا في الدنيا بغير القراءة.»

قالت: «وإلى متى تريد أن تواصل السهر؟ ألعلك تنوي أن تسهر إلى الصباح؟»

قال: «كلا ياسيدتي! … إنما هي ساعة أخرى ثم أنام.»

•••

إن هذه القصة جديرة بطفولة جناح، ومنها نعلم أصالة الكياسة والأدب في طبعه، ونعرف ما وراء عارضته القوية التي كانت تسعفه في الاستشهاد بالكلمة الملائمة لساعتها، والتي كانت تمده بالقدرة على التعبير بغير تلجلج ولا انحراف عن الهدف السريع حيث كان.

إن وراء تلك العارضة القوية محصولًا غزيرًا من المطالعة والاستظهار، ووراء الرجولة التي اشتهرت بالكياسة إلى أخريات أيام الشيخوخة، طفولة شبت على الكياسة الأصيلة في الطباع: كياسة المبالاة الحقة بشعور الآخرين والحرص الشديد من الإيذاء والإساءة، لا مجرد الكياسة في الزي والحركة والإشارة، وهي على الأبعد الأقصى كياسة ثياب.

وما يعلم من أخبار تعليمه في شبابه يعزز هذا النزر اليسير الذي رُوي عن طفولته الباكرة، سواء في أدب الاطلاع أو أدب الاجتماع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤