الثقة

صفة لا غنى عنها

الصفات التي لا بد منها لنجاح الزعماء كثيرة تتنوع على حسب القضايا التي يخدمونها، وعلى حسب الوسائل التي تلائم كل قضية في أوانها.

وقد تتناقض هذه الصفات حتى يصبح النافع منها في قضية ضارًّا في قضية أخرى، وحتى يكون منها ما هو قرين للخذلان إذا اختلفت الوسائل والبيئات.

ولكن صفة واحدة من صفات النجاح لا غنى عنها في جميع الزعماء، وفي جميع القضايا، وفي جميع الأوقات، ومع جميع الوسائل، وعلى جميع الفروض.

تلك هي الثقة!

ثقة الزعيم بنفسه، وثقة الناس به، وبغير هذه الثقة في نفس الزعيم وفي نفوس الناس لا تنجح قضية من القضايا الكبرى، إلا أن يكون النجاح مصادفة لا محل فيها للتدبير ولا للتقدير.

ثقة الزعيم بنفسه لازمة؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه.

وثقة الناس بالزعيم لازمة، وإلا لم يسلموه حاضرهم ومستقبلهم، ولم يضعوا بين يديه مصالحهم وآمالهم، وكثيرًا ما تكون الآمال أعز على أصحابها من المصالح، وكثيرًا ما يبذل الناس المصلحة المضمونة ويضنون بالأمل المحفوف بالشكوك والمخاوف، بل تكون الشكوك والمخاوف أدعى إلى الضن به والحرص عليه والبحث عن الزعيم الذي يمحص لهم الأمل فيخليه من الشك والخوف.

لا بد من ثقة بالنفس في الزعيم …

ولا بد من ثقة بالزعيم في نفوس أنصاره ومؤيديه …

وقد كانت «الثقة» بعنصريها صفة من صفات القائد الأعظم المفروغ منها، الغنية بنفسها عن براهينها وقرائنها.

هل كان جناح يثق بنفسه؟

هل كان محل الثقة من أنصاره ومؤيديه؟

لم يسأل أحد قط هذا السؤال، ولم يشعر أحد قط بالحاجة إلى هذا السؤال؛ لأنه كان أشبه بسؤال السائل: هل في البحر المحيط ماء؟ وهل في أفلاك السماء نجوم؟ وهل في الشمس نور؟ وهل في القمر ضياء؟

بديهية من البديهيات … بل أكثر من بديهية.

واقع من الوقائع من رآه علم به علمًا غنيًّا عن التفسير.

وليست ثقة الإنسان بنفسه قرارًا يتخذه في ضميره بعد مداولة ومشاورة، ولكنها شيء راسخ في قرار الوجدان على الرغم من كل مداولة ومشاورة، وشيء لا يمنحه الإنسان نفسه بأسباب وقرائن، ولكن يتلقاه من خالقه كما يتلقى نفسه، فهما جوهر واحد تتعدد أعراضه للناظرين.

ثقته بنفسه

كانت ثقة جناح بنفسه جزءًا من نفسه، وقوة لا فكاك لها من طبائعه وعاداته.

وكانت فيه كل لوازم هذه الصفة على أتمها: كرامة، واستقلال بالرأي، وعزيمة لا تنثني عما يريد، متى عرف ما يريد.

كان منظره يوحي إلى الناظر باحترامه، وكان هو يؤمن في قرارة نفسه بأن هذا الاحترام حق له وأكثر من حق: واقع مفروغ منه بغير كلام.

وعرف جناح وعرف أنه رجل ذو كرامة في وقت واحد.

عرف النائب العام مكفرسون هذه الكرامة في المحامي الناشيء منذ النظرة الأولى، فخصه بكرامة لم يظفر بها هندي قط من قبله، وهي إشراكه في مكتبته القانونية يدخل إليها حين يشاء ويأخذ من مراجعها ما يشاء.

وعرفها القضاة الإنجليز، وقلما يعترف المستعمر صاحب السلطان بكرامة رجل من المحكومين وإن عرفها، فقضى أيامه الطوال في المحاماة موفور الكرامة عند القضاة وذوي الرئاسة في المحاكم ومجالس التشريع.

ومن خلائق بعض الناس أن يتجاهلوا الكرامة أحيانًا؛ لأنهم يعلمونها ويضيقون ذرعًا بعملها، لا لأنهم يجهلونها أو يغفلون عنها.

من خلائق اللؤماء أنهم يضيقون ذرعًا بكرامة الكرماء، وينتحلون المعاذير الواهية للغض منها، ويغبطون أنفسهم بالاجتراء عليها، كلما أتيحت لهم فرصة اجتراء.

وتعرض جناح لهذا الخلق غير مرة في حياته القضائية، وحياته السياسية، فسلك في جميع هذه المرات بداهة ما ينبغي أن يسلكه، غير مكترث بما يكون.

اشتهر رئيس محكمة إنجليزي بالغطرسة والولع بالتبكيت والغضب في موجب وغير موجب، ومثل جناح أمامه في قضية كبيرة يهمه أن يكسبها، وقلما كان أصحاب القضايا يندبونه للدفاع عنهم في غير القضايا الكبار.

وخيل للرئيس أن الحسناء تغري باحتمال المهر وإن عظم، وأن حرص المحامي على القضية خليق أن يجرعه غصة التبكيت والزجر العنيف، فإذا هو يقاطع جناحًا في مرافعته، ولم يكن خاشعًا في هذه المرافعة كما تعود الرئيس المتغطرس من المحامين «الوطنيين» أن يخشعوا في حضرته أمام هيبته، فيقول له في غضب وكبرياء: أتراك تحسب أنك تتكلم هنا أمام قاضٍ من قضاة الدرجة الثالثة؟

وفي مثل رجع الصدى كان الجواب يعود إلى الرئيس المتغطرس بالرد المفحم، ولم يفرغ القاضي من كلمته حتى كان جناح يفوه برده كأنه كان يتوقع عبارة القاضي بنصها، ويقابلها بجوابها الذي يعادلها فرفع جناح رأسه وأتأر إلى القاضي بصره، وقال في لهجة صارمة: «وهل الذي أمامك أيها القاضي محامٍ من الدرجة الثالثة تخاطبه بمثل هذا الكلام؟!»

وكانت درسًا للقاضي المتغطرس نفعه بعد ذلك مع جناح ومع غيره من المحامين.

•••

وقد تواتر على جناح بين جميع عارفيه أنه مدقق في مواعيده، يحسبها بالدقة ويرتبط بها مع صغار الناس ونكراتهم، كما يرتبط بها مع كبارهم وذوي الشهرة فيهم.

ولكنه خالف هذه العادة يومًا على اضطرار، ودخل إلى الجلسة متأخرًا عن موعدها؛ لأنه كان في انتظار المحامي الآخر الذي يشاركه في مرافعات القضية.

وإذا بالقاضي يغتنمها فرصة، وينطلق في درس عنيف يمليه على جناح في آداب المحافظة على المواعيد.

ويشاء القدر أن يكون المحامي الآخر ابن القاضي نفسه، وأن يكون هو علة التأخير الذي استوجب ذلك الدرس من القاضي الجليل.

ويدع جناح قاضيه الجليل يفرغ جعبته لتكون السخرية بعد ذلك أبلغ وأوقع، وينتهي القاضي من درسه فيسمع من جناح: «إن هذه الدروس لو ألقيت مبكرة في بيت القاضي لما سمعناها اليوم في قاعة الجلسة؛ لأن ابن حضرة القاضي هو الذي تأخر عن موعده، وهو الذي استحق هذا الدرس بعد الأوان.»

ودعاه حاكم الهند إلى مجلس يعقده في «سملا» للمشاورة والاتفاق على حل من حلول القضية المعضلة، فلما وصل إلى المحطة ولم يجد هناك مركبة الحاكم العام في انتظاره كما انتظرت المهاتما غاندي من قبل عاد أدراجه، ولم يحفل بما عسى أن يصنعه الحاكم المتحكم هناك في الزعماء والشعوب.

•••

وقد تعود الناس من الزعماء أن يتملقوا الجماهير وهم يترفعون عن تمليق الملوك ورؤساء الحكومات.

لكن لهذه القاعدة عنده شذوذ، فلا تمليق للجماهير ولا متابعة لها في غرورها ولا احتيال على مرضاتها في غير ما يرضي الحق والمصلحة القومية، ويشهد بذلك خصومه الذين يخلقون المثالب إن لم يجدوها ويهمهم أن يصموه بوصمة الشعوذة السياسية أو الاجتماعية لو عرفوا سبيلًا إلى وصمة يلصقونها به من هذا القبيل.

قال «الان كامبل جونسون» في كتابه عن مهمة اللورد مونتباتن في القضية الهندية، وكان مؤلف الكتاب من مديري مكتبه ومن أقرب الناس صلة بزعماء الهند ورؤساء الحكومات فيها:

كان غاندي مطبوعًا على غريزة مدهشة تلهمه بث الأفكار بين الجماهير، تعززها اجتماعاته بهم مباشرة في مجامع الصلوات التي يشجعها، كما تعززها مخالطته الواسعة للناس في جميع مناحي الحياة، أما جناح فهو على خلاف ذلك يستمد نفوذه من القيادة على بعد، فهو لا يتزلف للجماهير ولا يكثر من مخالطتها، وقد مزج بين التدبير المرن المصقول في حزم ودقة وبين القدرة على الانتفاع من أغلاط خصومه بإرادة من حديد، ونفاذ إلى الغاية الموحدة التي لا ينحرف عنها، وأنه لظاهرة فذة في القضايا الكبرى: نادى بالباكستان وهو في الستين وحققها وهو في السبعين.

سمعنا كثيرًا أن الجماهير تؤخذ بالتمليق والخداع، وأنها تحب التغرير والمغررين، ورأينا كثيرًا مصداق هذا الذي سمعناه، ولكن التاريخ يعرض لنا حينًا بعد حين زعامات تصارح الجماهير ولا تنخذل، بل زعامات تنجح؛ لأنها تبده الجماهير بالزجر والملامة، وكانت زعامة جناح واحدة من هذه الزعامات النادرة في القرن العشرين.

وصحيح أن قضية الباكستان قضية سبقت إلى إلهام الجماهير ولم تسبق إلى تفكير الساسة وروية الزعماء، وصحيح أنها من أجل ذلك كانت في غنى عن تكلف التمليق والتزويق لإثارة شعور الشعب، وتحويله من الشك فيها إلى الإيمان بصدقها وضروراتها، ولكنها على كل هذا كان من الممكن أن تؤول إلى زعامة رجل يعالجها بالمداهنة والمخاتلة، ولا تلومه الجماهير على ذلك، بل لعلها تبتهج به وتمحضه الحب والإعجاب، فإذا كان لطبيعة القضية فضل في سلامتها من آفة الدعوات الشعبية؛ فلا نكران لفضل الزعيم الذي مارس قيادتها بوحي طبعه، واستطاع بالصدق والصراحة ما كان غيره عاجزًا عنه بغير التمليق والتزويق.

وأشرف من الكرامة التي تواجه الأفذاذ المسيطرين كرامة تواجه الملايين وعشرات الملايين، أو تواجه الغرائز التي لا تعرف في كثير من الأحيان عقلًا غير عقل الطوفان والبركان.

استقلال الرأي

أما استقلال الرأي، وهو أحد الخصال التي تتجلى فيها ثقة جناح بنفسه، فهو على الدوام صنو الكرامة، أو لعله نسخة نفسانية أخرى للكرامة بعنوان آخر، فإن الرجل الذي يشعر بكرامته يترفع عن مقام الذنب التابع لغيره، ويضن بها أن تمحى في غمار الآراء والأهواء، ويحذر الهوان والضعة أشد من حذره الغضب والخسارة.

فاستقلال جناح برأيه غير مستغرب مع عزة نفسه والاعتداد بكرامته، ولكنه قد أوتي في مزاجه المطبوع أسبابًا كثيرة من أسباب الاستقلال بالرأي والجرأة على مخالفة الآراء الشائعة، ولو بلغت مبلغ الإجماع.

ومن مفارقات العظمة ما هو عجيب يناقض المألوف، ولا بد أن تكون العظمة عجيبة مناقضة للمألوف، ولكن الأعجب من كل عجب ما يناقض المألوف في بنية الجثمان، ويكاد أن يكون بدعًا في تركيب الأمزجة والأعصاب، وكل من عاشر جناحًا وتابعه في تفكيره قد فوجئ بأعجب الأعاجيب في هذا الباب.

قال «جون جنتر» صاحب الكتب العالمية عن داخل أوروبا وداخل آسيا وداخل أمريكا أنه لا يبالغ إذا قال إن جناحًا هو أنحف رجل رآه، وقد رأى العالم المعمور كله أو كاد.

ونظرة إلى صورة جناح في أية صفحة من صفحات الصور تؤكد هذه الملاحظة، وتسمح لكل قارئ أن يقول ما قاله جنتر بالقياس إلى أهل جيرته وأهل بلاده، فالحق أننا لا نذكر أننا عبرنا في مقابلاتنا ومشاهداتنا برجل أنحف من القائد الأعظم كما رأينا في صوره، وقد رأينا منها العشرات بين سن العشرين وسن السبعين.

هذا الرجل النحيف لا بد أن يكون قصبة في مهب الريح.

هذه الأعصاب الدقيقة لا بد أن تكون ثورة دائمة وأوتارًا تهتز بلمسة من إصبع أو نفخة من هواء.

هذه البنية النحيلة لا بد أن تذهب بها صيحة وتعود بها صيحة أخرى، ولا بد أن تقضي أيامها نهبًا مقسمًا بين الاندفاع والارتجاع.

أهي كذلك في الواقع؟

أكان الرجل عصبيًّا بالمعنى الذي نقصده حين نتكلم عن العصبيين؟

إن القارئ ليحسب أنه يهنئ نفسه بالاعتدال والإنصاف إذا قال بعد تردد: لا معاذ الله … هذا رجل قمين أن يضبط أعصابه ويكبح جماحه نزولًا على مطالب الزعامة ومقتضيات السياسة … ولكنه لا يكاد يعلم الحقيقة عنه حتى يعلم أن وصفه بهذه الصفة إجحاف وخطأ، فإن أعصابه لم تخنه قط حتى يحتاج إلى ضبطها، ولم يكن ممن يجمحون فيعوزهم كبح الجماح، وقد ينتفض غضبًا إذا قوطع أو خوطب بما يمس كرامته ويخل بوقاره، ويفوه بالعبارة حينئذ فيبدو من كل كلمة فيها أنها عبارة لا يقع عليها رجل غيره إلا بعد روية ساعات.

لقد كان جناح من أولئك الذين يعنيهم الإنجليزي حين يقول عن رجل إنه بارد Cold ويريد بذلك أنه متحفظ غير متعجل، ومن أولئك الذين يعنيهم الشرقي حين يقول عن رجل إنه رصين مكين.

وصفه بذلك الإنجليز الذين لا يتطوعون بمدحه، والذين اشتهروا بأنهم هم أنفسهم «باردون» ووصفه بذلك خاصة تلاميذه الذين يتسابقون إلى تعظيمه وإغداق الثناء عليه.

تناول العشاء هو وشقيقته في قصر الحاكم العام، فلما خرج سأل أمين الحاكم العام رئيسه فقال كالمستغيث: «يا إلهي، إنه شديد البرودة، إننا قضينا معظم الوقت في محادثتنا لنذيب الجليد الذي بيننا وبينه.»

ولم يشعر تلاميذه وأعوانه بحاجة إلى نفي هذه الصفة أو بحاجة إلى أن تُساق في عرض أحاديثهم مساق الاعتذار، بل أثبتها بين مناقبه كل من ألَّفوا الكتب أو عقدوا الفصول في ترجمته وسرد حوادث سيرته من أولئك التلاميذ والأعوان.

وتكلم عنه أحد عارفيه من الهنود — وهو السير جهانجير Jehangir فقال: «لا شيء يحيد بجناح عن جادته حيث يعتقد أنه سالك سبيل الحق والاستقامة والإنصاف، وليس ثمة مقدار من المعارضة ولا من التهديدات والمخاطر يثنيه عن وجهته، إنه رجل ممتلئ بالشجاعة والصلابة، وأن قليلًا من رجال الهند قضوا في الحياة العامة زمنًا أطول من الزمن الذي قضاه فيها جناح، ولا أبالي أن أقول إنه ما من أحد يجسر على اتهامه بأنه كان في يوم من الأيام طالبًا لمنفعة أو دوَّارًا مع الغرض، ومثل هذا الرجل أندر من الندرة في الحياة العامة.»
وقال هندي آخر هو السير شانكام شيتي Chetty: «إنه ذو استقلال لا مثنوية فيه.»
ونوقش هو في هذه الخصلة في كلام يشبه العتاب فقال: «إنني رجل أهتدي في عملي بتفكير الدم البارد Cold blood والمنطق والمرانة القضائية.»

وتكلم مرة عن العناد والعزيمة فقال: إنهما صفتان مختلفتان، وأصاب في التفرقة بينهما؛ لأن العناد صفة يستحب الرجوع عنها، أما الرجوع عن العزيمة فهو عجز ونكول.

ولعله كان من اللازم لتصحيح الآراء الشائعة عن «العصبية» أن ينبغ في العصر زعيم بهذه النحافة المفرطة؛ ليفقه الناس أن الأعصاب قد تكون متينة هادئة كما تكون مرهفة متوفزة، وأن الحلم قد يصاحب النحافة ولا يجتمع مع الجسامة في بنية واحدة، بل يكون الاضطراب والارتجاج على قدر ما في البنية من لحوم وشحوم.

وظاهر أن هذا الاستقلال الجبار قد كان مفصلًا على قدر أمة كبيرة لا على قدر رجل واحد، أو هو قد كان مفصلًا على قدر زعامة عظيمة، وكل ما كان لزعامة عظيمة فهو لأمة كبيرة؛ لأن عمل الزعماء عمل أمم يتوقف عليه مصير الملايين في حاضرها ومستقبلها، فهو استقلال في الرأي لا يشبهه كل استقلال.

لقد كان هذا «الشخص النحيل» يقف وحده متفردًا برأيه بين مئات من قادة البراهمة والمسلمين، يزحزحها ويستطيع أن يزحزحها عاجلًا أو آجلًا، ولكن هذه المئات لا تستطيع أن تزحزح ذلك «الشخص النحيل».

لقد كان يخالف الهند كلها ويبرح الهند كلها إلى حين، إما أن يرجع أو ينثني غير مقتنع ولا طائع؛ فذلك هو المهرب الذي لا يفهمه ولا يخطر له على بال.

ويبدو لنا أننا إذا عرفنا إنسانًا بالكرامة واستقلال الرأي وقوة الشكيمة فقد عرفناه بالعزيمة الماضية، وبخاصة حين نعرف عنه كذلك أنه منزه عن الغرض، بريء من المطامع.

وقوانين المادة هنا تسعفنا كما تسعفنا خصائص الروح وسرائر الضمير، فإن المادة إذا انطلقت لم تقف إلا بموقف يعترضها في طريقها، وماذا في جناح — ماذا في داخل نفسه القوية — يثنيها عن عزيمتها بعد إعمال الرأي في هدوء وبصيرة؟ لا يثنيها إلا المهانة وهي لا تقبل المهانة، وإلا الغرض وهي منزهة من الغرض، وإلا الضعف وهي من الضعف براء.

ثقة الناس به

إن الثقة تُعدي …

وهذه الثقة من جناح بنفسه ورأيه هي التي سرت منه إلى نفوس الجماهير، فجلبت إليه ثقة الجماهير، بغير مساومة وبغير اقتفاء وبغير احتيال.

نعم إن الثقة تُعدي، وقد أعدت ثقة جناح بنفسه نفوس أتباعه ورعاياه فأسلموه مقادهم، مطمئنين إلى عزمه، كاطمئنانهم إلى حكمته وحكمه.

بيد أن هذه الثقة التي امتلأت بها نفوس أمة كاملة كانت لها في تلك النفوس دواع غير التي استمدتها من نفس قائدها.

كانت سمعته العالية بالأمانة والاستقامة أكبر دواعيها، وقد ذاعت سمعته بالأمانة والاستقامة منذ ذاعت له سمعة.

لبث جناح ثلاث سنوات يشتغل بالمحاماة وينتظر الشهرة على مهل، ولم يقبل أن يتعجل الشهرة على ألسنة السماسرة والوسطاء كما يفعل المحامون المبتدئون، وقد كان في الشهرة يومئذ رزقه ومنزلته ورزق أهله؛ لأنهم كانوا في ذلك الحين قد فقدوا معظم الثروة التي توارثوها منذ أجيال.

ولما تسامع الناس بالمحامي الناشيء شيئًا فشيئًا علم رجال الدولة أن ها هنا سياسيًّا مقبلًا قد يكون مصدرًا للمتاعب في وقت قريب؛ إذ جرت العادة عندهم أن المحامي القدير والخطيب اللسن لن يطول به العهد حتى ينتقل من الكلام أمام القضاء إلى الكلام على منصة الرأي العام، فأغروه بوظيفة حسنة لم يلبث أن استقال منها وحرم على نفسه الوظائف بعدها؛ لأنها تفرض عليه من القيود ما لا يطيق.

وشاع عنه أنه لا يقبل قضية باطلة، وأنه لا يرفض قضية عادلة ولو كانت الأسانيد فيها خفية والمتاعب فيها مجهدة، وجعل دأبه أن يأخذ مكافأته كلها سلفًا؛ لأنه كان ينزل في أول الأمر عن مؤخر المكافأة إذا ماطله صاحب القضية وألجأه إلى المطالبة والمقاضاة، وكسب في بعض مرافعاته قضية كان صاحبها يائسًا من كسبها، وكان من ذوي الثراء الذي يُحصى بالملايين، فأرسل إليه هبة سخية فوق المكافأة المتفق عليها، فردها إليه.

وعرض عليه أحد التجار الكبار عشرة آلاف روبية للمرافعة في قضية، ولاح له من ضخامة الأوراق في ملف القضية أنها تستغرق منه وقتًا يشغله عن قضاياه الأخرى، فاعتذر لصاحب القضية، وألح عليه الرجل لشكه في استطاعة محام غير جناح أن يحسن الدفاع عن حقه، وقال له: راجع الأوراق حتى تنفذ المكافأة ولك بعد ذلك أن تتوقف عن القراءة، وكان جناح يقدر المكافأة بالساعات التي تشغلها القضية في أيام العمل، فلما فرغ من مراجعة الأوراق وجد أن حسابه يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة روبية، فرد إلى الرجل المذهول بقية العشرة الآلاف، وقد كان يراها أقل من جزائه!

ومن الناس من يثبت أمام إغراء المال ويضعف أمام إغراء اللقب أو الوظيفة، ومنهم من يثبت أمام إغراء اللقب والوظيفة ويضعف أمام إغراء السطوة والسلطان، ولكن الفتن النفسية التي امتحن بها الرجل قصدًا أو على غير قصد قد أبرزت منه معدنًا يثبت على كل إغراء، فلا المال يفتنه ولا اللقب يستهويه ولا السطوة تعجبه أو تكبر في نظره، وربما كانت سطوة تترامى عليها مطامع الأبطال من أشداء الرجال.

نودي به «شاهنشاه» الباكستان فامتعض ووقف في سيارته يوبخ الهاتفين له بهذا اللقب، ويقول لهم: إن خير ما يرجوه أن يكون خادم الباكستان، لا سيد الباكستان.

وعرضوا عليه أن يولوه رئاسة الدولة مدى الحياة فأنكر هذا المبدأ، وأقام القاعدة لمن يليه إلا رئاسة مدى الحياة.

وعرض عليه حزب المؤتمر قبل ذلك أن يختاره رئيسًا دائمًا للمؤتمر، فقال لهم: إنهم إذا قبلوا آراءه التي يخالفونه فيها ويخالفهم فهو سعيد بأن يظل عضوًا كغيره من مئات الأعضاء.

وكانت الدولة البريطانية تلوح له بالألقاب العليا وتنتظر منه أن يطأطئ قليلًا ليظفر بها، ولكنه لم يأبه لها قط، ولم يزده هذا التلويح إلا استرسالًا في الخطة التي ارتضاها، وسنحت للورد ريدنج فرصة عارضة للإيحاء بهذا الإغراء إلى قرينة القائد الأعظم فسألها: ألا تريدين أن تكوني يومًا لادي جناح؟ قالت: لو قبل هو أن يكون سير جناح لكان هذا بيني وبينه علامة الافتراق.

ويتحرج الرجل من الشبهات حيث لا موضع للتحرج لولا الحرص على القدوة الواجبة، فقد وصف له الأطباء في أخريات أيامه مسكنًا صالحًا لعلاجه وحذروه من المسكن الذي يقيم فيه، ووجد المسكن الصالح في حوزة رجل من ذوي المرافق الواسعة، فأبى أن يسكنه بأجرته مخافة أن يكون مالكه متورطًا أو أن يدينه السكن فيه بمعروف يجزيه من سلطانه في الدولة.

لقد كان القائد الأعظم بحق فوق الشبهات والظنون، ولم يستطع خصومه أن يظنوا به علة يتعللون بها لتفسير شدته في مطالبه أو مطالب قومه إلا أن يقولوا عنه: إنه رجل واسع المطامع، ومن نجا بمثل هذا الظن الذي يقوله كل قائل عجز عن حصر التهم والعيوب فقد سلم؛ لأنه ظن يقال أو لا يقال على حد سواء.

ومما قيل عنه، ولم يكن قائلوه في معرض الثناء وحسن النية، إنه رجل عملي واقعي مفرط في الواقعية، وإنه لعملي واقعي ما في ذلك جدال، ولكن إذا كان المراد بالعملية الواقعية أنها نقيض المثالية فهو خطأ مردود بغير مشقة، فإن العقل الذي يخلو من النزعة المثالية لا يؤمن بقيام دولة أجمع خبراء السياسة والاقتصاد والاجتماع على استحالتها، وصرح بعض معارضيه أنهم يسلمون له مطالبه ليشهدوه عجزه ويسمعوا منه إقراره بخطله، إنما كان جناح عمليًّا واقعيًّا؛ لأنه كفؤ للعمل وكفؤ لتقدير الجهد الذي ينجزه، ومثل هذه الكفاءة تنقل المثالية إلى عالم الواقع، ولا تلغيها من العقل الفعال، فإنما يفعل على مثال حيث يقنع غيره بالنظر إلى المثال والعكوف على أحلام الخيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤