مقدمة

نبذة تاريخية عن حياة ابن رشد ومراحل نشاطه العلمي في ضوء المراجع الأولى

وُلِدَ أبو الوليد محمد بن محمد بن رشد بمدينة قرطبة عام ٥٢٠ﻫ/١١٢٦م، في بيت ورث الفقه كابرًا عن كابرٍ، وفيه تمكَّن من علوم زمانه، استظهر على أبيه الموطأ حفظًا، كما أنه أخذ الفقه أيضًا عن أبي القاسم بن بشكوال وأبي مروان بن مسرة وأبي بكر بن سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز وأبي عبد الله المازري.

قدَّمه ابن طفيل إلى الأمير أبي يعقوب يوسف عام ٥٤٨ﻫ/١١٥٣م، فكلَّفه الأمير بشرح مذهب أرسطو، وقد قام بذلك على نمطٍ ابتكره، فخصص لشرح كتب أرسطو ثلاثة أنواع من الشروح: الصغير (المجموع)، والمتوسط (التلخيص)، والكبير (الشرح).

وكان ابن رشد — إلى جانب تعمقه في الفقه والفلسفة — طبيبًا، وقد اتخذه أبو يعقوب طبيبًا خاصًّا له، وفي سنة ٥٦٥ﻫ/١١٦٩م تولَّى القضاء في إشبيلية ثم في قرطبة بعد ذلك بقليل، ولم يصرفه عنها إلا توليه طب الأمير لنفسه، ثم عاد مرة أخرى قاضيًا للقضاة في قرطبة مسقط رأسه، وفي منصب أبيه وجده من قبل، غير أن الأيام تنكَّرت له، واجتازت البلاد دولة الموحدين، وحلَّ السخط بالفلاسفة فصارت كتبهم تُرْمَى في النار، ووُشِيَ به عند الأمير أبي يوسف فأبعده إلى الْيُسَانة (قريبًا من قرطبة)، ثم أُعيد له منصبه ومات في مراكش — عاصمة المملكة — في صفر سنة ٥٩٥ﻫ/١٠ ديسمبر ١١٨٩م ونُقِلَ رفاته إلى قرطبة حيث يوجد ضريحه.

وكل ما نعرفه عن حياة ابن رشد مستقًى من المصادر الستة العربية القديمة الآتية:
  • (١)

    ابن الأبَّار، التكملة لكتاب الصلة، نشرة عزت العطار الحسيني ١-٢، (القاهرة ١٩٥٥-١٩٥٦م).

  • (٢)

    الأنصاري، الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، عن مخطوطة دار الكتب الأهلية في باريس رقم ٢١٥٦، ق٧.

  • (٣)

    ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، القاهرة ١٣٢٩، ج٢ ص٧٥–٧٨.

  • (٤)

    المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، المكتبة التجارية ١٩٤٩.

  • (٥)

    ابن قرحون، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، القاهرة ١٣٥١ﻫ، ص٢٨٤-٢٨٥.

  • (٦)

    الذهبي، تاريخ الإسلام، من مخطوط باريس، المكتبة الأهلية رقم ١٥٨٢، ق٨٠ظ.

وإننا نثبت معظم هذه النصوص ذيلًا لهذه النبذة.

وقد عرض لكتابة حياة ابن رشد كل مَنْ كتب عنه وعن فلسفته وحاولوا أن يضعوه في إطاره التاريخي وأن يكشفوا فيما وراء الحوادث التاريخية عن أسرار مراحل حياته، وكثيرًا ما ينقل بعضها عن بعض وتعتمد كلها على النصوص القديمة التي ذكرناها، وقد أثبتنا في الببليوجرافيا (انظر ص٣٠٩–٣٥٤) البحوث الحديثة الهامة الخاصة بهذا الموضوع.

وقد جمع الدكتور عاطف العراقي في كتابه: «النزعة العقلية عند ابن رشد» مجموعة كبيرة من البحوث العربية المتصلة بحياة ابن رشد في اللغة العربية بخاصة، ويمكن الرجوع إليه.

أما فيما يخص البيئة والإطار التاريخي لحياة ابن رشد، فنشير إلى المصدرين الآتيين:
  • أَشْباخ (يوسف)، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، ترجمة محمد عبد الله عنان، مؤسسة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثانية ١٩٥٨.

  • بالنسيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة الدكتور حسين مؤنس، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ١٩٥٥.

وفي هذَين الكتابَين توجد مراجع عديدة.

(١) كتاب التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار (حسب رينان … Renan, Averroès، ص٤٣٥–٤٣٧)

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد من أهل قرطبة وقاضي الجماعة بها، يُكنَّى أبا الوليد، روى عن أبيه أبي القاسم استظهر عليه الموطأ حفظًا وأخذ يسيرًا عن أبي القاسم بن بشكوال وأبي مروان بن مسرة وأبي بكر بن سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز وأجاز له هو وأبو عبد الله المازري.

وأخذ علم الطب من أبي مروان بن حُرِّيول البَلَنسي وكانت الدراية أغلب عليه من الراوية، درس الفقه والأصول وعلم الكلام وغير ذلك، ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا، وكان — على شرفه — أشد الناس تواضعًا وأخفضهم جناحًا، عُني بالعلم من صغره إلى كبره حتى حُكِيَ عنه أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله، وأنه سوَّد في ما صنَّف وقيَّد وألَّف وهذَّب واختصر نحوًا من عشرة آلاف ورقة.

ومال إلى علوم الأوائل فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره، وكان يُفْزَع إلى فتواه في الطب كما يُفْزَع إلى فتواه في الفقه مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب، حكى عنه أبو القاسم الطيلسان أنه كان يحفظ شعرَيْ: حبيب والمتنبي ويُكْثِر التمثل بهما في مجلسه ويورد ذلك أحسن إيراد، وله تصانيف جليلة الفائدة منها: كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه، أعطى فيها أسباب الخلاف وعلَّل فوجه فأفاد وأمتع به ولا يُعلم في فنه أنفع منه ولا أحسن مساقًا، وكتاب الكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وكتابه بالعربية الذي وسمه بالضروري وغير ذلك.

ووَلِيَ قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث فحُمِدَت سيرته وتأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة لم يُصَرِّفْها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصةً ومنافع أهل الأندلس عامةً، وقد حدث وسمع منه أبو محمد بن حوط الله وأبو الحسن سهل بن مالك وأبو الربيع بن سالم وأبو بكر بن جهور وأبو القاسم بن الطيلسان وغيرهم وامتحن بآخرة من عمره فاعتقله السلطان وأهانه، ثم عاد فيه إلى أجمل رأيه واستدعاه إلى حضرة مراكش فتُوُفِّي بها يوم الخميس التاسع من صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة قبل وفاة المنصور الذي نكبه بشهر أو نحوه ودُفِنَ بخارجها، ثم سيق إلى قرطبة فدُفِنَ بها مع سلفه رحمه الله، وذكر ابن فرقد أنه تُوُفِّي بحضرة مراكش بعد النكبة الحادثة عليه المشتهرة في شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وغلط ابن عمر فجعل وفاته تاسع صفر ست وتسعين ومولده سنة عشرين وخمسمائة قبل وفاة جده القاضي أبو الوليد بأشهرٍ.

(٢) سيرة ابن رشد للأنصاري (حسب رينان … Renan, Averroès، ص٤٣٧–٤٤٧)

عن مخطوط دار الكتب الأهلية في باريس رقم ٢١٥٦، ق٧
١ الحركات فكمدت سوق السعايات، وضُرِبَ عن كل طالب ومطلوب، والأعداء كانوا لا يسأمون من الانتظار، ويرقبون أوقات الضرار، فلما كان التلوم من المنصور بمدينة قرطبة، وامتد بها أمد الإقامة، وانبسط الناس لمجالس المذاكرة؛ تجدَّدت للطالبين آمالهم، وقوي تألبهم واسترسالهم، فأَدْلَوْا بتلك الأُلْقيات، وأوضحوا ما ارتقبوا فيه من شنيع السوات الماحية لأبي الوليد كثيرًا من الحسنات، فقُرِئَت بالمجلس وتُدُوولت أغراضها ومعانيها ومبانيها، فخرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج.

وربما ذيَّلها مكر الطالبين، فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام، ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء، وأغمد السيف التماس جميل الجزاء، وأمر طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين وتعريف الملأ بأنه مرق من الدين، وأنه استوجب لعنة الضالين، وأضيف إليه القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي في هذا الازدحام.

ولُفَّ معه في حريق هذا الملام لأشياء أيضًا نُقِمَت عليه في مجالس المذاكرة، وفي كلامه مع توالي الأيام، فأُحْضِرَا بالمسجد الجامع الأعظم بقرطبة، وتكلَّم القاضي أبو عبد الله بن مروان فأحسن، وذكر ما معناه أن الأشياء لا بد في كثيرٍ منها أن تكون لها جهةٌ نافعةٌ وجهةٌ ضارة كالنار وغيرها، فمتى غلب النافع على الضار عُمِلَ بحسبه، ومتى كان الأمر بالضد فبالضد.

فابتدر الكلام الخطيب أبو علي بن حجاج، وعرف الناس بما أُمِرَ به من أنهم مرقوا من الدين، وخالفوا عقائد المؤمنين، فنالهم ما شاء الله من الجفاء، وتفرَّقوا على حكم مَنْ يعلم السر وأخفى، ثم أُمِرَ أبو الوليد بسكنى الْيُسَانة لقول مَنْ قال: إنه يُنْسَب في بني إسرائيل، وإنه لا يُعْرَف له نسبةٌ في قبائل الأندلس٢ وعلى ما جرى عليهم من الخطب، فما للملوك أن يأخذوا إلا بما ظهر، فإليهما تنتهي البراعة في جميع المعارف وكثيرٌ ممن انتفع بتدريسهم وتعليمهم وليس في زمانهما مَنْ بكمالهما ولا مَنْ نسج على منوالهما.

وتفرق تلاميذ أبي الوليد أيدي سبا، ويُذْكَر أن من أسباب نكبته هذه اختصاصه بأبي يحيى أخي المنصور وليِّ قرطبة، وأخبر عنه أبو الحسن بن قطرال أنه قال: أعظم ما طرأ عليَّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدًا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه، وكتب عن المنصور في هذه القضية كاتبه أبو عبد الله بن عياش كتابًا إلى مراكش وغيرها يقول فيما يخص حالهما منه: «وقد كان في سالف الدهر قومٌ خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بشغوف عليهم في الأفهام حيث لا داعي يدعو إلا الحي القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلَّدوا في العالم صحفًا ما لها من خلاق مسودة المعاني والأوراق، بُعْدها من الشريعة بُعْد المشرقين ومبانيها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقًا، ويسيرون فيها شواكل وطرقًا.

ذلكم بأن الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون؛ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ، ونشأ منهم في هذه السمتمة البيضاء شياطين إنسٍ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب وأبعد عن الرجعة إلى الله والمآب؛ لأن الكتابي يجتهد في ضلالٍ ويجدُّ في كلالٍ، وهؤلاء جهدهم التعطيل، وقصارهم التمويه والتخييل، دبَّت عقاربهم في الآفاق برهةً من الزمان إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم على رجالٍ كان الدهر قد مَنَى لهم على شدة حروبهم وأغضى عنهم سنين على كثرة ذنوبهم، وما أُمْلِيَ لهم إلا ليزدادوا إثمًا، وما أُمْهِلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو، وسع كل شيءٍ علمًا، وما زلنا — وصل الله كرامتكم — نذكرهم على مقدار ظننا فيهم وندعوهم على بصيرةٍ إلى ما يُقْدِيهم إلى الله سبحانه ويدنيهم.

فلما أراد الله فضيحة عمايتهم وكشف غوايتهم وقف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبةٍ أخذ كتاب صاحبها بالشمال، ظاهرها موشَّحٌ بكتاب الله، وباطنها مصرحٌ بالإعراض عن الله، لُبِسَ الإيمان منها بالظلم، وجيء منها بالحرب الزَّبون في صورة السَّلْم، مزلَّةٌ للأقدام، وهمٌ يدبُّ في باطن الإسلام، أسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مغلولة، فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونها بباطنهم وغيهم وبهتانهم، فلما وقفنا منهم على ما هو قذًى في جفن الدين ونكتةٌ سوداء في صفحة النور المبين نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يُقْصَى السفهاء من الغواة، وأبغضناهم في الله كما أنَّا نحب المؤمنين في الله، وقلنا: اللهم إن دينك هو الحق اليقين وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهؤلاء قد صدفوا عن آياتك وعميت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك، فباعد أسفارهم وأَلْحِقْ بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم.

ولم يكن بينهم إلا قليلٌ وبين الإلجام بالسيف في مجال ألسنتهم والإيقاظ بحدِّه من غفلتهم وسنتهم، ولكنهم وقفوا بموقف الخزي والهون، ثم طُرِدوا عن رحمة الله، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، فاحذروا — وفقكم الله — هذه الشرذمة على الإيمان حذركم من السموم السارية في الأبدان، ومَنْ عثر له على كتابٍ من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه مآبه، ومتى عُثِرَ منهم على مجدٍّ في غلوائه عم عن سبيل استقامته واهتدائه فليعاجل فيه بالتثقيف والتعريف، وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، والله تعالى يطهِّر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحائف الأبرار تضامركم على الحق واجتماعكم، إنه منعمٌ كريم.

وحدثني الشيخ أبو الحسن الرُّعَيْني — رحمه الله — قراءةً عليه ومناولةً من يده ونقلته من خطه، قال: وكان قد اتصل — يعني شيخه أبا محمد عبد الكبير — بابن رشد المتفلسف أيام قضائه بقرطبة، وحظي عنده فاستكتبه واستقضاه، وحدثني — رحمه الله — وقد جرى ذكر هذا المتفلسف وما له من الطوام في محادة الشريعة، قال: إن هذا الذي يُنْسَب إليه ما كان يظهر عليه، ولقد كنت أراه يخرج إلى الصلاة وأثر ماء الوضوء على قدميه، وما كدت آخذ عليه فَلْتةً واحدة، وهي عُظْمى الفلتات، وذلك حين شاع في المشرق والأندلس على ألسنة المنجمة أن ريحًا عاتيةً تهبُّ في يوم كذا وكذا في المدة تهلك الناس، واستفاض ذلك حتى اشتدَّ جزع الناس منه واتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض توقِّيًا لهذه الريح.

ولما انتشر الحديث بها وطبق البلاد استدعى والي قرطبة إذ ذاك طلبتها وفاوضهم في ذلك، وفيهم ابن رشد — وهو القاضي بقرطبة يومئذٍ — وابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي تكلم ابن رشد وابن بندود في شأن هذه الريح من جهة الطبيعة وتأثيرات الكواكب، قال شيخنا أبو محمد عبد الكبير: وكنت حاضرًا فقلت له في أثناء المفاوضة: إن صحَّ أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عادٍ، إذ لم تُعْلَم ريحٌ بعدها يعم إهلاكها، قال: فانبرى لي ابن رشد ولم يتمالك أن قال: والله وجود عادٍ ما كان حقًّا، فكيف سبب هلاكهم؟ فسُقِطَ في أيدي الحاضرين وأكبروا هذه الزَّلَّة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقال ابن الزبير: كان من أهل العلم والتفنن، وأخذ الناس منه واعتمدوه إلى أن شاع عنه ما كان الغالب عليه في علومه من اختيار العلوم القديمة والركون إليها وصوب عنانه جملةً نحوها حتى لخَّص كتب أرسطو الفلسفية والمنطقية، واعتمد مذهبه فيما يُذْكَر عنه ويوجد في كتبه، وأخذ يُنَحِّي على مَنْ خالفه ورام الجمع ين الشريعة والفلسفة، وحاد عن ما عليه أهل السنة فترك الناس الرواية عنه حتى رأيت بَشْرَ اسمه متى وقع للقاضي أبي محمد بن حوط إسنادٌ عنه إذ كان قد أخذ عنه وتكلموا فيه بما هو ظاهرٌ من كتبه، وممن جاهده بالمنافرة والمهاجرة: أبو عامر يحيى بن أبي الحسين بن ربيع ونافره جملةً، وعلى ذلك كان ابناه: القاضي أبو القاسم وأبو الحسين، ومن الناس مَنْ تعامى عن حاله وتأوَّل مرتكبه في انتحاله، والله أعلم بما كان يسرُّه من أعماله، وحسبنا هذا القدر.

وقد كان امتُحِنَ على ما نُسِبَ إليه وامتحانه مشهورٌ، وقال الحاج أبو الحسين بن جبير فيه وفي نكبته:

الآن قد أيقن ابن رشد
أن تَواليفه تَوالِف
يا ظالمًا نفسه تأمل
هل تجد اليوم من تُوالِف

وله فيه:

لم تلزم الرشد يا ابن رشدٍ
لما علا في الزمان جَدُّكْ
وكنت في الدين ذا رياء
ما هكذا كان فيه جَدُّكْ

وله:

الحمد لله على نصره
لفرقة الحق وأشياعه
كان ابن رشدٍ في مدى غيِّه
قد وضع الدين بأوضاعه
حتى إذا أوضع في طرقه
توالفه عند إيضاعه
فالحمد لله على أخذه
وأخذ مَنْ كان من أتباعه

وله فيه:

نفذ القضاء بأخذ كل مُرَمِّدٍ
متفلسفٍ في دينه متزندق
بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقةً
إن البلاء مُوَكَّلٌ بالمنطق

وله فيه:

خليفة الله أنت حقَّا
فارق من السعد خير مَرْقَا
حميتم الدين من عداه
وكل مَنْ رام فيه فَتْقَا
أطلعك الله سرَّ قومٍ
شقُّوا العصا بالنفاق شقا
تفلسفوا وادعوا علومًا
صاحبها في المعاد يَشْقَا
واحتقروا الشرع وازدروه
سفاهةً منهم وحُمقا
أوسعتهم لعنةً وخزيًا
وقلتَ بُعْدًا لهم وسحقا
فابق لدين الإله كهفًا
فإنه ما بقيتَ يبقا

وله:

خليفة الله دُمْ للدين تحرسه
من العدى شرَّ شرِّ فئة
فالله يجعل عدلًا من خلايفه
مطهرًا دينه في رأس كل مئة

وله:

بلغت أمير المؤمنين مدى المُنا
لأنك بلَّغتنا ما نُؤَمِّل
قصدت إلى الإسلام تُعْلِي مناره
ومقصدك الأسنى لدى الله يُقْبَل
تداركت دين الله في أخذ فرقة
بمنطقهم كان البلاء الموكل
أثاروا على الدين الحنيفي فتنةً
لها نار غَيٍّ في العقائد تشعل
أقمتهم للناس يُبْرَأ منهم
ووجه الهدى من خزيهم يتهلل
وأوعزت في الأقطار اشتياقٌ إليهم
ولكن مقام الخزي للنفس أقتل
وآثرت درء الحد عنهم بشبهةٍ
لظاهر إسلامٍ وحكمك أعدل

وله في غير ذلك مما يطول إيراده، ثم عُفِي عنه، واستُدْعِيَ إلى مراكش فتُوُفِّي بها ليلة الخميس التاسعة من صفر خمسٍ وتسعين وخمسمائة بموافقة عاشر دُجَنْبِر، ودُفِنَ بجبانة باب تاغروت خارجها ثلاثة أشهر، ثم حُمِلَ إلى قرطبة فدُفِنَ بها في روضة سلفه بمقبرة ابن عباس، ومولده سنة عشرين وخمسمائة.»

(٣) عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة

ج٢ ص٧٥ وما بعدها

هو القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد مولده ومنشؤه بقرطبة، مشهور بالفضل، معتنٍ بتحصيل العلوم، أوحد في علم الفقه والخلاف، واشتغل على الفقيه الحافظ أبي محمد بن رزق، وكان أيضًا متميزًا في علم الطب.

وهو جيد التصنيف، حسن المعاني، وله في الطب كتاب الكليات، وقد أجاد في تأليفه، وكان بينه وبين أبي مروان بن زهر مودة، ولما ألَّف كتابه هذا في الأمور الكلية، قصد من ابن زهر أن يؤلف كتابًا في الأمور الجزئية لتكون جملة كتابيهما ككتاب كاملٍ في صناعة الطب؛ ولذلك يقول ابن رشد في آخر كتابه ما هذا نصه: «قال: فهذا هو القول في معالجة جميع أصناف الأمراض بأوجز ما أمكننا وأبينه، وقد بقي علينا من هذا الجزء القول في شفاء عرضٍ عرضٍ من الأعراض الداخلة على عضوٍ عضوٍ من الأعضاء، وهذا وإن لم يكن ضروريًّا لأنه منطوٍ بالقوة فيما سلف من الأقاويل الكلية ففيه تتميم ما وارتياض؛ لأنَّا ننزل فيها إلى علاجات الأمراض بحسب عضوٍ عضوٍ، وهي الطريقة التي يسلكها أصحاب الكنانيش حتى تجمع في أقاويلنا هذه إلى الأشياء الكلية الأمور الجزئية، فإن هذه الصناعة أحق صناعة يُنزل فيها إلى الأمور الجزئية ما أمكن، إلا أنَّا نؤخر هذا إلى وقتٍ نكون فيه أشد فراغًا لعنايتنا في هذا الوقت بما يهمُّ من غير ذلك.

فمَنْ وقع له هذا الكتاب دون هذا الجزء وأحبَّ أن ينظر بعد ذلك في الكنانيش، فأوفق الكنانيش له الكتاب الملقب بالتيسير الذي ألَّفه في زماننا هذا أبو مروان بن زهر، وهذا الكتاب سألته أنا إياه وانتسخته فكان ذلك سبيلًا إلى خروجه، وهو كما قلنا كتاب الأقاويل الجزئية التي قلَّت فيه شديد المطابقة للأقاويل الكلية إلا مزج هنالك مع العلاج العلامات وإعطاء الأسباب على عادة أصحاب الكنانيش، ولا حاجة لمن يقرأ كتابنا هذا إلى ذلك، بل يكفيه من ذلك مجرد العلاج فقط، وبالجملة مَنْ تحصَّل له ما كتبناه من الأقاويل الكلية أمكنه أن يقف على الصواب والخطأ من مداواة أصحاب الكنانيش في تفسير العلاج والتركيب.»

حدثني القاضي أبو مروان الباجي، قال: كان القاضي أبو الوليد بن رشد حسن الرأي، ذكيًّا رث البزة قوي النفس، وكان قد اشتغل بالتعاليم وبالطب على أبي جعفر بن هارون ولازمه مدة، وأخذ عنه كثيرًا من العلوم الحكمية، وكان ابن رشد قد قضى في إشبيلية قبل قرطبة، وكان مكينًا عند المنصور، وجيهًا في دولته وكذلك أيضًا كان ولده الناصر يحترمه كثيرًا.

قال: ولما كان المنصور بقرطبة وهو متوجِّه إلى غزو ألفنس وذلك عام أحد وتسعين وخمسمائة، استدعى أبا الوليد بن رشد، فلما حضر عنده احترمه احترامًا كثيرًا، وقربه إليه حتى تعدَّى به الموضع الذي كان يجلس فيه أبو محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص الهنتاتي، صاحب عبد المؤمن، وهو الثالث أو الرابع من العشرة.

وكان هذا أبو محمد عبد الواحد قد صاهره المنصور وزوَّجه بابنته لعظم منزلته عنده، ورُزِقَ عبد الواحد منها ابنًا اسمه علي، وهو الآن صاحب إفريقية، فلما قرَّب المنصور ابن رشد وأجلسه إلى جانبه حادثه ثم خرج من عنده وجماعة الطلبة وكثير من أصحابه ينتظرونه فهنئوه بمنزلته عند المنصور وإقباله عليه، فقال: والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به، فإن أمير المؤمنين قد قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمله فيه أو يصل رجائي إليه.

وكان جماعة من أعدائه قد شنَّعوا بأن أمير المؤمنين قد أمر بقتله، فلما خرج سالمًا أمر بعض خدمه أن يمضي إلى بيته ويقول لهم أن يصنعوا له قطا وفراخ وحمام مسلوقة إلى متى يأتي إليهم، وإنما كان غرضه بذلك تطبيب قلوبهم بعافيته.

ثم المنصور فيما بعد نقم على أبي الوليد بن رشد، وأمر بأن يقيم في الْيُسَانة — وهي بلد قريب من قرطبة وكانت أولًا لليهود — وأن لا يخرج منها، ونقم أيضًا على جماعة أُخر من الفضلاء الأعيان، وأمر أن يكونوا في مواضع أُخر، وأظهر أنه فعل بهم ذلك بسبب يدَّعي فيهم أنهم مشتغلون بالحكمة وعلوم الأوائل، وهؤلاء الجماعة هم: أبو الوليد بن رشد وأبو جعفر الذهبي، والفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم قاضي بجاية، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الحافظ الشاعر القرابي، وبقوا مدة، ثم إن جماعة من الأعيان بإشبيلية شهدوا لابن رشد أنه على غير ما نُسِبَ إليه، فرضي المنصور عنه وعن سائر الجماعة، وذلك في سنة خمس وتسعين وخمسمائة.

وجعل أبا جعفر الذهبي مزوارًا للطلبة ومزوارًا للأطباء، وكان يصفه المنصور ويشكره ويقول: إن أبا جعفر الذهبي كالذهب الإبريز الذي لم يزدد في السبك إلا جودة.

قال القاضي أبو مروان: ومما كان في قلب المنصور من ابن رشد أنه كان متى حضر مجلس المنصور وتكلَّم معه أو بحث عنده في شيءٍ من العلم يخاطب المنصور بأن يقول: تسمع يا أخي … وأيضًا فإن ابن رشد كان قد صنَّف كتابًا في الحيوان وذكر فيه أنواع الحيوان ونعت كل واحد منها، فلما ذكر الزرافة وصفها، ثم قال: وقد رأيت الزرافة عند ملك البربر — يعني المنصور — فلما بلغ ذلك المنصور صعب عليه، وكان أحد الأسباب الموجبة في أنه نقم على ابن رشد وأبعده.

ويُقال: إن مما اعتذر به ابن رشد أنه قال: إنما قلت: ملك البرين وإنما تصحَّفت على القارئ، فقال: ملك البربر.

وكانت وفاة القاضي أبي الوليد بن رشد — رحمه الله — في مراكش أول سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وذلك في أول دولة الناصر، وكان ابن رشد قد عُمِّر عمرًا طويلًا، وخلَّف ولدًا طبيبًا عالمًا بالصناعة، يُقال له: أبو محمد عبد الله، وخلَّف أيضًا أولادًا قد اشتغلوا بالفقه واستخدموا في قضاء الكور.

ومن كلام أبي الوليد بن رشد، قال: من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانًا بالله.

(٤) تاريخ الإسلام للذهبي (حسب رينان … Renan, Averroès، ص٤٥٦–٤٦٠)

من مخطوط باريس، المكتبة الأهلية رقم ١٥٨٢ ق٨٠ظ

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد القرطبي، حفيد العلَّامة ابن رشد الفقيه، وُلِدَ سنة عشرين قبل وفاة جدِّه أبي الوليد بشهرٍ واحد، وعرض الموطأ على والده أبي القاسم، وأخذ عن أبي مروان بن مسرة وأبي القاسم بن بشكوال وجماعة.

وأخذ علم الطب عن أبي مروان بن جريول، ودرس الفقه حتى برع فيه، وأقبل على علم الكلام والفلسفة وعلوم الأوائل حتى صار يُضْرَب به المثل فيه، فمن تصانيفه ما ذكره ابن أبي أصيبعة.

[يذكر هنا الذهبي قائمة مؤلفات ابن رشد كما جاءت في عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة مع بعض التغييرات، وسنثبتها فيما بعد].

قلت: ذكر شيخ الشيوخ تاج الدين: لما دخلت إلى البلاد سألت عنه، فقيل: إنه مهجور من داره من جهة الخليفة يعقوب، ولا يدخل أحدٌ عليه، ولا يخرج هو إلى أحدٍ، فقيل: لِمَ؟ قالوا: رُفِعَتْ عنه أقوالٌ رديئة ونُسِبَ إليه كثرة الاشتعال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل، ومات وهو محبوسٌ بداره بمراكش في أواخر سنة أربع وتسعين.

وذكره ابن الأبار فقال: لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا، قال: وكان متواضعًا منخفض الجناح، عزَّ بالعلم حتى حُكِيَ عنه أنه لم يدع النظر والقراءة مذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة عرسه، وأنه سوَّد فيما صنَّف وقيَّد واختصر نحوًا من عشرة آلاف ورقة.

ومال إلى علوم الأوائل فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره، وكان يُفْزَع إلى فتياه في الطب كما يُفْزَع إلى فتياه في الفقه مع الحظ الوافر من العربية، قيل: وكان يحفظ ديوانَي: حبيب والمتنبي، وله من المصنفات: كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، علَّل فيه ووجَّه، ولا نعلم في فنِّه أنفع منه ولا أحسن مساقًا، وله كتاب الكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وكتاب في العربية وغير ذلك.

وقد وُلِّيَ قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث، فحُمِدَت سيرته وعظم قدره، سمع منه أبو محمد بن حوط الله وسهل بن مالك وجماعة، وامتُحِنَ بآخره، فاعتقله السلطان يعقوب وأهانه، ثم أعاده إلى الكرامة فيما قيل، واستدعاه إلى مراكش، وبها تُوفِّي في صفر، وقيل: في ربيع الأول، وقد مات السلطان بعده بشهرٍ.

وقال ابن أبي أصيبعة: هو أوحد في علم الفقه والخلاف، تفقَّه على الحافظ أبي محمد بن رزق، وبرع في الطب، وألَّف كتاب الكليات أجاد فيه، وكان بينه وبين أبي مروان بن زهرٍ مودة.

حدثني أبو مروان الباجي، قال: كان أبو الوليد بن رشد ذكيًّا رث البزة قوي النفس، اشتغل بالطب على أبي جعفر بن هارون، لازمه مدةً، ولما كان المنصور بقرطبة وقت غزو ألفنس استدعى أبا الوليد واحترمه وقرَّبه حتى تعدى به المجلس الذي كان يجلس فيه الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاني، ثم بعد ذلك نقم عليه لأجل الحكمة، يعني الفلسفة.

(٤-١) محنة ابن رشد

(الذهبي، تاريخ، نفس المخطوط ورقة ٨٧ظ)

وسببها أنه أخذ في شرح كتاب الحيوان لأرسطوطاليس فهذَّبه، وقال فيه عند ذكره الزرافة: «رأيتها عند ملك البربر» كذا غير ملتفتٍ إلى ما يتعاطى خَدَمَة الملوك من التعظيم، فكان هذا مما أحنقهم عليه ولم يظهروه، ثم إن قومًا مما يناوبه بقرطبة ويدعي معه الكفاءة في البيت والحشمة سعوا به عند أبي يوسف بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص فوجدوا فيه بخطه حاكيًا عن بعض الفلاسفة: «قد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة.» فأوقفوا أبا يوسف على هذا.

فاستدعوه بمحضرٍ من الكبار بقرطبة، فقال له: أخطك هذا؟ فأنكر، فقال: لعن الله كاتبه، وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بإخراجه مهانًا وبإبعاده وإبعاد مَنْ تكلم في شيءٍ من هذه العلوم وبالوعيد الشديد، وكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في تركها وبإحراق كتب الفلسفة سوى الطب والحساب والمواقيت.

ثم لما رجع إلى مراكش نَزَع عن ذلك كله، وجنح إلى تعلم الفلسفة، واستدعى ابن رشد للإحسان إليه فحضر، ومرض ومات في آخر سنة أربع، وتُوُفِّي أبو يوسف في غرة صفر، ووُلِّيَ بعده وليُّ عهده ابنه أبو عبد الله محمد، وكان قد جعله في سنة ستٍّ وثمانين وليَّ العهد، وله عشر سنين إذ ذاك.

وقال الموفق أحمد بن أبي أصيبعة في تاريخه: حدثني أبو مروان الباجي قال: ثم إن المنصور نقم على أبي الوليد وأمر أن يقيم في بلد الْيُسَانة وأن لا يخرج منها، ونقم على جماعةٍ من الأعيان وأمر بأن يكونوا في مواضع أُخَر؛ لأنهم مشتغلون بعلوم الأوائل، والجماعة: أبو الوليد وأبو جعفر الذهبي ومحمد بن إبراهيم قاضي بجاية وأبو الربيع الكفيف وأبو العباس الشاعر القرابي.

ثم إن جماعة شهدوا لأبي الوليد أنه على غير ما نُسِبَ إليه فرضيَ عنه وعن الجماعة، وجعل أبا جعفرٍ الذهبي مزوارًا للأطباء والطلبة، ومما كان في قلب المنصور من أبي الوليد أنه كان إذا تكلَّم معه يخاطبه بأن يقول: تسمع يا أخي، قلت: واعتذر عن قوله ملك البربر بأن قال: إنما كتبت ملك البرين، وإنما صحَّفها القارئ.

(٥) الديباج المذهَّب لابن فَرْحون

ط فاس ص٢٥٦، ط القاهرة ١٣٥١ﻫ، ص٢٨٤

هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الشهير بالحفيد من أهل قرطبة وقاضي الجماعة يكنَّى أبا الوليد، روى عن أبيه أبي القاسم، استظهر عليه الموطأ حفظًا، وأخذ الفقه عن أبي القاسم بن بشكوال وأبي مروان بن مسرة، وأبي بكر بن سمحون، وأبي جعفر بن عبد العزيز، وأبي عبد الله المازري.

وأخذ علم الطب عن أبي مروان بن جريول، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، ودرس الفقه والأصول وعلم الكلام ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا، وكان — على شرفه — أشد الناس تواضعًا وأخفضهم جناحًا، وعُني بالعلم من صغره إلى كبره حتى حُكِي أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله، وأنه سوَّد فيما صنَّف وقيَّد وألَّف وهذَّب واختصر نحوًا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الأوائل وكانت له فيها الأمانة دون أهل عصره، وكان يُفْزَع إلى فتياه في الطب كما يُفْزَع إلى فتياه في الفقه مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب والحكمة، حُكِيَ عنه أنه كان يحفظ شعر المتنبي وحبيب.

وله تآليف جليلة الفائدة، منها:

كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، ذكر فيه أسباب الخلاف وعلَّل وجهه فأفاد ومتَّع به، ولا يُعْلَم في وقته أنفع منه ولا أحسن سياقًا، وكتاب الكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وكتابه في العربية الذي وسمه بالضروري، وغير ذلك تنيف على ستين تأليفًا، وحُمِدَت سيرته في القضاء بقرطبة، وتأثَّلت له عند الملوك وجاهة عظيمة ولم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة ومنافع أهل الأندلس، وحدَّث وسمع منه أبو بكر بن جمهور وأبو محمد بن حوط الله وأبو الحسن بن سهل بن مالك وغيرهم، وتُوُفِّي سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومولده سنة عشرين وخمسمائة قبل وفاة القاضي جده أبي الوليد بن رشد بشهر.

(٦) مديح ابن رشد بالزجل من قبل ابن قزمان

لقد نشر أخيرًا المستشرق الإسباني الشهير، إمليو غرسيا غوميز Emilio Garcia Gomez ديوان الشاعر ابن قزمان الأندلسي، وقد ورد فيه قطعة خاصة بمدح ابن رشد بعد وفاته (قطعة رقم ١٠٦ في الجزء الثاني).
Todo Ben Quzman, editado, interpretado, medido y explicado por Emilio Garcia Gomez, Editorial Gredos, S.A., Madrid 1972, t.2 zejel No. 106, pp. 548–551.

والزجل منقول هنا بالحروف اللاتينية وتُرْجِمَ إلى الإسبانية.

١  أول الكلام غير موجود.
٢  في الهامش: ويُقال أيضًا: إن من أسباب نكبته أنه قال في كتابه «الحيوان»: ورأيت الزرافة عند ملك البربر، وأن ذلك وجد بخطه، فأوقف عليه المنصور، فهمَّ بسفك دمه، فوافق أن كان بالمجلس صديقه أبو عبد الله الأصولي المنكوب بعدُ معه، فقال: وقد كان جرى في مجلس المنصور منع العمل بالشهادة على الحق، مُنِعَت الشهادة على الحق في الدينار والدرهم، ويجيزونها في قتل المسلم، ثم قال: أما الكتب: «ورأيت الزرافة عند ملك البرين»، فاستحسن ذلك في الوقت، وأسرَّها المنصور في نفسه حتى جرى ما جرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤