الانقلاب العثمانيُّ وتركيا الفتاة

الفرق بين الانقلاب والثورة

الانقلاب في اصطلاح المؤرِّخين، تغيير مهم في حكومة الدولة وقلب في قوانينها، وهو غير الثورة التي بمعنى العصيان والخروج عن الطاعة والقيام على الحكومة المشروعة، والفرق بين الانقلاب والثورة كبير؛ فإن الثورة كثيرًا ما تضر بمنافع الأمة ومصالحها وتصدُّها عن السير في طريق النجاح؛ بخلاف الانقلاب، فإنه مهما آلم الأمة ورضرضها فهو يخطو بها خطوة في نهج التقدم، ويصعد بها درجة في سلم النجاح، وأكثر كُتَّاب العربيَّة لا يفرقون بين الكلمتين، فيطلقون اسم الثورة على الانقلاب، فيقولون: الثورة الفرنسيَّة مثلًا، بدل الانقلاب الفرنسي، ولم يلتفتوا إلى ما رُوي عن لويس السادس عشر ملك فرنسا لما أُخبِر بهدم قلعة الباستيل la Bastille وإطلاق المسجونين فيها، فقال: إذن هذه ثورة Revolte فأجابه المخبر: عفوًا يا مولاي، بل هذا انقلاب Revolution.

فمراد ملك فرنسا أن فعل الثائرين غير مشروع، ولا حق لخروجهم عن الطاعة، وجواب المخبر ينافيه، ويبين أن الانقلاب غير الثورة والعصيان، فنحن اليوم أحوج إلى تعيين معاني الكلمات وإلى وضع قوالب الألفاظ على قدر المعاني؛ لأن الانقلاب السياسي من شأنه أن يحدث انقلابًا في اللغة والأدب، فضلًا عن انقلاب الأخلاق والعادات والأفكار، ألا ترى الجرائد العثمانيَّة على اختلاف لغاتها من تركيَّة وعربيَّة وروميَّة وأرمنيَّة ويهوديَّة — إسبانية وعبرانية — وبلغاريَّة وفرنسيَّة والجرائد الألبانيَّة والكرديَّة على وشك الظهور، كيف بدلت لهجاتها بعد حدوث الانقلاب، وهجرت تلك الألفاظ الفخمة والتعبيرات السقيمة، التي تغطي المعاني بستار الإبهام حتى تستبهم على القارئ، وتقيِّد فكره بسلاسل التذليل والاستعباد؟!

الاستبداد يولِّد الانقلاب

إن الذي يولِّد الانقلاب هو الاستبداد، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية، لا من قواعد الدين الإسلامي كما يتوهَّم بعضنا، وأكثر الأوروبيين الذين يصفون الحكومات الإسلاميَّة بكونها ثيوقراطيَّة؛ أي إنها جامعة بين الديانة والسياسة، وأحكام المستبد أو المستبدين في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يدهم من الخلق، لحملهم إياهم على ما ليس في طوقهم من أغراض المستبد أو المستبدين وشهواتهم؛ ولذا ورد في الخط الشريف السلطاني الذي أُعطي به القانوني الأساسي: «إن قوة الحكومة تحافظ على حقوقها المقبولة والمشروعة، وعلى منع الحركات غير المشروعة، أعني بها: منع ومحو الخطيئات وسوء الاستعمالات المتولدة من الحكم الاستبداديِّ الفرديِّ أو الأفراد القلائل ليستفيد جميع الأقوام المركبة هيئتنا منهم نعمة الحريَّة والعدالة والمساواة بلا استثناء، وذلك حق ومنفعة حريَّان بالهيئة الاجتماعيَّة المدنية … إلخ.»

الاستبداد والإسلام

الاستبداد هو منبع الشرور، وسبب التأخر والانحطاط، وقد ورث ملوك الإسلام هذا الاستبداد عن أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان، عن نماردة بابل وفراعنة مصر، عن جنكيز خان وتيمور لنك، والإسلام أول شريعة اعترضت على الاستبداد وقاومته أشد المقاومة، وساوت بين أفراد الأمة، وحافظت على الحقوق والحريَّة الشخصيَّة، وأمَّنت الأجانب المعاهدين — فضلًا عن أفراد الأمة — على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، ومهدت السبيل للحكومة الديمقراطيَّة، ووضعت حق الحاكميَّة في الأمة، ولم تكتفِ بإعطائها الحريَّة في القول والعمل والكتابة والاجتماع، بل فرضت على كل فرد من أفرادها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فجعلت الأمة مسيطرة على الحقوق العامة، ولم تفرِّق في الحقوق الخاصة بين المسلمين وخليفتهم ولا أولي الأمر منهم، ورد في«الدرر» وهو من أهم الكتب الشرعيَّة: «إن الخليفة يُقتَصُّ منه ويُؤخَذ بالمال؛ لأنهما من حقوق العبد، ويستوفيه ولي الحق؛ إما بتمكينه أو بالاستعانة بمَنَعة المسلمين»، ولذا حكمت القضاة على أكثر من واحد من الخلفاء وسلاطين الإسلام بردِّ المال وضمانه، وأنزلتهم عن المنصَّة، وأقعدتهم مع الخصم في مجلس الحكم.

الاستبداد آسيوي لا إسلامي

كانت الحال على ما ذُكر مدة الخلفاء الراشدين، ومن اقتفى أثرهم كعمر بن عبد العزيز من بني أميَّة، ثم تغلَّب الاستبداد الآسيوي على أحكام الدين الإسلامي، وانقلبت الخلافة إلى سلطنة، وأصبح خليفة الإسلام — مقدسًا وغير مسئول — كملوك الإفرنج ليومنا هذا؛ لا يُقتصُّ منهم، ولا يُؤخذون بالأموال، ولا تستطيع المحاكم إحضارهم ولا إصدار الحكم عليهم، ويرثون الملك كما يرث أحدنا مال أبيه، فاستبدوا بالأمر استبداد لويس الرابع عشر الذي كان يقول: «الدولة هي أنا» و«أموال الرعية إنما هي ملك لملكها، فإذا أخذ شيئًا منها فقد أخذ حقه!» واستباحوا التصرف في نفوس الرعيَّة وأموالهم وأعراضهم، وفي خزائن الدولة وبيت المال وأوقاف المساجد والمؤسسات الخيريَّة، وصار الوزراء والمصاحبون يقولون: «خسرو بكند شيرينست»؛ أي ما أعجب كسرى فهو حسن، فالحسن هو ما استحسنه السلطان والقبيح ما استقبحه السلطان، ولا دخل في ذلك للعقل والذوق، ولا للحكمة والشرع؛ لأنهم أوَّلوا الشرع على حسب غاياتهم وأغراضهم.

فإذا تصفحت تواريخ الأمم الإسلاميَّة في الشرق والغرب تراها مؤسسة على هذا الاستبداد الآسيوي، وعلى جانب من الاستعباد الأفريقيِّ، وليس فيها شيء من الحريَّة الإسلاميَّة، ولا المشورة المأمور بها في الآيات القرآنيَّة والأحاديث النبويَّة، كما قال الله لنبيه: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران، آية: ١٥٩)، وقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ (الشُّورى، الآية: ٣٨)، وحديث: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وأمثاله كثيرة؛ كحديث حلف الفضول المشهور في التواريخ، وذلك أن قبائل من قريش تداعت إلى حلف الفضول الذي عقدته قديمًا قبائل العرب، واشتهر باسم رؤسائهم: الفضيل والمفضَّل، فاجتمعت وجوه قريش في دار عبد الله بن جدعان، ونسبه، فتحالفوا وتعاقدوا: ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو من غيرها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على ظلمه حتى تُردَّ عليه مظلمته، وكان ذلك قبل الإسلام، قال النبي : «لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبد الله بن جدعان، ما أحب أن لي به حُمر النعم، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت» فأي شيء أشبه بهذا الاجتماع والتعاقد من البرلمان والمبعوثين؟ لا بل من جمعيَّة الاتحاد والترقي؟ ولقد أحسن جدًا العلَّامة المقري في جوابه المذكور في «نفح الطيب» حيث قال:

سألني بعض الفقهاء عن السبب في سوء بخت المسلمين في ملوكهم إذ لم يلِ أمرهم من يسلك بهم الجادة، ويحملهم على الواضحة، بل من يغترُّ في مصلحة دنياه، غافلًا من عاقبة أخراه، فلا يرقب في مؤمن إلًا ولا ذمة، ولا يراعي عهدًا ولا حرمة!

فأجبته: بأن ذلك لأن الملك ليس في شريعتنا، وذلك أنه كان فيمن قبلنا شرعًا، قال الله تعالى ممتنًّا على بني إسرائيل: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا (المائدة، الآية: ٢٠) ولم يكن ذلك في هذه الأمة، بل جعل لهم خلافة، قال الله تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، (النور، الآية: ٥٥) وقال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا (البقرة، الآية: ٢٤٧)، وقال سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا (ص، الآية: ٣٥) فجعلهم الله تعالى ملوكًا، ولم يجعل في شرعنا إلا الخلفاء؛ فكان أبو بكر خليفة رسول الله وإن لم يستخلفه نصًّا؛ لكن فهم الناس ذلك فهمًا، وأجمعوا على تسميته، ثم استخلف أبو بكر عمر، فخرج بها عن سبيل الملك الذي يرثه الولد عن الوالد إلى سبيل الخلافة الذي هو النظر والاختيار، ونصَّ في عهده على ذلك، ثم اتفق أهل الشورى على عثمان، فإخراج عمر لها عن بنيه إلى الشورى دليل على أنها ليست ملكًا، ثم تعين عليٌّ بعد ذلك إذ لم يبق مثله، فبايعه من آثر الحق على الهوى، واصطفى الآخرة على الدنيا، ثم الحسن كذلك، ثم كان معاوية أول من حوَّل الخلافة ملكًا، والخشونة لينًا، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، فجعلها ميراثًا، فلمَّا خرج بها عن وضعها لم يستقم ملك فيها، ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز — رضي الله عنه — كان خليفة لا ملكًا؛ لأن سليمان — رحمه الله — رغب عن بني أبيه إيثارًا لحق المسلمين، ولئلَّا يتقلَّدها حيًّا وميتًا، وكان يعلم اجتماع الناس عليه، فلم يسلك طريق الاستقامة بالناس قط إلا خليفة، وأمَّا الملوك فعلى ما ذكرت إلا من قلَّ، وغالب أفعاله غير مرضيَّة ا.ﻫ.

فيظهر لنا من هذا الكلام الفرق بين الخلافة والملك، والسبب الذي جعل ملوك الإفرنج مقدَّسين وغير مسئولين.

منبع الاستبداد قصر الملك والخلافة

إن منبع استبداد الدول الإسلاميَّة في قديم الزمان وحديثه هو قصر الخلافة، ودار الملك والإمارة؛ حيث تكثر دسائس المقرَّبين، ويشتدُّ حرصهم على الجاه وطمعهم في الأموال وادِّخارها وفي إنفاذ الكلمة، ولذا ابتعد عنهم أهل التقوى والورع في جميع البلدان والأزمان، فالمقرب منهم لا يكاد يتمُّ له الأمر إلا ويظهر له رقباء يشون به، وينصبون له أشراك المكيدة، ويتَّهمونه بأنواع التهم، وينسبون إليه كل الخلل في الدولة، حتى يبعدوه عن مركز الدولة، وربَّما تسببوا في مصادرته وقتله مع أولاده وعياله، كما جرى للبرامكة مع هارون الرشيد، فتاريخ الدول والإمارات الإسلاميَّة كله وقائع برمكيَّة، وقد ينتصر الوزير على الخليفة أو الأمير ويُحجر عليه ويصير هو المستبدُّ بالأمر، ونتيجة القضيتين واحدة وهي الاستبداد، وتغلُّب القوة على الحق، والأمة في جميع هذه الأحوال شاخصة ببصرها لا تطَّلع على خفايا السياسة وتدبير الملك، ولا دسائس المقرَّبين وحيلهم لإخفائهم جميع ذلك عنها، واستبدادهم بالأمر عليها، ولقد أجاد لسان الدِّين بن الخطيب — وزير بني الأحمر — في الرسالة التي خاطب بها الوزير بن مرزوق ووصف بها أحوال خدمة الدولة ومصائرهم، وعبَّر فيها عن ذوق ووجدان، وهي أبلغ ما حُرِّر في هذا الصدد، وقد ذكرها المقري في الجزء الثالث من «نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب»، فالمصلحون لم يتخلَّصوا من هذه الغوائل ولا وجدوا وقتًا لإصلاح داخل الممالك وتحكيم سياستها الخارجيَّة، ولذا انصرفت هممهم لجمع الأموال وادِّخارها، واغتنام فرصة التقرُّب ونيل التوجُّه واكتساب السعادة؛ لأن الواحد لا يدري إلى متى يدوم له التوجه والإقبال، فيسارع إلى الاستفادة من الحال التي أسعده الحظ بنيلها.

قصر السلطنة العثمانيَّة وتربية وليِّ العهد والكامريلا

كان قصر السلطنة في الممالك العثمانيِّة مرتبًا على الأصول والتقاليد الموروثة عن المغول، فقد كانت الدولة عبارة عن خيمة كبيرة حكومتها بابها العالي، وأول وظيفة على هذه الحكومة إنزال الخان المعظَّم على الرحب والسعة، وإسكان من معه من الحريم والأسرة والأقارب والحاشية، واستكمال أسباب راحتهم وسعادتهم، واستحضار النفقات اللازمة لهم ولرؤساء «العرضى»؛ فالعمود الأوسط القائمة عليه هذه الخيمة هو «الصدر الأعظم» القائم مقام الخان المعظم؛ أي السلطان والحامل لختمه الذاتي والوكيل المطلق عنه في جميع مسائل الدولة الداخليَّة والخارجيَّة، وبجانبه «قاضي عسكر» لفصل الدعاوى وتقسيم مواريث الجند والمحافظة على حقوق السلطنة، وشيخ الإسلام إنما هو «قاضي عسكر» وظيفته أحدث عهدًا؛ فقضاء العسكر قديم في الدولة ومتقدِّم فيها على قضاء المدن، مما يدل على حياتها العسكرية المنتقلة، ثم «الدفتردار» الذي يقيِّد الأموال ويحرِّر الحساب وهو اليوم ناظر الماليَّة، ثم «النيشانجي» الذي يكتب الإرادات والفرمانات وغيرها.

فهؤلاء أعمدة ثانويَّة حوالي العمود الأعظم الذي في وسط الخيمة، وأما حبال الخيمة فهي الأغوات.

ويُقسم الأغوات — بحسب خدمتهم في الداخل أو في الخارج — إلى قسمين: فالقسم الأول هم خدمة الداخل المسمى «أندرون» من مماليك البيضان وطواشية السودان المحافظين على الحريم، وكبيرهم آغا دار السعادة، ويُسمى أيضًا آغا البنات «قيزلر آغاسي»، ثم آغا البستانيين «بستانجي باشي» المكلَّفين بزرع البساتين والجنان، وآغا الرسل الموصِّلين للأخبار، وآغا المحافظين على الأثواب والألبسة «أثوابجي باشي» و«القهوة جي باشي» و«الأبريقدار» و«السجادة جي باشي» … إلخ.

والقسم الثاني: هم خَدَمَة الخارج وأغوات «العرضى» مثل آغا الانكشاريَّة «يكيجري آغاسي» وآغا الصباهية «سباهي» وآغا الطوبجيَّة وهو «الطوبجي باشي» … إلخ، فهؤلاء الأغوات من خدمة الداخل وخدمة الخارج كلهم في درجة واحدة بمثابة حبال الخيمة، ولا فرق بينهم في التشريفات الرسميَّة والمعاشات والتعيينات، ولا في الاعتبار والمكانة عند الدولة، فالجاهل والعالم، والعبد المملوك والحر، ووضيع النسب وشريفه، ومجهول الأصل ومعروفه، والأبتر الخصيُّ وكامل الأعضاء؛ كلهم متساوون، لا تمييز بين «القهوة جي باشي» الذي لا تحتاج صناعته إلا لمعرفة طبخ القهوة وتقديمها، وبين «الطوبجي باشي» المتوقفة صناعته على معرفة الفنون العسكريَّة والمعارف الكثيرة، وهذا الذي حمل الشاعر المفلق الأمير شكيب على أن يقول أبياته المشهورة، ومنها:

وألفيت فيها أمَّة عربيَّة
يرى الترك منهم أمة الزنج أكرما

ولذا امتزجت الحياة البيتيَّة بالحياة الدوليَّة، والمسائل النسائيَّة بالمسائل السياسيَّة، وأشغال السراي السلطانيَّة بأشغال الباب العالي، وبين السراي والباب العالي وسط يقال له المابين؛ لأنه بين «الإندرون»؛ أي الداخل، وبين «البيرون»؛ أي الخارج. ويشتمل المابين على الكُتَّاب والقرناء والمصاحبين؛ وهم «المابينيَّة»، ويُعدُّون كلهم من أهل السراي وخدمتها.

فامتلأت السراي السلطانية بالأسرى من السراري الجركسيَّات والمماليك والطواشية، مع أن الشرع الإسلامي لا يبيح هذه العادة المستكرهة، قال شارح الدر: «وفي قطع الذكر من الأصل عمدًا قصاص.» ويندر فيهم وفي جميع خدمة الداخل من يتعلم القراءة فضلًا عن الكتابة؛ لأن فضيلة الواحد منهم أن يكون على الفطرة الأصلية فارغًا من العلوم والمعارف، لئلا يسوِّل له الشيطان أمرًا أو دسيسة سياسيَّة توجب انقلاب الملك؛ ولذا اختاروا الخدمة من قرى الأناضول البعيدة ومن ذوي السَّذاجة والغرارة، فإذا وُلدَ لأحد السلاطين العظام مولود تربَّى في حجر والدته الجركسيَّة على دلال السراري والأغوات إلى تمام السنة الثانية عشرة من عمره، ثم تُبدل تلك السراري بالحظايا؛ فيتخذ منهن حرمًا ينزوي بهن في أحد القصور، وتبقى الأغوات والمماليك على ما كانت عليه أيام صباه، وربما جاءه بحافظ يحفِّظه القرآن، ومعلم يعلِّمه مبادئ العلوم، ولكن أكبر معلم للإنسان هو البيئة التي يكون فيها، وكيف يتعلم المرء من دون أن يخرج من بيته ويحتكَّ بالعلماء ورجال الدولة؟! فيبقى وليُّ العهد على الحال ينتظر دوره في الملك، وهو محبوس في قصره، وعليه العيون والجواسيس لا يمكِّنون أحدًا من الدنوِّ إليه ولا المرور بجانب قصره، فضلًا عن محادثته في المسائل العلميَّة والسياسيَّة.

ومتى جاء دوره وجلس على السرير الملك سعى طواشية السودان ومماليك البيضان في وضعه تحت نفوذهم، وحرصوا على ألا يفلت من أيديهم، وفتشوا على أضعف نقطة في قلبه وأخلاقه، فلا يمضي عليهم كثير حتى يكتشفوها، فيستميلون قلبه إليهم من تلك النقطة، ويستفيدون منها لإنفاذ كلمتهم وجرِّ المنافع إليهم وإلى أصحابهم ومن كان من حزبهم وشيعتهم، فيتألف من خدمة القصر الملوكيِّ حزب قويٌّ يُسمَّى كامريلا Camarilla، وهي كلمة إسبانية معناها جماعة المتنفِّذين في قصر الملك، فيتداخلون في المسائل ويعارضون في السياسة ويستولون على الأمور، وإذا رأوا السلطان مال إلى صدرٍ أعظم أو وزيرٍ، انقضوا عليه وسلقوه بألسنتهم وافتروا عليه بإفكهم، ونسبوه للعجز والتقصير، وسعوا في تنزيل قدره وترذيله؛ لأجل وضعه تحت سيطرتهم؛ ولذا كان في الغالب للقهوة جي باشي والأثوابجي باشي والإبريقدار والسجادة جي باشي والبستانجي باشي، حتى البلطة جي باشي — وهو الحطَّاب؛ نفوذ كلمة ومكانة أكثر من الصدر والوزراء وبقيَّة رجال الدولة، ولا سيَّما في المسائل الماليَّة وجرِّ المنافع وتوظيف المنتسبين إليهم، ولم تزل رتبة آغا دار السعادة معادلة لرتبة الصدر الأعظم والخديو المعظَّم، ولهم بالفرنسيَّة لقب سون ألتس Son Altesse كأمراء الإفرنج وأبناء ملوكها العظام، ولم يزل أكثرنا متذكِّرًا نفوذ بهرام آغا وأمثاله.

شروع الدولة العليَّة بالإصلاح

لو استمرت أوروبا نائمة في ظلام القرون الوسطى لبقيت الدولة العليَّة سائرة في هذه الطريق العوجاء سير مملكة الصين، أو سلطنة المغرب الأقصى التي انحطَّت إلى درجة البداوة، بعد أن كان لها في العمران قدم راسخة، بسبب مهاجرة الأندلسيِّين إليها ومتاجرتهم في إفريقية الغربيَّة، ولكن أوروبا استيقظت من غفلتها في القرون الجديدة، وأوجدت هذه المدينة العجيبة التي بهرت العالم، وغيَّرت وجه الأرض باكتشافاتها واختراعاتها وعلومها وفنونها وآدابها، وتجاوزت دول أوستريا «النمسا» وروسيا والبندقيَّة إلى ممتلكات الدولة العليَّة، فأحسَّت بالضعف والانحطاط والتقهقر، وبدأت في الإصلاحات الجديدة من عهد السلطان مصطفى خان الثالث: فأحدثت الطوبخانة، وأنشأت معملًا لصنع المدافع، وأقبل السلطان سليم الثالث بهمَّة عالية وإقدام على القيام بالإصلاح، ورتَّب إدارة الطوبجيَّة والبحريَّة، وجلب المعلمين والمهندسين من أوروبا، وأحدث النظام الجديد، فاغتالته أيدي المنون بسبب هيجان الانكشاريَّة الذين فسدت أخلاقهم، وأصبحوا بلاءً مُبرمًا على الأمة والدولة، بعد أن كان لهم في الفتوحات العثمانيَّة شأن عظيم، ومفاخر كثيرة مسطورة في تاريخ أوروبا العسكري.

السلطان محمود الثاني

ثم جلس السلطان محمود الثاني وأزال غائلة الانكشارية، ونظم العساكر الجديدة، وأجرى من الإصلاحات ما هو مفصَّل في التاريخ العثمانيِّ، وأصاب الدولة العليَّة من الحوادث المهمة ما حملها على الاحتكاك بالدول الأوروبيَّة والدخول في ميدان سياستها مثل حروبها مع روسيا، واحتلال نابليون بونابرت لمصر وسوريا، وخروج محمد علي باشا، وحرب المورة، واستقلال اليونان، وحوادث جبل لبنان، وتدخلت أوروبا في شئون الدولة العليَّة باسم المحاماة عن المسيحيين: فروسيا تحامي عن الأمم السلافيَّة وجميع المتديِّنين بالمذهب الأرثوذكسيِّ، وفرنسا عن الكاثوليك، وإنجلترا عن مبشري البروتستانت، وكن جميعهن يحرِّضن المسيحيين من رعيَّة الدولة مقاومة الاستبداد، ويطالبن الباب العالي بإجراء الإصلاحات، ووضع القوانين والنظامات لمنع التعدِّي على النصارى، ولمساواتهم في الحقوق مع المسلمين، والباب العالي يجد الاستفادة من العداوة القديمة التي غرستها الحروب الصليبيَّة بين المسلمين والنصارى؛ أهونَ عليه من سوق العساكر وتكبُّد المصروفات الحربيَّة لتسكين الفتن وإخماد الثورات؛ وهكذا جرت المذابح، وارتُكبت الفظائع التي تقشعر الجلود من سماع وصفها، وعادت على الوطن بالويل والخراب: كمذابح الروم في حرب المورة، ومذابح لبنان في حادثة الشام، وكمذابح البلغار في حرب روسيا الأخيرة، وهي التي قام لها جلادستون وقعد، وأرغى وأزبد، على منبر الخطابة في مجلس العموم الإنجليزيِّ، وآخرها الفظائع الأرمنيَّة المعروفة، وهي نقطة سوداء في صحيفة التاريخ.

صدراة مصطفى رشدي باشا

إن الحوادث التي جرت قبل معاهدة باريس ساقت بعض رجال الدولة إلى تعلُّم اللغات الأوربيَّة، ولا سيَّما الفرنسيَّة؛ للوقوف على سياسة أوروبا ولتنظيم العساكر البريَّة والبحريَّة. وكان لأكثر المتعلمين نسبةٌ وتردد على مصر، التي شرعت بالإصلاحات على عهد محمد علي باشا؛ فنبغ من رجال الدولة مصطفى رشيد باشا السياسي الشهير، ابن مصطفى أفندي متولي وقف السلطان بايزيد، وكان مولده في الأستانة (١٢٤١ﻫ).

قرأ القرآن ومبادئ العلوم الإسلامية، وأجاد الخط وتعلم شيئًا من مبادئ اللغة الفرنسيَّة، ثم لازم نسيبه الصدر الأسبق اسبارطة علي باشا، وذهب إلى مصر مرارًا، وخالط رجالها، وتقلَّب في مناصب الدولة العليَّة، وفي سفارة باريس ولوندره، فأكمل تحصيل اللغة الفرنسيَّة، واطَّلع على دقائق السياسة وخوافيها، وكانت المسألة الشرقيَّة شاغلة وزارات أوروبا؛ بسبب اجتهاد روسيا في جميع كلمة الأمم السلافية، وطمعها في الاستيلاء على القسطنطينيَّة، وروسيا أكبر الدول الأوروبية وأكثرها نفوذًا وأشدُّها خطرًا على الموازنة السياسيَّة، فكانت الدول الأوروبيَّة — وفي مقدمتهن إنجلترا التي هي أحرص الدول على مقاومة السياسة الروسيَّة — تشوق الدولة العليَّة إلى القيام بالإصلاحات الجديدة لتستعيد قوتها السابقة فتحمي نفسها، وتكون لبقيَّة الدول سدًّا منيعًا أمام هجوم روسيا.

السلطان عبد المجيد

لمَّا جلس السلطان عبد المجيد خان (تموز/يوليو سنة ١٨٣٩) كان مصطفى رشيد باشا سفيرًا في لوندره، فعُيِّن ناظرًا للخارجيَّة وحضر إلى الأستانة، وكان له رأي ودخل كبير التنظيمات، وفي تشرين الثاني/نوفمبر من السنة المذكورة قرأ بحضور رجال الدولة وأعيانها وسفراء الدول الأجنبيَّة الخط الشريف السلطاني المعروف بالتنظيمات، وكانت قراءته في كلخانة — أي دار الورد — وهي من دوائر السراي القديمة — طوب قبو — التي بجانب جامع أياصوفيا؛ ولذا اشتهر بخط شريف كلخانة، وقد اشتمل على تأمين الرعيَّة على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وعلى قاعدة مطردة في استيفاء الأموال الأميريَّة، وعلى أخذ العسكر بالقرعة وتعيين مدة الخدمة، وإلغاء الامتيازات، وطرح التكاليف بنسبةٍ ما لكل واحد من الثروة، ومساواة الرعية أمام القانون، وإلغاء المصادرة و«الإنغاريَّة»؛ وهي الإجبار على العمل بلا أجرة وتُعرف بالسخرة، ونحو ذلك مما هو مدرج في هذا الفرمان المعروف بالتنظيمات.

فالدولة العليَّة إنما أصدرت هذه التنظيمات إرضاءً لأوروبا، ولا سيَّما إنجلترا. والأمة الإسلاميَّة لم تفهم معنى هذه التنظيمات ولا معنى تأمين الناس على الأرواح والأموال والأعراض، كأن الشريعة التي كانت دستور العمل تبيح التجاوز والتعدي على الأرواح والأموال والأعراض، وحاشاها من ذلك، فالبلاء لم يكن سببه فقدان القانون والشريعة حتى يزول بإصدار هذه التنظيمات، وإنما سببه الاستبداد المتسلِّط على كل قانون وشريعة، فالحريَّة التي منحتها التنظيمات لم تكن شيئًا مذكورًا بجانب الحريَّة التي منحها القرآن، لو زال الاستبداد والجهل المستوليان على أهله المسلمين، واجتهدوا في فهمه وتأويله على مقتضى نواميس المدينة الحاضرة، كما فعل أحرار العلماء، كالشيخ محمد عبده وغيره.

شرعت الدولة العليَّة في إجراء الأحكام المشار إليها في التنظيمات، وسنَّت قانونًا لأخذ العسكر جرى تطبيقه في بعض الإيالات، وأحدث في بعضها ثورة وعصيانًا كعصيان الأرناؤوط (١٨٤٤) الذي سكنه رشيد باشا نفسه، ثم باشرت في تنظيم المعارف وفتح المدارس في الأستانة، ونظمت محاكم التجارة المختلطة (١٨٤٦)، كما نظَّمت بعض دوائر الدولة وأقلامها، فكان مصطفى رشيد باشا — الذي تولى مسند الصدارة العظمى ست مرات، وتوفي سنة ١٢٧٤ﻫ/١٨٥٨م — مصدر هذه الإصلاحات، بسبب وقوفه على الأفكار الجديدة، ومعرفته اللغة الفرنسيَّة والأدبيَّات العثمانيَّة، وهو أول من أفرغ الكتابة التركيَّة في قالب سهل سلس، بعد أن كادت تكون غير مفهومة عند الجميع، لكثرة ما فيها من التعقيد والتشبيهات الغامضة والألفاظ والتراكيب اللغويَّة من فارسيَّة وعربيَّة، ونشأ في عهده وتحت ظله الشاعر الشهير إبراهيم شناسي أفندي موجد الأدب العثماني الجديد، حصَّل العلوم العربيَّة واللغة الفرنسيَّة، وذهب إلى باريس فاطَّلع فيها على آداب الطريقة المدرسيَّة، ونسج على منوال راسين ولافونتين، وأدخل في الأدب التركي التعقُّل المشروط في الطريقة المدرسيَّة، كما فصَّلنا ذلك في كتابنا «تاريخ علم الأدب».

وكان الأدب التركي كله خيالات ومبالغات أعجميَّة، قلما يجد الإنسان فيه حكمة وتعقلًا، وديوان شناسي صغير الحجم، ولكنه أنموذج للأدب الجديد، وأكثر قصائده في مدح مصطفى رشيد باشا، وأنشأ شناسي جريدة تركيَّة سماها «تصوير الأفكار»، وحرَّر فيها المقالات السياسيَّة والتاريخيَّة والأدبيَّة بقلم سهل سلس مفهوم، وطبع ديوانه مع منتجات «تصوير الأفكار» ثانية في مطبعة أبي الضيا توفيق بك، وكانت وفاة شناسي في سنة ١٢٨٨ قبل بلوغه سن الشيخوخة والوظائف العالية.

عالي باشا وفؤاد باشا

ظهرت فئة قليلة من المتعلمين على النسق الجديد، واقتفوا أثر مصطفى رشيد باشا، ونبغ منهم اثنان شهيران خلَّد التاريخ ذكرهما، وهما: السيد أمين عالي باشا وفؤاد باشا، ومولدهما في سنة ١٢٣٠ﻫ؛ والأول: ابن مصر جارشيلي علي رضا أفندي؛ أي المنسوب إلى سوق مصر، وهو سوق العطَّارين. والثاني: ابن الشاعر الشهير كجه جي زادة عزت ملا الذي نُفي للأناضول في زمن السلطان محمود خان ومات في منفاه، فتعلَّم أمين مبادئ العلم وإجادة الخط وقرأ الفرنسيَّة على معلِّم مخصوص، ودخل قلم الديوان الهمايوني في الخامسة عشرة من عمره.

وكان من عادة رؤساء القلم تسمية كل داخل باسم يتميز به عن سميِّه، ولم يصطلحوا كالعرب والإفرنج على تسمية الولد باسم أبيه أو أسرته، وكان أمين قصير القامة فسُمِّي «عالي» تسمية بالضد؛ تفاؤلًا بعلوِّ همته، فذهب إلى أوروبا موظفًا في كتابة السفارات، وأتقن الفرنسيَّة، وانتسب إلى رشيد باشا، وامتاز في فنون السياسة والمعارف العصريَّة، وعُيِّن عضوًا في «أنجمن دانش»؛ أي مجلس المعارف المؤسَّس على نسق المجامع العلميَّة L’Academies في أوروبا، وكان عالي باشا يحسن الفرنسيَّة والتركيَّة كتابة وإنشاء، وتقلَّب في وظائف كثيرة مهمة، مثل السفارات والوزارات ومسند الصدارة العظمى. وأما فؤاد فدخل المكتب الطبي العسكري، وخرج جرَّاحًا في العسكريَّة، ثم دخل قلم الترجمة في الباب العالي، وتقلَّب في الوظائف السياسيَّة الداخليَّة والخارجيَّة، ورأس مجلس التنظيمات ومجلس الأحكام العدليَّة، وحضر إلى سوريا أيام حوادث لبنان، وكان إذ ذاك ناظرًا للخارجيَّة، ثم ذهب بمعيَّة السلطان عبد العزيز إلى معرض باريس سنة ١٨٦٧، ومرض فيها، وتُوفي في «نيس» من أعمال فرنسا وله من العمر ٥٥ سنة فقط، وكان في اللغة التركيَّة أديبًا شاعرًا، وضع مع جودت باشا «القواعد العثمانيَّة» التي لم يُؤلَّف للآن أحسن منها، وخلف الفريق كجة جي زادة عزت فؤاد باشا الكاتب الشهير.

فرشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا هم نوابغ السياسة العثمانيَّة، وواضعو الإصلاحات الجديدة بدلالة السفراء الأجانب؛ إرضاءً لدول أوروبا ولا سيما إنجلترا، ومماشاة لها لحرصها على تقوية الممالك العثمانيَّة لتتقي بها شر روسيا؛ فأمر هؤلاء النوابغ بترجمة القوانين والنظامات والتعليمات والأمور المدرجة في الدستور ترجمة حرفيَّة، ولم يجدوا لهم وقتًا لدرس احتياجات البلاد الداخليَّة والمدنيَّة الإسلاميَّة حق درسها، ولا لنشر الأفكار الجديدة بين المسلمين المفاخرين بسابق مجدهم ومتانة شرعهم؛ ولذا لاموا هؤلاء المصلحين ولم يرضوا عن أعمالهم، زاعمين أنها تئول إلى قلب البلاد وجعلها أفرنجية محضة؛ ولذلك كانت الأكثريَّة لحزب تركيا القديمة، ولم يكن من حزب تركيا الفتاة إلا فئة قليلة، درسوا العلوم الجديدة درسًا سطحيًّا، وبعضهم زار أوروبا مرة أو مرتين، ومع هذا وُفِّقَ حزب تركيا الفتاة لاستمالة أوروبا إليه، وأفلح في الحصول على اتفاق إنجلترا وفرنسا وساردينيا؛ أي إيطاليا، فحارب روسيا وانتصر عليها في حرب القرم، وعقد معاهدة باريس (٣٠ مارس سنة ١٨٥٦)، واعترفت أوروبا بمقتضاها بتمام ملكيَّة الدولة العثمانيَّة واستقلالها، ومنع أيَّة دولة من المداخلة في أمورها الداخليَّة، وصدر خط شريف ثان في ذلك التاريخ أيضًا مؤيد لخط كلخانة، وهو يشتمل على حريَّة الأهالي ومساواتهم في الحقوق والمعاملات، ثم جلس السلطان عبد العزيز خان سنة ١٨٦١، وأصدر فرمان الإصلاحات، ولكن هذه الفرمانات والخطوط الشريفة السلطانيَّة لم تمنع سوء الاستعمال والاستبداد الذي في إدارة الدولة تمامًا، بل بقي الارتكاب والظلم والاستبداد على ما كان عليه سابقًا، لعدم إصلاحهم السراي السلطانيَّة، كما أصلحوا وجاق الانكشاريَّة والصباهية وقلبوهما إلى النظام الجديد.

حزب تركيا الفتاة

أول مؤسس لحزب تركيا الفتاة هو مصطفى فاضل باشا ابن إبراهيم باشا المصري، ثم صهره خليل شريف باشا. وُلدَ مصطفى فاضل في القاهرة سنة ١٨٣٠م، وحصل العلوم الجديدة حتى صار على جانب من العرفان والاضطلاع والوقوف على دقائق الأمور، فخدم في مصر، وبعد جلوس السلطان عبد العزيز بسنة عُيِّن ناظرًا للمعارف في الأستانة، ثم ناظرًا للماليَّة، وأجرى فيها عدة إصلاحات، وكان ميكروب الاقتراض قد تفشَّى في هذه النظارة، وأحدث بلاء القوائم النقديَّة، حتى بلغت الديون ما بلغته؛ فأثقلت كاهل الأمة، وكان الصدر الأعظم إذ ذاك يوسف كامل باشا صهر والي مصر محمد علي باشا، ومترجم تليماك للتركية الترجمة الأولى العويصة، وكان عالي باشا في نظارة الخارجية، وفؤاد باشا في رياسة مجلس الأحكام العدليَّة، ثم في نظارة الحربيَّة، وأدخل فيها حسين عوني باشا العدو الألد لعمر باشا المجري، وكان فؤاد باشا انتدب حكمًا لفصل الخلاف الحادث بين مصطفى فاضل وإخوته على تقسيم ميراث أبيهم؛ فحصل بينهما موجدة وعداوة، فلما تولى فؤاد باشا الصدارة تسبب في عزل مصطفى فاضل من نظارة المالية مع ما لَه من الخِدَم والإصلاحات المفيدة، فشقَّ ذلك على مصطفى فاضل وقدَّم للسلطان عبد العزيز خان لائحته الشهيرة التي شدَّد فيها النكير على الاستبداد، وكشف الغطاء عن عورات الدولة، وبيَّن أسباب الضعف والانحطاط وسوء الاستعمال بحريَّةٍ لم يعتدها رجال المابين ولا سمعوا بمثلها قبل ذلك، ثم هاجر إلى باريس سنة ١٨٦٥، ولحقت به فئة من الشبان، فأكرم مثواهم وأنفق على تعليمهم، ونبغ منهم كثيرون في الأدب والكتابة والسياسة. حدثني أحدهم قال: كنا في باريس في عيشة راضية، لا يهتمُّ الواحد منا بأمر معايشه، فإذا فرغ من الدرس والتحقيق والمشاهدة عاد إلى منزله، فوجد ما يحتاج إليه من الطعام والمنام، بخلاف أحرار هذا الزمان الذين قاسوا أشد العذاب في أمر معايشهم.

فاشتغلت النابتة الجديدة بفنون الأدب وعلوم التاريخ والسياسة والصناعات النفسيَّة، فنظموا الشعر وألَّفوا القصص ونشروا المقالات في الجرائد، ونبغ منهم نامق كمال بك شاعر النشأة الجديدة وأديبها وموجِد الأدب الجديد العثماني، وُلدَ في الأستانة سنة ١٢٥٠ﻫ، وقرأ في المكاتب، وتعلَّم الفرنسيَّة، وصارت له مهارة زائدة في الإنشاء الذي نشر به مقالاته السياسيَّة في الجرائد بأسلوب مستحدث طريف هو من السهل الممتنع، وأشعاره على نسق أشعار فيكتور هوجو في طلب الحرية وتدبير المملكة وإصلاح شئون الحكومة، وله مؤلفات كثيرة، منها التاريخ العثماني الذي لم يُطبع، وقصة وطن أو سليستره التي تمثل اليوم في الأستانة وسلانيك بعد حدوث الانقلاب، وتُوفي نامق كمال بك وهو متصرف في جزيرة ساقز سنة ١٣٠٥ﻫ، ومنهم ضيا باشا الأديب الشاعر، وسعد الله باشا سفير ڨيينا الأسبق مترجم قصيدة لامارتين التي عنوانها «البحيرة»، وله أشعار عصريَّة رائعة، ومنهم أبو الضيا توفيق بك الذي أصلح حروف الطبع وكتب الخط الكوفيَّ، وطبع الكتب والرسائل والمجموعات بصنعة بديعة عجيبة لم تبلغها إلى الآن مطابع الشرق ولا مطابع أوروبا الشرقيَّة، وعبد الحق حامد بك سفير بروكسل وصاحب قصة طارق بن زياد، وكثيرٌ غيرهم من الكُتَّاب والأدباء أنصار حزب تركيا الفتاة الذي أسَّسهُ مصطفى فاضل باشا، ثم صهره خليل باشا الذي جاء من مصر إلى الأستانة، وتوظف في نظارة الخارجيَّة بسبب معرفته الفرنسيَّة، وصار سفيرًا في باريس وغيرها وناظرًا للخارجية، وتزوج بأكبر بنات مصطفى فاضل باشا، وهي الأميرة الشهيرة نازلي هانم، التي اقتفت أثر والدها وزوجها الأول في تعضيد حزب تركيا الفتاة، وساعدته بالمال والجاه هي وشقيقها الأمير محمد علي باشا.

لائحة فاضل باشا للسلطان عبد العزيز

لخَّص مصطفى فاضل باشا سياسة تركيا الفتاة في اللائحة المذكورة التي قدَّمها إلى السلطان عبد العزيز خان، وقال فيها:

تتصوَّر أوروبا أن المسيحيين وحدهم في تركيا خاضعون للمعاملات الاستبداديَّة، ولاحتمال أنواع الأذى والتحقير المتولِّد من الظلم، وليس الأمر كذلك، فإن المسلمين ربمَّا كان الظلم والعسف أشد وطأة عليهم، وهم أكثر انحناءً تحت نير العبوديَّة من المسيحيين؛ لأن المسلمين ليس وراءهم دولة أجنبيَّة تتحيَّز لهم وتحامي عنهم، فرعايا جلالتكم من جميع المذاهب مقسومون إلى صنفين؛ هما الظالمون ظلمًا لا حدَّ له، والمظلومون بلا شفقة ولا مرحمة، والأوَّلون يجدون في الحكومة المطلقة غير المقيدة التي تستعملها جلالتكم والتي اغتصبوها؛ إغراءً وتشويقًا إلى جميع الرذائل، وأما الآخرون فتفسد أخلاقهم أيضًا بعلاقاتهم الضارة مع سادتهم، وبما أنهم مجبرون على الخضوع دائمًا للشهوات الرذيلة، ولا يستطيعون إيصال شكاياتهم الصحيحة إلى أعتاب سدتكم الملوكية؛ لأن ظلَّامهم يرون هذه الاستغاثة — مع الاحترام — بحكومة جلالتكم من أكبر المفاسد؛ فاعتادوا على دناءة الأخلاق التي لا يمكن تصوُّرها.

وإنما الأممُ الأخلاق ما بقيت
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فهذه الأصول الاستبداديَّة التي كان أعداء الإصلاح من حزب تركيا القديمة يريدون المحافظة عليها، ويعدُّون التمسك بها من الغيرة الدينيَّة والحميَّة الوطنيَّة، والإسلام والوطنيَّة بريئان منها للأسباب المشروحة فيما مرَّ، فحزب تركيا الفتاة يمكننا أن نعتبر وجوده منذ تولي مصطفى فاضل باشا نظارة المعارف (١٨٦٢م) وهاجر إلى باريس (١٨٦٥–١٨٦٧م)، وأنصار هذا الحزب هم جميع المطَّلعين على الكتب الفرنسيَّة وأدب الطريقة المدرسية أو على ما تُرجم بالتركية، والذي أطلق عليه هذا الاسم هم الفرنسيُّون فقالوا: «جون تركي» كما يقولون: «جون فرانس – جون ألمانيا – جون إيطالي» فترجم بتركيا الفتاة، وقيل بالتركية: «كنج تركلر»، ولذا قال هانوتو: إن تركيا الفتاة من اللغة الفرنسية، وقد جُوزيَ مصطفى فاضل باشا على جرأته بمصادرة أمواله، ثم أُعيدت إليه بوساطة بعض الأجانب، ولكنة حُرمَ من ميراث الخديوية هو وحليم باشا؛ بسبب صدور الفرمان السلطاني بانتقالها إلى أكبر أولاد المالك، وهو إذ ذاك إسماعيل باشا، وصار مسند الخديوية ينتقل من الوالد إلى ولده، بعد أن كان ينتقل إلى الأكبر فالأكبر من الأسرة، كما هي القاعدة التقليدية في جميع الممالك الإسلامية، لما علمت أن الإسلام ليس فيه ملك موروث.

وفي سنة ١٢٧٨ﻫ و١٨٧١م أصيبت المملكة العثمانية بوفاة أشهر قوادها عمر باشا، وأشهر ساستها الصدر الأعظم عالي باشا؛ صاحب الأعمال الكثيرة في تنظيم إدارة الحكومة، ووضع ميزانيَّة للماليَّة، وتأسيس نظارة الداخلية والأوقاف ومجالس الدعاوى والتمييز، وتنظيم أصول المحاكمات واستعمال الأصول الإعشارية، وغير ذلك من الإصلاحات الداخلية والسياسية الخارجية، وترجمت القوانين والنظامات عن الفرنسية بلا نظر ولا معرفة بصالح البلاد واحتياجاتها فترجموا — مثلًا — قانون التجارة الفرنسي القديم، وأبقوا فيه مسائل النكاح والبائنة — الدوتة — واشتراك الزوجين بالأموال وعدمه، كما هو مختص بالأوروبيين ولا وجود له في الشرق، لا عند المسلمين ولا عند المسيحيين، وبعد وفاة عالي باشا تولى مسند الصدارة محمود نديم باشا، ومال إلى روسيا حتى سُميَ «نديموف» وبذَّر أموال الخزينة، وأصبح آلة في يد الجنرال أغناتيف سفير روسيا في الأستانة.

صدارة نديم باشا الأولى

محمود نديم باشا كان أبوه واليًا، فتربَّى في داره على الاستبداد والارتكاب، وعُيِّنَ واليًا كأبيه ثم ناظرًا للبحرية، وكان شديد التعصب للإدارة القديمة المستبدة.

كثير البغض للإصلاحات الجديدة والحريَّة، تقرَّب إلى السلطان عبد العزيز خان بالتملُّق، واستولى عليه من أضعف نقطة فيه وهي العظمة، فدسَّ له بأنه تحت وصاية فؤاد باشا وعالي باشا، مع أنه خليفة الله في الأرض، والقابض على رقاب خمسين مليونًا من الرعية الذين هم عبيد جلالته! وأن بيت المال هو حق من حقوقه، له أن يتصرف فيه حسبما شاء وأراد! وكانت الميزانية المالية وضعت في أيام عالي باشا وفؤاد باشا، وحدِّدت فيها مصروفات المابين، فانقلبت أحوال السلطان عبد العزيز خان في صدارة محمود نديم، واستبد بالأمر، وأبعد عن الوظائف الملكية والعسكرية الرجال الذين تخيَّرهم عالي باشا ودربهم وعلمهم حتى كانوا من خيرة الموظفين، واستبدل بهم المرتكبين، وكَثُرَ تحويل الوظائف والعزل والنصب والترقي في جميع الوظائف الملكية والعسكرية، حتى كان الضابط يرتقي إلى المراتب العُلى في أقرب وقت، ويصبح مشيرًا بعد أن كان من قبل ضابطًا صغيرًا، وزاد الإسراف والتبذير ببناء السرايات التي لا لزوم لها وإنشاء الأسطول الذي صار أثرًا بعد عين، كما زاد الانهماك في الملذَّات والشهوات، وكانت أوروبا وصيارفة الأستانة تقرض الأموال بالربا الفاحش والديون تتراكم على الدولة، والمكلَّفون بأدائها هم فقراء الرعية من أصحاب الأعشار والأغنام يؤدونها من كدِّ اليمين وعرق الجبين.

ومن الغلطات السياسية في صدارة محمود نديم باشا، إصدار الفرمان بفصل الكنيسة البلغارية عن الكنيسة الرومية، وتعيين أكسارخوس للبلغار مستقلًّا عن بطريرك الروم في القسطنطينيَّة، وكان ذلك بمساعي الجنرال أغناتيف حبيب محمود نديموف باشا للتوصيل إلى أحداث دولة للبلغار، مع أن الباب العالي كان يعتبر جميع هذه الأمم الصغيرة — كالبلغار والصرف والأفلاخ والبغدان والجبل الأسود والهرسك روما — تابعين لبطاركة القسطنطينية؛ لاشتراكهم جميعًا في الدين الأرثوذوكسي، ومن الغلطات المالية أيضًا، إعطاء المثرى النمسوي اليهودي الشهير — وهو البارون هرش — امتيازًا بسكة حديد الروم إيلي المعروفة بسكك الحديد الشرقية، وإضرار الخزينة والأمة من وراء ذلك ضررًا كبيرًا، وفي أثناء ذلك ظهر مدحت باشا في مسند الصدارة.

صدارة مدحت باشا الأولى

وُلدَ مدحت باشا في القسطنطينيَّة سنة ١٨٢٢م، ووالده حاج علي أفندي، أصله من روسجق التي كانت مركز ولاية الطونة «بلغارستان» على ضفة نهر الطونة «الدانوب» اليمني، ولما كان من صغار الموظفين، لم يستطع تعليم ابنه غير مبادئ العلوم وحسن الخط، المعدود في ذلك الدور من أكبر العلوم وأعمها للدخول في الوظائف والترقي فيها، وأدخله على حداثة سنه قلم الصدارة فتخرَّج في أقلام الباب العالي، وتعلم بالمشاهدة والتجربة والاختبار، وعُيِّن مأمورًا في الولايات ومكث سنتين في دمشق الشام، وترقَّى إلى أن صار باشكاتب في مجلس «والا» وهو شورى الدولة، وذهب مرة ثانية إلى دمشق وحلب للتحقيق عن القبرصلي محمد باشا، ولفت باستعداده واجتهاده نظر رشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا ورفعت باشا ناظر الخارجية إليه، فأجلسه معه رفعت باشا ليسمع المحاورة التي دارت بينه وبين البرنس منجيكوف مندوب دولة روسيا، وذلك قبل حرب القرم، فاطَّلع مدحت باشا حينئذ على السياسة الخارجية.

وبعد وفاة رشيد باشا سنة ١٨٥٨م تولى الصدراة عالي باشا، فأذن لمدحت بالذهاب إلى أوروبا مدة ستة أشهر، فذهب إلى باريس ولوندره وبروكسل وڨيينا، وشاهد انتظام الإدارة ومحاسن المدينة والترقيات العصرية، ومازال يرتقي في الوظائف حتى صار واليًا على ولاية الطونة — بلغارستان الآن — فأجرى فيها إصلاحات كثيرة، وفتح مجلس الأيالة، وهو المجلس العمومي الذي فتحه راشد باشا في سوريا، ثم عُيِّن واليًا على ولاية بغداد ومشيرًا لعساكرها؛ فسكن عصيان نجد؛ فأهداه السلطان عبد العزيز خان سيفًا مكافأة له على خدماته، وإذ كان الصدر الأعظم محمود نديم باشا كثير العزل والنصب والتبديل، نقل مدحت باشا من ولاية بغداد إلى ولاية أدرنة، فمر بكرسي السلطنة وطلب مقابلة الحضرة السلطانيَّة، وأراها طرق الخلل وسوء الإدارة وعاقبة الأمر، فعزل محمود نديم من الصدارة وتولاها مدحت باشا، ولكنه لم يبقَ فيها إلا ثلاثة أشهر، وكان سبب عزله — على ما رُوي — أن إحدى سراري القصر بعثت إليه مع الطواشي طالبةً تعيين أحد خدامها قائمقام في أحد الأقضية؛ فأجابه مدحت: «سلِّم على الخانم وقل لها أن تلتمس هي بنفسها من أفندينا ذلك.» واشتدَّ غضبه من مداخلة السراري وتتابع رجائهن.

صدارة نديم باشا الثانية

كَثُر تبديل الصدور بعد عزل مدحت حتى بلغوا نحو العشرة في خلال سنة أو خمسة عشر شهرًا، ثم عاد إلى الصدارة محمود نديم باشا، وكان العَود غير أحمد، فزاد الارتكاب، وبيعت الرتب والنياشين، كما بيعت الوظائف بالمزاودة، بحيث أصبح يحتجنها الذي يزيد في الثمن، واختلت الموازنة المالية، حتى قضت بإعلان الإفلاس في ٥ تشرين الأول/أكتوبر سنة ١٨٧٥، وطمع العدو في البلاد، فأوجب ذلك هيجان تركيا الفتاة وعقلاء الأمة، وكان التجسس غير معروف في ذلك الوقت، وكان للجرائد حرية في الكتابة والانتقاد، فشرعت جريدة «وقت» التركيَّة في نشر الحكايات والأساطير عن ملوك الصين، واستنتاج الأمثال والمواعظ من انقراض ملكهم، والتعريض بذلك لوزارة محمود نديم باشا، وأخذ فريق من الناس يطوفون على المجالس والدواوين والأندية العامة، ويقصون أنواع المظالم والارتكاب وسوء الإدارة، فهاجت الأفكار العموميَّة ولا سيما الصوفتاوات؛ وهم طلاب العلوم الدينيَّة البالغ عددهم في جوامع الأستانة نحو خمسة عشر إلى عشرين ألف طالب.

هياج الصوفتاوات وصدارة رشدي باشا

اجتمع من هؤلاء الطلاب زهاء خمسة أو ستة آلاف طالب، وهجموا على الباب العالي في ٢٢ مايس/مايو سنة ١٨٧٦، وذهب آلاف منهم إلى سراي طولمه باغجه مقر السلطان عبد العزيز، فشكوا إليه، طالبين عزل محمود نديم وتولية محمد رشدي باشا، فأجيبوا إلى ذلك، وصدرت الإرادة السنيَّة بتشكيل الوزارة، وتولية محمد رشدي باشا الصدارة، وحسين عوني السرعسكرية، وقيصر لي أحمد باشا نظارة البحرية، وراشد باشا الذي كان واليًا على سوريا نظارة الخارجية، وخير الله أفندي مشيخة الإسلام.

خلع السلطان عبد العزيز

كان حزب مدحت باشا من الأحرار مؤلفًا من نامق كمال بك، وضيا بك، ورؤوف بك، وإسماعيل بك، وهؤلاء لم يرتقوا إلى رتبة الباشويَّة، وأما الذين ارتقوا منهم إلى هذه الرتبة بعد ذلك فهم: حسن فهمي باشا، وشاكر باشا، وسعد الله باشا، ورائف باشا، ورفعت باشا. وكانوا من الوزراء، فلما تولى حزب تركيا الفتاة زمام الأمر، واستولى على المالية، والقوة البرية والبحرية والشرعية؛ خلعوا السلطان عبد العزيز في ١٧ جمادى الأولى سنة ١٢٩٣ و٣٠ مايس/مايو سنة ١٨٧٦ بفتوى من شيخ الإسلام، وأجلسوا ابن أخيه السلطان مراد خان، ففرح به الناس واستبشروا، وكان السير هنري إليوت سفير إنجلترا أشد السفراء سرورًا، والجنرال أغناتيف سفير روسيا أكثرهم غمًّا، وهو حبيب محمود نديم باشا والمشير عليه بتلك السياسة العوجاء، ونقل السلطان عبد العزيز سراي طولمه باغجه إلى سراي طوب قبو المقابلة لها على ساحل البحر، ثم نقل بناءً على طلبه إلى سراي جراغان المجاورة لطولمه باغجه على ساحل المضيق «البوغاز»، وبعد خمسة أيام وقع الاغتيال، واختُلف فيه؛ هل كان بطريق الانتحار أو القتل عمدًا، فإن الذين كشفوا على الجثة وجدوها في الطبقة السفلى من السراي على سجادة بقرب الباب، ففي إنزالها من الطبقة العليا المُعَدَّة للسكنى إلى الطبقة السفلى شبهة، وعلى فرض ثبوت الجناية: فمن عساه يكون المتهم بها؟ هل حريم السراي وطواشيتها الذين تكثر بينهم الدسائس ويصعب التحقيق؟ أو مدحت باشا وحزبه الذين لا مأرب لهم بذلك؟ وقد توصلوا إلى مأربهم بدون إراقة دم، واستحقوا إجلال العالم لهم من عثمانيين وأوروبيين، وهم أعقل وأدهى من أن يلوثوا عملهم العظيم بدم جناية ودسيسة مثل هذه!

حادثة الجركس حسن بك وخلع السلطان مراد

ثم حدثت مسألة الجركس حسن بك ياور السلطان عبد العزيز، فإنه دخل دار مدحت باشا والوزراء مجتمعون فيها، وقتل السرعسكر وراشد باشا ناظرًا الخارجة ووالي سوريا قبلًا وأحمد آغا الخادم، وخرج ناظر البحرية وبعض الياورية الحاضرين، فأثرت هذه الحوادث في السلطان مراد وأدت إلى احتلال شعوره؛ فخُلع بعد ثلاثة أشهر وثلاثة أيام من جلوسه.

جلوس السلطان عبد الحميد

جلس على سرير الملك جلالة مولانا السلطان عبد الحميد خان الثاني، بعد أن اشترط مدحت باشا وحزبه ثلاثة شروط: (١) إعلان القانون الأساسي. (٢) استشارة الوزراء وجعلهم مسئولين وحدهم في أمور الدولة. (٣) تعيين ضيا بك وكمال بك كاتبين خاصين للمابين، وسعد الله بك باشكاتب؛ لأنهم من الأحرار الحريصين على تنفيذ أحكام القانون الأساسي، والأوَّلون ممن قاموا بتسويده وتنميقه، فلم يعمل بهذه الشروط وتعين الداماد محمود جلال الدين باشا مشيرًا للمابين، وإنجليز سعيد باشا رئيسًا للياورية، وكجوك سعيد باشا الصدر الأسبق في هذه الآونة، وكان سعيد بك باشكاتب للمابين.

مؤتمر الأستانة وإعلان القانون الأساسي وصدارة مدحت باشا الثانية

كانت بلاد البلقان في اختلال وهيجان بسبب قيام الهرسك والصرب والجبل الأسود والبلغار وتأففهم من الظلم والاستعباد، ومطالبتهم بالاستقلال، وتمسك كل منهم بقوميته وأدب لغته، بعد أن كان الدين المسيحيُّ الأرثوذكسيُّ يجمعهم تحت سلطة بطريرك القسطنطينية، وكانت أوروبا تطالب الدولة العليَّة بإجراء الإصلاحات، والعناية بالمسيحيين التابعين لها ووقايتهم من الظلم والاعتساف، فتقرر عقد مؤتمر Conference في الأستانة العليَّة لاتخاذ التدابير اللازمة لتسكين البلاد وإصلاحها، وكان المؤتمر مؤلفًا من أحد عشر مندوبًا: منهم اثنان من إنجلترا؛ وهما سفيرها السير هنري إليوت، واللورد سالسبوري، واثنان من فرنسا، واثنان من أوستريا «النمسا»، وواحد من روسيا وهو الجنرال أغناتيف، وواحد من إيطاليا، وواحد من ألمانيا، واثنان من قبل الدولة العليَّة؛ وهما صفوت باشا وأدهم باشا. فعقدوا جلستهم الأولى في ٢٣ كانون الأول/ديسمبر سنة ١٨٧٦ في دائرة الترسانة «معمل الأسلحة» التي على خليج دار السعادة من جهة غلطه، ولم يكد يتم افتتاح المؤتمر إلا وقد سمعوا أصوات المدافع، فوقف صفوت باشا قائلًا: أيها السادة إن أصوات المدافع التي تسمعونها هي دلالة على إعلان القانون الأساسي من قبل جلالة سلطاننا الأعظم، وهذا القانون متكفِّل بالحقوق والحرية لجميع رعايا المملكة العثمانية بلا استثناء، وقد حصل بذلك المقصود من عقد المؤتمر، فأصبح انعقاده وعمله من قبيل العبثيَّات.

فبُهت القوم وانفضَّت الجلسة، وقد أعلن القانون الأساسي حقيقة في ذلك اليوم، وأطلق لدى إعلانه مائة مدفع ومدفع في جميع المدن والممالك العثمانيَّة ذات القلاع، وكان مدحت باشا هو روح هذا الانقلاب العظيم، وهو القابض على زمام الأمر في الحقيقة منذ خلع السلطان عبد العزيز، وإن لم يكن «صدر أعظم»، وكان الصدر الأعظم إذ ذاك محمد رشدي باشا شيخًا مسنًّا منقادًا له ولحزب تركيا الفتاة، وبعد جلوس السلطان عبد الحميد خان الثاني استقال محمد رشدي باشا لشيخوخته، وتولى الصدارة العظمى مدحت باشا، وهي صدارته الثانية.

لم يرضَ الجنرال أغناتيف بهذه الإصلاحات، بل أصرَّ على بقاء انعقاد المؤتمر، فداوم أعماله وقدَّم لائحة إلى الباب العالي في ١٥ كانون الثاني/يناير سنة ١٨٧٧، وطلب الجواب عنها في خلال ثمانية أيام، فكانت من قبيل البلاغ النهائيِّ Ultimatum.

عقد المجلس العالي ورفضه لائحة مؤتمر الأستانة

عقد الصدر الأعظم مدحت باشا مجلسًا عاليًا مؤلفًا من الوزراء والمشيرين ورجال الدولة والرؤساء الروحيين وأعيان المسلمين والمسيحيين واليهود، وعرض عليهم لائحة المؤتمر، وأفهمهم مطالب الدول الأوروبية، وأن ردها يؤدي إلى الحرب، فتشاوروا بكمال الحرية وأبدى كل منهم رأيه، فقال رؤوف بك ابن رفعت باشا ناظر الخارجيَّة الأسبق إذ ذاك: الحرب كداء الحُمَّى يمكن أن ننجو منه، ولكن لائحة المؤتمر كداء السُّلِّ الرئوي عاقبته القبر لا محالة، وقال صاوا باشا من خطبة طويلة: إننا نختار الموت على إهانة شرفنا. وألقى وكيل بطريرك الأرمن الكاثوليك مقالة طويلة في رد اقتراحات المؤتمر، فرفض المجلس قبولها بالاتفاق، وظهر من هذا الاجتماع ائتلاف المسلمين والمسيحيين واليهود، واتفاقهم واتحادهم على محبة الوطن وترقِّيه والغيرة على منافعه، وكان الروم والأرمن الكاثوليك أشدهم حماسة، حتى إن الروم عزموا على تشكيل فرقة متطوعة لمحاربة الصرب مع العساكر العثمانية؛ لأن استقلال الأمم البلقانية من الصرب والجبل الأسود والبلغار مضرٌّ بمصالح الروم لانفصالهم عن الكنيسة الأرثوذكسيَّة، التي هي تحت رياسة بطريرك الروم في القسطنطينية، ورفضهم استعمال اللغة والأدبيات اليونانية، فبناء على جميع ذلك أجاب الباب العالي في ٢٠ كانون الثاني/يناير برفض مطالب الدول المذكورة في لائحتهن، فانفضَّ مؤتمر الأستانة وغادرها المندوبون والسفراء، دلالة على قطع العلاقات بين أوروبا والباب العالي.

تغلُّب حزب التقهقر وكتاب مدحت للسلطان

كان الحزب المخالف للقانون الأساسي يسعى في التخلص من هذا القانون، فبعد تعيين مدحت باشا في الصدارة انعقد مجلس الوكلاء برياسته في دار الداماد محمود جلال الدين باشا، وتذاكروا في القانون الأساسي، فارتأى أحمد جودت باشا ناظر العدليَّة — الحقانيَّة — تأجيل هذا القانون لعدم الحاجة إليه (؟) بسبب جلوس السلطان الحالي! وكان أحمد جودت باشا من المنتسبين إلى الداماد محمود جلال الدين، ومن كبار العلماء والمؤرِّخين، ولكن ارتشاءه مشهور في الأستانة والولايات، وإعلان القانون الأساسيِّ يسدُّ على المرتشين باب الارتكاب، فبإصرار مدحت باشا وحزبه — مثل ضيا بك وكمال بك وغيرهم من الأحرار الذين مرَّ ذكرهم وبجريدتي «وقت» و«استقبال» والمقالات الشائقة المحررة فيهما — صدر الخط الشريف السلطاني إلى مدحت باشا بإعلان القانون الأساسي، وحمله الباشكاتب سعيد بك إلى الباب العالي، وتُلي في الميدان الواسع الذي أمام الباب بحضور جماهير الناس، وبعد تلاوته خطب مدحت باشا في الموضوع، وتلا الدعاء فوزي أفندي مفتي أدرنة وأمَّن الناسُ.

وما زال مدحت باشا يُلحُّ في طلب اجتماع المبعوثان، ويجتهد في تأليفه من الأحرار، والمابين يؤخر ذلك ويفرق جميع الأحرار، حتى إنه أراد تعيين ضيا بك مسوِّد القانون الأساسيِّ سفيرًا في برلين؛ لئلا يُنتخب مبعوثًا عن أهل الأستانة، فضاق صدر مدحت باشا من التأخير والمحاولة، وكتب إلى الذات الشاهانية مباشرة: «لم يكن غرضنا من إعلان القانون الأساسيِّ إلَّا محو الاستبداد، وتعيين ما لجلالتكم من الحقوق وما عليها من الواجبات، وتعيين وظائف الوكلاء ومسئوليتهم، وتأمين جميع الناس على حريتهم، حتى ترتقي البلاد في معارج الارتقاء»، إلى أن قال: «وإني لكثير الاحترام لشخص جلالتكم، ولكن الشرع الشريف يوجب عليَّ ألَّا أطيع أموركم «أوامركم» إذا لم تكن موافقة لمنافع الأمة»، ونحو ذلك مما لم يُسمع بمثله إلا من مصطفى فاضل باشا كما تقدم. وبالحقيقة أن أحكام الشريعة الإسلامية وفتاوى الفقهاء في هذا الصدد لا تترك أدنى شك ولا ريب؛ لأن السلطان — بحكم الشرع — ليس مطلق الحرية، ولا مطلق التصرف في أموال الناس ومنافعهم، وإنما هو في جميع ذلك مقيَّد بالأحكام الشرعية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فالحكومة المطلقة التي درجت عليها الدول والإمارات وتوارثتها من عهد معاوية، لا وجود لها على التحقيق في الدين الإسلامي.

عزل مدحت باشا ونفيه وصدارة أدهم باشا

عُزل مدحت باشا ونُفيَ على الباخرة «عز الدين» إلى إيطاليا، ووُجهت الصدارة العظمى إلى أدهم باشا والد حمدي بك وخليل بك مديري دار العاديات «الموزة خانة»، وعُين جودت باشا للداخلية، وأحمد وفيق أفندي لرياسة مجلس المبعوثان مؤقتًا؛ لأن انتخاب الرئيس مُبيَّن في المادة السابعة والسبعين من القانون الأساسيِّ.

بعد خروج السفراء ومندوبي الدول من الأستانة العليَّة، بعث البرنس غورجقوف ناظر خارجية روسيا إلى الدول بمنشور مؤرخ في ٣١ كانون الثاني/يناير يطلب فيه مداخلتهن بالاشتراك لإجراء الإصلاح في الممالك العثمانية (!) وإلا اضطُر القيصر وحده إلى اتخاذ التدابير اللازمة في هذه المسألة، وأرسل الجنرال أغناتيف إلى أوروبا يقول: بما أن الباب العالي بدأ يخلُّ بمعاهدة باريس، فتمام استقلال تركيا المشروط في تلك المعاهدة أصبح واهيًا لاغيًا، فترددت دول أوروبا ولا سيَّما إنجلترا في قبول هذا الكلام.

انتخاب أعضاء مجلس المبعوثان

رأت الدولة العليَّة إصرار أوروبا على إصلاح الروم؛ فسارعت إلى انتخاب أعضاء المبعوثان، وتطبيق أحكام القانون الأساسي الذي نالت به الأمة العثمانية الحرية وحق الحكم، فلم يفقه الناس إذ ذاك معنى هذه الحرية ولا قدروها حق قدرها، فظنوا أن المبعوثين كبقية الموظفين يشتغلون بمصالح الأمة تحت سيطرة الوزراء والنظار، ليستفيدوا من الرواتب التي ينقدونها، فلم يُعنوا بأمر الانتخاب كما يجب. حدثني بعض أحرار الأستانة قال: كنا نحرِّض الناس على الانتخاب ونسوقهم إليه سوقًا، وهم يقولون: ألم يكفنا ما لدينا من المجالس والدوائر المشحونة بالموظفين، حتى نزيد عليها مجلسًا جديدًا ونتكبد القيام برواتب موظفيه؟! فإن لم يصلح حالنا وتنتظم إدارتنا بجميع ما نراه أمام أعيننا من النظارات والدوائر العظيمة المشتملة على الألوف من الموظفين؛ أتراه يصلح بمجلس المبعوثان؟

هذا ماكان يقال في قاعدة السلطنة ومقر الخلافة، فما بالك بمراكز الولايات والأولوية، إذ كان المنتخبون لا يوصون مبعوثيهم إلا بطلب الرتب والأوسمة والألقاب والمناصب والمخصصات والرواتب لهم ولأقاربهم وذويهم؟! ولمن لاذ بهم وحام حول حماهم، أو بإعفائهم من التكاليف الأميرية والخدمة العسكرية وتخفيف الضرائب والمكوس عنهم ونحو ذلك! مما يعود على الوطن بالخراب لا بالعمران، كأن خزينة الدولة كنز لا يفنى، تمطر عليه الأموال من رحمة الله بغير عدٍّ ولا حساب.

افتتاح مجلس المبعوثان وخطاب السلطان

افتتح المجلس العمومي المؤلف من الأعيان والمبعوثان في ٤ ربيع الأول سنة ١٢٩٤ و١٩ مارت/مارس سنة ١٨٧٧ في بهو الاستقبال الكبير في سراي طولمة باغجة بمحلة بشكطاش، وتُلي النطق السلطانيُّ أمام الحضرة السلطانيَّة وهو:

أيُّها الأعيان والمبعوثان

إنني أبدي الامتنان بافتتاح المجلس العمومي الذي اجتمع للمرة الأولى في دولتنا العليَّة، وجميعكم تعلمون أن ترقي عظمة واقتدار الدول والملل إنما هو قائم بالعدل، وأن ما انتشر في العالم من قوة دولتنا العلية وقدرتها في أوائل ظهورها كان من مراعاة العدل في سير الحكومة، ومراعاة حق ومنفعة كل صنف من صنوف الرعيَّة، وقد عرف العالم أجمع تلك المساعدات التي قام بها أحد أجدادنا العظام المرحوم السلطان محمد خان الفاتح في مطلب حرية الدِّين والمذاهب، وجميع أسلافنا العظام أيضًا قد سلكوا على هذا الأثر، فلم يقع في هذا المطلب خلل في وقت من الأوقات، ولا يُنكَر أن المحافظة على ألسنة صنوف رعيتنا وقوميتهم ومذاهبهم منذ ستمائة عام كانت النتيجة الطبيعية لهذه القضية العادلة. والحاصل بينا كانت ثروة الدولة والملة — الأمة — وسعادتها صاعدتين في مدراج الترقي في تلك الأعصار والأزمان بفضل حماية العدالة ووقاية القوانين؛ أخذنا بالانحطاط تدريجيًّا بسبب قلة الانقياد للشرع الشريف وللقوانين الموضوعية، وتبدلت تلك القوة بالضعف … إلخ.

ثم ذكر تنكيل السلطان محمود بالانكشاريَّة، وسبقه لفتح باب إدخال مدينة أوروبا الحاضرة إلى الممالك العثمانية واقتفاء السلطان عبد المجيد خان أثره، وإعلانه أساس التنظيمات الخيرية … إلخ النطق السلطاني المعروف.

قابل الجميع هذا النطق بالخضوع والركوع (!) وخُصص لاجتماع المبعوثين بهو كبير في سراي العدلية — الحقانيَّة — بالقرب من أياصوفيا تحت رياسة أحمد وفيق أفندي الذي صار بعد ذلك باشا، وعُين للرياسة بإدارة سنيَّة لا بالانتخابات؛ ولذا كان رقيبًا على مدحت باشا، وقد اتهمه حزب تركيا الفتاة بالاستبداد؛ لأن رياسة مجلس المبعوثان شبيهة بوظيفة رئيس الموسيقى المركبة من آلات كثيرة مختلفة، لكل آلة توقيع خاص، فعلى الرئيس أن يلاحظ موازنة الأنغام وائتلاف بعضها ببعض، لتخرج جميعها بصورة مقيدة وليس أن يأخذ آلة من الآلات الموسيقية ويضرب عليها ليوازن ما بينها.

مذاكرات مجلس المبعوثان

كانت الجلسة الأولى مخصصة للمذاكرة في العريضة التي ينبغي تقديمها من مجلس المبعوثان جوابًا عن النطق السلطاني، فحُررت مسوَّدة الجواب، وأسقط الكاتب منه كلمة «السنة» في الجواب عن فقرة «المحافظة منذ ستمائة عام على السنة»، المذكورة في النطق السلطاني، فقام أحد مبعوثي الروم من الأستانة، وقال ما محصله: «لا يمكننا أن نقبل إسقاط كلمة تدل على أثمن امتياز نلناه؛ لأن لساننا — نحن معشر الروم — هو ثروتنا، فمن سوء الفهم وقلة الأدب نحو جلالة سلطاننا الأعظم أن نمحو كلمة أثبتتها جلالته بنفسها وكررت منحنا ذلك من جديد.» فقال الرئيس: ليس بحثنا في ذلك؛ لأنَّا لا نعرف في هذا المجلس لسانًا غير اللسان العثماني الرسمي. فقال جمهور العثمانيين: «بك أعلى! بك أعلى!» — أي: حسن كثيرًا! حسن كثيرًا! فقام مبعوث أرمني وأيَّد كلام المبعوث الرومي، فقال الرئيس ثانية: ليس بحثنا في ذلك، ومع هذا فإني أسأل أعضاء المجلس عما إذا كانت آراؤهم موافقة لرأيي. فقال جمهور المبعوثين: «أڨت أفندم! أڨت أفندم!» — أي: نعم يا سيدي! نعم يا سيدي!

بروتوكول لوندره ورفضه

سُمي جمهور المبعوثين بعد ذلك «أڨت أفندم» لتصديقهم على كلام الرئيس من دون مناقشة ولا مباحثة، ولكن كان فيهم — والحق يقال — فئة عارفين بمصالح الدولة وطرق الإصلاح، جسورين على التكلم والدفاع عن حقوق الأمة والمناضلة في سبيل منافعها، غير أن الحال كانت ذات خطر شديد؛ لأن العدو كان يتأهَّب للحرب على الحدود، فأراد رئيس المجلس تحويل المذكرات إلى المسائل الخارجية، لأن مندوبي الدول الست الَّذين عقدوا مؤتمر الأستانة اجتمعوا في لوندره وليس للدولة العليَّة مندوب معهم، ووقَّعوا بتاريخ ٣١ مارت/مارس سنة ١٨٧٧ على «بروتوكول» — أي مضبطة — طلبوا فيها من الباب العالي عقد الصلح مع الجبل الأسود، والتفرغ له عن نحو عشرين ناحية من أملاك الدولة العلية لكون لسانهم سلافيًّا ودينهم مسيحيًّا! كما طلبوا إجراء الإصلاحات الموعود بها تحت مراقبة الدول وإشرافها وغير ذلك، وأبلغوا هذه المضبطة إلى الباب العالي في ٣ نيسان/أبريل سنة ١٨٧٧.

جاء ناظر الخارجية إلى مجلس المبعوثان، وقرأ على أعضائه ترجمة البروتوكول، وشرح لهم أحوال السياسة الخارجيَّة، وأفهمهم أن رد البروتوكول تكون نتيجة إعلان روسيا للحرب علينا، وليس للدولة العليَّة عضد من بقيَّة الدول كما كان لها في حرب القرم، ولا نقود في خزانتها، وكرَّر عليهم ما قاله مدحت باشا في المجلس العالي لدى مذاكراته في لائحة مؤتمر الأستانة، وكانت أكبر الصعوبات من العسرة الماليَّة، وشدة الاحتياج إلى التجهيزات العسكريَّة؛ فاعترض أكثر المبعوثين على قبول البروتوكول، وأظهروا من الحماسة والغيرة الوطنيَّة ما لا يزيد عليه، وكان مبعوثو الأرناؤوط المجاورة بلادهم للجبل الأسود أشدهم اعتراضًا، وقام مبعوث الأكراد فقال ما ملخصه: تزعمون أن الماليَّة في ضيق شديد؛ فكيف يمكننا تصديق ذلك، وأنتم في هذه البهرجة والألبسة الغالية والدور المفروشة بأحسن الأثاث والرياش والعربات والخيل المطهَّمة؟! تعالوا إلى عندنا في كردستان وانظروا بؤس العيش ومرارة الحياة التي نحن فيها! لمَّا كنت في بلادي لم يكن عليَّ إلا ألبسة مرقعة بالية كبقيَّة إخواني من أهالي كردستان، ولمَّا رأيتكم ترتدون أحسن الملابس وتتألق على صدوركم النياشين المجوهرة، خجلت من نفسي فاشتريت الثوب الذي ترونه عليَّ من سوق الدلَّالين! وأنا مرهق، لا من المخازن الكبيرة وأنا موسر، وإذا كانت سلامة الوطن والمحافظة عليه تقضي علي بيعه فأنا أبيعه وأنا مغبوط، وأعود إلى ثوبي المرقَّع.

ثم قال الرئيس في ختام المذاكرة: هل يقبل المجلس ما جاء في البروتوكول كل ملاحظات ناظر الخارجيَّة؟ فرفض المجلس قبوله بالأكثريَّة، وكانت الأقليَّة ثمانية عشر صوتًا من الروم المبعوثين عن الروم أيلي ومن الأرمن؛ فنظم الباب العالي نشرة مؤرَّخة في ٩ نيسان/أبريل سنة ١٨٧٧ احتجَّ فيها على بروتوكول لوندره المنظَّم بدون اطلاعه وانضمام رأيه، وقال: إن تكليف الباب العالي إجراء الأحكام على ما يقضي به هذا البروتوكول مخالف لاستقلال المملكة العثمانيَّة الذي أقرَّته الدول في معاهدة باريس، فقُرئت هذه النشرة على مجلس المبعوثان فاستحسنها وأقرَّها، وشكر الباب العالي على تنظيمها، فأجاب عنها البرنس جورجاقوف في بطرسبرج بنشرة رفعها إلى الدول في ١٩ نيسان/أبريل مضمونها: إن الباب العالي رفض إجراء الإصلاح الموعود به، فصارت الحرب ضروريَّة؛ لأن روسيا مضطرة إلى إيفاء واجباتها نحو الأهالي المسيحيين!

فأجاب الباب العالي بنشرة أخرى للدول قال فيها: إن تركيا لا ترفض إجراء الإصلاحات، وإنما ترفض الإشراف والمراقبة على أعمالها؛ لأن في ذلك غمطًا لحقِّها وإزراءً بشرفها وعبثًا باستقلالها الذي أقرت عليه الدول الموقعة على معاهدة باريس، وصارت النشرات والمحرَّرات السياسة تتطاير من عواصم أوروبا، والإنذارات والمذكرات تتساقط على السفراء ونظَّار الخارجية، فلم يُجد ذلك نفعًا، بل أُعلنت الحرب في ٢٤ نيسان/أبريل سنة ١٨٧٧.

مناقشات مجلس المبعوثان وانفضاضه

بحث المجلس بعد ذلك في لائحة نظام الولايات وتشكيل مجالس الإدارة، وذكر في اللائحة أن مجلس إدارة الولاية يتألف من ستة أعضاء، يُنتخب نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين، فاعترض بعض المبعوثين على هذا التخصيص الذي هو داعية للتفريق، وقالوا: إن القانون الأساسي أطلق على جميع الرعيَّة «عثمانيين» من دون تفريق بينهم في الدين والمذاهب، وإن الأكثرية في مجالس الإدارة تكون من حق المسلمين، لأن الموظفين كالوالي والدفتردار «رئيس الحسابات» والمكتوبجي «رئيس الكتاب» ونحوهم؛ أعضاءٌ دائمون في مجلس إدارة الولاية، وطلبوا إخراج المفتين من بين الأعضاء الدائمين لكونهم بمثابة الرؤساء الروحيين.

فقال الرئيس: ليس للمفتين صفة دينية كصفة الرؤساء الروحيين، ورغم انتشار هذا الزعم الفاسد، فالمفتي ما هو إلا مأمور القانون؛ أي المحامي عن القانون والشريعة، وليس له سيطرة على المسلمين كسيطرة الرئيس الروحي على أبناء ملَّته، وإنما هو من علماء الحقوق المعروفين عند الإفرنج باسم Jurisconsulte، واعترضوا أيضًا على تسمية «متصرف»، فقالوا إن هذا الاسم مشتق من التصرف الدال على الاستبداد والإذلال والاستعباد، فهو لا يوافق روح الحرية والمساواة، واستعلم بعض المبعوثين عن أحوال معسكر الأناضول ونقصان التجهيزات العسكرية، وعلى تعيين أحد الخدمة قائمقام وقد كان «شوبقجي»؛ أي حامل قصبة التدخين عند بعض الكبراء، إلى غير ذلك.
ثم اشتغل مجلس المبعوثان بتدقيق ميزانية المالية، وطلبت الحكومة خمسة ملايين ليرة عثمانيَّة للدخول في الحرب، فتألَّفت لجنة Commission من أحد عشر مبعوثًا للتذرُّع بالوسائل المؤديَّة إلى الحصول على المبلغ المطلوب، فحاولوا اقتراضه من إنجلترا على أن يكون لها في مقابل ذلك، وأرادت مصر كما فعلوا قبلًا فرفضت إقراضهم؛ لأن التأمينات غير كافية، فقرروا عقد قرض داخليٍّ بفائدة عشرة في المائة من وارادات أصحاب الأملاك والتجَّار، وأخذ راتب شهرين من أصحاب الرواتب، فصدَّق مجلس المبعوثان على هذا القرض وعلى كل ما طلبته الحكومة منه، وختم جلساته في تموز/يوليو سنة ١٨٧٧؛ فقال الرئيس: ارجعوا إلى ولاياتكم، وأعيدوا الانتخابات، واجتهدوا بأن ترسلوا إلينا مبعوثين أوفر عقلًا وأكثر وقوفًا على ما تحتاج إليه البلاد!

فيرى من ذلك أن مجلس المبعوثان — على ضعفه وعجزه وجهل أعضائه في السياسة والإدارة — لم يكن منه قصور أو تقصير في وظائفه، ولم يحصل فيه اختلاف شديد بين المسلمين والمسيحيين، وإنما كانوا جميعًا متفقين على مقاومة الاستبداد ومنع التعدِّي وتبذير الأموال، وكل منهم عارف بمصالح بلاده الخاصَّة؛ لأن معرفة ذلك لا تحتاج إلى علم كبير أو رأي ثاقب لبداهتها ووضوحها كالشمس في رابعة النهار، غير أن الواقفين منهم على مصالح الدولة العامَّة وسياستها الخارجيَّة كانوا أقلَّ من القليل، والحكومة أبت أن تعترف لهم بحقٍّ، بل نظرت إليهم نظر الوصيِّ إلى الصبيِّ!

الحرب الروسيَّة العثمانيَّة

استمرَّت الحرب الروسيَّة العثمانيَّة ثمانية أشهر (نيسان كانون الأول سنة ١٨٧٧)، وأبرزت الجنود العثمانيَّة فيها من الشجاعة والصبر والثبات والقوة ما دلَّ على حياة الأمة وفتوَّتها وسلامة جسمها من أعراض الهرم أوالمرض الذي يصفها به العدو، ولكن نقصان التجهيزات العسكريَّة وسوء الإدارة كانا سببًا في انتصار الروس في أوروبا وآسيا، وتجاوزهم نهر الطونة «الدانوب» وجبال البلقان، وأخذ القرص ومحاصرة أرضروم من جهة الأناضول، وفتح بلفنا في الروم أيلي، ولقد أظهر عثمان باشا وعسكره من الشجاعة والمقاومة ما حيَّر الروس وأوروبا كلها، فاعترفوا بفضلهم وقدَّروهم قدرهم، «والفضل ما شهدت به الأعداء.»

طلب مدحت باشا وانتخاب المبعوثان الثانية

استنزفت هذه الحرب ثروة البلاد وأضعفت قوتها وأفرغت صناديق الحكومة من الأموال؛ لكثرة الإنفاق وانقطاع الوارد إليها من التكاليف والرسوم، فتقرر إعادة التئام مجلس المبعوثان وطلب مدحت باشا من أوروبا، وعقد قرض لوندره، وعقد الصلح مع روسيا، فجرى انتخاب ثانٍ بأمور «أوامر» مؤقتة لا كما يقضي نظام انتخاب مجلس المبعوثان.

افتتاح مجلس المبعوثان مرة ثانية وخطاب السلطان فيه

افتُتح مجلس المبعوثان مرة ثانية في يوم الخميس الواقع في ٧ من ذي الحجة سنة ١٢٩٤ و١٣ كانون الأول/ديسمبر سنة ١٨٧٧، فذهب الوكلاء الفخام والوزراء الكرام والعلماء الأعلام وأعضاء مجلس الأعيان والمبعوثان وسفراء الدول الأجنبيَّة إلى سراي بشكطاش، واصطفوا على الصورة الآتية: فكان عن يمين الحضرة العليَّة السلطانيَّة أدهم باشا الصدر الأعظم ووكلاء الباب العالي، ثم موظفو المجالس العالية، ثم رؤساء المذاهب المختلفة، ثم أعضاء شورى الدولة ومستشارو النظارات المختلفة، وكثيرون من أعيان رجال العسكرية والملكية بحسب رتبهم ومقاماتهم، وكان عن شماله حضرات شيخ الإسلام والشريف عبد المطلب أمير مكة المكرمة قبلًا، ثم العلماء من رتبة قاضي عسكر الروم أيلي والأناضولي، ثم «الفريقان» الكرام وفريق من العلماء الأعيان، وكان أعضاء مجلس الأعيان أمام الحضرة العلية السلطانية من ناحية اليمين على صفين، وأعضاء مجلس المبعوثان أمامها من ناحية الشمال على تسعة صفوف، وفي الساعة السادسة على الحساب العربيِّ دخل السلطان الأعظم وسلم الرقيم المشتمل على نطقه لسعيد باشا باشكاتب المابين، فتلاه على الحاضرين، وهو:

يا أيها الأعيان والمبعوثان

إنني اكتسبت الممنونيَّة بفتح المجلس العمومي وبمشاهدة مبعوثي الملة «الأمة»، ثم ذكر الحرب مع روسيا والمحافظة على المليَّة؛ أي القوميَّة، واللغات وحق المساواة، وإدخال غير المسلمين من الرعية في الجندية، والمحافظة على القانون الأساسي وإصلاح المالية والعدل في جباية الأموال الأميرية وتنظيم القوانين.

وختمه بقوله:

يا أيها المبعوثان

إن إبراز الحقائق في المسائل القانونية والسياسيَّة وضمان منافع البلاد يتوقفان على مجاهرة أرباب الشورى بأفكارهم بالحرية النامية، وبما أن القانون الأساسي يقضي بذلك فإنني لا أرى احتياجًا إلى أمر أو ترغيب آخر.

مذكرات مجلس المبعوثان

ثم انعقد مجلس المبعوثان في الدائرة الخاصة به تحت رياسة حسن فهمي أفندي — وهو اليوم باشا من النظار — وشرع المبعوثون في المذكرات والمباحثات بقية شهر كانون الأول/ديسمبر وكانون الثاني/يناير وأوائل شباط/فبراير سنة ١٨٧٨، وكثر الجدال بين المبعوثين وبين الحكومة — لا بين الأعضاء المختلفين في الدين واللسان — وطلب بعضهم التدقيق في حسابات المالية، وحضور ناظرها لمناقشته الحساب، ومحاكمة المرتكبين، وسؤال المُتهمين باختلاس الأموال الأميريَّة، وسوء الأعمال المختلفة المتعددة، وقام أحد المبعوثين وقال: إن الجاندرمة١ في الولاية التي بُعثت منها تنهب الأهالي، والمحاكم ترتشي على إبطال الحق وإحقاق الباطل، والضابطة تعذب المحبوسين بالضرب وأنواع العذاب، واعترض مبعوث آخر على المذابح التي جرت في بلغارستان وطلب التحقيق والبحث عنها، وطلب جماعة من المبعوثين عزل خمسة من الوكلاء. منهم: محمود جلال الدين باشا، وسعيد باشا، وكجوك سعيد باشا، والتحقيق عن كثيرين من رجال الدولة وقواد العساكر، ولا سيما عن الاختلاس والإسراف في نظارة البحرية وغير ذلك.

إلغاء الصدارة واستبدال مجلس الوكلاء بها

بعد ذلك تولى الصدراة أحمد حمدي باشا المعروف في ولاية سوريا، وذكر في فرمان التولية: «إن اعتزال أدهم باشا مدةً للأعمال كان مراعاة لصحته، هذا مع التسليم بنزاهته ودرايته، ونحن راضون عنه من كل الوجوه أتمَّ الرضا …» إلخ، وبقي حمدي باشا في الصدراة بضعة وعشرين يومًا، وفي غرَّة صفر سنة ١٢٩٥ و٤ شباط/فبراير سنة ١٨٧٨ صدر الفرمان القاضي بإلغاء لقب «صدر أعظم» واستبدل رئيس الوكلاء به، وتوجيه هذه الرياسة إلى أحمد وفيق باشا رئيس مجلس المبعوثان مع رتبة الوزارة، وتعيين مسئولية «تبعة» الوكلاء؛ أي النظار كما هي الحال في وزارات أوروبا، فحضر «الباش وكيل» الأفخم إلى مجلس المبعوثان، وقال لهم ما ملخصه:

إن جلالة السلطان الأعظم تريد في الحقيقة باطنًا وظاهرًا إدارة الملك كما تقضي أحكام القانون الأساسي، ولذا استبدلت رياسة الوكلاء بمسند الصدراة، فالوزراة الجديدة المؤسسة على قاعدة المسئولية لا ترغب إلا في سلامة الدولة وترقِّيها، والوكلاء مستعدون للحضور دائمًا إلى المجلس عند الطلب، ولكنهم يرجونه أن يقبل في بعض الأحيان وكلاء من أعضائه لكثرة شواغلهم وحرصًا على أوقاتهم!

فقام أحد المبعوثين، وقال ما خلاصته:

إن مجلس المبعوثان له الحق وحده ومن شأنه خاصة إحداث تغيير عظيم مثل هذا التغيير، تقولون دائمًا إنكم تريدون المحافظة على القانون الأساسي، إذن فاحترموا حريتنا؛ لأننا نحن الذين نمثل القانون الأساسي ونحافظ على أحكامه، وأنتم الذين تحاولون نقضه وإبطاله …

فأُحيلت المسألة على لجنة Commission مخصوصة لتدقق فيها ٥ شباط/فبراير، وكانت الحرب أوشكت أن تضع أوزارها، وعساكر روسيا استولت على أدرنة وتجاوزتها، وطلبت أوستريا «النمسا» أن تجمع في ڨيينا مؤتمرًا من مندوبي الدول الموقعة على معاهدة باريس؛ لتنقيح المعاهدة الجديدة بين تركيا وروسيا، والتوفيق بين أحكامها وأحكام المعاهدات القديمة، وبعثت إنجلترا بأسطولها إلى بحر مرمرة في ١٤ شباط/فبراير سنة ١٨٧٨.

المجلس العالي

تداخلت دول أوروبا في المسألة الشرقية بعد أن تركت روسيا تفعل ما تريد في الحرب، وعادت إلى المناقشات والمحاورات — على عادتها — في هذه المسألة، فاعتمد المابين على ما بينهن من الاختلاف واستغنى عن مجلس المبعوثان فألف في ١١ شباط/فبراير سنة ١٨٧٨ مجلسًا عاليًا من وكلاء الدولة ورجالها وأعيانها والرؤساء الروحيين، وطلب من مجلس المبعوثان خمسة أشخاص: الرئيس، ووكيله، وأحد مبعوثي الأستانة؛ وهو الحاج أحمد أفندي، وكتخدا الأسترجية «الكدش»، ومبعوث آخر يهودي. فقال لهم الحاج أحمد أفندي: إن طلبكم الآن رأينا في غير محله، فقد كان يجب عليكم أن تسألونا قبل الخراب، فمجلس المبعوثان يتنصل من كل تبعة تُلقى عليه لأمر وقع بغير علمه، ولم يكن برأي من آرائه، وكرر القول بأن المجلس يرفض كل تبعة في الحال الحاضرة.

تعطيل مجلس المبعوثان إلى أجل غير مسمى

صمم السلطان حينئذ على العدول عن سياسة والده — الماجد السلطان عبد المجيد خان — في عمل الإصلاح بإطلاق الحرية والعمل بمقتضى أحكام القانون الأساسي، وجنح لسياسة جده السلطان محمود خان في إعمال القهر والاستبداد، مفضلًا هذه السياسة؛ اعتقادًا منه أن الشعوب التي وضعها الله تحت يده لا يمكن تسييرها إلا بالقوة! وكان المندوب الروسيُّ قد حضر إلى الأستانة فلم يُسرَّ بوجود مجلس المبعوثان لخلو بطرسبرج من مثله، واستبداد القيصر برعيته، ففي ١٤ شباط/فبراير سنة ١٨٧٨ قرأ الرئيس حسن فهمي أفندي على المبعوثين منطوق الإرادة السنيَّة القاضية بتعطيل مجلسهم إلى أجل غير مسمى!

استخدام المبعوثين والأمة لتعطيل مجلس المبعوثان وأسبابه

خرج المبعوثون يتعثرون بأذيالهم، وأنذرت الضابطة المتطرفين منهم والجسورين على التكلم وإيقاظ أفكار الأمة بوجوب المهاجرة من الأستانة! فذهب بعضهم إلى الولايات الثمانية وبعضهم إلى مصر والبلاد الأجنبية، ولا تقلق الأمة أو تتأثر بهذا الاحتقار والامتهان، ولا حصل منها هيجان أو اعتراضات! كأنها جمل المحامل.

يصرِّفه الصبي بكل وجه
ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي
فلا غيرٌ لديه ولا نكير
ولم يبق من المبعوثين من أصرَّ على مبعوثيَّته إلى آخر نفس من حياته إلا أفراد قلائل، كمبعوث القدس الذي كان — بجراءته — يثبِّت على بطاقة الزيارة Carte-visite أنه مبعوث القدس، ويقدمها إلى وزارة الدولة ورجالها لدى زيارته لهم في الأستانة، وإلى سفراء الدول الأجنبية وموظفي نظارة الخارجية في أوروبا، ولما اجتمع بصديقه خليل غانم مبعوث بيروت في الاجتماع الثاني للمجلس ومنشئ المقالات الرنانة في جريدة الديبا وغيرها من جرائد باريس، وذلك قبيل وفاتهما؛ آخذه لكتابته في بطاقة الزيارة كلمة المبعوث السابق Ex-Depute فمحا كلمة «سابق»؛ لأن صفة المبعوثيَّة إنما هي بإرادة الأمة وانتخابها، فهي لا تزول عن صاحبها إلا بانتخاب آخر، ومجلس المبعوثان لم يُلغَ إلغاء وإنما عُطِّل إلى أجل غير محدود، فكان اجتماعه في كل سنة من قبيل الممكنات الجائزة عقلًا ونظامًا، ولكن أكثر المبعوثين تناسوا وظيفتهم كأنها وظيفة حقيرة لا يُؤبه لها وقد عُزلوا منها ولم يجسر أحد على ذكرها في ترجمة حاله الرسمية، ولم يذكرهم بها مذكر ولا وعظهم واعظ! ولا حررت في هذا الموضوع جريدة من جرائد المملكة العثمانيَّة.

إن لهذا السكوت والاستخذاء أسبابًا كثيرة: منها أن الحريَّة أمر تستحوذ عليه الأمة بالغلبة والاستيلاء، وليست مما يُنعم به إنعامًا أو تُعطى جزافًا، ولقد كانت الأمة حينئذٍ منهوكة القوى مكسورة الجناح بسبب الحرب، لا دار إلا وفيها مأتم، ولا أسرة إلا وقد أصابتها مصيبة، وزاد البلاء بسبب البحران المالي، ونزول قيمة المسكوكات «النقود»، فكانت الأسرة تبعث خادمها إلى السوق ليشتري القوت الضروري، فيعود إليها خاوي الوفاض لعدم رواج النقود، فتطوي على الجوع وتتفتت أكباد الوالدين لبكاء أطفالهم، ثم إن الأمة هي عبارة عن أهل العاصمة منع الاستبداد وأهالي الولايات والقرى، والعساكر المنظمة، المدربة على الحرب المسلَّحة بالأسلحة الجديدة والمدافع، فأما أهل الأستانة — ولا سيما المسلمون — فإنه لا يُتصوَّر قيامهم لطلب الحرية لأن جلهم — إن لم نقل كلهم — موظفون أو عائشون في ظل الموظفين، والعساكر المسلحون واقفون لهم ولأهل الولايات بالمرصاد، وقادرون على إخماد نار أية ثورة أو مظاهرة، وأن قيام طائفة مسيحية وحدها لطلب الحريِّة مما لا يرضى به المسلمون ولا بقية الطوائف المسيحية أو اليهودية، كما شاهدنا ذلك في أرمينيا ومقدونيا التي اشتدت فيها المناقشة بين الروم والبلغار والصرب والرومان، كما أن العساكر وحزب الأحرار العقلاء لا يرضون به؛ لأن قيام كل ملَّة على انفراد يقضي بتقسيم الممالك وتفريقها وضعفها، وإثارة أضغان العداوة الموروثة من الحروب الصليبيَّة والقرون المتوسطة المظلمة، على أن هذا القيام كان مصدره الكنائس والأديار بإيعاز الرهبان والقسِّيسين والمبشرين والمرسلين، فكان سببًا لإيجاد المذابح والفظائع ومداخلة الأجانب.

أما حزب تركيا الفتاة الذي أسسه مصطفى فاضل باشا وخليل شريف باشا، فإنه لم يكن في عهد مدحت باشا إلا فئة قليلة من صغار الموظفين وضباط العساكر والمتعلمين في المدارس الجديدة، والذين درسوا شيئًا من اللسان الفرنسي أو الإنجليزي، واشتهروا باسم «إنجلز» لتعلمهم الإنجليزية فقط، مثل: إنجلز سعيد باشا، إنجلز كريم أفندي، إنجلز علي بك والد أحمد رضا بك روح هذا الانقلاب، أو الذين أصلهم من الأوروبيين فأسلموا ودخلوا في الوظائف، مثل عمر باشا المجري، ونوري بك ابن المركي دوشاتونيف الفرنسي، وكثير غيرهما، أو الذين تزوجوا بنسوة أوروبيَّات وربَّوا أولادهم تربية إفرنجيَّة أو غير ذلك، فكانت هذه الفئة متحدة الفكر في إعجابها بالمدنيَّة الأوروبيَّة وميلها إليها، ولم تكن لهم جمعية ولا رابطة غير الرابطة المعنويَّة الفكريَّة؛ لأنهم من موظفي الحكومة، والوظائف تضطرهم إلى إخفاء الرأي وإطاعتهم لآمريهم إطاعة يفرضها العقل والسياسة، وإلا كانت الأمور فوضى، ولكن الجامدين من المسلمين لم يفرقوا بين الدين المسيحي والمدنيَّة الأوروبيَّة، واعتبروا كل إصلاح صدر من أوروبا المسيحيَّة مخالفًا للدين والآداب الإسلاميَّة، وشتَّان ما بين المدنيَّة «الأوروبيَّة» والدين المسيحيِّ.

سعاوي أفندي وحادثة جراغان

على أن بعض المتطرِّفين من حزب تركيا الفتاة ثاروا بزعامة علي سعاوي أفندي، وكان من طلاب العلم المعروفين بالصوفتاوات، مطَّلعًا على العلوم العربيَّة والفنون والرياضة، وواقفًا على الأفكار الجديدة، نُفيَ في أيام السلطان عبد العزيز وصدارة عالي باشا، وفرَّ إلى باريس ولوندره ونشر ثمَّة الرسائل والمقالات، وكان ينفق على نفسه فيهما مما ينفحه به رجال الأستانة، ثم عاد إليها، وصار من حزب مدحت باشا أنصار القانون الأساسي، وعُين مديرًا للمكتب السلطاني ثم عُزل، فاتفق مع صالح بك الأرناؤوط — أحد الضباط — وجمعا فئة من المهاجرين، فكانوا زهاء مائة رجل، وهجموا على سراي جراغان لإخراج السلطان مراد منها ومبايعته، واسترداد الحريَّة والقانون الأساسيِّ، ففاجأتهم العساكر بالسلاح فشتت شملهم، وكانت هذه الحادثة في ١٣ مايس/مايو سنة ١٨٨٧ زمن رياسة صادق باشا لمجلس الوكلاء.

صدارة رشدي وصفوت وخير الدين التونسي

لبث أحمد وفيق باشا «باش وكيل» لمجلس الوكلاء مدة قليلة، ثم وُجهت إلى صادق باشا فبقي فيها تسعين يومًا، ثم استبدلت الصدارة «بالباش وكالة» وعُيِّن فيها رشدي باشا ودام فيها ثمانية أيام، ثم عُيِّن لها صفوت باشا ناظرًا للخارجيَّة، فاكتسب فيها ثقة الحضرة السلطانيَّة ولم تطل فيها مدَّته، وعُيِّن لها خير الدين باشا الجركسي الأصل والتونسيُّ النشأة، وهو مؤلِّف التاريخ العربي «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وله وقوف على العلوم العربية وعلى الفرنسيِّة، وتجوَّل في ممالك أوروبا، وقد طلب منها في سنة ١٢٩٤ﻫ، كما طلب السيد جمال الدين الأفغانيُّ وغيره، وعُين رئيسًا لشورى الدولة، ثم «صدر أعظم» سنة ١٢٩٥، وبقي في الصدارة ثمانية أشهر، ثم استقال وبقي جليس بيته إلى أن تُوفي سنة ١٣٠٧ في الأستانة، فكان في طلبه وتوظيفه شبه ميل إلى سياسة الجامعة الإسلامية panislamiseme، ولكن هذه السياسة لها معنيان: المعنى القديم الاستبدادي الذي مشى عليه خلفاء بني أميَّة والعباسيون، وهو مخالف لحقيقة الإسلام، ومنافٍ لروح العصر الجديد والمدنيَّة الحاضرة. والمعنى الحديث وهو يوافق أصل الإسلام والمدنيَّة، ولكنه يخالف مسلك المستبدين بالأمر، ويحول بينهم وبين مآربهم، وهو أشد وطأة عليهم من القانون الأساسيِّ وحزب تركيا الفتاة.

صدارة كجوك سعيد باشا وأعماله

ثم عُيِّن لمسند الصدارة سعيد باشا، المشهور بسعيد باشا الصغير «كجوك سعيد»؛ تمييزًا له عن سميِّه ناظر الداخليَّة الكردي الأصل، والمتوفى قبل بضع سنين، وكان سعيد باشا الصغير محررًا في جريدة «حوادث»، فاتصل بالداماد محمود جلال الدين باشا ودخل بوساطته المابين وصار باشكاتب له، وهو المتسبب في إبعاد مدحت باشا وتعطيل أحكام القانون الأساسيِّ، وإعلان الحرب، وعزل القائد «السردار» عبد الكريم باشا وإخلائه موقع «بيله» أمام بلفنا، ومداخلة المابين في إدارة جميع الشئون العسكريَّة، وإصدار الأمور من السراي السلطانية أثناء الحرب، وتقسيم المملكة العثمانية في معاهدة سان ستفانو التي نقحتها معاهدة برلين … إلخ، فإن الإرادات السنيَّة في جميع ذلك كانت تصدر برأي سعيد بك باشكاتب المابين وتوقيعه، ولهذا كان مبغوضًا من حزب تركيا الفتاة؛ لأنه كان آلة وعونًا على الاستبداد، وعلى إدارة المصالح من دون رأي الباب العالي، مع أن باشكاتب المابين كان لذلك العهد يُنتخب من قبل الصدارة العظمى، وكان الصدور لا ينتخبون لهذه الوظيفة إلا الذي يعتمدون عليه لعرض المضابط والمقررات والإنهاءات «المطالب» واستصدار الإرادات السنيَّة بها، ولم يكن للباشكاتب نفوذ معارض لنفوذ الباب العالي صاحب التقاليد والأصول المرعيَّة في إدارة المملكة، ولا سيما في أيام رشيد باشا وفؤاد باشا وعالي باشا، فلما تُوفي عالي باشا وتولاها محمود نديم تدنَّت أهميتها بسبب نفاقه وتملُّقه للمابين وتقديمه أموال الخزينة إليه بغير عدٍّ ولا حساب، ولما ولي سعيد باشا الباشكتابة زالت مكانة الصدارة البتة، وانحصرت الأعمال والإدارة في المابين، وصار للباشكاتب نفوذ يمكِّنه أن يطلب مدحت باشا الصدر الأعظم إلى المابين ويبلغه الإرادة القاضية بنفيه على الباخرة عزِّ الدين!

تولَّى سعيد باشا الصدارة بعد مدحت واشتُهر بالنزاهة والاستقامة، فلم يُسمع عنه ارتكابٌ ولا انهماكٌ في جمع الأموال وادِّخارها، ولهذا كان أقل الصدور ثروةً، وكان شديد السطوة على المرتكبين، كثير البطش بهم والاستبداد فيهم، ولكنه عادل في أحكامه وعقابه، وفي زمن صدارته وُضع نظام المعارف، وأُسست المدارس على النسق الجديد، وصار للمعارف مورد وافٍ من واردات الحصة التي أضيفت إلى الأعشار، ونُظمت نظارة العدليَّة وأصول الماليَّة، وأُسست إدارة الديون العموميَّة، وبوشر في مد بعض الخطوط الحديدية وإصلاح الطرق والمعابر، من دون أن يؤدي إعطاء امتيازاتها إلى ارتكاب فاحش، فكان أصلح الصدور في الدور الأخير، ولم ينتقد عليه حزب تركيا الفتاة إلا استبداده ومقاومته مشروع مدحت باشا، وتوقيف أحكام القانون الأساسي وجميع ما صنعه وهو رئيس كتاب المابين!

لم يصدَّ سعيد باشا كونه من رجال الكامبريلاب؛ لأنه نشأ وتربى في المابين؛ أن يحاول الاستقلال في وظيفته وإعلاء شأنها ورفع مكانتها، وتمشية المصالح بالعدل على قاعدة مطردة وأصول منظمة، كما كانت عليه في زمن عالي باشا، فأصبحت بذلك أعمال سعيد باشا موضعًا للريبة، وكثرت الوشايات به فصار مبغوضًا منفورًا منه، ووُضعت عليه العيون والجواسيس، وصارت أعماله تُراقب مراقبة دقيقة؛ فأحدث قلمًا للترجمة في المابين وانجمن التفتيش «مجلس التفتيش»، والمعاينة في نظارة المعارف لمراقبة الكتب المطبوعة والتدريس ومضادة الضار منها «!» على زعمهم وبحسب اصطلاحهم، وقلم مراقبة المطبوعات الداخلية والأجنبية في الباب العالي، هذا ماعدا دوائر وشعب الخفية «الجواسيس» المتعددة المحدثة التي مركزها في المابين تحت نظارة السرخفية «رئيس الجواسيس»، فهذا الذي قضى بسقوط سعيد باشا بالحقيقة والواقع، فذهب بإصلاحاته أدراج الرياح، وإن كان عزله في الظاهر بسبب احتلال البلغار للروم أيلي الشرقية، وإصراره على إرسال العساكر كما تصرِّح بذلك معاهدة برلين.

صدارة كامل باشا الصدر الحالي

تولى الصدارة كامل باشا الصدر الحالي بعد سعيد باشا، ومولده في جزيرة قبرص، ومرباه في مصر ولهذا نُسبَ إليها، وله معرفة باللغات الأجنبية وبإدارة الدولة؛ لأنه تقلب في جميع وظائفها؛ فمن قائمقام إلى متصرف إلى والٍ ناظر، ولكنه في نظر تركيا الفتاة كان أقل شهرة من كثيرين من الوزراء والرجال الموجودين إذ ذاك، واستمرت صدارته ست سنوات وهو آلة في يد المابين، مطيع لما يُلقى عليه من الأمور، ثم ظهرت شجاعته فعارض وعاند، فأصابه ما أصاب سلفه سعيد باشا من سوء الظن به، والريبة في أعماله وشئونه مما قضى بفصله.

صدراة جواد باشا وضعف الدولة

لما ولي الصدراة جواد باشا قوبل ذلك الاستغراب العام، ولم يكن يخطر تعيينه ببال؛ لأنه من أمراء العسكرية وهو صغير السن غير متمكن من اختبار الإدارة الملكية، على أنه كان من النابتة الجديدة، وقد تخرَّج في المدارس العسكرية، وربما كان الغرض من تعيينه هو الإيهام بالعود إلى الإصلاح وإطلاق الحرية، ولكنه في الحقيقة لم يكن قائمًا بوظيفة الصدارة، بل كان ياورًا للحضرة السلطانيَّة مكلفًا بتنفيذ الأمور التي تُلقى عليه! كما كان رئيس الوزراة الألمانيَّة ياورًا للحضرة الإمبراطورية، ولكنه غير مسئول أمام الريشستاغ، فلم يبق بعد ذلك شأن للصدارة، واستولى رجال المابين على الشئون كافة، وصار في يدهم العزل والتوظيف والحل والربط، وإعطاء الامتيازات بمد الخطوط الحديدية واستخراج المعادن وسائر الأمور النافعة، وكانوا يتناولون الرشا من وراء ذلك بصورة فاحشة واستولوا على الأوقاف، ووسَّعوا نطاق الخزينة الخاصَّة بانتزاع الممتلكات من أيدي أصحابها بالثمن البخس، وإقامة الموظفين فيها يعارضون بنفوذهم موظفي الحكومة ونفوذها، حتى أصبح المابين حكومة صغيرة قويَّة! داخل حكومة كبيرة ضعيفة؛ لأن مركز الحكومة نُقل من الباب العالي إلى سراي يلديز السلطانية!

الجاسوسيَّة في الدولة العليَّة

ضعفت إدارة الدولة وجعلت تتدهور بسرعة إلى دركات التأخر والانحطاط، بعد أن خطت خطوات محمودة في سبيل التقدم أيام صدارة سعيد باشا، وانقطع أمل الأحرار العثمانيين، وخاب رجاؤهم بعد أن كانوا يؤمِّلون تخليص الدولة والمملكة من المرض الذي مُنِّيتا به قديمًا، فاضطُهد هؤلاء الأحرار وأُهينوا وعُوملوا أسوأ معاملة، حتى ذاقوا أشد العذاب الوجدانيِّ والأدبيِّ، وصار أرباب الدناءة والفساد يتقرَّبون إلى المابين بالتملُّق والوشاية والتجسس على إخوانهم وأعمامهم وآبائهم! ومنهم من تجسس على أمه وأخيه فنُفيا من الأستانة، فكانوا — بمفترياتهم — يصوِّرون الرعيَّة الصادقة للسلطان الأعظم كالوحوش الضارية تريد افتراسه ونزع تاجه، ويزيِّنون في عينيه الاستبداد، ويبعدون عنه الخبيرين بأمور الدولة العارفين بطرق الإصلاح، زاعمين أنهم من ذوي الأفكار المتطرفة وحزب تركيا الفتاة، حتى اختلَّ نظام المملكة وبطلت مراعاة الأحكام القانونية، والسير في إدارة الدولة على الأصول والتقاليد المعروفة من القديم، وفسد التعليم في المدارس، وانحرفت إدارة الأمور الداخلية والخارجية عن محورها، ومالت إلى التدلِّي والانحطاط، رغم الأبَّهة الظاهرة، والعظمة الكاذبة، ولا سيما في موكب صلاة الجمعة؛ إذ تصطف العساكر في ساحة المسجد الحميديِّ أمام باب السراي صفوفًا مضاعفة بعضها وراء بعضٍ رجالًا وفرسانًا، وتتسابق مركبات الكبراء والسفراء الأجانب، ثم تشرق المركبة السلطانيَّة من مطلع السراي و«المشيرون وكبار رجال المابين حافُّون من حول المركبة مشاة خشَّع الأبصار ترهقهم ذلَّة من جلال تلك العظمة الإماميَّة، وهم في غير هذه الساعة أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان كبرًا وجبروتًا، وكلهم في أمواج الملابس الذهبيَّة يَسبحون، وعلى صدورهم نياشين الجوهر تخطف الأبصار»، وكان في كل نظارة من نظارات الداخليَّة والعدلية «الحقانيَّة» والماليَّة والمشيخة الإسلاميَّة وغيرها؛ رجالٌ معروفون يبيعون الوظائف والرتب بأسعار معلومة، ويقتسمونها هم وكبار الموظفين، فمن اشترى وظيفة بمائة ليرة فأكثر فإنه يجتهد في استغلاله منها أضعاف ما بذله بإرهاق الأهالي وظلمهم أو اختلاس الأموال الأميريَّة أو بكليهما!

الميل عن إنجلترا إلى ألمانيا والحوادث الأرمنيَّة

انحرفت سياسة المابين عن إنجلترا الملحَّة في طلب القيام بالإصلاحات وتغيير الإدارة المستبدة الظالمة، واتجهت نحو ألمانيا التي لا ترى بأسًا في إدارة الدولة بالقسر الاستبداديِّ، فجنح بعض ساسة الإنجليز للأرمن ومالوا إليهم، وساعدوا جمعيَّتهم السريَّة الموجودة في لوندره، وأشار إليهم بعض رجال السياسة — كجلادستون — بالقيام والهيجان، حتى إذا حدثت في البلاد مذابح كمذابح البلغار، هاجت الأفكار العموميَّة في أوروبا، وتسنَّى لحكوماتها المداخلة في طلب الامتيازات لأرمينيا، كما حدث في البلغار والجبل الأسود والصرب، ويساعد على ذلك نص المادة الحادية والستين من معاهدة برلين، فقد جاء فيها ما معناه: «يتعهَّد الباب العالي بأنه يسرع في القيام بالإصلاحات والتحسينات التي تقتضيها حال البلاد الداخليَّة في الولايات الآهلة بالأرمن، وبحمايتهم من الجراكسة والأكراد، ويعطي الباب العالي في معظم الأوقات معلومات عن التدابير المتَّخذة في هذه السبيل للدول المشرفة على القيام بالإصلاحات.»

وفي سنة ١٨٩٠ تشكلت جمعيَّة انقلابيَّة أرمنيَّة٢ لتحرير الأرمن التابعين للدولة العليَّة وروسيا والعجم، وكان رأس مالها مائة وثلاثين ألف فرنك، وميزانيتها اليوم مليون فرنك، منها ثلاثون في المائة للقيام بالحركات الانقلابيَّة والسياسية، وخمسة وعشرون في المائة لتسليح الأمة، وعشرون في المائة للنشرات والتبشير، فأحس أحرار العثمانيين بذلك وتأثروا جدًّا، فاجتعموا سرًّا وتشاوروا، وخابر بعضهم كبراء الأرمن وعقلاءهم، وقالوا لهم ما حاصله: لا محل لإصلاح ولايات أرمينيا وحدها دون باقي الولايات العثمانية، فالواجب طلب الإصلاح للمملكة العثمانية كلها. نعم، إن الأرمن يتألمون من الإدارة الحاضرة ولكن الظلم والاستبداد ليسا موَجَّهين إليهم خاصة، بل هما شاملان للأرمن والأتراك وعموم المسلمين والمسيحيين، فإنهم جميعهم يئنون تحت أثقال التكاليف وارتكاب الموظفين ومعاملاتهم القسريَّة والاستبداديَّة، ويتحمَّلون أنواع الظلم والاعتساف وهضم الحقوق، وحظ المسلمين من ذلك أكبر؛ لقيامهم وحدهم بأعباء الخدمة العسكرية التي تقعدهم عن زرع الأرض واكتساب الثروة والرفاه والنمو والازدياد في العدد، وإن اتفاق الأرمن والأتراك على القيام بطلب الإصلاحات اللازمة وتأسيس حكومة مقيدة حرة يعد من الحمية والغيرة الوطنية، ولكن قيام الأرمن أو طائفة أخرى على انفراد بمساعدة الأجنبي وترغيبه؛ لا تعدُّه تركيا الفتاة إلا خيانة وجناية وضررًا بمنافع الوطن المشتركة؛ على أنَّ الأرمن كانوا لدى تجنُّسهم بالجنسيَّة العثمانية لا يزيدون على بضعة عشر ألفًا، وقد أصبحوا اليوم يُعدُّون بالملايين، وإن القاطنين منهم في العاصمة والمدن الكبيرة على جانب عظيم من الغنى والثروة والرفاه، وبيدهم الشئون المالية والوظائف العالية والرتب السامية، وهم على وفاق وائتلاف تام مع الأتراك، حتى إذا أطلقت كلمة «ملت»٣ صادقة، لا تنصرف إلا إلى الأرمن، فبناء على هذا الامتزاج التام بين الترك والأرمن — وما فيه من الفوائد والمنافع للفريقين — طلب بعض أحرار الترك من معتبري الأرمن وعقلائهم إفهام الجمعيات الأرمنية التي في أوروبا هذه المقاصد، واستعمال نفوذهم لتعديل المطالب الأرمنيَّة ونبذ التهور في سياستهم.

وفي سنة ١٨٩٤ اشتعلت نيران الحادثة الأرمنيَّة وحصلت مذابح ساسون وخربت ثلاثون قرية من قراهم، كل هذا وجواد باشا الصدر الأعظم لاهٍ عن اتخاذ الوسائل لحسم هذه المسائل، والقيام بالإصلاحات في جميع أرجاء المملكة، ولقد كانت سياسته محصورة بالتدابير المؤقتة لإيقاف الاعتداء وسلوك سبيل المماطلة والإرجاء، وأوروبا — ولا سيما إنجلترا — واقفة للدولة بالمرصاد، تخلق لها المسائل والمشكلات واحدة بعد أخرى، فمن الحادثة الأرمنية إلى المشكلة الكريدية إلى المسألة المقدونيَّة وهلمَّ جرًّا … ورجال المابين أكثرهم جهلاء أغبياء، لا خبرة لهم بالسياسة، ولا معرفة لهم بالشئون الحاضرة، وآخرون منهم شياطين أبالسة لا يدأبون إلا على جمع الأموال وادخارها، ولو أدى ذلك إلى خراب الوطن وسقوط المملكة، فكانوا يخوِّفون السلطان من حزب تركيا الفتاة ومن القيام بالإصلاحات، ويشيرون باتخاذ التدابير السيئة حتى حدث ما حدث من المذابح والفظائع التي نُسبت إلى الإسلام، والإسلام يبرأ إلى الله منها.

والدين إنصافك الأقوام كلهم
وأيُّ دينٍ لآبي الحق إن وجبا!
والمرء يعْييه قود النفس مصحبةً
للخير وهو يقود العسكر اللجبا

تأسيس جمعية الاتحاد والترقي

كان من نتيجة هذا الخلل في الإدارة والاستبداد والعسف بالأمة أن تأسست في الأستانة جمعية الاتحاد والترقي لإخماد نار الفتن المشتعلة في البلاد، وطلب الحرية والعدل لجميع العثمانيين، وتأييد روابط الحب والأمان بين الأمة — المؤلفة من السَّنة وأديان مختلفة — وبين الدولة، وقد بعثت الجمعية في تلك السنة (١٨٩٤) فريقًا من الشبان الأحرار — أكثرهم من طلاب المدرسة الطبِّيَّة — إلى باريس؛ ليؤسسوا فرعًا للجمعية فيها، ويقوموا بنشر الجرائد والرسائل، وكان في باريس إذ ذاك عدد ليس بالقليل من الشبان العثمانيين، بعضهم يدرس على نفقة الحكومة العثمانيَّة أو نفقته الخاصة، وبعضهم يدرس ويشتغل بالمسائل السياسيَّة، وأشهرهم أحمد رضا بك صاحب اللائحة المشهورة.

ترجمة أحمد رضا بك ومبادئ جمعية الاتحاد والترقي

وُلدَ أحمد رضا بك في الأستانة منذ خمسين سنة تقريبًا، ووالده إنجلز علي بك، وأمُّه مجريَّة، وسُمي إنجلز لتعلمه الإنجليزية ووقوفه على المدنيِّة الأوروبيَّة كما مرَّ بيانه، وإلا فهو من الأتراك المسلمين، وكان من معتبري الموظفين الذين نَشَئُوا في عهد مصطفى رشدي باشا وعالي، فتخرج أحمد رضا في مدارس الأستانة وعُين مديرًا للمدرسة الإعدادية في مدينة بروسة، فأحسَّ في نفسه بلزوم السفر إلى أوروبا للاطلاع على عمومها ومدنيتها؛ فذهب إلى باريس سنة ١٨٩٠، واختلف إلى مدرسة الزراعة لشدة احتياج المملكة إلى العلوم الزراعية، وتعرف إلى علي شفقتي بك الذي يصدر جريدة «استقبال» في إيطاليا ثم في فرنسا، وهو من رجال السلطان مراد، وكان رضا بك كثير التردد على المكتبة الأهلية في باريس، فاطلع فيها على أهم الكتب والفنون، واشتغل بالمسائل السياسية، وحرر لائحة مفصلة مشتملة على رسائل في إصلاح الإدارة والمالية والزراعة والتجارة وغير ذلك، بعد أن درس لائحة مصطفى فاضل باشا، ووصية فؤاد باشا، وما حرره ملكوم خان وشارل ميزمر وغيرهما من أكابر الرجال المشتغلين بالسياسة الشرقية والواقفين على أسباب الانحطاط وعلله الفلسفية.

سلك أحمد رضا بك في الفلسفة الحقيقيَّة مسلك أوكوست كونت وخليفته بييرلافيت، وصار إمامًا في هذه الطريقة المؤسسة على «النظام والترقي»، وهذه الكلمة هي شعارهم، وعليها بناء أعمالهم، ومن مبادئهم التفاني في حب الوطن وخدمة الجماعة؛ أي وقف حياة الفرد على خدمة المجموع، وهم ينفرون من الانغماس في الشهوات وتبذير الأغنياء؛ لأن المبذرين إخوان الشياطين، ويشددون النكير على الذين يبتزون الأموال الأميريَّة ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويعبثون بالحقوق العموميَّة، فالمرتكب الملوث بالرشوة يعدُّونه ساقطًا مهما بلغ علمه وقدره، فأحمد رضا بك مُتَّصف بكل هذه الخلال الجليلة، وقد ضحى نفسه وشبابه في سبيل المحافظة على مبدئه، ورفض قبول الألوف من الدنانير وهزئ بالمناصب التي كانت تُعرض عليه، مع شدة حاجته واضطراره، وتحمل الأذى والمكاره، وجاهد في سبيل استرداد الحرية حق الجهاد قائلًا: لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي لما تحولت عما قصدت إليه، فكان في الحقيقة من أولي العزم الصادق، ونشر تعالميه وأفكاره، وله رسالة مطبوعة بالفرنسية عنوانها «التساهل الديني»، رد فيها على الذين يتهمون المسلمين بالتعصب، واستدل بكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مما دل على غزارة علمه.

وأما اللائحة التي مر ذكرها في رسالة باللغة التركية مشتملة على تحقيق وعلم وسياسة في إصلاح إدراة الدولة ولمَّا تنشر، وكانت جريدته «مشورت» تصدر بالتركية والفرنسية في كل أسبوع أو أسبوعين مرة، ثم اقتصر على القسم الفرنسي وهي صغيرة الحجم، مضى على إنشائها أربع عشرة سنة، ويتألف منها مجلدان أو أكثر، وربما كان له غير ذلك من المؤلفات، فإنه كثير الدرس والتحقيق، يقضي الساعات الطويلة في المكتبة الأهلية، وفي مكتبته الخاصة مؤلفات كثيرة في التاريخ والسياسة العثمانية والمسألة الشرقية.

ولما وصل وفد جمعية الاتحاد والترقي إلى باريس سنة ١٨٩٤ كان رضا بك ساكنًا في شارع مونج في بيت صغير Appartement في الطبقة السادسة فقصد إليه الوفد وذاكروه في انضمامه إليهم، فتردد في بادئ الأمر، وقال: إذا عزمت على شيء فإنني لا أرجع عنه مطلقًا، وكان أقدر الموجودين وأعرفهم بطرق الإصلاح ومواضع الخلل؛ لأن إصلاح مملكة عظيمة مشتملة على أمم مختلفة في الجنس والدِّين واللسان، ووارثة للخلافة الإسلامية والدولة البيزنطية؛ ليس بالأمر السهل، ولا يشبه إصلاح مدرسة أو إدارة تلاميذ، وإنما يحتاج إلى علوم ومعارف شتى، ونظر، واختبار، ونفاذ بصيرة، وليس ذلك في مقدور من درس سنتين أو أكثر في مدرسة طبية لا تُدَرَّس فيها العلوم السياسية والحقوقيَّة ولا العلوم الشرقية التي هي موضوع بحث العلماء المستشرقين، فقبل أحمد رضا بك الانضمام إلى الجمعية، وصار رئيسًا لفرع باريس، ونشر جريدة «مشورت» بالتركية والفرنسية ناطقة بمقاصد الجمعية.

معاكسة المابين للأحرار في أوروبا

أمَّ باريس من ذلك الحين كثيرون من شبان العثمانيين وكهولهم، حتى الشيوخ ذوي العمائم والفراء، ونشروا الجرائد والرسائل والوريقات، وأدبوا مآدب وعقدوا اجتماعات سياسيَّة؛ فانصرفت هِمَم رجال المابين والسفارات العثمانية إلى إبطال هذه النشرات واسترضاء أصحابها بالمال والرتب والنياشين والمناصب، حتى قيل لبعضهم: «اطلب تُعطَ.» كما يُنقل عن الخلفاء في حكايات ألف ليلة وليلة، وكان العطاء حاتميًّا بل أكثر، كان سلطانيًّا شاهانيًّا! وصار طلاب الوظائف أو المعزولون يقصدون باريس، فيكون ذلك سببًا لعودتهم إلى وظائفهم، ودخل في حزب تركيا الفتاة الصبيان الذين لم يبلغوا الخامسة عشرة، والتونسيون حتى الأجانب من الطليان واليونان، وأصبحت سفارة باريس مرجعًا للجميع، كأنها أعظم دائرة من دوائر الباب العالي! وأقدم الجرائد التي أُبطلت جريدة «المرصد» العربية التي تعيَّن صاحبها عضوًا في شورى الدولة، فحسده عزت باشا العابد حتى صرف قوة عقله وذكائه في سبيل الوصول إلى ما وصل إليه، وظهرت عدة جرائد ورسائل ومحررين بالتركية والعربية والكردية والفرنسية والألبانية وغيرها، منهم أصحاب صدق وقناعة، ومنهم ذوو طمع وشعوذة، ورجال الدولة يتقربون باسترضائهم وإحضارهم، كما كانوا في الأزمان الماضية يتقرَّبون بجلب أهل الظنة من الشيوخ وأصحاب الكرامات، كالمرحومين: الشيخ أبي السعود من القدس الذي استقدموه للسلطان محمود خان، والشيخ السن من صيداء، والشيخ العمري من طرابلس الشام، وكذا المشايخ الذين كانوا في المابين، وخاتمتهم أستاذنا الشيخ حسين الجسر مؤلف «الرسالة الحميديَّة»، فلو اطلعت على تراجم هؤلاء الشيوخ ومقدار معارفهم وكيفية طلبهم والاسترشاد بهم؛ لعرفت ارتقاء الفكر التدريجي، الذي حدث من عهد السلطان محمود، ولرأيت للانقلاب الحاضر معنى في «الرسالة الحميدية» التي دلت على كثير من العلوم الطبيعية والعصريَّة.

لم يُقصد من نشرات تركيا الفتاة في أوروبا إلا إيصال الشكاية من سوء الإدارة إلى مسامع الحضرة السلطانيَّة، وإفهام الدول الأوروبية الموقعة على معاهدة برلين بأن لحزبهم السياسي كيانًا ووجودًا، وأن غايتهم إعادة القانون الأساسيِّ، فكادت أوروبا تعتدُّ بوجودهم، كما ظهر من انتصار الجرائد الباريسية لصاحب جريدة «مشورت»، يوم محاكمته في باريس والحكم عليه بفرنك واحد مع تطبيق قانون بيرانجة القاضي بالسماح عنه، وبينا كان المابين يقدم رِجلًا ويؤخر أخرى في إجابة حزب تركيا الفتاة إلى مطالبهم الإصلاحية، وإعادة القانون الأساسيِّ، وإذا بالمشكلة الكريدية ولَّدت الحرب بين الدولة العلية واليونان (نيسان/مارس ١٨٩٧)، وتم النصر فيها للعساكر العثمانية، فأخذته العزة ودام على سياسته الاستبدادية، فقعدت همة الأكثرين من حزب تركيا الفتاة وخضعوا لأحكام الاستبداد جبرًا وقهرًا، وإن كانوا غير راضين عنها، وذاقوا عذابًا شديدًا بسبب غلاء أوروبا وكثرة الإنفاق فيها، مع قلة ذات يدهم وفراغهم من نحو صناعة أو تجارة بأيديهم، كما هي حال الأرمن والبلغار، إلا ما كان من علمهم باللغة التركية أو العربية أو معاونة الأطباء في المستشفيات بأجرة قليلة والسهر في الليل على المرضى، والأغنياء من أهل البلاد وكبار الموظفين لم يساعدوهم بشيء، إلا بعض الأمراء المصريين الذين نهجوا نهج مصطفى فاضل باشا مؤسس حزب تركيا الفتاة؛ فإنهم أمدُّوا بعضهم بالأموال وكانوا عونًا لهم، أما الجمعيات الأرمنية والمقدونية الانقلابيَّة، فإن أصحابهم وأغنياء أمتهم أعانوهم بالمال وأيَّدوهم بكل ما في طوقهم، وقد علمت مما تقدم أن ميزانية الجمعية الأرمنية بلغت مليون فرنك، فأين هذا من جمعية الاتحاد والترقي؟ ألا إن سبب خذلان العثمانيين لجمعياتهم هو موت النعرة الوطنية في نفوسهم، وفقد الحماسة القومية، وكونهم لم يفقهوا معنى الاجتماع والتعاون.

غرور المابين واستفحال الاستبداد

أظهرت الحرب اليونانيَّة العثمانيَّة فتوَّة الأمة العثمانيَّة وحميَّتها وسلامتها من عوارض المرض أو الهرم كما يصفها أعداؤها، وظهر فيها من شجاعة الضباط العثمانيين ومعارفهم، ومحافظتهم على قواعد النظام الحربي، ومقدرتهم على ضبط أفراد العساكر وكفهم عن النّهب والعبث بالآداب، وغير ذلك من الأفعال الهمجيَّة؛ ما يخلد لهم هذه المآثر في بطون التواريخ. وأبرز الجيش العثماني من الشجاعة العظيمة والصبر والقناعة المعجب والمعجز، وامتاز بالسلامة من الابتلاء بالمسكرات، كما هي عليه عساكر الروس وغيرهم من عساكر أوروبا.

زاد غرور المابين واستبداده بعد خروج الدولة من ميدان الحرب فائزة منصورة، وانتقل مركز إدارة الحكومة من الباب العالي إلى سراي يلديز، وأصبح مجلس الوكلاء لا عمل له، والنظار لا وظيفة لهم إلا تنفيذ ما يقرر في السراي، على أن الالتفات والإقبال والتقريب والنفوذ كان ينتقل من الباشكاتب إلى الكاتب الثاني إلى كاتب الشفرة٤ إلى «الشيخ» إلى «العابد» إلى «الملاحمة»، إلى غني آغا إلى لطفي آغا إلى فهيم باشا الجبار العاتي، أولئك الذين ألقوا الرعب في قلوب المسلمين والمسيحيين وغيرهم؛ مما دلَّ على استبداد متقلب مذبذب حيران، حتى لم يعد لأحد ثقة بالحكومة، وكاد الانقلاب يحدث في السراي نفسها، وأكثر رجال السراي أمِّيُّون، ويندر في كتَّاب المابين مَن يعرف اللغة الفرنسية بَلْه غيرها من لغات أوروبا، وهم في جهل مطبق بالسياسة، ولذلك كثر الخطأ السياسيِّ وسوء الإدارة واختلاس الأموال الأميريَّة وظلم الرعية بما لم يسبق له مثيل.

تفنن المابين في أكل الرشا ومنح الرتب والأوسمة

كان لرجال المابين في الارتكاب وسوء الاستعمال ظُرف ورِقَّة وتورية بديعة، فلما أُنشئ قضاء «بئر السبع» في تيه بني إسرائيل، وعُين له قائمقام في الأستانة؛ قال له دولة الناظر حسبما أفاد: «بالطة كيرمامش أورمانه كوندريورم»؛ أي إني أرسلك إلى غابة لم تدخلها بلطة الحطَّاب! فذهب وحطب في الناس حتى عُزل وأُخذ تحت المحاكمة، ثم عُين في محل آخر؛ وهذا مثال من ألف، بل آلاف أمثلة للارتكاب الذي أفسد أخلاق الأمة وأخَّرها عن اللحاق بالأمم المتمدنة، ويروي عنه الناس نوادر عجيبة وأساطير غريبة، تحتاج إلى الجمع في كتاب أو الإفراغ في قالب قصصي، وبعد أن كان تعيين الموظفين يكون بطلب الباب العالي والنظارات، صار التعيين وتوجيه الرتب من المابين مباشرة!

تهافت الناس على احتجان الرتب من لقب بك الذي لا وجود له في الحقيقة بين الألقاب الرسمية كوجود لقب باشا مثلًا، وإنما اشتهر فريق باسم بك وفريق باسم أفندي، فكانوا عند توجيه الرتبة ينظرون، إذا كان الاسم مقرونًا بلقب بك صدرت الإدارة السنية بموجبه ونُشرت في التوجيهات الرسمية؛ فصار بائعو الرتب يتعمدون وضع لقب في الطلب لتصدر بموجبه الإدارة السنية، وتُنشر في القسم الرسمي من الجرائد، فتتناقلها الجرائد العربيَّة، وتقول وجهت الرتبة الفلانيَّة مع لقب بك لتوهم القارئ أن لقب بك توجيه جديد، كلقب كونت أو مركيز عند الإفرنج، امتلأت دوائر الأستانة بالموظفين بلا تمييز في جدارتهم واستحقاقهم واضطلاعهم بالعمل الذي هم فيه، ولم يكن الغرض من التعيين التحرِّي على موظف قادر على إيفاء الوظيفة حقها من العمل، بل إيجاد وظيفة وعمل للمقربين والملتمس لهم، أو للذين يُخشى بأسُهم! فزاد عدد الأعضاء في شورى الدولة عن المائتين، ونظامهم أن يكونوا سبعة وثلاثين عضوًا، وكذلك مجلس المعارف، ومجلس التفتيش والمعاينة الضاغط على حرية نشر الكاتب واستحضارها من الخارج، وهو الذي محا من كتب اللغة كلمات كثيرة مثل: حرية، وطن، اختلال انقلاب، جمعية، رشاد … كما غيرت أسماء الموظفين من عبد الحميد وسلطاني ونحو ذلك إلى أسماء أُخر، وبعضها حُرفت وكتبت سلتاني، وامتلأت نظارة المعارف بالموظفين، حتى قال ناظرها الأخير لمَّا عرضوا عليه الميزانيَّة: لولا وجود معاشات المعلمين لأمكنني وضع الموازنة! فكانت معاشات المعلمين تضايقهم، وهم يريدون حصر المعاشات بالموظفين من الرؤساء والأعضاء والكُتَّاب والمفتشين، وزاد عدد أعضاء الجمعية الرسومية عن ثمانين عضوًا، وكذلك مجلس المالية والأوقاف والعسكرية والبحرية، وغير ذلك من أنواع المجالس ودوائر الحكومة والمعيَّة الشاهانية، حتى ضاقت المجالس والأقلام بالموظفين، وصار أكثرهم لا يجد له كرسيًّا للجلوس عليه! وكانوا يأخذون رواتبهم وهم نائمون في بيوتهم.

اختلال المالية وإرهاق الفلاح

اختلت الموازنة المالية اختلالًا عظيمًا، أدى بها إلى حجز نحو نصف رواتب الموظفين والعساكر ومخصصاتهم في كل سنة، واستفحل الظلم في جباية الأموال الأميرية وطرح الأعشار وتحصيل رسوم الأغنام، وتسابق الموظفون إلى المزاودة بأعشار الأقضية والألوية، وعدُّوا ذلك فضيلة وسببًا مشروعًا للمكافأة والترقي، والمكلفون من الزراع والفلاحين يئنُّون تحت أثقال هذه التكاليف والمظالم، ولا ناصر لهم ولا مفكِّر في شئونهم، وقلَّما كان يمر على القرية شهر من دون أن يأتيها المعشرون وجباة الأموال الأميريَّة، ونصيب المعارف ومصرف «بنك» الزراعة، وإدارة الرسوم الستة؛ أي الديون العمومية والإعانات المختلفة. وكان الظلم أشد على المسلمين منه على المسيحيين الذين كانوا يحتمون بأديارهم وبرؤسائهم الروحيين، ولقد سمعت كثيرًا من الفلاحين أنهم اضطروا إلى بيع أراضيهم وتزويج بناتهم ليأخذوا صداقهن ويعطوا للجباة ما يطالبونهم به من الأموال الأميريَّة! فصار الفلاح يتجنب زراعة الأرض إلا بقدر حاجته الضرورية، ومن القواعد التي قررها الفيلسوف الشهير مونتسكيو مؤلف روح القوانين: «إن الأراضي يقل إيرادها بالنسبة إلى حرية سكانها لا بالنسبة إلى خصبها»؛ فإذا كان الفلاح حرًّا، عمر الأرض الموات، وجعلها خصبة بعمله وحراثته، وإذا فقد الحرية أصبحت أرضه الخصبة مواتًا بسبب الظلم والاستبداد؛ وعليه فإن ما نشاهده اليوم في أوروبا من العمران، إنما هو نتيجة الحرية، فحيثما توجهت فيها لا ترى إلا مروجًا نضرة وأشجارًا وكرومًا مخضرَّة، وأنهارًا جارية كأنها بستان عظيم ليس فيه قطعة أرض خراب، وصار رجال المابين يحرِّضون الولاة والمتصرفين على الإسراع بجباية الأموال والبعث بها إلى الأستانة، وكان القائمون بأدائها لا يدرون أين تُنفق وكيف تُصرف؛ لعدم نشر الموازنة المالية Budget، بخلاف إدارة الديون العموميَّة التي هي تحت مراقبة الأجانب؛ فإنها في غاية الانتظام والترقي، تزيد وارداتها في كل سنة، فتدفع رواتب موظفيها ومرتبات الديون بأوقاتها المعينة، وقد حدا ذلك الدولة إلى العودة إلى الثقة المالية بها، وأصبح أصحاب الديون في أوروبا آمنين على أموالهم، ولو حدثت قلاقل في المملكة العثمانية فإن قيمة أسهم الديون لا تتنزل إلا قليلًا، وإذا أردت المقايسة بين إدارة الديون العمومية وبين نظارة المالية، فانظر إلى قرية من قرى الألمان أو اليهود المستعمرين في سوريا وفلسطين، وما فيها من الانتظام والعمران والترقي، وإلى قرى الأهالي المجاورة لها، وما فيها من الفقر المدقع والخراب؛ يتضح لك الفرق بين الإدارتين.

اختلال الإدارة العسكرية بإدارة الجواسيس لها

اختلَّت إدارة العساكر البرية والبحرية، وأصبحت العساكر لا تُمرن على التعليم الناري وإصابة الهدف، ولا تُساق سوق الجيش؛ خوفًا من الهيجان وحدوث الانقلاب! مع أن دول أوروبا — ولا سيَّما ألمانيا وروسيا والنمسا وفرنسا — تقوم جيوشهن في كل سنة بمناورات حربية، يحضرها الإمبراطور نفسه مع أولاده وأسرته وجميع ضباط السفارات الأجنبية، فيستطلعون أحوال الجند ويشوقونهم، وصار الأسطول العثماني، الذي أنفق على شرائه الملايين، كالمقعد الذي يروم النهوض ولا يقدر عليه لطول مكثه، فصدأت آلاته بسبب عدم الاستعمال والجري في البحار، واختُلست أموال كثيرة من التجهيزات العسكرية، ولا سيما في تجهيز الأسطول وشراء البواخر والمدرعات، وصار الترقي في المراتب لا يُبنى على القدم والاضطلاع والاستحقاق، بل على الالتماس والانتساب والرشوة، فكان الضابط يرتقي إلى المراتب العلى في أوجز مدة، وقد يكون لا يعرف للجنديَّة معنى حتى ولا احترام مَن فوقه في الرتبة، وكان الضباط يبيعون رواتبهم التي تبقى دينًا عند الحكومة للسماسرة بأثمان بخسة، حتى بيعت المئة قرب بأربعة قروش! وبيعت حلَّة «بدلة» العسكري التي تشتريها الدولة بمئات من القروش بعشرين قرشًا؛ أي إن المستحق للراتب والحلَّة كان يوقِّع على الورقة المؤذنة بالوصول إليه على القاعدة والأصول، كأنه استلم الحلة من مخزن الألبسة أو قبض الراتب من صندوق الخزانة! ثم يسلمها للسمسار فيعطيه هذا في مقابلها ما يتفقان عليه، ثم يتفق السمسار مع المحاسبة جي «القائم بالحسابات» ومن فوقه ويربحون الفرق، ويقيدون ذلك في الدفاتر «وارد وصادر» كأنها جرت على القاعدة والأصول، وبهذا أصبح الضباط في حالة يُرثى لها. وكنت ترى ضباط البحرية، البالغ عددهم نحو ستة آلاف، في قهوات الأستانة خلوًا من العمل يتجولون في شوارعها وحاراتها!

اشتبهت الإدارة المستبدة في أمراء العسكرية، الذين تعلموا في أوروبا وخدموا الأمة والوطن، وصارت لهم مَلَكَة ومعرفة تامة بأحوال الزمان، فأبعدتهم عن الأستانة وأشغلتهم بالوظائف الثانويَّة، بداعي ميلهم إلى الأفكار الحرة وإعادة القانون الأساسيِّ، ولقد بلغ عدد الراجعين منهم إلى الأستانة بعد حدوث الانقلاب ستين شخصًا من الباشوات وأمراء العسكرية وخمسمائة ضابط، ومنهم: رجب باشا، وفؤاد باشا الشهير، وناظم باشا؛ وهو صهر عالي باشا. وأصبحت قيادة العساكر وإدارة المدارس العسكرية بأيدي أناس لا كفاءة لهم، وليس لهم إلا التجسس على أصحاب الأفكار النيِّرة وإبعادهم عن مركز الإدارة، وكانوا يعدُّون ذلك خدمة لمنافع السلطنة والمحافظة على الخلافة الإسلامية! فأصبح للتجسس والمراقبة دائرة من أعظم دوائر الدولة، لها مراكز وشُعب كثيرة ومعاشات وافرة غير الإحسانات والإنعامات! فكان الجواسيس ينظِّمون التقارير في كل حادثة ومسألة صغيرة كانت أو كبيرة، ويختلقون المسائل ويفترونها ويصوِّرونها في قوالب مستحيلة، ينبذها العقل ويأباها أولو النظر الصحيح والوجدان السليم، وما ذلك إلا لإظهار خدمهم وإثبات تيقظهم ومغالبتهم لنيل المكافأة، والمابين لا يكلُّ من تحقيق مضمون هذه التقارير لعله يجد في مائة كاذبة واحدًا صحيحًا، فإذا قالوا: «فلان له قصد سيئ بالخليفة»، أو «له مخابرة مع حزب تركيا الفتاة»، أو «عنده أوراق ضارة»؛ كانت كل واحدة من هذه التهم كافية للدمور على منزله وتفتيش أوراقه وهتك حرمته، ثم نفيه أو حبسه أو عزله وإبعاده، فكانت شبههم هذه تدور على حدوث المؤامرة ضد الذات الملوكيَّة والمسِّ بحقوق الخلافة الإسلامية، على أنَّهم لم يتخذوا في الحقيقة سياسة إسلامية، وهي المعبَّر عنها عند الإفرنج بقولهم: «بان إسلاميزم Panislamisme» كما توجد سياسة سلافيَّة «بان سلافيزم Panslavisme» وسياسة جرامانية «بان جرامانيزم Pangermanisme». ولا تجد في دوائر الدولة كلها قلمًا مخصوصًا للمصالح الإسلامية، كما يوجد في باريس وبرلين وبطرسبرج أقلام ودوائر خاصة بدرس المسائل الإسلامية درسًا تاريخيًّا علميًّا؛ للوقوف على أفكار المسلمين وهيئتهم الاجتماعيَّة، وعلى أحوال العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها؛ ليكون الوزراء والموظفون على بصيرة ويقين من حقائق هذه المسائل الحيويَّة الاجتماعية، فقصدهم من السياسة الإسلامية إنما هو أكل الحيات! والتظاهر بالكرامات! والتكبُّر على الناس، والتشبُّه ببني العباس.

لم تباشر الحكومة أمرًا جديًّا لعمران البلاد واستخراج ثروتها الطبيعيَّة والسير بها في معارج التمدُّن والرفاه، وتعليم رعاياها أصول الزراعة والتجارة وعقد الشركات والتعاون على ما فيه نفع البلاد، بل عاكست جميع المشروعات الوطنيَّة؛ فكانت لا تمكِّن من فتح المدارس الخصوصية أو تعليم الأولاد، ولا سيَّما المسلمين في المدارس والبلاد الأجنبية، وحظرت تأسيس الجمعيات، وأطفأت حميَّة أرباب الهمم تذرُّعًا بأنها تؤدي إلى الثورة والانقلاب! فكم نظر الولاة والمتصرِّفون شزرًا إلى مدرسة وطنية أسسها الفرد، أو إلى مدرسة سلطانيَّة أسستها الجماعة، أو إلى شركة صناعية أو مالية عقدها الأهالي، وسرعان ما كانت تتعطل ويُمحى أثرها! وكم منعوا الآباء من إرسال أولادهم إلى المدراس الأجنبية أو إلى مدارس أوروبا! وكم اضطهدوهم من أجل ذلك!

ليس ما أجرته الحكومة من مدِّ بعض الخطوط الحديدية، وإصلاح المرافئ التجارية، وتطهير المستنقعات؛ إلا إجابة لطلب الشركات الأوربية، وتوسط بعض المتنفِّذين للحصول على امتيازاتها، والاستفادة بما يعود عليهم من المنافع الشخصية. فمنح الامتياز كان من قبيل الإنعام والإحسان، لا يكاد يتم لصاحبه ويأخذ به الفرمان السلطاني، حتى يبيعه لشركة أجنبية ويربح منه الملايين، فيوزع نصفها على الذين كانوا عونًا له في الحصول على الامتياز، ويبقي النصف الآخر ربحًا صافيًا له في مقابل أتعابه بالذهاب من المابين إلى نظارة النافعة «الأشغال» والصدراة، وملاحظة الخدم والكتَّاب والتقرب بهم إلى كبير القلم أو الدائرة، وكل زيارة تحتاج إلى إكرام و«شوفة خاطر»!

روى لي أحدهم عن بعض النظار أنَّه أوقف ختم مضبطة امتياز في مدِّ سكة حديدية كبيرة على أخذ أربعين ألف ليرة عثمانية، وأنه لم يقبل أخذ حوالة على المصرف «البنك» أو قوائم نقدية خوفًا من ظهور الارتكاب، واشترط أن يكون ذهبًا عينًا! قال الرواي: فجاءوا بالمال وصفُّوه على منضدة كبيرة مرخمة عُمُدًا عُمُدًا وكان كل عمود خمسين ليرة؛ فكان ذلك ثمانمائة عمود مصفوفة صفوفًا متوازية ملزوزة، وللأصفر الرنان فوق الرخام منظر عجيب! فلما تم العدُّ والحساب قال دولة الناظر — وكان مستلقيًا على فراش الموت: «تماممي؟» يريد: هل العدد تامٌّ؟ فقيل له: نعم يا سيدي تام. فأخرج الختم من كيسه المُعلَّق في عنقه وختم المضبطة، ثم تُوفي بعد ثلاثة أيام؛ فكانت آخر ملذاته من نعيم الدنيا! ولذلك كان فريق من الكبراء والموظفين يتمتع بالقناطير المقنطرة من الذهب ويقبض رواتبه سلفًا، وويل لعمال الخزانة إن لم يدفعوها؛ وفريق يتضوَّر جوعًا وهو ينتظر رواتبه المتراكمة دينًا عند الحكومة من سبعة إلى ثمانية شهور في السنة، وهي التي يعول عليها في الإنفاق على نفسه وعياله النفقة الضرورية، وكان ضباط العساكر مظلومين أكثر من سواهم؛ فكانت رواتبهم وتعيناتهم — على قلتها — لا تُعطى لهم، وليس تحت أيديهم أموال ينهبونها أو رعيَّة يرتشون منها، ولقد كان ذلك من أعظم أسباب الانقلاب، قال فكتور هوجو: «إن الجوع يثقب في قلب الإنسان ثقبًا ويملؤه حقدًا.»

سقوط هيبة الحكومة في بلادها وفي الخارج

إن اختلال الإدارة وتذبذبها لم يبقِ للحكومة قاعدة مطردة ولا أصولًا مرعيَّة، لا في سياستها الداخليَّة ولا الخارجيَّة، وإنما أصبحت ذات قواعد مختلفة وسياسات شتى، بعضها يناقض بعضًا، فكانت تمحو في الغد ما أثبتته في الأمس، وربما غيرت سياستها مرتين في اليوم بحسب الأشخاص والوقائع، ولهذا سقط اعتبارها عند الدول الأجنبية، فتجرَّأْنَ على تهديدها حتى في المسائل الحقيرة، كمسألة توبني دولوراندو، التي أوجبت خروج الأسطول الفرنسيِّ إلى جزيرة مدللي «متللين»، فصرَّح إذ ذاك مارسل سامبا زعيم الاشتراكيين في مجلس النواب الفرنسي قائلًا: «ما هذه السياسة الخرقاء؟ إنكم لم تحركوا ساكنًا في المذابح الأرمنيَّة، ولم تتداخلوا فيما توجب معاهدة برلين المداخلة فيه من طلب الإصلاح وإجراء العدالة الإنسانية، والآن تتكبدون النفقات بإحراق فحم الأمة، وإرسال الأسطول لحماية نفرين من المرابين أقرضوا أموالهم على أن يكون ربحهم عشرين وثلاثين في المئة، حتى أصبح ما يطلب لهم عين السحت! وسقط اعتبارها أيضًا في نظر رعاياها، وصار أكثر الموجودين منهم في الديار الأجنبيَّة يأنفون أن يكونوا من رعيتها، فكانوا يبتعدون بقدر الإمكان عن سفارات الدولة وقنصلياتها، وبعضهم استبدل التابعية الأجنبية بالتابعية العثمانيَّة.»

كان أرباب الحميَّة والغيرة الوطنية من العثمانيين ينظرون إلى هذه الأحوال بعيون الأسف والاستياء، ويعتقدون أن مصدرها الوحيد هو الاستبداد، ولا تخلُّص منه إلا بتعليم الأمة واستنارة ذهنها، والرجوع في الأحكام إلى الدستور المنسوب لمدحت باشا، وإن لم يكن كله من بنات أفكاره، فكان الاستبداد ضاغطًا على جميع أفراد الأمة، لم يقتصر بضغطه على ضعفائها وأحرارها وحزب تركيا الفتاة فقط، بل شمل جميع أفراد خاندان آل عثمان وجميع المقربين من رجال الدولة، الذين أفنوا أعمارهم في دور الاستبداد وجمع الأموال، والوزراء والموظفين كافة وجميع الأهالي، ولا سيَّما في الأستانة، حيث بطلت الأفراح والجمعيَّات المشروعة لعقد النكاح أو للختان، وحرم على الناس الاجتماع للسمر والحديث؛ كل ذلك خوفًا من الانقلاب، وصار لا يُؤذن لأحد بالذهاب إلى أوروبا ولو كان مريضًا، كما أنه لا يؤذن للضباط بالتوجُّه إلى الأستانة أو المرور بها، وصار كبار الموظفين لابدَّ لهم من إذن مخصوص وإرادة سنيَّة لحركاتهم الشخصيَّة وأفعالهم البيتيَّة، حتى زواج بناتهم وأولادهم!

دخلت يومًا على السيد جمال الدين الأفغانيِّ، وهو في قصر لطيف، على بابه الخدم، وكانت تأتيه مائدة من «المطبخ العامر» فقال: أيَّة فائدة من هذا القصر والخدم والمائدة، وأنا إذا اشتهيت أكلة بفتك «شواء»، أو نشر فكر في جريدة، أو التنزُّه في ناحية من المدينة لا أستطيع؟! أيهنأ عيش الإنسان بغير الحرية؟! ولهذا فرَّ إلى باريس الداماد محمود جلال الدين باشا وابناه الأمير صباح الدين بك والأمير لطف الله بك، وفرَّ إلى مصر أحمد جلال الدين باشا رئيس الجواسيس وكثيرون غيرهم.

اتحاد الأرمن والأتراك في طلب الحرية

شكَّلت جمعية الانقلاب الأرمنية بعد مذابح ساسون المتقدم ذكرها فرقة من الثائرين، هجموا على البنك العثماني في الأستانة، وألقوا فيه القنابل سنة ١٨٩٦؛ ليلفتوا بذلك نظر الحكومة العثمانية والدول الأوروبية إلى وجوب القيام بالإصلاحات، وإعطاء الحرية وتعميم المساواة بين جميع الأهالي بلا فرق في الدين والجنس، ثم ألَّفوا لجانًا comités كثيرة، أهمها لجنة سيروب التي قاومت ست سنوات في جبال ساسون، ثم حولت الجمعية نظرها إلى جهة قافقاسيا «القوقاز» الروسية؛ بسبب اضطهاد أميرها البرنس جاليتزين للأرمن والتابعين لروسيا، وتسليط التتر المسلمين عليهم؛ مما أدَّى إلى حدوث مذابح باكو وفظائعها وعدة وقائع ومقاتلات، وتصدَّى الثوار لقتل الرؤساء والقواد والأمراء والضباط الذين سبَّبوا المذابح، وكان قتل كل واحد منهم يكلِّف الجمعية الأموال والنفوس، فقتل بليف مثلًا سبب هلاك أربعة من أعضاء الجمعية، وصرف مائتي ألف فرنك، وكذلك إلقاء القنبلة في موكب صلاة الجمعة أمام سراي يلديز؛ فإنه كلَّفهم خسائر جسيمة، فعدلت الجمعية الأرمنية بعد ذلك عن هذه الحركات، ومالت إلى الاتفاق مع تركيا الفتاة، فعقدت مؤتمرًا في ويانة، حضره جماعة من الترك والأرمن والمقدونيين والروم والكرد والعرب واليهود والأرناؤوط، وكان الشارع في عقد هذا المؤتمر معلوميان أفندي الأرمني الشهير، وقد تم اتفاقهم فيه على المسائل الآتية: (١) قلب الحكومة الحاضرة والسعي في تحقيق ذلك بجميع الوسائل. (٢) تأسيس حكومة مقيدة دستورية لجميع رعايا المملكة العثمانية. (٣) استعمال جميع الوسائل الانقلابيَّة لتحقيق هذا المقصد. وذلك لأن الحكومة المستبدة استعملت جميع الوسائل لخراب المملكة وإطفاء نور العلم والحرية، فأقفلت المدارس وحبست المعلمين ونفت التلاميذ، وإن الأماكن التي بقي فيها شيء من المدارس، أنقصت التعليم فيها بإيجاد مراقبة لم يسبق لها مثيل، وصارت الجرائد لا تنشر من الأخبار إلا ما يُؤذن لها بنشره بعد التحريف والتغيير أو الاختراع من جانب المراقب، وصارت التكاليف المستوفاة بلا عدالة لا تصرف على التعليم أو التبسيط في الحضارة والعمران، بل على الجواسيس والجرائد المؤيدة للظلمة المحبذة لأعمالهم، ولا سيما في البلاد الأجنبية، وذلك لإيهام ومخادعة أوروبا عن أحوال الممالك العثمانية.
فمَنْعُ العثمانيين من التجول والسفر، ومنْعهم من أخذ تذاكر الجواز Passe-port؛ أوجبا تعطيل التجارة، كما أن استيفاء التكاليف الأميرية بطريقة غير عادلة، وفقدان الأمن في البلاد، وتراكم الحاصلات، وكثرة المراباة، وفقدان وسائل الاختلاط؛ كل ذلك كان سببًا قويًّا في خراب الزراعة، فأصبحت البلاد التي كانت مزرعة الدنيا في عهد المدنيَّات السابقة خرابًا، وأراضيها قفرًا بلقعًا، حتى هاجر منها أهلها الذين وُلدوا فيها إلى أمريكا وأوروبا ومستعمرات إفريقيا؛ ليفتشوا لهم عن قليل من الحرية والأمن وأسباب المعيشة، فالمهاجرة والقحط أكملا العمل الذي بُدئ بالمذابح، وأنتج الخراب للبلاد وخلوها من السكان؛ فلجميع ما ذكر من الأسباب أصبح الانقلاب السياسي ضروريًّا لمنع انقراض المملكة العثمانية، ولتوقيف انحطاطها. تلك خلاصة المذكرات والمناقشات التي جرت في المؤتمر.

نهضة جمعية الاتحاد والترقي وانتشارها

حدث الاختلاف في فرع جمعية الاتحاد والترقي العثمانية في أوروبا على الرياسة، فانقسم إلى أحزاب، وفارقه الكثيرون من أعضائه، ولكن صاحب جريدة مشورت بقى ثابتًا يتوفر على إصدار جريدته في أوقاتها وغيرها من المنشورات، وكان الدكتور نظمي بك السلانيكي الأصل وغيره من ذوي الغيرة الوطنية من خير الأعوان له، وقبل حدوث الانقلاب بأربع سنين كانت جمعية الاتحاد والترقي العثمانية ضعيفة عاجزة في حكم العدم، ولذلك لم يعبأ بها أرباب السياسة ولم يعتدُّوا بأن لتركيا الفتاة حزبًا موجودًا، بل كانوا يرون أن هناك بعض المتشردين ينشرون أوراقًا قليلة الجدوى لتخويف المابين ونيل الوظائف والإحسان، وكانوا يعدُّون أحمد رضا بك معاندًا مصرًّا على طلبه لتخليد اسمه بين الفلاسفة الحقيقيين، مفضلًا ذلك على حطام هذه الدنيا الفانية.

تداخلت الدول الأوروبية منذ أربع سنين في المسألة المقدونية؛ أي في ولايات لانيك وقوصوه ومناستر، وطلبوا إصلاحها، فزال منها بعض الظلم وتحسنت إدارتها؛ تحقيقًا لرغبة أوروبا وخوفًا من مداخلتها، وسمحوا لأهالي تلك الولايات بقليل من الحرية، فنفَّسوا بها عن صدورهم، ونظروا في شئونهم، وكانت البلغار والروم تشكل الجمعيات السرية السياسية المعروفة باسم «كوميته» comité، قسموا الداخل فيها «كوميته جي»، بإضافة أداة النسبة التركية إلى كلمة كوميته الإفرنجة للمحافظة على قوميتهم وحقوقهم وأوضاعهم، وكانوا يبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيلها، ويظهرون من الحماسة والغيرة الوطنية ما لا يُقدَّر ولا يُوصف، وكانت الحكومة المحلية تهابهم وتلاطفهم وتستميح رضاهم، فعزَّ ذلك على المسلمين من الترك والأرناؤوط سكان تلك الولايات، واعتبروا بإخوانهم في المماليك البلقانية المستقلة استقلالًا كليًّا أو جزئيًّا — كرومانيا والصرب والجبل الأسود واليونان والبلغار والبوسنة والهرسك — فاستيقظوا من نومهم، وأفاقوا من غفلتهم، وقالوا: إلى متى نبقى في هذا الظلم والاعتساف والجور والاستبداد والذل والتحقير؟
ولا يقيم على ضيمٍ يُراد به
إلا الأذلان غير الحي والوتد
ما لنا لا نفعل كالروم والبلغار والرومان٥ والصرب في محبة الوطن والدفاع عنه؟ ولما سألوا مشايخهم عن ذلك أجابوهم بأن الإسلام يساعد ويحض على ذلك، ووجدوا أمامهم تعليمات جمعية «الاتحاد والترقي»، فدخلوا فيها باختيار وشوق وحميَّة، عارفين بما ينتجه فعلهم من الفوائد المادية والمعنوية، فتشكل لهذه الجمعية مركز في سلانيك وفروع عديدة في جميع جهات الولايات الثلاث المقدونية، ولقد بلغ أعضاء الجمعية في سلانيك وحدها سبعة آلاف شخص، والجواسيس غافلون لا يدرون من أمرهم شيئًا، وكان جمهور الأهالي في الولايات الثلاث المذكورة يعتقدون بأنه سيصيب بلادهم ما أصاب كريد وولاية الروملي الشرقية والبوسنة والهرسك … إلخ؛ ولذلك كانوا في الباطن يتمنون نجاح العملية وإن لم يقدروا على التظاهر بذلك.

الأمير صباح الدين وسياسته

أكبَّ الأمير صباح الدين على تحصيل العلم، ولا سيما بعد وفاة والده فاستنار فكره، وجنح للحرية والأخذ بوسائل المدنية الحديثة، فأسس حزبًا سياسيًّا يُعرف بحزب «التقييد واللامركزية مع التشبث الشخصي»، ولسان حال الحزب جريدة «ترقي» التركية، وقد تأسست سنة ١٩٠٦ ومحرِّرها هو أحمد فضلي بك كاتب الجمعية، فعدم المركزية أو اللامركزية Décentralisation يُقسم إلى قسمين: عدم مركزية سياسية مثل مستعمرة كندا الأمريكية مع إنجلترا؛ وعدم مركزية إدارية وهو عبارة عن توسيع اختصاص الولايات وتأييد حريتها وانتخاب المجالس العمومية فيها، كما أشير إليه في المادة (١٠٨) من القانون الأساسي، وجرى تطبيقه قبلًا فتشكل لولايات الشام مع فلسطين مجلس عمومي اجتمع مرة واحدة في بيروت، وكان ذلك في أيام ولاية راشد باشا الذي صار بعد ذلك ناظرًا للخارجية وقُتل في واقعة جركس حسن بك، فمراد البرنس صباح الدين بك بعدم المركزية هو عدم المركزية الإدارية، كما صرح به لاعدم المركزية السياسية الذي هو عبارة عن استقلال الإدارة مثل حكومة كندا.

ومرادهم بالتشبث الشخصي ألا يكون الأهالي عالة على حكومتهم، بل أن يسلكوا سبل التجارة والصناعة والزراعة في أمر معايشهم، حتى لا يكونوا منتظرين سبب الرزق من حكومتهم والانكباب على طلب الوظائف للتعيُّش منها؛ لأن السنة في الحكومات المستبدة أن ينتظر الأولاد دائمًا الإعانة من أسرهم، والأسر من أرباب مجالسهم، وأرباب المجالس من حكومتهم، ولكن الأمم الأنجلوسكسونية بعكس ذلك؛ فإن أولادهم يعتمدون في تحصيل الثروة على أنفسهم ويختارون الصناعة اللائقة بهم، فهذه خلاصة أفكار هذا الحزب السياسيِّ.

نهاية الفساد والخراب في أحوال الدولة

زاد البلاء في السنين الأخيرة، وتعسَّر تدوير دولاب الحكومة مع إجهاد المأمورين أنفسهم في ذلك؛ فحدث في الأذهان كدر من الأمس وخوف من الغد، واحتراس من كل إنسان، ويأس من كل شيء، ونفرة زائدة، وبغض وحقد كامنان في النفوس، وعلم المقربون أنهم على وشك الانقراض، فضاق عليهم الوقت ولزمهم الاستعجال، فتهالكوا على ادخار الأموال واقتناء العقار، وأودع الدهاة منهم ثروتهم في مصارف أوروبا وأمريكا وتطلبوا أعلى الرتب والمناصب، فنالوها واستفادوا من الحال الحاضرة بقدر ما أمكنهم، ولم يفكر الواحد منهم إلا في نفسه وأولاده، ثم الأقرب فالأقرب من أسرته، واستماتوا في سبيل الوصول إلى السعادة ونفوذ الكلمة بالتقرب، واستحوذوا على مناصب الدولة ورتبها ونياشينها وألقابها، ووُجِّهت رتبة أمراء العسكرية ورتبة «بالا» العلمية على المشايخ ذوي التيجان والعمائم، ومُنحوا الراحة من الخدمة العسكرية هم ومن انتسب إليهم من الرفاعية في جميع المملكة، فأصبحوا لا ينتظمون في سلكها، فكانت هذه المنحة من غريب التناقض، وكان إذا نصب الإنعام على فرد أو أسرة انهمل كالغيث المتواصل، وانصبَّ كله في زرع ذاك الفرد أو الأسرة دون أن يفيض منه شيء على المزارع المجاورة، ولهذا قال أحد العقلاء:

أمير المؤمنين فدتك نفسي
ونفس «أبي الضلال» لها فداء
أتحييه وتقتلنا جميعًا؟!
لعمرك إن ذا لهو البلاء
فلا والله ما هذا بعدل
ولكن أنت تفعل ما تشاء

واحتكروا أوقاف الجوامع ومزارعها، بل ضبطوها ضبطًا بلا حكر، وباعوا امتيازات الأمور النافعة للأجانب؛ فأضروا الدولة بذلك أضرارًا جمة، وشرهت نفوسهم للعجب، وتتلعت أعناقهم عظمة وكبرياء، وزاد الحرص والطمع حتى فقدوا جميع المزايا الإنسانية، فصار الواحد منهم كأنه وحش مفترس، ينقلب يوم سقوطه وإبعاده عن منصب الدولة شيطانًا رجيمًا، كما ظهر من أفعال فهيم باشا وهو منفي إلى بروسه الذي أهلكه الأهالي فيها ضربًا بعد إعلان الحرية.

كنا أشرنا إلى هذه الحالات المنكرة المكدرة، وإلى قرب حدوث الانقلاب في مقالة عنوانها «حكمة التاريخ»، نشرتها جريدة «طرابلس الشام» في عددها (٥١٧) الصادر في ١٥ تموز/يوليو سنة ١٩٠٣ بعد أن بدَّل المراقب فيها وحرَّف كما أراد، ظنًّا منه أنها تخفى، وربما خفيت على فطنته ودقَّت على فهمه، ولكنها عندما بلغت الأستانة واطلع عليها الملدوغون، صدر الأمر بتعطيل الجريدة، فكاد بركان الاستياء تنفجر منه فوهات في عدة جهات؛ لأن بقاء الحال على ما ذكر غير ممكن في القرن العشرين، خصوصًا وأن البلاد العثمانية متوسطة بين أوروبا والشرق الأوسط والأقصى، ومما زاد اختلاطنا بالعالم المتمدن تجديد السكك الحديدية وتوارد بواخر الشركات الأجنبية على ثغورنا، ومشاهدتنا صور السينماتوغراف وسماعنا أصوات الفونوغراف، وركوبنا الترام الكهربائي والحوافل والدراجات، كل ذلك كان من دواعي اختلاط الأمم وامتزاجها، وأصبحت المسافة بين الأستانة وباريس أقل من ستين ساعة بعد أن كانت تُقطع في شهور وأعوام.

نمت النابتة الجديدة من الشبان المتعلمين في مدارس الدولة الملكية والعسكرية، أو في المدارس الأجنبية التي افتتحها الأوروبيون والأمريكيون في الشرق رغم منع الحكومة المسلمين من دخولها والتضييق عليهم وعلى أوليائهم في ذلك، أو في المدارس الخصوصية التي أسسها طوائف الروم والأرمن واليهود والبلغار، فتعلمت النابتة الجديدة من الشبان والبنات اللغات الأجنبية، وطالعوا الجرائد والكتب، ووقفوا على مواضع الضعف في الدولة، وأدركوا محلَّ الخلل، وصار يتخرج في كل سنة في هذه المدارس عدد عظيم متشبعون بفكر الحرية، ومتخلقون بالأخلاق الأوروبية والحماسة الوطنية، فكانوا كلهم موضع شبهة أولئك الجهال المستبدين بالأمر، فضيقوا عليهم واضطهدوا هؤلاء الشبان اضطهادات كثيرة شتى؛ كالنفي والحبس والمراقبة وتدمير المنازل وتفتيش الأوراق، فكانوا كلهم عرضة لاستبداد المستبدين.

فلما حدث الانقلاب في ٢٤ تموز/يوليو، وانفجر في سلانيك وما جاورها من الولايات بركان الاستياء؛ كان هؤلاء الشبان وجميع العثمانيين مساعدين ومعضدين لحزب تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي، ولذلك لم تحصل معارضة ولا مقاومة من أحد؛ لأن الجميع مستاءون حتى المستبدين أنفسهم والمستفيدين من الحال الماضية، والوزراء الذين أودعوا السجن واستُرد منهم ما اغتصبوه من الأموال؛ لأن كلًّا منهم كان يتطلب أكثر مما ناله، ولو لم يحدث الانقلاب بالصورة التي ظهر فيها لحدث بصورة أخرى بعد تبدل السلطة، ولكان إذ ذاك مدهشًا دمويًّا.

انفجار بركان الحرية وحدوث الانقلاب في ٢٤ تموز

تسنَّى لجمعية «الاتحاد والترقي» العثمانية في سلانيك إخفاء أمرها مدة، ولكن رائحتها فاحت بعد ذلك لكثرة الداخلين وصعوبة الكتم والإخفاء، فأحسَّ بها جواسيس سلانيك وبعثوا بتقاريرهم إلى المابين، فأرسلت الجواسيس من الأستانة، فقرَّرت الجمعية إعدام الذين ثبت لديها تجسسهم وخيانتهم للوطن، وعيَّنت فدائيين من أعضائها بالقرعة أو بالتراضي.

وكان القائممقام ناظم بك قومندان مركز سلانيك يبذل جهوده في كشف أسرار الجمعية، فذهب إذ ذاك إلى الأستانة لعرض معلوماته، ورجع منها نائلًا ألفي قرش ضُما على راتبه فزاد اجتهاده وتحرِّيه، وطُلب ثانية إلى الأستانة، وبينا كان على أهبة السفر، إذ فوجئ بضربة من أحد الضباط، فذهب إلى الأستانة مجروحًا، وحضر بعد ذلك إلى سلانيك صادق باشا وماهر باشا وأمير اللواء يوسف باشا وبعض الياورية وعدة من موظفي الملكية، ونظَّموا دفترًا بأسماء كثيرين من المتَّهمين بعضوية الجمعية، وحبسوا ونفوا وألقوا الرعب في قلوب الناس، حتى كاد اليأس يستولي عليهم، فقام في مناستر صلاح الدين بك قائمقام أركان حرب والبكباشي نيازى بك الأرناؤوطي؛ بتشكيل فرقة من العساكر الوطنية وذهبوا لناخية «رسنة» وهي في الغرب الشمالي من مدينة مناستر على مسافة ثلاثين كيلومترًا، ولحق بهما كثيرون من الوطنيين، وأنور بك البكباشي صهر ناظم بك قومندان سلانيك، وكان طلب الأستانة ووعد بمكافأة كبيرة، ولكنه اختار نفع وطنه على منفعته الذاتية، ثم قُتل في سلانيك أحد الجواسيس، فقامت حكومة الأستانة قلقًا عظيمًا، وطلبت مفتي آلالاي مصطفى أفندي لتستفهم منه عن هذه الأحوال، وضمَّت إلى معاشه خمسمائة قرش! وبينا كان خارجًا من الفندق للسفر إلى الأستانة جرحه أحد الضباط بحضور جمٍّ غفير، وهرب الجارح من دون أن يعارضه أحد من الحاضرين، ولا أخبروا عن أشكاله وصفاته، فندبت حكومة الأستانة للسفر إلى «رسنة» الفريق الأول شمسي باشا قومندان «مترويجه»، فاختار من يعتمد عليهم من الضباط وتابورًا من العساكر، وحضر على القطار إلى سلانيك، ومنها إلى مناستر، وذهب توًّا إلى إدارة التلغراف لمخابرة المابين، فخرج عليه أحد الضباط وقتله، وامتنع من معه من الضباط والعساكر عن الزحف على «رسنة» ومقاتلة إخوانهم، ثم قتل على هذا الوجه كثير من الجواسيس الملكيين والعسكريين، فقرَّر مجلس الوكلاء إرسال ثلاثين ألفًا من عساكر الأناضول، ولمَّا وصل منهم إلى سلانيك الثلاثة توابير الأُوَل امتنعوا عن مقاتلة إخوانهم وانضموا إليهم أيضًا، فأحس المابين بأن سوق عسكر الأناضول إلى الروملي إنماء لقوَّة الجمعية، فأوقف إرسال بقية عساكر الأناضول إلى سلانيك، ثم اجتمع في «فيرزوبك» عشرون ألفًا من الأرناؤوط، وذهب سبعمائة من رؤسائهم إلى اسكوب لإعلان القانون الأساسي والحكومة المقيدة.

وفي يوم الخميس ٢٣ تموز/يوليو سنة ١٩٠٨ خرج الناس في سلانيك صباحًا، ووجدوا إعلانات مختومة بختم الجمعية؛ أي جمعية «الاتحاد والترقي» العثمانية، تدعوهم إلى الاجتماع في يوم الجمعة لإعلان القانون الأساسي والحرية، فلم يتمهَّلوا للغد، بل اجتمعوا في ذلك النهار في ميدان أوليمبوس على الطوار «الرصيف» في مدينة سلانيك، وضج الجمهور قائلًا: إما الحرية وإما الموت! وأول من خطب على طنف «بلكون» فندق «أوليمبوس بلاس» غالب أفندي بالتركية، ثم مانويل قره صو باليهودية «الإسبانية»، ثم روصو أفندي بالفرنسية، وسليمان أفندي بالتركية، وفضلي بك نجيب محرر جريدة «عصر» بالتركية، وفيلوطاش بابا جورج بالرومية والتركية، وترجمان المحكمة المخصوصة «فوق العادة» بالبلغارية، وفي ختامهم عادل بك رئيس البلدية بالتركية، ثم هتف الجميع «فليحيا الوطن، فلتحيا الأمَّة، فلتحيا الجمعية، فليحيا الجيش، الحرية أو الموت»، وأعدُّوا في تلك الليلة مأدبة ضُربت فيها الموسيقى العسكرية على الأنغام المرسيلية:٦
Allons enfants de la patrie le jour de gloire est arrivé.

وكانت ترجمت بالتركية هكذا: «قالقك أي أهل وطن شان كونلري كلدي»، وفي ليلة الجمعة وردت رسالة برقية إلى حلمي باشا المفتش العام لولايات مقدونية بصدور الإرادة السنيَّة بإعادة القانون الأساسي، فاجتمع الناس في سراي الحكومة، وأُعلنت الحرية والقانون الأساسي رسميًّا بحضور المفتش العام ومشير الفيلق الثاني إبراهيم باشا، وموظفي الحكومة والبلدية وأعضاء الجمعية وابتدأ موسم الأفراح والسرور.

الخلاصة وأسباب الانقلاب بلا سفك دماء

حدث الانقلاب العثماني بلا سفك دماء ولا حصول اضطراب أو قلاقل في المملكة، كما حصل عند باقي الأمم من الإنجليز والفرنسيين والأمريكان والمجر والروس وغيرهم، وفي ذلك قال بعض رجال السياسة: «لا تنبت الحرية ما لم تُسقَ بالدم» ولذلك أسباب كثيرة، منها:
  • (١)
    أن الحكومة ليست مطلقة كما يظنها الناس ويسميها الإفرنج Théocratique، وإنما هي مقيدة بأحكام الشرع الشريف، الذي يأمر بالشورى ويحض عليها كما ذُكر في صدر هذه الرسالة، فالانقلاب لم يضيِّع حقوق السلطنة والخلافة كما ضيع انقلاب الفرنسيين وغيرهم حقوق ملوكهم المطلقة المقدسة الإلهية! حتى انتصر لها فريق من الناس، وقاتلوا في سبيل استرجاعها ولا يزالون يطالبون بها في هذا القرن العشرين عصر التمدن والعلم والنور.
  • (٢)
    عدم وجود امتيازات لصنف من أصناف الأمة العثمانية، كما يوجد عند الفرنسيين للأشراف وللرهبان امتيازات وحقوق مشروعة على الأراضي بحسب عرفهم وشرعهم القديم، ولذلك قاتلوا عليها لما حدث الانقلاب الفرنسي وحرمهم من حقهم المشروع على زعمهم واعتقادهم، أما الانقلاب العثماني فلم يضيع لأحد حقًّا فإن الحقوق التي كانت على الأراضي للدره بكوات «دره بكلر»٧ المعروفين عند الإفرنج باسم Féodalité وهي في المملكة العثمانية حقوق الزعامة ألغيت بعد التنكيل بالإنكشارية في عهد السلطان محمود خان، وأُعطي لأصحاب هذه الحقوق ضمانة ورواتب استوفوها مدة حياتهم، ومنهم من لا يزال في قيد الحياة ليومنا هذا يستوفي حقه من الخزانة في كل سنة، ووُضع أخيرًا قانون الأراضي الموافق لأحكام الشرع، وهو من أحسن قوانين الدولة وضعًا وترتيبًا كما هو معلوم عند طلبة مدارس الحقوق؛ فالمسلمون لا فرق في الحقوق بين الشريف منهم والوضيع، وغير المسلمين «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، أما الامتيازات التي وهبها السلطان محمد الفاتح للروم وأقرهم عليها، والامتيازات الأجنبية التي أنعم بها سلاطين آل عثمان على الأجانب تفضُّلًا منهم وإحسانًا، لا بحرب وغلبة؛ فسيجري الاتفاق عليها بصورة حبِّيَّة يرضى بها الجميع.
  • (٣)

    إن الأفراد الذين عُزلوا من وظائفهم وصودر ما استحوذوا عليه من الأموال المنقولة بسبب ارتكابهم واستبدادهم؛ يعترفون بأنهم ادخروا هذه الأموال الكثيرة من غير الوجوه المشروعة، بل بأكل أموال الأمة والدولة بالباطل، كما يعترف الأذكياء منهم بمشروعية هذا الانقلاب ولزومه وفائدته، وقد صرحوا بذلك وأقروا به، فلا يُتصور قيامهم للمطالبة بشيء أو لإعادة الإدارة السابقة المستبدة، وليس لهم عصبيَّة تساعدهم على ذلك إن هم أرادوا أو حاولوا، وإن الأمة بأجمعها عرفت الحق من الباطل والنافع لها من الضار، نعم إن الموظفين الذين خدموا مدة ثم أُلغيت وظائفهم أو عزلوا منها لهم حق في طلب راتب التقاعد أو التوظيف في وظائف أخرى؛ إذ لا يليق بشرف الأمة أن تُلقي على قارعة الطريق جمًّا غفيرًا قضوا حياتهم في خدمة الإدارة السابقة، ولا معاش لهم ولعيالهم غير ما كانوا ينقدونه من الرواتب، فإن هذا الانقلاب الذي بدأ بالشفقة على الأهالي المظلومين، من شأنه أن يستعمل الشفقة والحنان أيضًا في حق الظالمين؛ لتتم سعادة الأمة ولا يلحق بأحد ضرر ولا خسران.

والحاصل أن الفضل في حدوث الانقلاب العثماني من دون سفك دم ولا حصول اضطراب وقلاقل في المملكة؛ إنما هو للشريعة الإسلامية وما في أحكامها من العدل والمساواة في الحقوق؛ ولهذا كان رد الفعل أو الرجعة Réaction في هذا الانقلاب غير محتمل، بل هو مستحيل لعدم وجود أسباب معقولة أو مشروعة تحفِّز إليه، بخلاف ما حدث في فرنسا وأمثالها؛ إذ كان للقائمين برد الفعل أسباب كثيرة تحملهم على القيام لإعادة الإدارة السابقة. ا.ﻫ.
١  المراد بالجاندرمة: هم رجال الشحنة والشرطة المكلفون بحفظ الأمن والمساعدة على تحصيل الضرائب.
٢  في سنة ١٨٨٧ تألفت جمعية هنجلق الأرمنية ومعنى اسمها الجرس.
٣  يراد بكلمة «ملت» عند الترك الأمة، و«المليَّة» هي القوميَّة؛ فكل ما يرد في هذه الرسالة من هذه الكلمات ينصرف إلى ما ذكر، على أننا وضعنا عند معظم الكلمات التركية التعبير كلمة عربية بين قوسين تفسيرًا لها.
٤  الشفرة في اللغة التركية: هي المخاطبة بالأرقام بطريقة لا يعرفها إلا المتخاطبان، وهي مأخوذة عن كلمة «جفر» العربية.
٥  يريد بالرومان أهل رومانيا.
٦  هذا البيت من أبيات لحن الثورة الفرنسية وترجمته بالعربية ترجمة حرفيَّة نظمًا هكذا:
هلمُّوا يابني الوطن
فيوم المجد قد وافى
٧  يراد بكلمة «دره بكلر» في التركية أصحاب الزعامة والنفوذ الفعلي في المقاطعات، وقد كانت بلاد الدولة معظمها على هذا النمط، ولا سيما في الأناضول، فإن السلطة والنفوذ كانا في أيدي هذا الصنف من الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤