المبحث الأول

أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة١

انتقال الرياضيات من بغداد إلى العلم الحديث

أعرق المدن الثقافية آنذاك بغداد وقرطبة.

J. G. Crowther …

لعل أهم العوامل التي أدت إلى تَعَمْلُق العلم الحديث، وتميُّزه عن العلم القديم، إنما هي تسلُّحه باللغة الرياضية، وكانت إنجلترا على الخصوص — مَوْطن أديلارد الباثي — هي التي شَهِدَتْ ذروة الفيزياء الكلاسيكية الرياضية، وذلك بنظرية نيوتن التي بَلَغَ العلم معها غايةَ النضج المهيَّأ للنماء والتوالد.

وبهذا يَتَّضِح لنا دور الرائد المثابر أديلارد الباثي في شَقِّ رافد قوي ساهَمَ في تدفُّق نهر العلم الحديث، وذلك حين تَكَفَّل بنقل الرياضيات العربية من مَرْكَز توهُّجها في بغداد إلى اللغة اللاتينية، معْتَمِدًا في هذا على التراث الأندلسي والنصوص الأندلسية، خصوصًا مكنونات مكتبة قرطبة.

وسوف نرى أن جهود أديلارد الباثي وخطورة دَوْرِه، يعنيان أن قرطبة ومدارس الرياضيات فيها من العوامل التي لا يمكن فَهْم تاريخ العلوم الرياضية ونشأة العلم الحديث بدونها.

•••

فقد كانت قرطبة هي المركز المتألق للحضارة الأندلسية، وللعلم الأندلسي على العموم والرياضيات على الخصوص. فاكتسبت شُهْرة عالمية، وأصبحت من أهم مراكز الدرس في عصرها، واقترن اسمها بالعلم والعلماء، حتى قيل فيها:

بأربعٍ فاقت الأمصارَ قُرْطُبَةٌ
منهن قَنْطَرَة الوادي وجامعها
هاتان ثِنْتَان، والزهراء ثالثةٌ
والعلم أعظم شيءٍ وَهْوَ رابِعُها٢

وبطبيعة الحال ثَمَّة عِدَّة عوامل تهيأت لقرطبة وأَدَّت لهذا، يُجْمِلُها العاملان الجغرافي والتاريخي. العامل الجغرافي: هو وقوعها على نهر الوادي الكبير الخصيب والدافئ وسهولة الانتقال منه إلى بقية مراكز الحضارة الأندلسية في جنوب أيبريا أو إسبانيا، وتكاد قرطبة أن تكون على رأس مُثَلَّث، طرفاه مركزان آخران للحضارة الأندلسية توسَّطَتْهما، وكانت على مقْرُبة من كليهما، ألا وهما غرناطة وأشْبِيلِيَّة، ولكن إذا كانت أشبيلية تميزت بقصورها وعمائرها، فإن قرطبة تميزت بمدارسها وعلمائها.

على أن دَوْر قرطبة المتميز في الحضارة وفي العلم — وهما عادةً لا ينفصلان — تَهَيَّأ لها بِفِعْل تاريخها أكثر مما تَهَيَّأ بفعل جغرافيَّتها. فقد كانت قرطبةُ مركزَ الدولة الأموية وحاضرتها، وبعد أن اعتلى «الأمير عبد الرحمن بن محمد» الإمارة في قرطبة استطاع أن يضوي الممالك تحت لوائها، وبمجيء عام ٣٣٠ﻫ كانت قرطبةُ مركزَ المجد الإسلامي في إسبانيا، واستمر هذا حتى عام (٤٤٢ﻫ/١٠٣١م) وهو عام سقوط قرطبة وانفراط سلك الخلافة الأموية، وقيام الدويلات والممالك التي كانت بداية النهاية للحضارة الأندلسية، ولكن حتى بعد أن سقطت قرطبة، لم يَمْنَع سقوطها من أن يَسْتَمِرَّ ازدهار العلوم فيها؛ لأنه كان نِتَاجَ فعاليةٍ عميقة ومكثفة.

فمنذ أن استقرت فيها الخلافة الأموية، إلا وعَمِلَ أمراؤها على اتخاذ بلاطٍ تسوده الأبهة والفخامة، ونشط استقدام الشعراء والفلاسفة والعلماء من المشرق الإسلامي، ووَلِعُوا باقتناء الكتب، وجَدُّوا كي تَصِلَ قرطبة إلى مستوًى يُضاهي ما وَصَلَتْ إليه بغداد ودمشق والقاهرة.٣ فأصبحَتْ في قرطبة واحدةٌ من أكبر مكتبات العالَم القديم، ضَمَّت مائتَيْ ألف مجلد، وقيل أربعمائة ألف، وكانت فهارسها تستغرق أربعًا وأرْبَعِين كراسة، كل منها خمسون ورقة، ليس فيها إلا عناوين الكتب، بينما كانت أكبر مكتبة في أوروبا آنذاك — وهي مكتبة كنيسة كنتربري — لا تضم أكثر من خمسة آلاف كتاب. أما غيرها من المكتبات الكبيرة فكانت لا تحوي في العادة أكثر من مائة مجلد، مع استثناء مكتبة كلوني التي ضمَّت في القرن الثاني عشر — قرْن أديلارد الباثي — خمسمائة وسبعين كتابًا.٤ ويقول ابن سعيد المغربي في كتابه «الْمُغْرِب في حُلَيِّ المَغْرب»:

إن الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه الحكم المستنصر جَدَّا وأَنْفَقَا في إرسال الرسل للبحث عن الكتب في المشرق، وجَمَعَ ابْنُه ما لَمْ يجمعه أحد من الأمراء والملوك، وأوجد في قرطبة أكبر عدد من الكتبة والنساخين والمجلِّدين والمزخرِفين، استقدم بعضَهُم من صقلية ومن بغداد، على الإجمال، كان نقْل واستجلاب التراث المشرقي الخصيب يسير على قَدَم وساق، فتزدهر قرطبة.

وقد كان للأمير القرطبي الرابع «عبد الرحمن الثاني» أكبرُ النصيب في إنماء الازدهار القرطبي، إذا برز كأكبر الحُماة للعلماء وصديقًا مُخْلِصًا للأدب والفنون، ويُهِمُّنا الآن شَغَفُه البالِغُ بكل ما يتصل بعِلْمَي الرياضيات والفَلَك.

ولعل أهم النواتج التي تَمَخَّضَ عنها كل هذا هو انتقال الرياضيات العربية من عاصمتها بغداد إلى قرطبة، لتصبح قرطبة بدورها من أبرز مراكز الدرس الرياضي فى عصرها. وإذا كان رائد الرياضيات الأندلسية هو أبو القاسم مَسْلَمة بن أحمد المجريط المعروف بمسلمة المجريطي (وقيل إن المجريطي = المدريدي) (٩٥٠–١٠٠٧م) والذي يُلَقَّب بإقليدس الأندلس، فإن المجريطي أنجب تلاميذ كثيرين أنشَئوا المدارس في قرطبة. من أهمِّهِم الكرماني وهو (أبو الحكم عمرو بن عبد الرحمن بن احمد بن علي الكَرْماني)، قيل عنه إنه أَعْلم علماء زمانه بالهندسة، وأيضًا ابن الصفار، وهو أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عمر الشهير بابن الصفار، وكان متحقِّقًا بعلم العدد والهندسة والنجوم وله زيج مختصر وكتاب في (العمل بالأسطرلاب) ويقول عنه صاعِد الأندلسي: إنه موجَز حَسَن العبارة قريب المأخذ، وله تلاميذ كثيرون اشتهَروا بالفضل والعلم. وكذلك كان كلُّ عالِم رياضةٍ مبْرَزٍ في قرطبة له تلاميذ، حتى اشتهرت قرطبة بمدارسها الرياضية وأخرجت جحافل من علماء الرياضة العربية. نذكر منهم في القرن العاشر الميلادي: ابن السمينة البصير بالحساب، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن زيد الذي اشْتَهَر في الحساب والمنطق، وابن شهر، وابن البرغوث الذي يُعَدُّ مِنْ أشهر تلاميذ ابن الصفار، ومنهم أيضًا محمد بن خيِّرة العطار أبرز معلمي الهندسة والعدد بقرطبة آنذاك. هذا فضلًا عن التالين في القرن الحادي عشر من أمثال التَّجِيبي المعروف بالقويدس، وابن حيٍّ٥ … ولن ننتهي مِنْ حصْرِهم؛ خصوصًا وأنها أنجبَتْ أضعافًا مضاعَفة في القرن التالي — القرن الثاني عشر — وهو قَرْن أديلارد الباثي Adelard of Bath.

•••

وها هنا يتبدى دور أديلارد الباثي الذي استقطب هذا الزخم الصادر عن قرطبة، وهو ليس راهبًا كما يُظَنُّ، ويُعَدُّ مِنْ أهم الشخصيات الرياضية في أوروبا إبَّان القرن الثاني عشر؛ وذلك لأنه في طليعة المترجمين الذين تكفلوا بنقل الرياضيات العربية إلى اللاتينية.

لم يكن أديلارد مترجِمًا فحسْب، بل كان أيضًا عالمًا وفيلسوفًا. جهودُه المبكرة في الحساب ظَهَرَتْ في عَمَل عنوانه Regula abaei ليس له قيمة كبيرة؛ لأنه تكرار لجهود بؤثيوس Boethius (٤٨٠–٥٢٤م) وجيلبرت. على العموم انْكَبَّ بعد هذا على الرياضيات العربية ليبدأ في اتخاذ دَوْرِه على مسرح الفكر٦ وتاريخ العرفان، والذي يتركز في نَقْله إياها إلى اللغة اللاتينية.

فقد كان أديلارد صاحِبَ أوَّل ترجمة متكاملة في تاريخ العلم الأوروبي لصرح الرياضيات القديمة الأعظم: أصول الهندسة لإقليدس. كان بؤثيوس قد سَبَقَ أن تَرْجَمَ أشتاتًا منه، أما أديلارد فقد ثابَرَ حتى طرح بمفرده ترجمة متكاملة لأجزائه الخمسة عشر، وكما هي مطروحة في الأصل العربي، على الرغم من أن الجزءين الرابع عشر والخامس عشر في هذا الأصل ليست مِنْ وَضْع إقليدس نفسه، بل شروح وإضافات لاحقة.

وكانت هذه الترجمة العربية قد بدأت حين أَمَرَ بذلك جعفر البرمكي، إبان العصر الذهبي للعلم والحضارة الإسلامية الذي صَنَعَتْه بغداد، وكان «الأصول» أول ما تُرْجِم من كُتُب الإغريق، وقد تُرجِم من اليونانية إلى السريانية في مدارس الإسكندرية، ولأول مَرَّة تَرْجَم الحجاج بن يوسف بَعْض كُتُبِها عن السريانية إلى العربية في بدايات القرن التاسع الميلادي من أَجْل الخليفة هارون الرشيد، ثم راجع ترجمته من أجل الخليفة المأمون، وبصفة عامة يقترن اسم الحجاج الرائد بالترجمات الأساسية للأصول، والتي اعتمد عليها أديلارد، ولكن على مدار عهدي هارون الرشيد والمأمون وما تلاهما، عَمِل على ترجمة أجزاء كتاب الأصول ومراجعة الترجمات وتنقيحها كوكبة من أَلْمَع المترجمين والرياضيين. منهم أشهر المترجمين إسحق بن حنين، وراجَعَ ترجمته ثابت بن قرة الحراني الصابئي (ت ٢٢١ﻫ/٨٣٥م)، وقد أتقن ثابت السريانية واليونانية والعبرية، وكان جيد النقل إلى العربية، حتى عده جورج سارتون من أعظم المترجمين، فضلًا عن أنه من أعظم الرياضيين في عصره. كما قام سهل بن رابان الطبري — وهو يهودي من أهل مرْو التي كانت إحدى مراكز الثقافة الإغريقية في فارس بعد غزو الإسكندر لها — بترجمة أجزاء أخرى، وقام الحجاج بن يوسف بمراجعة ترجمات سهل، كما راجعها فيما بعد محمد بن جابر بن سنان البتاني عام ٩٢٩م، كما سبق أن راجع قسطا بن لوقا البعلبكي في عام ٩١٢ الترجمة الأصلية التي قام بها الحجاج، وفي نفس هذا الوقت كان سعيد الدمشقي قد ترجم أجزاء أخرى من الأصول٧

بمثل هذه الجهود الجبارة صنعت بغداد صرح أصول الهندسة لإقليدس، وهو هيكل الرياضيات القديمة وعمادها وعمودها وعمدتها، والذي أهداه أديلارد إلى الحضارة الغربية. ليكُون فاتحةَ عهدها بالنهضة الرياضية وبالتالي العلمية، وقد اعتمدت أوروبا على ترجمة أديلارد طوال القرون الأربعة التالية — وهي التي شهدت نشأة العلم الحديث، حتى تم اكتشاف الأصل الإغريقي فيما بعد.

كان أديلارد أيضًا شديد الاهتمام بالفلَك، ألَّف كتابًا في «الأسطرلاب» أهداه إلى هنري الأصغر — وهو إهداء يفيد علاقاته الوطيدة بالبلاط الملكي — وفي كتاباته إشارات عديدة لها، كما يفيد تأليف هذا العمل بين عامي (١١٤٢–١١٤٦). بصفة عامة كان أوْج نشاط أديلارد بين عامي (١١٣٦–١١٥٤).

وأيضًا ليس لهذا الكتاب قيمة كبيرة، قيمة أديلارد الفلكية تتركز هي الأخرى في ترجمته للأعمال العربية الفلكية. فقد أعطى الدارسين اللاتين أَوَّل مثال متكامل للبحث في علم الفلَك القديم حين ترجم ملخصات أبي معشر الفلكي. كما ترجم أعمالًا فلكية لثابت بن قرة. على أن أهم ما ترجمه هو الجداول الفلكية للخوارزمي، والتي كان مسلمة المجريطي قد راجعها، وبالترجمة العربية قدم أديلارد للاتين الصورة المتكاملة للتقاويم والجداول والأزياج الفلكية، كما كانت مطروحة في القرن العاشر، وهي خلاصة هندية – إغريقية – عربية.٨
وأيضًا كان أديلارد عالمًا طبيعيًّا، وذا عقلية علمية. كِتَابُه «المباحث الطبيعية» Quaestiones Naturales يؤكد مَيْلًا قويًّا لمناقشة العلية الطبيعية المباشرة، بدلًا من تفسير الظواهر الطبيعية بالقوى الفائقة للطبيعة، ويعكس اتجاهًا تجريبيًّا واضحًا يرى أن العقل غير كافٍ لِحَلِّ مشاكل الكون، ولا بد من الملاحظة والقياس، ومن الظواهر التجريبية التي جَذَبَت الاهتمام التجريبي لأديلارد، مَسْلَكُ الماء المنحَبِس في إناء مقلوب دون أن يسيل خارج الإناء إلى أن يدخل الهواءُ من الفتحة السفلية، ومرةً أخرى أبحاثه التجريبية وفي العلوم الطبيعية لا تساوي كثيرًا، فحتى في بحثه لهذه الظاهرة لم يَنْجُ من الأفكار السحرية، أما العناصر ذات القيمة العلمية فهي تُشَابِه مَثِيلَتَها في أبحاث هيرو السكندري المشروحة بكتابه Pneumatiea الذي تُرْجِم عن العربية في القرن الثاني عشر.٩ وشبيهٌ بهذا حال إسهاماته القليلة في الطب.
لكن لا نستطيع إنكارَ أنه تَمَتَّعَ بعقلية ذات مبادئ وأصول علمية متينة، تكشف عنها محاوراته مع ابن أخيه لتلقينه إياها، والتي نُشِرَت؛ حيث نجد أديلارد ينتصر للبحث العلمي والعقلانية، ويحارب السلطة والدوجماطيقية، ويهاجم الاعتماد الكُلِّيَّ على المراجع، ويقول في هذا: «تعلمت عن أستاذي العربي أن أَزِنَ كُلَّ شيء بميزان العقل، وإذا أردْتَ أن تَسْمَعَ مني أكثر من ذلك فناقِشْني بالعقل؛ لأني لست من الرجال الذين يجْرون وراء الخيال.» … «ومن ذا الذي يستطيع إدراك مدى السماء بمجرد النظر؟ ومن ذا الذي يستطيع تمييز الذَّرَّات الدقيقة بالعين المجردة؟» ويقول ثورندايك: «إن مثل هذه الأسئلة تعَبِّر عن الحاجة للمنظار المقرب، وتدل على أن الظروف لاختراعه كانت في طريق النضج.» ويقرر أديلارد مبدأ عَدَم فناء المادة، فيقول: «من المؤكد في نظري أن لا شيء يفنى كُلِّيَّةً في هذا العالم الحسي، أو أنه أقلُّ اليومَ مما كان عليه يومَ أن خُلِقَ، وإذا ما ذاب جزء في مادة ما فإنه لا يفنى، وإنما يتَّحِد مع مادة أخرى.»١٠
وأخيرًا، كان أديلارد فيلسوفًا محترفًا، ألَّف كتاب «الهوية والاختلاف» De eodem et diverso — وهو نفس العنوان الذي اتخذه هيدجر عنوانًا لأحد مؤلَّفاته — يعالِج فيه أديلارد مشكلة الكليات التي عادت للظهور؛ أيْ حقيقية وجود الكيانات التي تَدُلُّ عليها الأسماء الكلية، وقد انْشَغَلَتْ بها العصور الوسطى انشغالًا جمًّا. فتناول أديلارد في بحثها الصلة بين الأفراد من ناحية، والأجناس من ناحية أخرى، وانتهى إلى أن الأجناس والأنواع كليات لا تتأثر بالخصائص الفردية.١١
ومع كل هذا، يظل أديلارد — أوَّلًا وقَبْل كل شيء — مترْجِمًا للرياضيات العربية، ولن تُولِيه اهتمامًا كبيرًا إلا الجهات والمصادر والمراجع التي تتعرض لهذا الموضوع.١٢

ولكن لنلاحظ أن أديلارد تعلَّمَ العربية في صقلية جنوبي إيطاليا، وقام منذ فجْر شبابه بأسفار واسعة لطلب العلم. مثبوت منها أن أولها كانت إلى فرنسا؛ حيث دَرَسَ في طوروز ودرَّس في ليون، وبعد أن غارد ليون قام برحلة استغرقت سبع سنوات، زار فيها صقلية وسوريا وربما فلسطين. يُهِمُّنا الآن أن زيارته لإسبانيا ليست مثبوتةً تاريخيًّا!

ومع هذا لا يمكن تناوُل أعماله بغير التراث الأندلسي ومقتنَيات مكتبة قرطبة، وهذه مُصَادَرة مُلْزِمة للباحثين، حتى مَثَّلَتْ مُشْكِلَة لا بد لمؤرخي العلم أن يضعوا حلًّا لها. ذهب بعضهم أن أديلارد استغل إتقانه للغة العربية وذَهَبَ إلى قرطبة — وبالتحديد عام ١١٢٠م — متخفيًا في شخصية طالب عِلْم مُسْلِم؛ ليستطيع التوغل في دهاليز مدارسها.١٣ وذهب البعض الآخر أنه اعتمد على المستعرِبين Mos Mozarabes الذين يُعَدُّون من أهم العناصر التي عَمِلَتْ على نقل حضارة الأندلس، وثقافتها إلى أوروبا، والمستعرِبون هم النصارى واليهود الذين كانوا يمارسون في الأندلس أشغالًا عملية وعلمية مختلفة، وكانوا يستعملون العربية في مخاطباتهم ومعاملاتهم، ويتعلمون آدابها وعلومها إلى حدِّ أن البرو القرطبي تَحَسَّر على الإفراط في ذلك.١٤
ويبدو هذا الاحتمال هو الأرجح، بل ويمْكِن تحديد أسماء المستعرِبين الذين حصَل أديلارد منهم على النصوص القرطبية، وهما: بطرس ألفونسو P. Alphonsus، ويوحنا أكريتوس J. Ocreatus.

وسواء أكان أيٌّ من الاحتمالين هو الصحيح، فإن الذي يُهِمُّنا الآن هو أن ننتهي معًا إلى أنه لا يمكن فَهْم دور أديلارد في نقل الرياضيات العربية مِنْ مَرْكز توهُّجها — بغداد — إلى أوروبا والحضارة الغربية، وبالتالي إلى حركة العلم الحديث، بدون المصادرة على الحضارة الأندلسية، ومدرسة قرطبة بالذات.

على أن هذه مصادَرة من ماضي العلم، وما زلنا حتى الآن هناك في ماضيه، نريد أن نعود الآن إلى زخم الحضارة في خواتيم القرن العشرين، وما أنجزه العلم طوال ذلك المدى من إنجازاتٍ طبقت الخافِقَين … نعود إلى الحاضر؛ بل والمستقبل، لنلحق تلك المصادَرة من ماضي العلم بمصادَرة من حاضِر العلم ومستقبَلِه، عسى أن يكون تناوُلنا لتاريخ العلم مجدِيًا أكثر.

•••

فلما كان العلم الحديث هو التمثيل العيني لمقولة التقدم في حياة البشر؛ حيث يكاد يكون المُنَشِّطَ الإنساني الوحيد الذي يمثل — من أية وجهة أو زاوية للنظر — مُتَّصِلًا صاعدًا، كل يوم أفْضَل مِنْ أمْسِه، فإن التفكير العلمي في صُلْبه تفكير مستقبلي، ومن هذا المُنْطَلَق المستقبلي تتأتى البحوث الدءوبة في فلسفة العلم، التي يمكن اعتبارُها الوجهَ الآخر لتاريخ العلم. بعبارة أخرى: نحن نبحث في تاريخ العلم — في ماضيه — مِنْ أجْل استشرافٍ أفْضَلَ لمستقبَله، لإمكانياته.

على هذا الأساس المستقبلي لا بد تأكيد أن كل تفكير في فلسفة العلم وتاريخِه عقيمٌ غيرُ مُجْدٍ، ما لم يَتِمَّ في ضوء ثورة العلم المعاصِر التي تفجَّرَتْ مع مطالع القرن العشرين لتَقْلِب مثالِيَّات العلم وأصوليات مَنْهَجِه رأسًا على عقب، فتفتح أمام العلم إمكانيات جَعَلَتْ تَقَدُّمَه يكاد يسير بمتوالية هندسية بعد أن كان يسير بمتوالية عددية، فأمكن اعتبارها أعظمَ ثورةٍ أنْجَزَهَا الإنسان، وتحت وطأتها ارْتَجَّتْ وتقوضت دعائمُ عرش نيوتن، وبعد أن ساد الاعتقاد بأن نيوتن اكتشف حقيقة هذا الكون وانضبطت منظومة التفكير العلمي على هذا الأساس، أَدْرَكْنَا — بفضل هذه الثورة — أن نظرية نيوتن مجرد محاولة جبارة وناجحة في حدودها — فقط حدودها القاصرة دون عالَم الذرة والإشعاع — لا سيما بعد أن تفَتَّتَت الذرة إلى جسيمات، ثم تفتتت الجسيمات — أخيرًا — إلى كواركات Quark فانْقَشَع وَهْم اليقين والضرورة، وأدركنا أن كل نظرية علمية مهما كانت عظيمة هي مجرد محاوَلة ناجحة، تَفْتَح الطريق أمام محاوَلة أخرى أنجَحَ وأكفأَ، ولن تصل نظرية إلى سدرة المنتهى، ولن تختم مسارَ البحث العلمي الذي سيظل مفتوحًا إلى أَبَدَ الآبدين أمام محاولاتٍ أَنْجَحَ وتَقَدُّم أعلى.
ولئن كانت هذه الثورة العظمى قد تمَّت بفضل نظريتَي النسبية والكوانتم اللتين هما نظرِيَّتَا الفيزياء البحتة، فإن الرياضيات المتربعة على عَرْش النسق العلمي لا تبقى في عَلْيَائها بمَنْجَاة عن مد هذه الثورة؛ ليس فقط لأن الحدود تَتَمَاوَهُ في منطقةِ ما بين الفيزياء البحتة والرياضيات، كما تتماوه الحدود بين النار ومِجْمَرِها، ولكنْ أيضًا لأن هذه الثورة العظمى قد بُورِكَتْ بانضمام فَيَالِق الرياضيات البحتة إلى رِكابها الثائر. أولًا: باستقامة عودِ — أو بالأحرى نَسَقِ — الهندسات اللاإقليدية، وبعد أن كان يُظَنُّ أن إقليدس قد اكتشف الحقيقة الهندسية للكون، وأن الله تعالى خَلَقَهُ بموجب الهندسة الإقليدية، أَدْرَكْنَا أن هندسة إقليدس مُجَرَّد بناء منطقي بارع، لا سيما بعد أن اتخذ أينشتين من هندسة ريمان هندسة تطبيقية للواقع الفيزيائي. فلحق إقليدس بمصير نيوتن، وثانيًا: بإثبات الخاصة التحليلية للقضايا الرياضية. بمعنى أنها جميعًا دوالُّ منطقيةٌ لها الصورة «أ هي أ»، ولا شأن لها بالإخبار عن الواقع، ولا تحمل فتوى جديدة عنه. فانتهينا إلى أن الرياضيات علم صوري، يعني بصورة التفكير دونًا عن مضمونه أو محتواه أو فحواه، الذي هو من شأن العلوم التجريبية.١٥
والآن، في تناولنا لأطروحة من أطروحات تاريخ العلم، ما الذي نستفيده على وجه التحديد والتعيين الدقيق من هذه الثورة العلمية العظمى؟ خصوصًا وأن دروسها وعِبراتها لا أول لها ولا آخر. يُهِمُّنا أن الصورة الكلاسيكية التي استمرت حتى نهايات القرن التاسع عشر عن العلم بوصفه بناءً مَشِيدًا من حقائق قاطعة اندثرَتْ تمامًا، وأصبح العلم نسقًا من فروض ناجحة. صلب هذه النسقية صميمُ خصائصِها المنطقية تعني التقدم المتوالي والصيرورة المستمرة. العلوم التجريبية تمثيل عينيٌّ لهذا.١٦

ورُبَّ قائل: «إن الرياضيات — بحكم خاصيتها التحليلية — تتمتع بثباتٍ منطقيٍّ مطلَق فوق حدود الزمان والمكان.» بمعنى أن القضية الرياضية — إن صحَّت — فهي صادقة دائمًا وأبدًا مهما استجَدَّتْ خبراتٌ ووقائعُ جديدة؛ لأنها لا شأن لها أصلًا بالواقع والوقائع، وهذا صحيح. القضية الرياضية في حد ذاتها — بخلاف القضية الإخبارية التجريبية — ثابتة، ولكن العلم الرياضي — الذي كان وسيزال يستقطب أحَدَّ العقول وأكثرَها صلابة ومثابرة — لا يَقِفُ في مساره وفي صيرورته … في تاريخه بمَعْزِلٍ عن مقولة التطور والتقدم، إن لم تكن الرياضيات بحكم طبيعتها الدقيقة الصارمة أكثر من غيرها تجسيدًا للتقدم والإنجاز التطوري الممنهَج المُقَنَّن، فنجد إشكاليات رياضية أَعْيَتْ أعاظم العقول في الأزمنة الغابرة، وأفْرَدُوا لحلها المجلَّدات الضخمة، أمكن — فيما بَعْدُ بحُكْم التقدم والتطور — حَلُّها بمعادَلة أو اثنتين.

•••

وأيًّا كانت الأهداف والمرامي، فلكي تثمر الجهود المبذولة، لا مندوحة عن وضع هذا الطابع التقدمي في الاعتبار، وإذا كنا نهدف — صراحة — إلى إثبات دور الحضارة العربية الإسلامية في خَلْق قصة العلم المثيرة الرائعة، تفنيدًا لخرافةٍ راجَتْ رواجًا، ولم يَنْجُ منها نَفَرٌ مِنْ أخلص مُفَكِّرِينَا، مؤداها أن العلم على العموم ثم الرياضي والفيزيائي منه على الخصوص نَبْتَةُ الحضارة الحديثة وصناعةٌ غربية خالصة، فإن ذلك الهدف أو هذا التفنيد يكتسب أهمية قصوى في مرحلتنا الراهنة لسبب ذاتي هو مواجهة الهيمنة الغربية التي تصاعَدَتْ أخيرًا، وهدفٌ موضوعي هو الفهم السليم لمسار العلم الذي تعاقَبَتْ على خَلْق فصوله الحضاراتُ المختلفة، وجلوِّ حقيقته بوصفه ميراثَ الإنسانية جمعاء وإمكانية للعقل البشري من حيث هو بَشَرِي.

وفي محاولات تحقيق هذا الهدف، وبوضع الطابع التقدمي للعلم في الاعتبار، يتَبَدَّى لنا عُقْمُ الجهود التي تحاول تحقيقه بالوقوع في لجنة منطوق النظريات، فتستنفد الجهد في البحث عن تشابه ما بين منطوق نظريةٍ حديثةٍ وقولٍ قديم لأحد أسلافنا … لا بد من تجاوُز هذا وإثبات الذات في صلب الحركية والصيرورة وتوالي حلقات قصة العلم وانتقاله من مرحلة لأخرى. هذه الصيرورة لها بُعد منطقي خالص هو أصوليات المبادئ المنهجية التي هي القوة المثمرة الولود من وراء كل تغيُّر، ولكن لها بُعْد آخر مُتَعَيِّن، هو البعد التاريخي الذي يجَسِّد مسار هذه الحركية، ويقع في مجاله موضوع هذه الورقة.

إن البعد التاريخي — موضوعنا — لا بد وأن يَضَعَ في اعتباره الظروف الحضارية للمرحلة المتعينة، وقبل ثورة وسائل الاتصال المعاصرة لم يكن البعد التاريخي ينفصل عن البعد الجغرافي، في تاريخ العلم وفي تاريخِ سواه. بمعنى أن الموقع الجغرافي كان يحَدِّد الدور التاريخي — كما أشرنا بشأن قرطبة — وبالمثل استطاعت بغداد أن تكون عاصمةَ المجد الإسلامي والعربي، وأن يتحول الإسلام فيها من عقيدة وشريعة أو حتى نظامِ دولة إلى مرحلة حضارية خفاقة، بسبب موقعها الفريد على نهر دجلة. يُهِمُّنا الآن أن مِنْه إلى شط العرب ثم الخليج العربي نصل إلى الهند التي أهْدَت البشرية أصول الحساب، وأعظم العطايا طُرًّا رموز الأرقام الهندية والغبارية التي وصلت إلى أوروبا بفضل العرب، أو بفضل ليوناردو فيبوناسي Fibonnaci الذي تعلَّمَ العربية، فأحدث القفزة الكبرى للعلم الأوروبي بنقل الأعداد الهندية ثم الجبر الإسلامي. لقد استقدم الخليفة المنصور العالِمَ الهندي كنكة، وأمر بترجمة «مقالة الأفلاك» أو «السدهانت» التي وَضَعَهَا «براهما جويت» وعرَفَها العربُ باسم «السندهند» وعَرَفُوا معها أصول الرياضيات، لتبدأ في بغداد مرحلة هامة من تاريخ الرياضيات، وبفعل عوامل عديدة — بيَّنتُها تفصيلًا في بَحْث سابق لي١٧ — عوامل بعضها يعود إلى طبيعة حركة العلم آنذاك، وبعضها يعود إلى طبيعة الحضارة الإسلامية وخصوصياتها، وطبيعة العقلية العربية الناهضة المتوثبة آنذاك، شَهِدَتْ بغداد نهضة عظمى في الرياضيات واهتمامًا متزايِدًا بها وإضافات جَمَّة لها، وجحافِلَ من عمالقتها نَخُصُّ منهم بالذكر: الخوارزمي، ثم نصير الدين الطوسي، وإن كان وَضْعُ عِلْم الجبر بُعْدًا واحدًا من أبعاد هذه المرحلة، وانتصاب هيكل أصول الهندسة لإقليدس في بغداد — كما سبق أن أوْضَحْنا — هو الآخر من أهم أبعاد هذه المرحلة الدافقة الخلَّاقة.
وكان من الضروري أن تنتقل تأثيرات الحضارة الإسلامية والميراث العربي إلى أوروبا لتبدأ الحلقة التالية في صيرورة التقدم … تبدأ مرحلة النهضة، ثم مرحلة حضارية جديدة … أو حديثة، تَتِيه على سائر المراحل بنشأة نسق العلم الحديث، الذي تعملق لمَّا تسَلَّح بالرياضيات، وطبيعي أنَّ الرياضيات التي تَوَهَّجَتْ في بغداد كانت مُقَدِّمَة ضرورية لهذا، وقد انتقلت إلى أوروبا بفعل عوامل عديدة، لعل أقواها الحملات الصليبية، وعبْر مراكز عديدة، منها: صقلية وجنوب إيطاليا. لكن الأندلس كانت حالةً فريدة في تاريخ الإسلام «لأنها الحالة الوحيدة التي تُمَثِّل قيام حضارة متمايزة هي مزيج من ثقافة الإسلام والثقافة الوطنية التقليدية الأصيلة، وازدهار تلك الحضارات ازدهارًا هائلًا، بحيث تَرَكَتْ بصماتها على كل التاريخ الإسلامي، بل والعالمي.»١٨ فقد قامت الأندلس بالدور الأكبر والباع الأعظم في نقل التراث والعلوم العربية، يُهِمُّنا منها الآن نقل الرياضيات العربية. ذلك لسببين متعضونين، وهما مرة أخرى: السبب التاريخي والسبب الجغرافي، ولنتحدث أولًا عن السبب التاريخي.
أجَلْ، كان لبغداد — وبغير مُنَازِع — النصيبُ الأكبر من إنجازات الحضارة الإسلامية وإبداعات العقل العربي، وظَلَّتْ حتى القرن العاشر مركزًا لا منافس له. لكن خبا وهَجُها خلال سيادة الدولة البويهية (٩٤٥–١٠٥٥م) التي جَعَلَت العاصمة في فارس، وراحت تشارك بغداد — من ناحية الشرق — القاهرة وشيراز وغزنة، ومن ناحية الغرب قرطبة. على الإجمال خبا وَهَجُ الحضارة وجذوةُ الإبداع في الشرق، قبل أن يخبو في المغرب الإسلامي الذي تتربع قرطبة على عرش العلم فيه، وكادت الأندلس أن تنفرد بالميدان في الرياضيات والمنطق والفلسفة والعلوم والطب، إبان القرن الثاني عشر — قرْن ابن رشد وأديلارد الباثي — والذي أنجبت فيه الأندلس أكثر من نصف مناطقة القرن ورياضييه،١٩ حتى قيل: «إن القرن الثاني عشر من نصيب إسبانيا الإسلامية.»٢٠ لقد أصبحت راية بغداد في الأندلس، ومركز العلم فيها قرطبة.
وكان المسلمون قد أخذوا معهم إلى الأندلس الفنون الهندسية الزراعية، وقاموا ببناء مشروعات الري، فعلَّموا الأوروبيين أصول الهيدروليكا، وكما أوضحنا بالتفصيل جعلوا مِنْ قرطبة أَهَمَّ مركز ثقافي متطور في أوروبا حينذاك، وأهم مراكز الدرس الرياضي، وكما ذَكَرْنا لم يَنْتَهِ مَجْد قرطبة العلمي حين انتهى مجدها السياسي، وعن طريق قرطبة وجنوب إسبانيا، أَخَذَ المجتمع الإقطاعي الناشئ في أوروبا يَنْهَل من ينابيع العلم الإغريقي والعربي، وكما يؤكد مؤرخ العلم الثقة ج. كروثر، كان ما أَخَذَتْه أوروبا من هذا المنفذ يفوق بما لا يضاهى كُلَّ ما أخذوه عن طريق الحروب الصليبية،٢١ فقد استمر هذا المنفذ بقرطبة وجنوب الأندلس في عطائه حاملًا خلاصة المد العقلي العربي، حتى بعد أن خَبَت الحضارة في المشرق، وبفضل هذا التواصل التاريخي والاستمرارية التاريخية كانت مراكز العلم والمدارس الإسلامية في الأندلس — وبالتحديد في قرطبة — أكثر حيوية وفعالية، وأعمقَ تأثيرًا منها في أية مراكز أخرى انتقلت العلوم والرياضيات عن طريقها من بغداد إلى أوروبا.
أما عن العامل الجغرافي، فلا يتمثل فقط أو أساسًا في موقع الأندلس بالنسبة للعالم الغربي على حافة أوروبا، وفي الطريق إلى أمريكا، بل أيضًا والأهم في موقع الأندلس الفريد — ودونًا عن سائر مراكز انتقال العلم العربي إلى أوروبا — بين مَوَاطِن حركة العلم الحديث، وبعد أن هَجَرَتْ هذه الحركة إيطاليا التي احتضنت عبقرية أهل الشمال المتبربرين نسبيًّا، وكان جاليليو آخر الإيطاليين العظام، وتربعت هذه الحركة في غرب أوروبا لتتألق بصفة خاصة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، ولأن الأندلس تتوسط هذه المواقع، فنجد توالي تأثير سهولة انتقال الرياضيات منها، لا سيما إلى إنجلترا؛ حيث بلغت الفيزياء الرياضية أَوْج نُضْجِها كمحصلة لاستمرارية تاريخية ساهمت فيها عوامل جغرافية … يَسَّرَت لأديلارد الباثي أن يقوم بالدور الذي عرضناه، مثلما يسرت لأقرانه من أمثال روبرت الشستري Robert of Chestor وجيرار الكريموني، أن ينْكَبُّوا هم أيضًا وآخرون على ترجمة نصوص الرياضيات العربية، فتحدث الانطلاقة للعقل الرياضي الغربي، وبالتالي حركة العلم الحديث.

•••

بعبارة موجَزة تُجْمِل كُلَّ ما سبق … يمكننا القول: إن خطورة جهود أديلارد الباثي في نقل الرياضيات العربية من بغداد إلى غرب أوروبا وحركة العلم الحديث، تمثيلٌ عينيٌّ لقضية محورية مؤداها أنَّ موقع الأندلس التاريخي الفريد في الحضارة العربية وموقعها الجغرافي الفريد في الحضارة الغربية خوَّلَا لها ولمركزها العلمي — قرطبة — دَوْرًا فريدًا في انتقال حركيةِ وتقدُّمِ العلوم الرياضية من بغداد إلى الحضارة الأوروبية، وهو دَوْر يستحق أن نُكَرِّس له بحوثًا دءوبة تغوص في تفصيلات الوقائع والأحداث التاريخية والمدارس والمراكز العلمية، وسيرورة نصوص العلوم الرياضية، شريطة أن نستفيد قبلًا من تطورات العلم المعاصر في تحديد الجوهري الهام الحقيق بالاهتمام في دراستنا لتاريخ العلم.

١  بحث أُلْقِي في المؤتمر الدولي الثالث للحضارة الأندلسية، الذي أقامَتْه جامعة القاهرة من ١١ إلى ١٤ يناير ١٩٩٢، ونُشِرَ في العدد الثالث والخمسين من مجلة كلية الآداب، الصادر في مارس ١٩٩٢، والمُكَرَّس لنشر أعمال هذا المؤتمر الدولي.
٢  أحمد بن المقري التلمساني، نفْح الطِّيب مِنْ غُصْن الأندلس الرطيب، تحقيق وفهرسة يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر، بيروت، ط١، ١٩٨٦. الباب الرابع من القسم الأول: في ذكر قرطبة التي كانت الخلافةُ بمصيرها للأعداء قاهرةً، المجلد الثاني، ص٥ وما بعدها.
٣  سوادي عبد محمد، تأثُّر الفكر الأندلسي بالحركة العلمية في المشرق الإسلامي، عالم الفكر، المجلد ١٣، العدد ٢، الكويت، ١٩٨٢. ص٦٤٣.
٤  آدم ميتز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ١٩٤٠ ص٢٨٧-٢٨٨، وقارن: د. توفيق الطويل، في تراثنا العربي والإسلامي، سلسلة عالَم المعرفة (٨٧) الكويت، ١٩٨٥ ص٢٠٧.
٥  قدري حافظ طوقان، تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط٢، ١٩٥٤. ص٢٢٦ وما بعدها.
٦  Marshall Clagett, Adelard of Bath, pp. 61–64 in: Dictionary of Scientific Biography, (ch. c Gillispie) ed. in chief, Charles Scribner’s Son, New york, 1955.
٧  أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحنى فيها، تحقيق أحمد سعيد الدمرداش، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، ١٩٦٥. من مقدمة بقلم المحقق، ص١٠.
٨  M. Clagelt, Adelard of Bath, p. 62.
٩  Ibid, p. 61.
١٠  ج. ج. كروذار، صلة العلم بالمجتمع، ترجمة حسن خطاب، مراجعة د. محمد مرسي أحمد، النهضة المصرية، القاهرة، د. ت، ص١٩٠.
١١  د. حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية، القاهرة، سنة ١٩٩١. ص٢٠٧.
١٢  انظر لمزيد من التفاصيل حول أديلارد الباثي ودوره في ترجمة الرياضيات من العربية إلى اللاتينية، انظر: M. Clagett, The Medieval Latin Translation from the Arabic of Euclid, with special Emphasis on the versions of Adelard of Bath. in: Isis, 44 (1953). p. 16–42.
والواقع أن مجلة إيزيس هذه من أهم المراجع لتاريخ العلوم عند العرب، والأبحاث المنشورة بأعدادها تلقي أضواءً كثيفة على حركة العلم في الحضارة الإسلامية، في مشرقها وفي مغربها على السواء.
انظر أيضًا حول أديلارد وترجمة الرياضيات العربية: H. Haskins, Studies in the History of Mediaeval science, 2nd. ed., Cambridge, 1927. pp. 20–42.
وبالألمانية: F. Bliemetzrieder, Adelhard von Bath, Munich, 1935.
١٣  J. G. Crowther, A short History of Science, Methuen Educational L.T.D, London, 1969. p. 29.
١٤  د. عباس الحراري، أثر الأندلس على أوروبا في مجال النغم والإيقاع، عالم الفكر، مجلد ١٢، ج١، الكويت، ١٩٨١ ص١٧.
١٥  انظر في تفصيل هذه الثورة العلمية كتابنا: «العلم والاغتراب والحرية» مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٧. وخصوصًا الفصل الرابع. الجزء الخامس من هذا الفصل بعنوان: «ثورة العلوم الرياضية» ص٣٥٩–٣٦٧.
١٦  انظر في هذا: العلوم الطبيعة: منطق تقدمها.
الفصل الأول من كتابنا: «مشكلة العلوم الإنسانية» تقنينها وإمكانية حلها، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩١.
١٧  بيَّنَّا كل هذه العوامل بالتفصيل في مقدمة كتابنا: في الرياضيات وفلسفتها عند العرب، دار الثقافة، القاهرة، ١٩٩٤. ص٢٤ وما بعدها.
١٨  د. أحمد أبو زيد، حضارة الأندلس، عالم الفكر، مجلد ١٢، ج١، الكويت، ١٩٨١، ص٣-٤.
١٩  نيقولا ريشر، تطور المنطق العربي، ترجمة ودراسة وتعليق د. محمد مهران، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٥. ص١٦٢-١٦٣.
٢٠  السابق ص١٨٣.
٢١  J. G. Crowther, A short History of science, p. 29.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤