هنري كورييل والحركة الشيوعية المصرية

ترجع الإرهاصات الأولى للعمل الاشتراكي في مصر إلى نهاية الحرب العالَمية الأولى، عندما بدأت بعض العناصر الأجنبية بالإسكندرية تنظيم الجماعات الماركسية الأولى التي لا نعرف عنها إلا القليل من المعلومات التي وردَت على لسان جوزيف روزنتال في تحقيقات النيابة العامة الخاصة بالحزب الشيوعي المصري؛ حيث أشار إلى أن العمال الأجانب بالإسكندرية نظَّموا — بإشرافه — حلقات لدراسة الاشتراكية كانت مقصورة على الأجانب وحدهم، ثم فكَّر هؤلاء في تأسيس حزب اشتراكي عام ١٩٢١م.

وكانت تلك السنوات سنوات مخاض سياسي بالنسبة لمصر، فقد وقعت ثورة ١٩١٩ نتيجة تراكُم سخط المصريين على الاحتلال البريطاني، ومعاناتهم من عسف السلطات البريطانية خلال الحرب العالَمية الأولى، فجندت موارد البلاد الاقتصادية لخدمة المجهود الحربي البريطاني، وسِيق شباب الفلاحين للخدمة ضمن ما سُمِّي ﺑ «فرق العمل» و«فرق الجمالة» واستشهد عشرات الآلاف منهم في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وقامت السلطات البريطانية بتمويل قواتها في مصر من الخزانة المصرية مقابل سندات تصدرها الخزانة البريطانية، ونتج عن ذلك ربط الجنيه المصري بالجنيه الإسترليني، وإحكام روابط التبعية الاقتصادية للاقتصاد البريطاني بما ترتب على ذلك من معاناة المصريين آثار التضخم، وزيادة تكاليف المعيشة زيادة كبيرة عما كانت عليه قبل الحرب.

وتحمَّل المصريون ذلك كله على مضض، على أمل أن تقدِّر بريطانيا لمصر مساندتها لها في الحرب، فتمنحها الاستقلال عندما تضع الحرب أوزارها. وعندما بدأت الدلائل تشير إلى اقتراب الحرب من نهايتها، ذهب وفد من نخبة البرجوازية المصرية بزعامة سعد زغلول (في ١٣ نوفمبر ١٩١٨م) يطلب السماح له بالسفر إلى الخارج لعرض مطالب مصر في الاستقلال أمام مؤتمر الصلح، فقوبل الطلب بالرفض. وعندما أيقن الإنجليز أنهم أمام حركة سياسية منظَّمة تحظى بالتأييد الشعبي، قاموا بنفي سعد زغلول ورفاقه، فانفجر بركان ثورة ١٩١٩ الشعبية التلقائية التي شاركت فيها الجماهير المصرية، والتي أرغمت الإنجليز على التفاوض مع قيادات البرجوازية المصرية مُمثَّلة في «الوفد».

ولكن ما كانت بريطانيا على استعداد لتقديمه كان دون المَطالب الوطنية بكثير، فلم يكن الإنجليز على استعداد لإعطاء مصر الاستقلال التام، وإنما كانوا يعرضون على الوفد المصري درجةً من الاستقلال الذاتي يمثِّل — في حقيقة أمره — حماية «مُقنَّعة»، وانتهى الأمر بإعلان استقلال مصر بموجب تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م مع سلب «الاستقلال» مضمونه الحقيقي بالإبقاء على جيش الاحتلال البريطاني في مصر، وبالتحفظات الأربعة الشهيرة التي لم تغيِّر مضمون الهيمنة البريطانية على مصر.

ورغم أن حظ «ثورة ١٩١٩م» من النجاح كان محدودًا، خاصة أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي لم يتغيَّر، إلا أن مصر ما بعد الثورة لم تعُد كما كانت قبلها. كان الشباب الذي شُقَّت حناجره بالمطالبة بالاستقلال في المظاهرات العارمة، وسقط منه الشهداء، غير مقتنع بما أسفرت عنه الثورة من نتائج، وخاصة أن الأزمة الاجتماعية كانت مستحكمة، فالفوارق شاسعة بين الملَّاك والمعدمين، والبطالة تعضُّ بأنيابها جيشًا جرَّارًا من العمَّال العاطلين، وظروف العمل وشروطه بلغت درجةً كبيرة من التدنِّي في غيبة التشريعات التي تحفظ للعمَّال حقوقهم، وتعترف لهم بحق التنظيم النقابي، والسياسات الاجتماعية مصطلح مجهول في السياسة المصرية، وشباك التبعية الاقتصادية تنصب بإحكام حول مصر، فيمتص الأجانب خيرات البلاد، ويعيشون فيها في وضع ممتاز، بينما تحول المصريون إلى غرباء في بلادهم. ومن ثَم شغل الشباب المصري المثقف بمستقبل بلاده، وراح يبحث لها عن طريق أمثَل للنهوض، من خلال تبنِّي مشروع جديد للنهضة.

أضِف إلى ذلك تردُّد أصداء ثورة أكتوبر ١٩١٧م الروسية في مصر، وانكباب بعض شباب المصريين على التعرف على الفكر الاشتراكي، وخاصةً مَن درسوا منهم بالجامعات الأوروبية، في محاولة للبحث عن علاج لما تعانيه مصر من أمراض اجتماعية.

وهكذا، شكَّلَت جماعة من الشباب المثقف حلقة تسعى لتأليف «جمعية اشتراكية» لدراسة مذاهب الاشتراكية المتعددة حتى يهتدون عن طريقها إلى صياغة برنامج ملائم للنهضة المصرية، فكتبوا إلى جوزيف روزنتال يطلبون الاطلاع على برنامج حزبه، حتى إذا صادف هواهم انضموا إليه، وإذا لم يرُق لهم أسسوا «جمعية» غايتها الدرس أكثر من السياسة، يضع أعضاؤها مصلحة مصر نصب أعينهم، ويكون غرضها نصرة المبادئ الاشتراكية المعتدلة، وتبصير العمَّال بحقوقهم. وقد اتفق هؤلاء مع روزنتال على توحيد الجهود، وإقامة «الحزب الاشتراكي المصري» ونُشر برنامج الحزب موقَّعًا عليه من سلامة موسى، وعلى العناني، ومحمد عبد الله عنان، ومحمود حسني العرابي، واتخذ الحزب مركزًا له بالقاهرة، وافتُتِحت له فروع بالأقاليم. وغلبت على برنامج الحزب الصبغة الإصلاحية، وتضمَّن تأكيدًا ضمنيًّا على عدم أخذه بفكرة الصراع الطبقي.

وعندما أثار إعلان قيام الحزب رد فعل عنيف من جانب القُوى الرجعية، تصدَّى رجال الحزب للرد على هؤلاء بتوضيح ما يرمي إليه حزبهم، فغلبت على ردودهم روح التأثر بالاشتراكية الفابية، ممَّا أدَّى إلى نشوب خلاف أيديولوجي بين مركز الحزب بالقاهرة وشُعبة الإسكندرية، أو — بمعنًى أدق — بين المعتدلين من أبناء البرجوازية المصرية الذين ملكوا زمام قيادة الحزب، وبين المتطرفين من أعضاء فرع الإسكندرية الذين مالوا إلى الماركسية، أسفر عن عَقْد مؤتمر في الإسكندرية (٣٠ يوليو ١٩٢٢م) حضره مندوبون من جميع فروع الحزب، بينهم وفد من القاهرة، وتقرَّر بالإجماع اتخاذ فرع الإسكندرية مركزًا لقيادة الحزب والأخذ بالماركسية، وغيَّر من برنامجه وشعاراته بما يتلاءم مع الاتجاه الجديد، وأُوفد محمود حسني العرابي لحضور المؤتمر الرابع للكومنترن المُنعقِد بموسكو لاتخاذ إجراءات انضمام «الحزب الاشتراكي المصري» إلى الدولية الثالثة (الكومنترن) وعندما عاد محمود حسني العرابي إلى مصر أبلغ الحزب أن اللجنة المركزية للدولية الثالثة اشترطت — لقبول الحزب فرعًا لها — ثلاثةَ شروط:

أولها: فصل روزنتال، وثانيها: تغيير اسم الحزب من «اشتراكي» إلى «شيوعي»، وثالثها: إعداد برنامج للفلاحين.

وعقد الحزب مؤتمرًا — رغم محاولة البوليس إعاقة ذلك — ووافق على التعديلات الجديدة بما في ذلك البرنامج، وشُكِّلت لجنة مركزية جديدة أصبح فيها محمود حسني العرابي سكرتيرًا عامًّا للحزب، وبذلك أعلن قيام أول وآخِر حزب شيوعي مصري علني في يناير ١٩٢٣م. وخلال الفترة من يناير ١٩٢٣م إلى مارس ١٩٢٤م، قام «الحزب الشيوعي المصري» بتبنِّي خط «العمل المباشر» فالتحم باتحاد نقابات العمال ونظم سلسلة من الإضرابات والاعتصامات العمالية، بلغت ذروتها بالإسكندرية، وأدَّت إلى تحرُّك السلطات للقبض على قيادات الحزب وأعضائه وكذلك قيادات اتحاد النقابات، وعُدِّل قانون العقوبات بإضافة المادة (١٥١) التي نصَّت على «معاقبة مَن يحرِّض على كراهة نظام الحكومة أو ينشر الأفكار الثورية المغايرة لمبادئ الدستور الأساسية، أو يحبذ تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة والإرهاب، بالسجن لمدة لا تتجاوز خمس سنوات.»

وقضت محكمة جنايات الإسكندرية (أكتوبر ١٩٢٤م) بمعاقبة كلٍّ من محمود حسني العرابي وأنطون مارون بالسجن ثلاث سنوات، كما حكمت بنفس العقوبة على الشيخ صفوان أبو الفتح والشحات إبراهيم، واثنين من الأجانب هما إبرام كاتسي، وهليل زانبرج، وبالسجن ستة شهور على باقي المتهمين.

وترتَّب على ضرب «الحزب الشيوعي المصري» وتصفيته نتيجتان على درجة كبيرة من الخطورة بالنسبة لتاريخ الحركة الشيوعية المصرية والحركة العمَّالية المصرية:
  • أولاهما: أن النشاط الشيوعي اتجه إلى العمل السري وأصبح مطاردًا من البوليس السياسي مجرَّمًا من وجهة النظر القانونية.
  • وثانيتهما: أن البرجوازية المصرية حرصت على السيطرة على نقابات العمَّال لتنأى بها عن الاتجاهات الاشتراكية، ممَّا أدَّى إلى إضعاف الحركة العمَّالية المصرية وانقسامها وتبديد طاقاتها.

وأصدرت وزارة أحمد زيور باشا قرارًا بقانون (في ٢٥ مايو ١٩٢٦م) يطلق يدها في تعقُّب الشيوعيين، نصَّ على «معاقبة كل مَن يُزاول نشاطًا من شأنه الإضرار بأمن البلاد الداخلي أو الخارجي أو بالنظام الاجتماعي بالسجن.» واتخذت عدة إجراءات (وقائية)، منها منع البواخر السوفييتية من دخول الموانئ المصرية، واعتقال بعض الروس الموجودين في مصر وترحيلهم خارج البلاد، وحظر استيراد الصحف والمجلات الاشتراكية والكتب الاشتراكية أو بيعها للجمهور.

وفي ضوء الحظر القانوني، ومطاردة السلطات للنشاط الشيوعي لم تحقِّق المحاولات المتكررة لإقامة تنظيمات شيوعية النجاح، وكانت جميعًا محاولات أجنبية تقوم على عناصر يونانية وإيطالية مع قليل من كوادر الحزب الشيوعي المصري القديم وبعض المثقفين المصريين. وظلَّ النشاط الشيوعي في مصر هزيلًا فرديًّا عاجزًا عن إقامة تنظيم حزبي حتى أواخر الثلاثينيات، حين أُعلنت الحرب العالمية الثانية، ودخلت الحركة الشيوعية المصرية في سنوات الحرب وما بعدها في طور جديد، لعبت فيه عناصر من اليهود الأجانب الدور الأكبر في بعث الحركة من مرقدها، وكان من أبرز هؤلاء: هنري كورييل، وهلل شوارتز، ومارسيل إسرائيل.

(١) هنري كورييل

في أقصى شمال الزمالك، على مقربة من نادي الجزيرة الرياضي، كان ثمَّة قصر صغير تحيط به حديقة باسقة، يضم سبع عشرة غرفة (غير غرف الخدم)، يملكه مليونير يهودي يُدعى دانييل نسيم كورييل، كان يمتلك مصرفًا صغيرًا بشارع الشواربي، وُلد صاحبنا هنري كورييل عام ١٩١٤م والعالم عندئذٍ على شفا الحرب، حيث قامت الحرب الأولى بعد مولد هنري بقليل.

ورغم أن هنري كورييل لا يذكر لنا — في سيرته الذاتية — معلومات كافية عن أصل أسرته، إلا أن جيل بيرو يعتصر في كتابه «هنري كورييل: رجل من طراز فريد» ذاكرة راءُول (الأخ الأكبر لهنري) عن أصول الأسرة فيقول إنها ترجع إلى قرية في مقاطعة فالادوليد بإسبانيا تُدعى «كورييل»، وأن الأسرة بلغَت درجة كبيرة من الثراء، حتى كان عهد محاكم التفتيش في إسبانيا، فتشتَّت الجمع؛ إذ اعتنق بعض أفراد الأسرة المسيحية وظلوا في إسبانيا، بينما هاجر البعض الآخَر إلى البرتغال، وبعضهم الآخَر هاجر إلى هولندا، بينما انتقل الجانب الأكبر إلى توسكانا بإيطاليا؛ حيث كان حكَّامها متسامحين مع اليهود.

ويحدِّد هنري كورييل عام ١٨٥٠م كتاريخ لهجرة العائلة من إيطاليا إلى مصر، وهو تاريخ أقرب إلى الدقة من التاريخ الذي يرجِّحه بيرو، والذي يجعل هجرة الأسرة إلى مصر زمن الحملة الفرنسية، لأن ظروف مصر في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت تسمح عندئذٍ بتدفُّق المستثمرين الأجانب — وخاصة المرابين— إليها، فقد تمَّت تصفية الطابع الاستقلالي للاقتصاد المصري الذي تحقَّق على يد محمد علي، عندما أُجبرت مصر على فتح أسواقها أمام البضائع الأجنبية دون قيود، وعندما أُلغي دور الدولة في إدارة الاقتصاد. ولمَّا كانت الدولة هي المموِّل الأساسي للإنتاج الاقتصادي وخاصة الزراعة، فإن غياب دور الدولة أوجد فراغًا هرع المستثمرون الأجانب لملئه في ظروف سياسية وقانونية مواتية، فهناك الامتيازات الأجنبية والقضاء القنصلي — ثم القضاء المختلط فيما بعد — تضع الاستثمارات الأجنبية تحت مظلة الحماية القانونية.

وهكذا تدفَّق المستثمرون الأجانب على مصر، وخاصة من بلاد جنوب أوروبا: اليونان، وإيطاليا، وفرنسا وغيرها، كانت مصر منجمًا غنيًّا لتحقيق الثراء السريع من وراء استغلال الفلاحين المصريين الذين يحتاجون إلى القروض لتمويل زراعة القطن، وجاء أولئك المغامرون الأجانب للاشتغال بالربا وتجارة القطن معًا. ولا نظن أن ثمَّة ظروفًا أنسب من ذلك لهجرة نسيم كورييل — جد هنري — إلى مصر، ولذلك نرجِّح أن تكون الهجرة قد تمَّت في خمسينيات القرن التاسع عشر.

عائلة كورييل — إذَن — كانت تنتمي إلى البرجوازية الأجنبية الكبيرة عند بداية الحرب العالَمية الأولى، تمتلك مصرفًا، وضيعة في المنصورية — فيما بين الفيوم وبني سويف — تبلغ مساحتها نحو المائتي فدان، بها «سراي» سيستخدمه هنري فيما بعد لممارسة نشاطه السياسي السري.

والبرجوازية الأجنبية التي كانت تعيش على امتصاص دماء الاقتصاد المصري كانت تنأى بنفسها عن مخالطة المصريين اللهم إلا البرجوازية المصرية الكبيرة التي تربطها بها مصالح مادية مشتركة، تحتفظ بجنسيتها الأجنبية، وتحتقر كل ما هو مصري، تعلِّم أبناءها في المدارس الأجنبية التي انتشرت في مصر — عندئذٍ — وفي جامعات أوروبا — وخاصة فرنسا — وتتخذ من اللغة الفرنسية أداةً للتخاطب فيما بينها، ولا تُعنى باللغة العربية إلا في أضيَق الحدود التي يقتضيها التعامل مع الخدم.

وإذا كنا لا نعرف شيئًا عن الجد نسيم كورييل، فإن هنري يمدنا ببعض المعلومات عن والده دانييل الذي فقَدَ بصره منذ طفولته، وكان شغوفًا بالموسيقى، يجيد العزف على البيانو، ويهوى المسكوكات، ويحتفظ بمجموعة نادرة منها، يهوى الأدب الفرنسي ويطالب زوجته بأن تقرأ له يوميًّا، ولكننا لا نعرف شيئًا عن نشاطه المصرفي فيما عدا تخصصه في الرهونات وإقراض الأموال للفلاحين، وفيما عدا إشارة وردت في سيرة هنري الذاتية إلى تأثره بأزمة ١٩٢٩م الاقتصادية، ولكن يبدو أن أثرها على نشاطه المالي لم يكن كبيرًا.

أما زفيرا بيهار — أم هنري — فكانت تنحدر من أسرة يهودية كانت تعيش في إستانبول، وتشتغل بتجارة السجاد التي حقَّق الوالد منها ثروة كبيرة بدَّدَها الأبناء بعد وفاته. وقد أدخلتها أسرتها مدرسة دير نوتردام دوسيون؛ حيث اعتنقت الكاثوليكية، ويذكر هنري أنها عمَّدَته وأخاه راءُول سرًّا، وأنها كانت شديدة التدين، توزِّع اهتمامها بين الكنيسة والكنيس.

الأسرة — إذَن — يهودية ثرية تختلط فيها الدماء الشرقية والأوروبية، ذات ثقافة فرنسية، تحمل الجنسية الإيطالية، منعزلة عن المجتمع المصري، مرتبطة بالجاليات الأجنبية، فيحدِّثنا بيرو عن الحفلات الراقصة التي كان يقيمها دانييل كورييل بحديقة قصره بالزمالك أيام الحرب العالَمية الثانية، ويدعو إليها صفوة الأجانب وكبار الضباط الإنجليز، وبالطبع البرجوازية اليهودية. حتى علاقة الأسرة باليهود المصريين كانت مقصورة على المعونات المالية للأعمال الخيرية التي تُوجَّه إلى فقراء الطائفة. واعتادت الأسرة أن تقضي الصيف في فرنسا؛ حيث كانت هناك اثنتان من شقيقات دانييل تزوَّجَتا من فرنسيَّين، وحيث كان للأسرة على ما يبدو مسكن دائم هناك.

لذلك كان من الطبيعي أن يُربَّى الأبناء تربية فرنسية، فتلقَّى الولدان راءُول وهنري تعليمهما الابتدائي والثانوي في مدارس الجزويت (اليسوعيين) في الفجَّالة، وكان تأثُّر هنري بأساتذته في الفجَّالة كبيرًا، وبعد أن حصلا على شهادة البكالوريا الفرنسية، أوفد راءُول إلى فرنسا لدراسة القانون. ولكنه غيَّر بعد ذلك ميدان دراسته ليتخصَّص في الآثار الشرقية. أما هنري، فقد فضَّل أبوه — على ما يبدو — أن يعُدَّه لإدارة المصرف الذي تمتلكه الأسرة؛ فوجَّهه إلى دراسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة. مما أصاب هنري بالإحباط؛ فقد كان يتطلَّع إلى فرنسا؛ حيث درجَ أقاربه على التوجُّه إليها طلبًا للعلم، فعلى حد قوله: «كان من الصعب على يهودي إيطالي تخرَّج في مدرسة فرنسية أن يجِد نقطة ارتباط حقيقية في بلد مسلم، وكانت فرنسا هي الوطن الوحيد الذي أشعر بالارتباط به …»

ولعل هذا الشعور بالإحباط كان وراء حياة المجون التي عاشها هنري كورييل في الثلاثينيات، فيحدِّثنا بيرو عن تردُّده على مواخير القاهرة، ودعوته لأصدقائه لمشاركته صحبة المواخير «بحجة أن العاهرات يمثِّلن بالنسبة للبرجوازيين أقصَر الطُّرق لتحقيق الوعي السياسي!» كما يذكر أن هنري فُتن بغانية رومانية كانت تعمل راقصة بكازينو الكيت كات، وظلَّ ينفق عليها طيلة عامين. هذا فضلًا عن كوكبة الفتيات اليهوديات اللواتي أحَطْن به في المناسبات الاجتماعية المختلفة للبرجوازية اليهودية، وكانت «روزيت العجم» واحدة من أولئك الفتيات. ولكنها تفوَّقَت عليهن باستحواذها على قلب هنري، فأصبحت زوجته منذ فبراير ١٩٤٣.

ومهما كان الأمر، فقد أصبح على هنري أن ينزل إلى ميدان العمل بمصرف والده وهو في العشرين من عمره، ولم يكن يهوى هذا النوع من العمل، فكان يؤدِّيه في حدود ضيِّقة، ويصرف وقته في القراءة أحيانًا، وصحبة الفتيات أحيانًا أخرى، ويبدو أن إسرافه في السهر ونزق الشباب أدَّى إلى إصابته بمرض صدري، فأرسله أبوه إلى فرنسا للاستشفاء (عام ١٩٣٧م)؛ حيث التقى بأخيه راءُول، ومكث هناك مدة عام واحد، عندما بدأت نذر الحرب تتجمع في الأفق، فاستدعاه والده إلى القاهرة، فعاد إليها في سبتمبر ١٩٣٨م بصحبة أخيه راءُول.

كان لقاء الأخوَين نقطة تحوُّل في توجهات واهتمامات — بل ومستقبل — هنري كورييل؛ فقد تأثَّر راءُول بالاتجاهات الاشتراكية في باريس، وأصبح عضوًا في اتحاد الطلاب الاشتراكيين، وقرأ حول الماركسية كثيرًا، واتصل بالشيوعيين الفرنسيين، وتأثر هنري بالاهتمامات الجديدة لأخيه راءُول، فبدأ يتعرَّف على الفكر الاشتراكي عن طريقه.

وعندما عاد الأخوان إلى مصر، وجدا البرجوازية اليهودية في حالة هلع شديد؛ فالنازية تهدر أمواجها في أوروبا، ومصر غير بعيدة عن متناول الفاشية حيث يوجد الإيطاليون على أبواب مصر الغربية … في ليبيا، وعلى أبواب مصر الجنوبية في إثيوبيا، بل فكَّر بعض رجال الأعمال اليهود في تصفية أعمالهم في مصر والهجرة إلى جنوب أفريقيا أو غيرها، بعيدًا عن الخطر المرتقب.

لا وقت إذَن للعبث والمجون ونزق الشباب؛ فالخطر ماثِل للعيان، ولكن أبناء البرجوازية الكبيرة لهم أسلوبهم المترف في النضال ضد الفاشية، فقد قرَّرَت مجموعة من الشباب إصدار مجلة فرنسية بالقاهرة للدعوة لمقاومة الفاشية، ضمَّت راءُول كورييل وريمون أجيون (قريب راءُول)، والفنان جورج حنين وزميلَيه رمسيس يونان وكامل التلمساني (وهم من ذوي الثقافة الفرنسية). وأطلقوا على المجلة اسم «دون كيشوت»، واشترك في تحرير المجلة هنري كورييل وبعض شباب البرجوازية اليهودية. وأقامت المجموعة حفلًا راقصًا صاخبًا؛ احتفالًا بصدور المجلة، ولجمع التبرعات من المدعوين والمدعوات.

شباب مترف تتراوح أعمارهم بين التاسعة عشرة (ريمون أجيون)، والخامسة والعشرين (راءُول كورييل)، لا تتفتَّق أذهانهم عن سبيل لمقاومة الفاشية إلا من خلال مجلة تصدر بالفرنسية في بلد عربي! لذلك لم تعمر المجلة أكثر من ستة شهور.

ويهمنا هنا المقال اليتيم الذي كتبه هنري كورييل بالمجلة تعقيبًا على خبرَين وردا بجريدتَين قاهريَّتَين فرنسيَّتَين.
  • أحدهما: يطالب بوضع الشركات التي يدفع أصحابها أجورًا كبيرة لعمالهم تحت الوصايا القضائية.
  • وثانيهما: يطالب بإقامة اتحاد لرجال الصناعة وحرمان العمَّال من حقهم في التنظيم النقابي، فكتب هنري كورييل تعقيبًا على ذلك:

    «إن ما تحتاجه مصر حتى تتقدَّم صناعتها بشكل أسرع هو اليد العاملة المتخصصة، وليس رءوس الأموال أو المواد الأولية أو المبادرات الفردية، فإذا ظلَّ العمل بالنسبة للعمَّال جحيمًا، فسوف يظلُّ العمال على حالهم، أعطوهم أجرًا مجزيًا يحسِّن من وضعهم، وأتيحوا لهم أوقات فراغ تهيِّئ سُبل الراحة، وتُتيح لهم فرصة الثقافة، امنحوهم المسكن الصحي الذي يعيشون فيه بمنأًى عن الحشرات والأوبئة، عندئذٍ سيكون لدى الصناعات المصرية أيد حاذقة وقوية، تنمي في آنٍ واحد مردود الصناعة وأسواقها.»

وهكذا يبدو هنري كورييل في ذلك المقال برجوازيًّا رحيمًا إصلاحيًّا، يدعو إلى رعاية البقرة الحلوب (العمَّال) حتى تدرَّ للصناعة المزيد من الأرباح، ولا يشير من قريب أو بعيد إلى تشريعات العمل أو حق التنظيم النقابي، وهي مطالب ناضلَ العمَّال في سبيلها، ونظَّموا حركة إضراب شهيرة عن الطعام عام ١٩٣٨م، ولكن يبدو أن هنري (الذي لا يعرف العربية) كان لا يدري شيئًا عن مطالب الطبقة العاملة المصرية عندئذٍ!

وسرعان ما نفرَ هنري من «دون كيشوت» وانصرف عنها، وشغلَتْه اهتمامات أخرى كالنزعة إلى العودة للطبيعة، فأصبح نباتيًّا، ينهك جسده بالسير لمسافات طويلة في الصحراء بالسروال القصير، ويمارس السباحة والتنس، بالإضافة إلى سهرات الكيت كات حيث صديقته المفضَّلة الراقصة ليديا الرومانية.

غير أن النوازع الإنسانية عند هنري كورييل دفعَتْه للاهتمام برعاية الفلاحين صحيًّا في ضيعة والده بالمنصورية، فكان يتردَّد عليها بصحبة صديقته روزيت (زوجته فيما بعد)، حاملًا قطرة العيون وبعض الأدوية، ولكن ما كان يُعانيه الفلاحون من وضع اجتماعي متدهور لم تكن تفيد معه الأدوية أو قطرة العيون! كانت هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها هنري بيوت الفلاحين، فصدمه بؤسهم، وقرَّر الانخراط في العمل السياسي لخدمة الطبقة الكادحة البائسة (على حد قول روزيت في حديثها إلى جيل بيرو)، ومن ثم حسم الأمر باختياره للشيوعية.

ويقول جيل بيرو: إن الدوافع الإنسانية والتأثُّر بسوء أحوال العمَّال والفلاحين كانت وراء اهتداء ذلك الجيل من أبناء البرجوازية اليهودية إلى الشيوعية، فمارسيل إسرائيل — الذي كان والده يملك محلجًا للقطن — راعه منظر الأطفال الفلاحين الذين يُساقون سوق الأنعام للعمل ست عشرة ساعة يوميًّا في جوٍّ يتنافى مع أبسط قواعد الصحة العامة، ويوسف حزان (الذي كان مهندسًا زراعيًّا) هالَه أيضًا سوء أحوال عمَّال التراحيل والطريقة اللاإنسانية التي يُعاملون بها، وكذلك الحال بالنسبة لريمون أجيون وديدار روسانو وغيرهم، هزَّهم جميعًا بؤس الطبقة العاملة المصرية دون أن يعرفوا شيئًا عن واقع المجتمع المصري الذي كانوا يعيشون على هامشه في الأبراج العاجية للبرجوازية اليهودية.

كانت الأزمة الاجتماعية مستحكمة في مصر عندئذٍ، فالبون شاسع بين طبقة محدودة من كبار الملَّاك الذين لا تتجاوز نسبتهم نصفًا بالمائة من مجموع الملَّاك الزراعيين يملكون ما يقرب من نصف أجود الأراضي الزراعية، وجماهير الفلاحين المسحوقين الذين تتآكل ملكيتهم الزراعية الصغيرة وتتلاشى بسبب عجزهم عن سداد ديونهم. وهكذا تتسع شيئًا فشيئًا دائرةُ المُعدمين من الفلاحين. وتأتي الأزمة الاقتصادية العالَمية ١٩٢٩–١٩٣٢م لتضرب الريف المصري ضربة قاضية وتقذف بملايين الفلاحين إلى المدن طلبًا للعمل، ويتسع جيش العاطلين ليضغط على سوق العمل فتتدنى الأجور وتزداد شروط العمل وظروفه سوءًا، ويتبدَّد نضال الطبقة العاملة المصرية من أجل إصدار تشريعات العمل والحصول على حق التنظيم النقابي أمام تصارُع البرجوازية الوطنية للسيطرة على الحركة النقابية، ويدور نضال العمال في حركة مُفرغة بين ضغوط الأحزاب البرجوازية واستغلال الرأسماليين ومطاردة البوليس، وتشهد الثلاثينيات سلسلة من الإضرابات العمَّالية تبلغ ذروتها عام ١٩٣٦م، وتستمر الجذوة مُتقدة حتى بداية الحرب العالَمية الثانية.

ومن الغريب أن أيَّا من ذلك كله لم يلفت نظر أحد من البرجوازيين اليهود الذين انغمسوا في العمل الشيوعي؛ فلا نجد إشارة له في السيرة الذاتية لهنري كورييل، ولا نجد أثرًا له في شهادات رفاقه التي أوردها جيل بيرو في كتابه «هنري كورييل: رجل من طراز فريد». هزَّتهم جميعًا مظاهر البؤس والفاقة دون أن يدركوا شيئًا عن واقع الطبقة العاملة المصرية، أو حتى يحاولوا التعرُّف عليه، وهو أمر يثير الدهشة والتساؤل. وخاصة أن هؤلاء الشباب الذين كانوا يعيشون حياة الترف والدعة تحرَّكَت لديهم فجأةً النوازعُ الإنسانية التي «هزَّت ضمائرهم». وهنا من حقنا أن نتساءل: لماذا شباب البرجوازية اليهودية بالذات وليس غيرهم من شرائح البرجوازية الأخرى؟! ولماذا لم يحدث ذلك إلا في ظروف الحرب العالَمية الثانية؟! أسئلة سوف تظل تبحث عن إجابة، وخاصةً إذا عرفنا بعد قليل أن هذه الطلائع الماركسية اليهودية جلبت للحركة الشيوعية المصرية داء «التكتُّلية» و«الانقسام»، كما جلبت إليها داء الإغراق في المناقشات النظرية والدخول في خلافات أيديولوجية مُصطنَعة دون الاهتمام بالنضال السياسي، حتى يبدو الأمر كله وكأنه «سيناريو» مُعَد مسبقًا!

على كلٍّ، اتجهت تلك المجموعة المحدودة من الشباب البرجوازي اليهودي التي هزَّت ضمائرها مظاهر بؤس الطبقة العاملة المصرية إلى قراءة الأدبيات الماركسية — بشكل فردي وليس جماعيًّا أولًا — ومن بين هؤلاء هنري كورييل.

وهنري الذي تعرَّف على الماركسية عن طريق أخيه راءُول، تعرَّف أيضًا على شيوعي سويسري كان صديقًا لراءُول، وكان يعمل مدرسًا بالمدارس الثانوية المصرية هو جورج بوانتي الذي كان عندئذٍ في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان عضوًا بحزب العمل السويسري، وكان قد نظَّم حلقة لدراسة الماركسية ضمَّت بعض أصدقائه الأجانب والمصريين. وكان تأثير بوانتي على هنري كورييل كبيرًا. فهو الذي أقنع كورييل بعدم جدوى الإغراق في الجدل النظري وضرورة الانتقال إلى العمل السياسي، ودرَّبه على طريقة تجميع أكبر عدد ممكن من الأفراد حول أهداف تعبوية بسيطة. كان بوانتي أستاذ هنري كورييل في «الجبهوية» التي أتقنها هنري — فيما بعد — وجعلَت خصومه السياسيين يصفونه بالانتهازية. وكان بوانتي هو الذي صنع من هنري شيوعيًّا، وظلَّ هنري كورييل يكنُّ له كل تقدير، فحزن لموته في الجبهة الفرنسية التي تطوَّع للقتال فيها ضد النازية، وكان أول اسم مستعار استخدمه عند دخوله فرنسا سرًّا عام ١٩٥١م هو «بوانتي».

وهكذا، مع بداية الحرب العالَمية الثانية بدأت تظهر حلقات دراسة الماركسية التي تضم عشرات من أبناء البرجوازية اليهودية وبعض المصريين من أبناء البرجوازية الكبيرة ذوي الثقافة الأجنبية، بالإضافة إلى بعض اليونانيين والإيطاليين الذين ما لبثوا أن شُغلوا بقضايا بلادهم، وكوَّنوا حلقاتهم الخاصة بهم. الجميع يعكفون على دراسة الماركسية دون دخول مرحلة التنظيم. ولكن ما لبثوا أن وجدوا أرضية مشتركة تمثَّلت في النضال ضد الفاشية من خلال «الاتحاد الديمقراطي» الذي تأسس عام ١٩٣٩م بجهود راءُول كورييل وجورج بوانتي ومارسيل إسرائيل، والإيطاليين ساندرو روكا وباجيلي، واليوناني كيبريو، وأحمد الأهواني وانضمَّ هنري كورييل إلى الاتحاد، الذي استأجر مقرًّا خاصًّا به، يضم قاعة محاضرات، وصالات اجتماعات، ومكتبة، ولما كان نشاطه موجهًا ضد الفاشية فقد تحمَّل دانييل كورييل (والد هنري) نفقات الإيجار.

كذلك شارك هنري كورييل في تأسيس «جمعية الصداقة الفرنسية» التي تُناصر «فرنسا الحرة»، وتؤيد الجنرال ديجول، وكانت روزيت (زوجة هنري) تعمل بها، بالإضافة إلى عملها بمكتب بعثة فرنسا الحرة بالقاهرة ومكتبة «الميدان».

ومكتبة «الميدان» هي الأداة الثالثة للعمل العام التي لجأ إليها هنري كورييل، وهي مكتبة للأدوات المكتبية وبيع الكتب، أقنع هنري والده بافتتاحها بميدان مصطفى كامل لبيع الكتب الأجنبية، واستخدمها هنري كورييل لترويج الأدبيات الماركسية — أساسًا — فكان يستورد الكتب من إنجلترا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وفيما بعد ستلعب المكتبة دورًا في تقديم سلسلة من الكتب العربية والمعربة للتعريف بالماركسية. وكانت المكتبة (التي تأسست في يونيو ١٩٤١م) تلعب دورًا هامًّا كحلقة اتصال بين جنود الحلفاء الماركسيين من مختلف الجنسيات، ومن بينهم جنود الفرقة اليهودية التي كوَّنها الصهاينة في فلسطين للخدمة في صفوف الحلفاء، فكانت العلاقات وثيقة بين «مكتبة الميدان» وأولئك الجنود الذين كانت المكتبة توفيهم بالكتب الإيطالية والألمانية المعادية للفاشية لتوزيعها على الأسرى الإيطاليين والألمان في معسكرات الاعتقال. وقد خصَّ هنري كورييل أولئك الجنود الصهاينة بالتقدير لِمَا بذلوه من جهودٍ للتعاون مع «المكتبة»، وسوف تظلُّ علاقة هنري كورييل بالصهيونية من النقاط التي تُثير التساؤل، والتي سنعود إليها فيما بعد.

وكانت مجلة «حرية الشعوب» هي الأداة الرابعة للعمل العام التي لجأ إليها هنري كورييل، التي استأجرها من صاحبها عن طريق «عبده دهب» السوداني الذي تعرَّف عليه هنري من خلال بعض الخدم النوبيين الذين يعملون بقصر والده، وعن طريق عبده دهب أقام صِلات متينة مع بعض الطلبة والعمَّال السودانيين في مصر. ويبدو أن عبده دهب ساعد هنري كورييل على التعرُّف على الأوساط الشعبية المصرية أيضًا، بقدر ما ساعده — على حد قوله — في الحصول على نسخ من تقارير الأمن التي ترد إلى السراي عن النشاط الشيوعي، عن طريق أحد معارف عبده دهب ممَّن كانوا يعملون في خدمة أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي.

على كلٍّ، تولى عبده دهب مسئولية مجلة «حرية الشعوب» وجنَّد المحررين الذين يكتبون فيها، ومن بينهم النوبي عبد الرحيم، صلاح عرابي الذي قدَّم هنري كورييل للضابط المصري محمد نجيب (اللواء محمد نجيب فيما بعد) عندما أراد الأخير التعرُّف على موقف الشيوعيين من القضية السودانية، وعندما أوقف البوليس السياسي مجلة «حرية الشعوب» استأجر عبده دهب مجلة أسبوعية أخرى هي «أم درمان» حملت بعد إصدارها الجديد عنوان «أم درمان – نضال مشترك»، وأصبحت هذه المجلة أداة «الحركة المصرية للتحرر الوطني» – المنظمة الشيوعية التي أسسها هنري كورييل عام ١٩٤٣م للعمل بين السودانيين، وحولها التفَّت الكوادر التي كونت فيما بعد «الحركة السودانية للتحرُّر الوطني (حستو)» التي تحوَّلَت إلى «الحزب الشيوعي السوداني». ودافعت المجلة عن حق الشعب السوداني في تقرير مصيره بعد التحرر من سيطرة الإمبريالية، ونادت بالنضال المشترك للشعبين المصري والسوداني ضد السيطرة الإمبريالية.

وكانت الأداة الخامسة للعمل العام تتمثل في توزيع المنشورات — عند اقتراب الألمان من العلمين — التي تندِّد بالفاشية، وتنبه المصريين إلى أن الألمان ليسوا أفضل من الإنجليز، وتدعو المصريين لمقاومة الزحف الألماني، في الوقت الذي كان فيه الرأي العام المصري مُهيَّئًا للترحيب بالألمان، باعتبار أن «عدو الإنجليز صديق للمصريين» وكانت تلك المنشورات يكتبها بعض أصدقاء جورج بوانتي من المصريين، ويقول هنري كورييل إنه وجورج بوانتي قاما بتوزيع أربعة آلاف نسخة من هذه المنشورات ليلًا بالأحياء الشعبية.

هكذا كانت مجالات العمل العام التي أقدم عليها هنري كورييل محدودة للغاية، مقصورة على دائرة الأجانب، وبعض السودانيين بعيدة كثيرًا عن مجال الاحتكاك بالمصريين. حقًّا، ربما عرف هنري بعضهم من خلال «الاتحاد الديمقراطي» ولكن هؤلاء ينتمون إلى النخبة المثقفة ثقافة أجنبية، أمَّا بقية طبقات الشعب المصري فلم يكن يعرف هنري عنها إلا ما يعرفه عابر السبيل، فقد كان يعيش حينئذٍ في «الجيتو الأوروبي» — على حد تعبير جيل بيرو — أو عالم الجاليات الأجنبية المغلق الذي لا يعرف شيئًا عن واقع الشعب المصري ولا يريد حتى أن يعرف، وكل ما كان يهمهم عندئذٍ هو مساندة الإنجليز والحلفاء ضد الفاشية، وبصفة خاصة اليهود منهم، ومن بينهم طبعًا هنري كورييل.

غير أن هنري تعرَّض لتجربة فتحت عينَيه على حقائق لم يكن يدركها، فقد تم اعتقاله في يونيو ١٩٤٢م بمعتقل الزيتون مع خمسين من ذوي الميول الفاشية، اعتقلوا بموجب قانون الأحكام العرفية وكانوا جميعًا من المصريين، ولمَّا كان هنري كورييل قد اختار الجنسية المصرية عند بلوغه سن الحادية والعشرين (عام ١٩٣٥م) بحكم مولده في مصر، وتنازل بذلك عن جنسيته الإيطالية، فقد أودع معتقل الزيتون مع المصريين، بينما لو كان لا يزال محتفظًا بالجنسية الإيطالية لأودع معسكرات الاعتقال المُخصَّصة لرعايا إيطاليا (كما حدث لمارسيل إسرائيل الذي لم يُفرج عنه إلا بتدخُّل ممثِّل فرنسا الحرة في مصر).

ورغم أن اعتقاله لم يدُم أكثر من ستة أو سبعة أسابيع، نظرًا لتدخل والده — عن طريق معارفه من كبار المسئولين — لإطلاق سراحه، إلا أن اعتقاله كان — على حد قوله — أول غوص له في واقع السياسة المصرية التي لم يكن يعرفها جيدًا، فقد أتاح له احتكاكه بالمعتقلين المصريين أن يعرف أن المواطن المصري الحق لا يمكنه قبول أية مرونة تجاه الإنجليز، وأن ما كان يمارسه من نشاطه — قبل الاعتقال — للدعوة إلى مقاومة المحور لا يؤدي إلا إلى العمل بمعزل عن الرأي العام المصري، فكيف يقتنع المصريون بمساعدة عدوتهم بريطانيا؟! بدأ هنري كورييل عندئذٍ يدرك أن الاقتراب الأمثل من الجماهير المصرية إنما يكون من خلال «الانطلاق من موقف ثابت في عدائه للإمبريالية، وتنمية أقوى حركة شيوعية يمكن إقامتها على هذه القاعدة»، بل داعبت خياله فكرة اعتناق الإسلام (التي اقترحها عليه محمود حسني العرابي الذي كان سكرتيرًا عامًّا للحزب الشيوعي المصري عام ١٩٢٤م، ثم أصبح من مشايعي النازية، وكان زميلًا له بالمعتقل)، فقد كان هنري يتمنى في هذه الفترة أن «يتمصَّر»، وبدا له أن اعتناق الإسلام إحدى الوسائل لتأكيد «مصريته»، وخاصة أن العديد من أصدقائه اليهود أسلموا وتعمقوا في دراسة اللغة العربية، وأقبلوا على تناول الأكلات المصرية، ولكنه عدل عن الفكرة حتى لا يُفسر إسلامه — على حد قوله — بمحاولة إنقاذ نفسه من الخطر النازي الذي يطرق أبواب مصر، بل عدل عن فكرة إتقان العربية لأن ذلك — على حد قوله — لا يفيد أحدًا سواه، ولأنه لن يصبح مصريًّا إلا بالنضال من أجل «بلده وشعبه»، وهكذا ظلَّ يتحدث عربية ركيكة يستخدم فيها ضمائر المذكر والمؤنث في غير موضعها، ولكن ذلك لم يمنعه من صوم رمضان أثناء الاعتقال، لأنه — على حد قوله — «من اللائق احترام العادات الاجتماعية للوسط الذي يتواجد فيه الإنسان» وشارك في إضرابٍ عن الطعام استمرَّ عشرة أيام بعد شهر رمضان قام به المعتقلون للمطالبة بعودة زميل لهم من الحزب الوطني انتخبوه ممثِّلًا لهم أمام سلطات المعتقل، كانت إدارة المعتقل قد قامت بإبعاده.

وعندما أُطلق سراحه من المعتقل بفضل العلاقات الخاصة لوالده، وُضع تحت المراقبة الإدارية حتى نهاية فترة الأحكام العُرفية (ثلاث سنوات)، ولكن أسرته استطاعت أن ترشو دائمًا رجل البوليس الذي كان يأتي يوميًّا للتأكد من وجوده بالمنزل بعد غروب الشمس، مرتين أو ثلاث مرات كل ليلة.

إن تجربة الاعتقال القصيرة شدَّت أزر هنري كورييل، وجعلَته يتجه إلى بناء التنظيم الشيوعي المصري بعزيمة أكبر، بعدما تكوَّنَت لديه قناعات ثلاث: اتخاذ معاداة الإمبريالية محورًا لنضال الشيوعيين، وحق تقرير المصير والكفاح المشترك بالنسبة للسودان، والموقف المحايد من الدين. وهكذا أسَّس هنري كورييل «الحركة المصرية للتحرُّر الوطني» عام ١٩٤٣م، ولم يكن يعمل وحده، بل ضمن «جوقة» من الشباب اليهودي الذي اتجه — في نفس الوقت — إلى إقامة تنظيمَين آخَرَين.

(٢) الحركة الشيوعية المصرية

يُرجع هنري كورييل ظاهرة اعتناق الشباب اليهودي المنتمي إلى جنسيات أجنبية في مصر للشيوعية، إلى تأثُّر هؤلاء بالنضال الأوروبي وخاصة انتصار الحزب الشيوعي الفرنسي والجبهة الشعبية في انتخابات ١٩٣٦ بحكم ثقافتهم الفرنسية، وارتباطهم الوجداني بفرنسا، كما يرجع إلى تأثرهم بالحركة الشيوعية الدولية بشكل أكبر من العناصر المصرية، هذا فضلًا عن نفورهم من الفاشية، وبُعدهم عن الحركة السياسية المصرية وعدم اهتمامهم بها. ويتساءل: «كيف يتسنَّى ليهودي في نهاية الثلاثينيات أن يصبح حرًّا دستوريًّا، أو حتى وفديًّا؟! وهكذا كانت الشيوعية — في رأيه — الخيار الوحيد أمامهم. ويضيف — في موقع آخَر — إلى ذلك، الإعجاب بتجربة الاتحاد السوفييتي والتأثير الكبير لمعركة ستالينجراد. ويرجع بُعدهم عن الحركة السياسية المصرية في الحقبة الممتدة من منتصف الثلاثينيات حتى مطلع الأربعينيات إلى افتتان الكثير من الوطنيين المصريين بالفاشية، ولعله نسي أن يضيف لذلك عداء الحركة السياسية المصرية للأجانب، وخاصة البرجوازية الأجنبية التي كانت مصر بالنسبة لها كالبقرة الحلوب، ولكن هنري كورييل يستدرك قائلًا: «إن أولئك الشيوعيين اليهود ذوي الثقافة والانتماء الأجنبي نجحوا بحق في اكتساب البُعد الوطني عن طريق انخراطهم في الشيوعية، فباعتناقهم الشيوعية في مصر أصبحوا شيوعيين مصريين.» وكأن موقع ممارسة النشاط الشيوعي يُضفي الهُوية على هؤلاء، وليس التعبير الصادق عن الطبقة العاملة المصرية التي يفترض أن يكون العمل الشيوعي تعبيرًا عن طليعة تلك الطبقة، التي كان أولئك الشيوعيون الأجانب اليهود يجهلون كل شيء عن واقعها التعس عندئذٍ.

حلقات شيوعية على أرض مصر، ولكن بدون مصريين، وحتى أولئك الأفراد القلائل من المصريين الذين اختلفوا إليها كانوا من البرجوازية الكبيرة الذين أعجبتهم الرطانة الماركسية، والذين انضموا إلى تلك الحلقات — على ما يبدو — من باب الخروج من روتين حياتهم الطبقية، والاستمتاع برياضة ذهنية جديدة، وفرصة للالتحام بالجاليات الأجنبية التي كانوا ينبهرون بها.

يذكر جيل بيرو في كتابه «هنري كورييل: رجل من طراز فريد» أن مارسيل إسرائيل ذهب إلى لبنان للاستشفاء في مطلع الأربعينيات، واستطاع أن يلتقي بميدويان مسئول الكومنترن للشرق الأوسط بمساعدة صديقه نقولا الشاوي (الذي أصبح فيما بعد السكرتير العام للحزب الشيوعي اللبناني)، وأعطى مارسيل للمسئول الأممي صورة عن ازدهار حلقات الدراسة الماركسية بالقاهرة والرغبة في الانتقال إلى مرحلة التنظيم، وبعد أن استمع إليه ميدويان جيدًا، قال له: «والمصريون … أين المصريون؟ إن واجبك الأول أن تحتك بالجماهير المصرية وتكوِّن كوادر مصرية.»

هكذا عندما عاد مارسيل إسرائيل إلى القاهرة، راح يبحث عن المصريين «الذين وُلد بينهم دون أن يعرفهم»، وتمكَّن من تجنيد عشرة أفراد ما لبث أن انضم إليهم طاهر المصري الذي انتسب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي أثناء دراسته بباريس، لتتكوَّن أول منظمة شيوعية سرية حملت اسم «تحرير الشعب» عام ١٩٤١م. وحرص مارسيل على ترك القيادة للمصريين مكتفيًا بالدور الذي يلعبه في التثقيف، وفي الاتصال بالحزبين الشيوعيين اللبناني والفلسطيني.

وإذا كان بؤس الكادحين المصريين والنوازع الإنسانية قد قادا مارسيل إسرائيل — ابن صاحب محلج القطن الذي تدهورت أحوال أسرته المالية وأصبح كاتبًا بإحدى الشركات — وكذلك هنري كورييل — ابن صاحب المصرف المالي — إلى الشيوعية، فإن هلل شوارتز دخل الشيوعية من باب الهواية؛ فهو ينحدر من أسرة يهودية رومانية استقرَّت بمصر عام ١٩١٤م ليعمل والده كطبيب بالجيش الإنجليزي، وكانت أسرته تحتقر كلَّ ما هو عربي، وتتجه بوجدانها صوب فرنسا التي كانت تحج إليها كل صيف … ورغم أن هلل وُلد عام ١٩٢٣م على أرض مصر فإنه لم يكن يهتم بمصر مطلقًا، وحين انحدرت أحوال أسرته المالية حاول السفر إلى أوروبا، ولكن ظروف الحرب حالَت دون تحقيق رغبته تلك فالتحق بوظيفة كتابية، ولم تتغيَّر مشاعره نحو مصر، فهو يؤكِّد لبيرو أنه كان يجد «البلد بشعًا وكريهًا، وكانت فرنسا منارتي الوحيدة التي أتطلَّع للعودة إليها» وبعد قراءات في الأدبيات الماركسية، قرَّر أن يكون شيوعيًّا، فقابل هنري كورييل ليعمل معه ولكنه نفر منه، وكوَّن مجموعته الخاصة من بعض أصدقائه الأجانب وبعض أبناء البرجوازية المصرية الكبيرة ذوي الثقافة الفرنسية عام ١٩٤٣م وأطلقوا على التنظيم اسم «إسكرا (الشرارة)» التي ركَّزَت على الدراسة النظرية وإعداد الكوادر، وفيما بعد كانت واجهة النشاط العلني تتمثَّل في جريدة «الجماهير» الأسبوعية والمحاضرات التي كانت تلقى بدار الأبحاث العلمية التي يحضرها بعض الطلاب المصريين.

فإذا أضفنا إلى «تحرير الشعب» و«إسكرا» التنظيم الثالث الذي أقامه هنري كورييل عام ١٩٤٣م «الحركة المصرية للتحرُّر الوطني».

أصبح لدينا ثلاث منظمات مستقلة تعمل كلُّ واحدة منها بمعزل عن الأخرى، رغم صِلات الصداقة التي كانت تربط مؤسِّسيها ببعضهم البعض بحُكم انتمائهم إلى البرجوازية اليهودية، والتقائهم شبه الدوري في مختلف المناسبات الاجتماعية، راحت كل منظمة من المنظمات الثلاث تعتبر نفسها نواة الحزب الشيوعي المصري، وتسعى للحصول على اعتراف الحركة الشيوعية الدولية بها دون غيرها.

كان العُرف السائد في الحركة الشيوعية الدولية أن تتبع الحركة الشيوعية في المستعمرات حزب البلد الأوروبي الذي تخضع له المستعمرة، فالحزب الشيوعي الفرنسي، مثلًا، يتولَّى من خلال «مكتب المستعمرات» رعاية النشاط الشيوعي في المستعمرات الفرنسية، على أساس أن الطبقة العاملة في المستعمرات، أوثَق ارتباطًا من حيث المصالح المشتركة مع الطبقة العاملة في البلد المستعمر. وكان من المفروض — وفقًا لهذه القاعدة — أن تدخل مصر في نطاق مسئولية الحزب الشيوعي الإنجليزي، ولكن الأخير كان حزبًا صغيرًا، ولم يهتم بأمر مصر، ربما لأنها لم تكن — نظريًّا — إحدى المستعمرات، على حين اهتم بالسودان، وحاول أن يقيم تنظيمًا هناك، غير أن هنري كورييل — الذي سبق الحزب الشيوعي الإنجليزي إلى العمل بين السودانيين — حالَ دون نجاح مبعوث الحزب الشيوعي الإنجليزي.

ولمَّا كان أقطاب المجموعة الشيوعية التي تكوَّنت بمصر مع مطلع الأربعينيات ذوي ثقافة فرنسية، فقد كانوا ينظرون إلى الحزب الشيوعي الفرنسي باعتباره «الأخ الأكبر»، غير أن جهودهم لإقناع الحزب الفرنسي بأنهم ممثلو «الشيوعية المصرية» باءت بالفشل؛ فالحزب الفرنسي ظلَّ ينظر إلى أولئك البرجوازيين الأجانب الذين يدعون تمثيل الشيوعية المصرية نظرة شك وارتياب، وخاصة أنهم موزعون بين ثلاثة تنظيمات، تدَّعي كلٌّ منها تمثيل الشيوعيين المصريين، كما أن الحزب الفرنسي كان يحذر دائمًا المنشقين عن البرجوازية الكبرى، فلم يفعل أكثر من حثهم على الوحدة، كذلك فعل الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي قامت جسور اتصال بينه وبين أقطاب المنظمات الشيوعية المصرية، والذي كان يحظى باعتراف موسكو. ولكن الخصومات كانت قوية تعلو على الاختلاف بين البرامج، ولذلك لم تُعِر الحركة الشيوعية الدولية نشاط هؤلاء اهتمامًا.

كانت الدولية الشيوعية «الكومنترن»، قد حلَّت عام ١٩٤٣م في ظروف التحالُف التي فرضتها الحرب العالمية الثانية على الاتحاد السوفييتي، بل وقبل الحل بسنوات عديدة أهمل الكومنترن أمر مصر، بعدما يئس من إمكانية إحياء الحزب الشيوعي المصري الذي تمَّت تصفيته عام ١٩٢٤م، ولم تكُن السفارة السوفييتية بالقاهرة (التي افتتحت عام ١٩٤٢م) ترغب في التورُّط في نشاط أولئك الذين يتزعمون منظمات شيوعية رغم نعومة أظفارهم وعدم تمرُّسهم بالنضال في حزب مُعترَف به من قبل، ويبدو أيضًا أنها كانت ترتاب في أولئك الأجانب الذين يدَّعون تمثيل الحركة الشيوعية المصرية.

ويروي لنا هنري كورييل كيف حاول مد جسور التعاون مع السفارة السوفييتية بالقاهرة من خلال «مكتبة الميدان» ومقابلته المثيرة لعبد الرحمن سلطانوف — مستشار السفارة عندئذٍ — فقد قال له سلطانوف: إن الاتحاد السوفييتي لا ينوي القيام بأي نشاط في مصر، بل طالب هنري بأن تتوقف مكتبة الميدان عن توزيع الكتب السوفييتية حتى لا تسبِّب حرجًا للسفارة وبعد ذلك كتب سلطانوف مقالًا بإحدى المجلات السوفييتية أكَّد فيه عدم وجود شيوعيين مصريين. لم يقتنع الرجل — إذَن — بذلك الشاب البرجوازي الأجنبي الذي يدَّعى التحدث باسم الشيوعيين المصريين. ولعل موقف الحزب الشيوعي الفرنسي وكذلك الحزب الشيوعي الفلسطيني، ثم الحزب الشيوعي اللبناني، كان قد اتخذ بتنسيق كامل مع موسكو.

إنهم من وجهة نظر الحركة الشيوعية الدولية — إذَن — شيوعيون لقطاء لا تقبل الحركة الشيوعية الدولية تبنِّيهم وتصمهم بالانتهازية، وتشم رائحة الشبهات في نشاطهم، وترى أنهم ليسوا أكثر من «حفنة من البرجوازيين الكبار والصغار المنخرطين في معارك ديوك لا تغتفر، تنتمي إلى العمل السياسي المبتذل أكثر من انتمائها إلى النضال الثوري» على حد تعبير أحد المصادر لجيل بيرو.

لقد كان ذلك قدر الحركة الشيوعية في مصر عندئذٍ، ويهمنا هنا الوقوف أمام المنظمة التي أسَّسها هنري كورييل «الحركة المصرية للتحرر الوطني». ويذكر هنري كورييل أن النية كانت متجهة إلى استخدام اسم «الشيوعية»، ولكن تم العدول عن ذلك لتجنُّب التعرض للوقوع تحت طائلة القانون الذي يحرِّم الشيوعية، ولأن الدعاية ضد الشيوعية ربطت بينها وبين شتَّى صنوف الانحلال، ولأن الحركة — في بداية أمرها — لا تستطيع أن تلعب دور الحزب الطليعي للطبقة العاملة المصرية، فكان الاسم الذي اختير للحركة يعني أنها بداية لتنظيم حزب. عندما تكتمل له صفة التعبير عن الطبقة العاملة المصرية، وكان تأكيد مصريتها يعني التمسك بتمصيرها، والنص على التحرر الوطني يعني إعطاء الأولوية للنضال ضد الإمبريالية، وكذلك مجاراة الواقع الاجتماعي لمفهوم التحرر.

وبدأت «الحركة المصرية للتحرر الوطني» نشاطها بتجنيد المصريين وتدريبهم، وهنا يذكر هنري كورييل أنه فضَّل الابتعاد عن الشيوعيين القُدامى الذين يعرفهم البوليس السياسي تجنُّبًا للوقوع تحت طائلة القانون، بينما كان من المنطقي الاستفادة بخبرة أولئك المناضلين وخاصة أن من بينهم مَن عاصروا «الحزب الشيوعي المصري» القديم، كالشيخ صفوان أبو الفتوح، وشعبان حافظ، والدكتور حسونة، ولكن سينضم هؤلاء إلى الحركة المصرية للتحرُّر الوطني فيما بعد.

استطاع هنري كورييل ورفاقه العثور على نحو العشرين من المصريين الذين كانوا من العمال والطلبة الفقراء بينهم أزهري واحد، شكَّلوا الدفعة الأولى لمدرسة الكوادر التي أقامها هنري في «سراي» عزبة والده بالمنصورية، وكان من بين الدارسين اثنان أصبحا من أهم قيادات الحركة هما فؤاد حبشي وسيد سليمان رفاعي (الرفيق بدر) من صف الضباط الميكانيكيين بالجيش المصري (سلاح الطيران). وتولى التدريس بالإضافة إلى هنري كورييل جوماتالون، ودافيد ناحوم (من أبناء البرجوازية اليهودية)، وطاهر المصري، وزكي هاشم (من أبناء البرجوازية المصرية). وتناولت المحاضرات الآفات الثلاث التي عانى منها المجتمع المصري: الفقر والجهل والمرض، وتطور المجتمعات والطبقات الاجتماعية، والمادية الجدلية (بعد إغضاء الطرف عن القضايا المتصلة بالدين)، والاشتراكية، وتجربة الاتحاد السوفييتي في التنمية. وانقطع الدارسون عن العالم الخارجي في عزبة المنصورية خمسة عشر يومًا متصلة قضوها في الاستماع إلى المحاضرات والمناقشات منذ شروق الشمس حتى مغيبها، ويختمون اليوم بإلقاء النشيد الأممي الذي نقله طاهر المصري إلى العربية. كان ذلك في أكتوبر ١٩٤٣م، ولا يحدثنا هنري كورييل أو جيل بيرو — الذي ترجم له — عن دفعات أخرى تم إعدادها بهذه المدرسة، ولكننا نستنتج من كتابات هنري أن الدارسين انطلقوا للتثقيف في القواعد التي جاءوا منها، فقد تولى الرفيق بدر مسئولية تثقيف رفاقه من صف ضباط سلاح الطيران، على سبيل المثال.

وإلى جانب الكوادر المصرية الجديدة شارك بعض قدامى الشيوعيين المصريين في نشاط «الحركة المصرية للتحرر الوطني» كالدكتور عبد الفتاح القاضي الذي تولى ترجمة الكتب النظرية إلى اللغة العربية، ومسئولية نشر المجلات الداخلية، والدكتور حسونة (طبيب الأسنان) الذي تولى مسئولية مجموعة الإسكندرية وأشرف على طباعة سلسلة «الكتب الخضراء» وكذلك الشيخ صفوان أبو الفتح وعبد الرحمن فضل، أما عصام حفني ناصف فظل بعيدًا عن الحركة لأنه اشترط للالتحاق بها أن يعين سكرتيرًا عامًّا، على حد قول هنري كورييل. وحققت الحركة تقدمًا على طريق «التعميل» بانضمام بعض قادة عمال شبرا الخيمة إليها وعلى رأسهم المناضل النقابي محمد شطا الذي يعده هنري كورييل أحد أساتذته.

لعب أولئك «الشيوعيون اللقطاء» الأجانب اليهود، بقصد أو غير قصد، دور القابلة في «الميلاد الثاني» للحركة الشيوعية المصرية — على حد تعبير كورييل — إذا أيدنا وجهة نظر هنري كورييل الذي يرى أن هناك فترة انقطاع في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية فيما بين ١٩٢٤–١٩٤٠م، وأنه لم تكن هناك حركة، ولم تكن هناك منظمات شيوعية، وإنما كان هناك شيوعيون مصريون، وهو هنا يعارض نظرية استمرارية الحركة التي يقول بها رفعت السعيد. وأصبح هناك شيوعيون مصريون جدد تربوا في حجر المنظمات الثلاث: «تحرير الشعب» التي ركزت على «تعميل» الحركة واهتمَّت بتجنيد المناضلين النقابيين على وجه الخصوص، و«إسكرا» التي اتبعت أسلوبًا انتقائيًّا دقيقًا لتجنيد عناصرها من المثقفين وخاصة ذوي الثقافة الفرنسية من أبناء البرجوازية المصرية، و«الحركة المصرية للتحرر الوطني» التي اهتمَّت بتمصير الحركة وتعميلها معًا.

ومهما كان من سلبيات «الانقسام» و«التكتلية» ودعاوى «الانحراف» اليميني واليساري، و«الانتهازية» التي غلبت على الحوار بين هذه المنظمات، فإن ثمَّة إيجابية لا يمكن إغفالها؛ فقد أصبح الفكر الماركسي متاحًا ومطروحًا على الساحة السياسية في مصر، فعند قيام الحرب العالمية الثانية لم تكن هناك سوى ترجمة لبنانية ركيكة لكتاب ماركس «رأس المال»، فجاءت المجلات العلنية والنشرات السرية التي نشرتها تلك المنظمات، والكتب الخضراء التي نشرتها «الحركة المصرية للتحرر الوطني» لتجعل الفكر الاشتراكي مطروحًا ومتاحًا. ولا شك أن هذه الكتب والنشرات لعبت دورًا هامًّا في صياغة فكر الشيوعيين المصريين حتى الستينيات على أقل تقدير.

كانت نواة «الحركة المصرية للتحرر الوطني» — التي أسَّسها هنري كورييل في أكتوبر ١٩٤٣م — مجموعة من الشيوعيين الأجانب الذين انشقوا على «إسكرا» بسبب موقفها من قضية «تمصير» الحركة الشيوعية وإصرارها على الإبقاء على قيادة التنظيم أجنبية خالصة، وقد رأينا كيف حرص هنري كورييل وجماعته على تجنيد عناصر مصرية تلقَّت تدريبًا ماركسيًّا بمدرسة الكوادر التي أقامها بعزبة والده بالمنصورية، ولعبت الكوادر المصرية دورًا هامًّا في اجتذاب عناصر جديدة إلى الحركة في مجالات عملها الخاصة: عمال الجيش، عمال الحكومة، عمال المصانع والشركات الأهلية. وكان التركيز يتم بصفة خاصة على القيادات النقابية النشِطة في الصناعات ذات الوزن الحركي في إطار التنظيم النقابي، فكان انضمام محمد شطا المناضل النقابي لعمال النسيج بشبرا الخيمة كسبًا كبيرًا للحركة المصرية للتحرر الوطني، كذلك جندت بعض العناصر النقابية في قطاعات المواصلات والنقل، فضلًا عن الاهتمام بتجنيد الطلبة — وخاصة الفقراء منهم — وكذلك بعض طلاب الأزهر، هذا بالإضافة إلى النوبيين الذين كان لهم قسم خاص بالحركة المصرية للتحرر الوطني (وهو اتجاه عنصري لم يقدم هنري كورييل تفسيرًا له)، وقسم خاص بالسودانيين.

وبالإضافة إلى «أم درمان» و«العهد الجديد» المجلتين العلنيتين اللتين كانتا تعبِّران عن الحركة المصرية للتحرر الوطني، أصدر قسم النشر بالحركة نشرتين للتداول الخاص بين أعضاء الحركة هما «الوعي» وتُعنى بالمسائل التثقيفية، و«الكادر» وتهتم بالمشاكل التنظيمية.

ولمَّا كانت «الثورة لا يُعد لها في أوقات الفراغ» كما يقول لينين، فإن الحركة المصرية للتحرر الوطني أخذت بنظام المناضلين «المحترفين» أو المتفرغين، وكان هؤلاء يختارون من بين الطلاب والعمال الفقراء، ويحصل كلٌّ منهم على ستة جنيهات مصرية مكافأة شهرية، وأولت الحركة أهمية خاصة لتجنيد وإعداد المناضلين «المحترفين». ولم تكُن الحركة المصرية — في حقيقة الأمر — أول مَن اهتم بتجنيد المحترفين، فقد كان للأحزاب البرجوازية (وخاصة الوفد) محترفون بين صفوف الطلاب، وكذلك الحال بالنسبة للإخوان المسلمين، فضلًا عن العناصر الطلابية والعمالية التي احترفت العمل لحساب البوليس السياسي.

وقد ركز المناضلون «المحترفون» عملهم بين التجمعات الطلابية (جامعة القاهرة والأزهر) والتجمعات العمالية بالقاهرة والإسكندرية، فتولوا مهام تنظيم الإضرابات، وقيادة وتوجيه المظاهرات، وتوزيع المنشورات والنشرات التي تصدر عن الحركة، كانوا إذَن أدوات الحركة للعمل الجماهيري، ولم يكُن هناك اهتمام كبير بإعدادهم الإعداد النظري الكافي، بقدر الاهتمام بإعدادهم الحركي، وهي سلبية من سلبيات الحركة المصرية للتحرر الوطني يعترف بها هنري كورييل الذي دافع — في سيرته الذاتية — عن المناضلين المحترفين دفاعًا قويًّا مؤكدًا أنهم كانوا من «أفضل العناصر الوطنية»، وينحي باللائمة على المنظمات المنافسة التي وصفت محترفي الحركة المصرية للتحرر الوطني ﺑ «المرتزقة»، مؤكدًا أن بعضهم كان باستطاعته أن يربح من مهنته أكثر من تلك المكافأة الضئيلة التي كان يحصل عليها لقاء تفرُّغه.

ومهما كان الأمر، يحق لنا أن نتساءل: من أين جاءت تلك الأموال التي أُنفقت على تغطية نفقات قسم النشر. والتي استُخدمت لإصدار المجلات العلنية والنشرات السرية، وكذلك لتغطية مكافآت الاحتراف؟! إن هنري كورييل يتجاهل هذه المسألة تمامًا سواء في سيرته الذاتية أو التقريرين اللذين أعدَّهما عن تطور الحركة (رقم ٢، ٣ من مجموعة الوثائق)، رغم أن قوى الرجعية كانت تتهم الحركة الشيوعية المصرية — وما زالت — بالاعتماد على التمويل الخارجي. إن إلقاء الأضواء على مصادر تمويل نشاط الحركة المصرية للتحرر الوطني كان من الضرورة بمكان. فهل قدَّم كورييل هذه الأموال؟ لقد كان مرتبه من عمله بالمصرف الخاص بوالده أربعين جنيهًا شهريًّا، وكانت زوجته روزيت تعمل مقابل اثني عشر جنيهًا شهريًّا (كما يذكر جيل بيرو)، كما أن الحركة كانت تضم في عضويتها عمالًا بنسبة ٥٠٪ وطلابًا بنسبة تقترب من ٤٠٪، ولم تكن أحوال العمال المادية خلال الحرب العالمية الثانية تسمح لهم بدفع اشتراكات عضوية للحركة بشكل منتظم، كما كان الطلاب يجندون من بين «أشد الطبقات بؤسًا» على حد قول هنري كورييل، فهل قام دانييل كورييل (والد هنري) بتمويل الحركة، وهو المصرفي المرابي الذي يعيش على امتصاص دماء الفلاحين، والذي كان يعد ولده هنري خائنًا لطبقته؟ إن ذلك أمر مُستبعَد تمامًا، ويتنافى مع المنطق، فمن أين أتى هنري كورييل بالأموال التي غطَّت كل هذا النشاط؟ سؤال سيظل مطروحًا دون إجابة وسيظل يلاحق هنري كورييل حتى منفاه في باريس، ولن يكون السؤال مقصورًا علينا، بل سيكون موضع اهتمام الحزب الشيوعي الفرنسي نفسه الذي كان ينظر بعين الشك إلى مصدر تمويل «مجموعة روما» التي كونها هنري كورييل، وهو ما سنعود إليه فيما بعد.

إن البحث عن إجابة لهذا السؤال بالنسبة لإسكرا أسهل بكثير، فقد كان معظم كوادرها من أبناء الأثرياء الأجانب والمصريين على السواء، الذين باستطاعتهم أن يدفعوا بصورة مستمرة اشتراكات «سخية» للتنظيم، ويذكر هنري كورييل شيئًا من هذا عندما يتحدث عن تحسُّن الأحوال المالية بعد الوحدة وتكوين «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» في مايو ١٩٤٧م، عندما يشير إلى زيادة مكافآت المحترفين بعد الوحدة بفضل ما أضافته «إسكرا» إلى ميزانية الحركة، ولكن يصعب العثور على إجابة له بالنسبة للحركة المصرية للتحرُّر الوطني قبل الوحدة.

وعلى كلٍّ، عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام ١٩٤٥م، كانت الساحة السياسية في مصر تعج بالنشاط، فقد أثبتت الحرب أن معاهدة «الشرف والاستقلال» التي أبرمتها مصر مع بريطانيا عام ١٩٣٦م، بعيدة كلَّ البُعد عن هاتين الصفتين، فقد ألقت على مصر أعباء حرب لا مصلحة لها فيها، وعرَّضتها لأخطار الدمار، وأضرَّت باقتصادها، وأصابته بداء التضخم، وبذلك أجمعت كل القوى السياسية في مصر — على اختلاف توجهاتها — على ضرورة إعادة النظر في العلاقات المصرية البريطانية وصولًا إلى الاستقلال التام وتحقيقًا لجلاء القوات البريطانية عن مصر.

وكانت الطبقة العاملة المصرية تموج بالحركة الدائبة للمطالبة بتحسين ظروف العمل وشروطه، فلم يشفِ قانون الاعتراف بالنقابات — الذي أصدرته حكومة الوفد عام ١٩٤٢م — غليل الطبقة العاملة المصرية، لفرضه القيود على نشاط النقابات وإخضاعها للرقابة الإدارية، فضلًا عن حرمان الطبقة العاملة المصرية من إقامة «اتحاد عام لنقابات العمال» يعبر عن مصالح الطبقة العاملة ويقود نضالها في مواجهة رأس المال. كذلك كانت تشريعات العمل القليلة التي صدرت في الثلاثينيات والأربعينيات دون آمال الطبقة العاملة المصرية بكثير، وجاء تسريح عمال ورش الصيانة العسكرية التي أقامها الحلفاء في مصر خلال الحرب ليحرم عشرات الآلاف من العمال من حق العمل، وليزيد من حِدَّة مشكلة البطالة التي نجمت عن كساد بعض الصناعات التي تدهورت خلال الحرب.

كانت الحركة السياسية في إطار تلك الظروف الموضوعية — إذَن — تتفجر كالبركان، شقت حناجر الشباب في المظاهرات التي راحت تطالب بالاستقلال التام أو الموت الزؤام، ونهض العمال لمشاركة الطلاب في الحركة الوطنية، فضلًا عن نضالهم المستميت من أجل إقامة اتحاد للنقابات، وإصدار تشريعات العمل.

خلق ذلك كله مناخًا ملائمًا للحركة الشيوعية المصرية للعمل بين صفوف الجماهير، وإذا كانت «تحرير الشعب» قد استقطبت بعض القيادات النقابية العمالية، و«إسكرا» قد استقطبت بعض الطلبة، فإن «الحركة المصرية للتحرُّر الوطني» تحركت بين صفوف الطلبة والعمال بقدر ملحوظ من النجاح بفضل الكوادر التي عملت تحت رايتها، كما كان لها وجود بالجيش، اتسع بعد الوحدة ليضم بعض الضباط الأحرار (أحمد حمروش، يوسف صديق، خالد محيي الدين).

وكان لا بد للحركة المصرية للتحرر الوطني من أن تحدد موقفها من القضية الوطنية، فأيَّدَت المطالبة بجلاء القوات البريطانية عن مصر وإلغاء معاهدة ١٩٣٦م واتفاقية الحكم الثنائي الخاصة بالسودان (١٨٩٩م)، وتبنَّت مبدأ «النضال المشترك ضد العدو المشترك» الذي يجمع بين المصريين والسودانيين من أجل تحقيق الاستقلال الوطني، على أن يكون للسودانيين حق تقرير المصير بالوحدة مع مصر أو الاستقلال التام. وقامت الحركة بالتطبيق العملي لمبدأ تقرير المصير، فتم فصل القسم السوداني عن الحركة ليكون الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) التي كانت نواة الحزب الشيوعي السوداني، وكان الموقف من السودان «أول سباحة ضد التيار» العام للحركة السياسية المصرية (على حد تعبير هنري كورييل)، فقد كانت جميع القوى السياسية في مصر تطالب بوحدة وادي النيل تحت التاج المصري، وسوف يكون الموقف من القضية الفلسطينية «ثاني سباحة ضد التيار» على نحو ما سنرى. ويعتبر هنري كورييل قبول ثورة يوليو بمبدأ حق تقرير المصير للسودانيين دليلًا على تأثر الضباط الأحرار بموقف الحركة المصرية للتحرر الوطني، وعلى سلامة موقفها من القضية السودانية.

وثمَّة موقف آخَر للحركة المصرية للتحرر الوطني اختلفت فيه — هذه المرة — مع المنظمات الشيوعية الأخرى، هو الموقف من جامعة الدول العربية، وفكرة «الوحدة العربية» ذلك الموقف الذي جعل بعض المنظمات الشيوعية تصم الحركة المصرية بالعمالة للإمبريالية، نظرًا للدور الذي لعبته بريطانيا في تأسيس «جامعة الدول العربية». وكانت وجهة نظر الحركة المصرية أن «الوحدة العربية» حقيقة لا بد من الاعتراف بها، ومن ثَم كان تأييدها لجامعة الدول العربية، وجعل «وحدة الشعوب العربية» هدفًا من أهدافها السياسية، من منطلق أن موقف بريطانيا من تأسيس الجامعة يستند إلى واقع ملموس، والاعتراض على الجامعة العربية لمجرد أن بريطانيا ساعدت على قيامها، نوع من قصر النظر السياسي، ويأسف هنري كورييل لعدم قيام الحركة المصرية للتحرر الوطني بإصدار نشرة عن الوحدة العربية بسبب عدم توافر الإمكانات المادية والسياسية، وخاصة عدم وجود صِلات مع الأحزاب الشيوعية الدولية، التي «كانت جميعًا تحتقرنا باستثناء الحزب الشيوعي اللبناني» على حد قول هنري كورييل.

وبالنسبة لقضية العمال، ناصرت الحركة المطالبة بتأسيس اتحاد عام للنقابات، واستطاعت اجتذاب بعض الكوادر النقابية الهامة التي تعمل في هذا الاتجاه، كما ناصرت المطالب الخاصة بتشريع العمل، وطالبت بحل مشكلة عمال ورش الصيانة العسكرية المسرحين والقضاء على البطالة.

وحاولت الحركة المصرية للتحرر الوطني أن تدخل غمار العمل الوطني ضد الوجود البريطاني في مصر عشية انتهاء الحرب، ظنًّا منها أن باستطاعتها امتلاك زمام المبادرة في هذا المجال، فانتهزت فرصة بدء العام الدراسي، وقامت بتوزيع عشرين ألف نسخة من منشور موجه إلى طلاب الجامعة (في ٦ أكتوبر ١٩٤٥م)، ومنشور آخَر مُوجَّه إلى العمال والجنود يطالب بالخروج للنضال ضد الإمبريالية. وكانت الحركة تظن أن باستطاعتها امتلاك زمام المبادرة على الساحة السياسية بين صفوف الطلبة والعمال، ولكنها أدركت أنها — والحركة الشيوعية معها — أعجز من أن تقود بمفردها نضالًا فعَّالًا من أجل تحقيق المطالب الوطنية، فلم يستجب الطلبة والعمال لدعوة الحركة، وخاصة أن «الوفد» ظلَّ يتمتَّع بقدرة أكبر على تحريك الطلبة على وجه الخصوص. لذلك دعَت الحركة إلى عقد مؤتمرات جماهيرية، لقيت استجابة من يسار الوفد (الطليعة الوفدية) الذي لعب دورًا كبيرًا في تعبئة الطلبة للنضال الوطني بالتعاون مع الحركة المصرية للتحرُّر الوطني، فتكوَّنَت لجان تنفيذية للطلاب ضمت طلبة الجامعة والمدارس الثانوية والأزهر، وأخرى للعمال تركَّزت في شبرا الخيمة (ديسمبر ١٩٤٥م)، ثم أسفرت هذه الجهود عن تشكيل قيادة جديدة للعمل الوطني في صورة جبهة وطنية ضمَّت ممثلين للوفد والإخوان المسلمين والحركة الشيوعية فيما عُرف باسم «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» (يناير ١٩٤٦م)، ثم ما لبث أن انسحب الإخوان المسلمون من اللجنة وكونوا مع بعض العناصر الأخرى «اللجنة القومية للعمال والطلبة» التي ناصرت حكومة صدقي، وحاولت شق الجبهة الوطنية ممثلة في «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» التي لعبت دورًا رئيسيًّا في قيادة وتوجيه النضال الوطني عام ١٩٤٦م.

ومن الملاحظ أن هنري كورييل يبالغ في تقدير حجم الدور الذي لعبته منظمته في «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» فهو يؤكد أن الحركة المصرية للتحرر الوطني كانت المحرك الرئيسي لنشاط اللجنة، وأنها كانت وراء انضمام العمال إلى الطلبة، كما لعبت الدور الأساسي في توجيه نشاطها، وأن المنظمات الشيوعية الأخرى شاركت في الحركة على استحياء. والحق أن «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» كانت جبهة وطنية ضمَّت قيادات جديدة انتخبت على أساس ديمقراطي من شباب العمال والطلبة الذين كفروا بالقيادات الحزبية البرجوازية التقليدية، وقد مثلت في اللجنة مختلف الاتجاهات السياسية والأيديولوجية، فقد كان التحرر الوطني مطلبًا عاجلًا حتَّم تكوين الجبهة الوطنية، وإذا كانت الحركة المصرية للتحرر الوطني قد دعت لتكوين تلك الجبهة وشاركت فيها، وكان لكوادرها من الطلبة والعمال دور هام في نشاطها، وكان الطالب السوداني (محمد علي) الذي سقط برصاص البوليس من كوادرها، فإن ذلك لا يدعو إلى التقليل من دور ممثلي الاتجاهات الأخرى التي انضمَّت للجبهة وخاصة «الطليعة الوفدية».

ورغم مبالغة هنري كورييل في تقدير حجم الدور الذي لعبته منظمته — على وجه الخصوص — والمنظمات الشيوعية الأخرى في «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» نجده يتناقض مع نفسه بعد قليل عندما يعزو انهيار اللجنة إلى «ضعف الحركة الشيوعية وعجزها عن التخلص من هذا الضعف من خلال المد الثوري». ولكنه يشير إلى الدور الذي لعبته المجموعات الماركسية المختلفة: الحركة المصرية للتحرر الوطني، وإسكرا، وتحرير الشعب، والفجر الجديد في تشكيل لجنة للتنسيق بين نشاط هذه المنظمات في الأوساط الطلابية والعمالية، ونجاحها في المشاركة في تأسيس اتحاد طلابي «جبهوي» يضم طلابًا من مختلف الاتجاهات السياسية باسم «اتحاد الطلاب المصريين».

كذلك لعبت كوادر الحركة المصرية للتحرر الوطني، والفجر الجديد، وتحرير الشعب، دورًا هامًّا في تأسيس «مؤتمر نقابات عمال مصر» الذي كان بمثابة اتحاد عام للنقابات العمالية تحت اسم «مؤتمر» تفاديًا من الوقوع تحت طائلة القانون الذي يحرم إقامة اتحاد عام للنقابات.

ولكن من الملاحظ أن الحركة الشيوعية المصرية الموزعة بين عدة تنظيمات — في ذلك الوقت — كانت أشد اهتمامًا بتوثيق الصلات بالمنظمات الجماهيرية الشيوعية الدولية، منها بالنضال بين صفوف الجماهير المصرية، ولعلَّ ذلك يرجع إلى إلحاحها في الحصول على اعتراف الحركة الشيوعية الدولية، ليس بها جميعًا، وإنما بأحدها كحزب شيوعي مصري، وهي جهود باءت دائمًا بالفشل. من ذلك حرصها على إيفاد ممثلين لاتحاد الطلاب المصريين (من بين كوادرها) إلى مؤتمر «جمعية الطلاب الدولية» عام ١٩٤٦م، وكذلك مندوبين (من بين كوادرها النقابية) للاشتراك في مؤتمر «الاتحاد العالمي للنقابات» عام ١٩٤٧م. وفي كل الأحوال، كانت المنظمات الشيوعية تتصارع فيما بينها لإيفاد مندوبين من كوادرها دون غيرهم، وفي الحالتين كانت الحركة المصرية وإسكرا (الأقدر ماليًّا) تنجحان في اختيار مندوبين لكل مؤتمر يختاران من بين كوادر كل من المنظمتين.

وبين المنظمات الشيوعية المتصارعة، كانت «الحركة المصرية للتحرر الوطني» أقدرها على العمل الجبهوي، فأعدت — في نهاية عام ١٩٤٦م — مشروعًا لميثاق وطني للطلاب يحدد الأهداف الوطنية ويتعهد بالنضال من أجل تحقيقها، تقدَّمت به إلى لجنة التنسيق بين المنظمات الشيوعية، وتولى «اتحاد الطلاب المصريين» عرضه على شباب الأحزاب المختلفة، فحظي بموافقتهم جميعًا فيما عدا الإخوان المسلمين، وطبع الميثاق ووزع حاملًا توقيعات ممثلي الهيئات السياسية التي وافقت عليه. كما كانت الجماعات الشيوعية تعمل بين صفوف طلاب الجامعة بتنسيق تام مع شباب الوفد (الطليعة الوفدية).

كان النضال السياسي للجماهير المصرية عام ١٩٤٦م موجهًا ضد الإمبريالية وضد سوء الأحوال الاجتماعية الناجم عن غياب السياسات الاجتماعية للحكومات المتعاقبة — سواء الحزبية منها أو غير الحزبية — وضد مشروع «صدقي-بيفن» لتسوية العلاقات المصرية البريطانية بصورة لا تحقِّق الأماني الوطنية في الاستقلال التام والجلاء. وإذا كانت حكومة صدقي قد تسامحت مع المظاهرات — في بداية الأمر — فإن إحساسها بدقة التنظيم وبخطورة قيادة «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» للعمل الوطني، جعلها تدرك خطورة ترك الحبل على الغارب للقوى الوطنية. وعبثًا حاولت أن تستخدم الإخوان المسلمين وبعض القوى السياسية الرجعية ضد القيادة الوطنية الجديدة. فلم تجِد مفرًّا من اعتقال العناصر الوطنية النشطة.

وفي ليلة ١١ يوليو ١٩٤٦م ألقى صدقي باشا القبض على أكثر من مائتي شخص من الكتاب والصحفيين والقيادات الطلابية والعمالية بتهمة تدبير مؤامرات تخريبية، كما قام بإغلاق الجمعيات والصحف التقدمية، وبعد ذلك بقليل قدمت الحكومة للنيابة نحو مائة متهم فيما عرف بقضية «المؤامرة الشيوعية الكبرى» كانوا يمثِّلون خليطًا من الشيوعيين القدامى (المعروفين للبوليس السياسي) الذين أوقف الكثير منهم نشاطه، وشباب الطليعة الوفدية، وبعض العناصر التقدمية الأخرى، وكان هنري كورييل هو المتهم الأول في هذه القضية، وصدرت أخبار اليوم تحمل صورته بقامته المديدة النحيفة وسرواله القصير وتحمل عناوين مثيرة عن «المليونير الشيوعي … زعيم الحركة الشيوعية في مصر.»

كان ذلك هو الاعتقال الثاني لهنري كورييل، ولم يعتقل معه من كوادر «الحركة المصرية للتحرُّر الوطني» سوى خمسة أفراد ممَّن لهم نشاط سابق، من بينهم عبده دهب، وكان ذلك يعني أن كوادر الحركة لم تكُن معروفة للشرطة، ممَّا جعل هنري كورييل يزهو بالضوابط الأمنية في منظمته.

وخلال تحقيقات النيابة اكتشف كورييل أن التُّهم المُوجَّهة إليه تهم عامة، كنشر وتداول الكتب التي تعرض «الهيئة الاجتماعية» للخطر، ولم يكُن من بين هذه التُّهم إقامة تنظيم شيوعي، لذلك شعر بالاطمئنان، وراح يستفيض في الإجابة على أسئلة النيابة حول الشيوعية. وما لبثت النيابة أن أفرجت عن جميع المحبوسين بكفالة مالية على ذمة «قضية المؤامرة الشيوعية الكبرى» بعد بضعة أسابيع وكان ترتيب هنري كورييل قبل الأخير عند الإفراج عن المحبوسين، أمَّا الأخير فكان لطف الله سليمان. وبعد ذلك بعشرين شهرًا قضت محكمة الجنايات ببراءة هنري كورييل، ممَّا جعله يطمئن إلى قدراته التنظيمية، وسلامة خط النشاط السياسي العلني الذي اتبعه.

وعلى كلٍّ، كان التنسيق بين المنظمات الشيوعية من خلال العمل بين صفوف الطلبة والعمال — على ما يبدو — مقدمة لإذابة الجليد بين المنظمات المتصارعة، ودافعًا للتفكير في وحدة المنظمات الشيوعية في تنظيم واحد، وخاصة أنها جميعًا فشلت في كسب اعتراف الحركة الشيوعية الدولية بأيٍّ منها كحزب شيوعي مصري، بينما كسبت جميعًا «احتقار» الأحزاب الشيوعية الدولية (باعتراف هنري كورييل) التي ضاقت ذرعًا بصراع المنظمات الشيوعية المصرية مع بعضها البعض، وكانت تنصح دائمًا بالوحدة.

كانت هناك عدة منظمات شيوعية عندما بدأ التفكير في الوحدة عام ١٩٤٧م. فهناك بالإضافة إلى الحركة المصرية للتحرر الوطني وإسكرا، الفجر الجديد، والطليعة، والقلعة، والحزب الشيوعي لشعبي وادي النيل (وكان يطلق عليه الحزب الشيوعي لمصلحة الضرائب؛ لأن جميع أعضائه المحدودين كانوا يعملون بها)، وهناك المنظمة الديمقراطية الشعبية (د. ش) وشراذم أخرى من المنشقين عن المنظمات الرئيسية كوَّنوا مجموعاتهم الخاصة بهم، مثل «العصبة الماركسية» وغيرها. انقسام شديد، وصراع، وكراهية، وتبادل اتهامات بالانتهازية والبوليسية والعمالة، وغير ذلك من نعوت فاضت بها نشرات تلك الجماعات المتعددة التي ضمَّت مصريين وأجانب، أو مصريين فقط. غير أن التفكير في الوحدة لم يدُر بخلد هذه المنظمات معًا، بقدر ما كان هاجسًا من هواجس «الحركة المصرية للتحرر الوطني (حمتو) وإسكرا» اللتين قرَّرتا الوحدة (في مايو ١٩٤٧م) لتكوِّنا «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني».

(٣) مولد الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)

كانت الفترة التي سبقت الوحدة بين «حمتو» و«إسكرا» قد شهدت «اتحادات» جزئية، فقد انضم إلى «الحركة المصرية للتحرر الوطني» جزء من تنظيمي «تحرير الشعب» و«القلعة»، وأتاح ذلك لحمتو أن تكسب كادرًا هامًّا عمل بين الضباط الأحرار هو أحمد حمروش الذي جاء من تنظيم «القلعة» (الذي سُمي بذلك الاسم لأن معظم أعضائه كانوا يقيمون بحي القلعة)، بينما انضم بقية أعضاء «تحرير الشعب» و«القلعة» إلى «إسكرا» ونجحت الأخيرة في ضم قطاع الإسكندرية من تنظيم «الطليعة» إليها. وخلال مفاوضات الوحدة، سارعت إسكرا — على حد زعم هنري كورييل — برفع جميع المرشحين إلى مرتبة العضوية لتزيد من عدد أعضائها، وعندما تمَّت الوحدة، قدمت «إسكرا» تسعمائة عضو، على حين قدمت «حمتو» خمسمائة عضو، ويزعم هنري كورييل أن «إسكرا» بالغت في رقم عضويتها، وأنه اكتشف — بعد الوحدة — وجود أسماء وهمية، وأسماء أخرى وردت بقائمتي المنظمتين، وبذلك يمكن القول إن «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو) كانت تضم عند الوحدة نحو الألف عضو، كانت نسبة الأجانب بينهم حوالي ٢٦٪، والعمال حوالي ٢٨٪، والطلبة حوالي ٢٠٪، والشباب ٦٪، والمثقفين ١٤٪، أمَّا الجيش والأزهر والسودانيون فكانت نسبتهم حوالي ٢٪ لكل منهم (وجاءوا جميعًا من حمتو). وبذلك كان المثقفون والأجانب (وجاءوا من إسكرا). يمثِّلون ٤٠٪ من أعضاء حدتو، ممَّا سيكون له أثره البالغ في إبراز التناقضات داخل المنظمة الجديدة التي كانت تهيِّئ نفسها لتصبح «الحزب الشيوعي المصري» رغم النسبة المتواضعة للعمال بين أعضائها.

ويلاحظ أن ما تم في مايو ١٩٤٧ كان «اتحادًا» لا «وحدة» للمنظمتين، فلم تقُم أيٌّ منهما بحل نفسها للاندماج في الأخرى، بل احتفظت بتنظيماتها الأساسية دون تغيير تعمل تحت إشراف هيئات أعلى اتحادية، ووزعت مقاعد اللجنة المركزية العشرة بالتساوي بين المنظمتين. وبذلك مثل الحركة المصرية للتحرر الوطني خمسة هم: يونس (هنري كورييل)، وحميدو (محمد شطا)، وبدر (سيد رفاعي)، وعلام (على كامل)، وشوقي (كمال شعبان) وبذلك قدمت حمتو ثلاثة عمال إلى اللجنة المركزية. أمَّا مقاعد إسكرا فشغلها: عادل (عبد المعبود الجبيلي)، وسليمان (شهدي عطية الشافعي)، وعباس (عبد الرحمن الناصر)، وشديد (غير معروف) بالإضافة إلى شندي (هلل شوارتز). وبذلك لم تستطع إسكرا أن تقدم إلى اللجنة المركزية أي كادر عمالي.

وأصبح «قطاع الأجانب» منظمًا على أساس الجاليات، فهناك قسم يوناني، وآخَر أرمني، وثالث إيطالي يضم العديد من اليهود. وبذلك انزوى الأجانب الذين لم يكُن لهم باللجنة المركزية سوى يونس وشندي، ولمَّا كانت جميع «القوميات» مُمثَّلة في التنظيم الجديد، فقد تمَّت الموافقة على اقتراح هنري كورييل باتخاذ اسم «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» للتنظيم الجديد.

ولا نريد الخوض في التفاصيل التنظيمية التي أوردها هنري كورييل في «سيرته الذاتية» (رقم ١) وتقريره عن مراحل الصراع داخل حدتو (رقم ٣)، فنحن لا نملك مصادر أخرى تتيح لنا فرصة مناقشة المعلومات التي أوردها، ولعل نشرها كما هي يشجِّع آخَرين ممَّن شاركوا في هذه التجربة على تقديم «شهاداتهم». ولكن ما يهمنا هنا إبراز حصاد تجربة الوحدة الأولى في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية المعاصرة.

كان أول رد فعل لقيام «حدتو» نتيجة وحدة الحركة المصرية للتحرر الوطني وإسكرا، قيام التنظيمات الماركسية الأخرى بتكوين «كتلة المعارضة» التي ضمَّت «العصبة الماركسية» و«الفجر الجديد» و«الحزب الشيوعي لشعبي وادي النيل» (حزب مصلحة الضرائب)، وما تبقى من «تحرير الشعب»، وذلك للنضال «ضد حدتو» التي تمثِّل «الفاشية والإمبريالية والصهيونية»، وقد أدَّت حملة كتلة المعارضة «ضد حدتو» إلى خروج بعض الأفراد من التنظيم وانضمامهم إلى «العصبة الماركسية».

وعلى صعيد «حدتو» كان التنسيق تامًّا بين المنظمتين المتحدتين (حمتو، وإسكرا) لمدة لا تزيد على أربعة شهور، رغم شعور الأعضاء من العمال «بالاغتراب» بين صفوف المثقفين والأجانب الذين جلبتهم الوحدة، ومواجهة ذلك من جانب إسكرا بمحاولة تحويل العمال إلى مثقفين عن طريق تكريس التدريب النظري لهم على حساب النشاط الميداني، ممَّا جعل هنري كورييل يصف مواقف «إسكرا» بالانتهازية. وخلال تلك الفترة القصيرة تغيَّرت اللجنة المركزية ثلاث مرات نتيجة للخلافات التي بدأت تطلُّ برأسها، وخاصة مناداة بعض العناصر المصرية بالتخلص تمامًا من العناصر القيادية الأجنبية شندي ويونس (شوارتز وكورييل).

وإذا كانت المنظمتان قد اتفقتا على الخط السياسي الخاص بالقضية المصرية، فأعلنت «حدتو» بمناسبة عرض القضية المصرية على مجلس الأمن (١٩٤٧)، مطالبتها بالجلاء والاستقلال التام، ووضع السودان تحت الوصاية المصرية بموجب قرار من مجلس الأمن لحين إجراء استفتاء لتقرير المصير بعد جلاء الإنجليز عن السودان، فإن المنظمتين اختلفتا حول الموقف من القضية الفلسطينية. كانت الحركة المصرية للتحرر الوطني (حمتو) ترى في المعارضة الوطنية المصرية لتدفق اليهود على فلسطين نوعًا من «العداء للسامية» وفي مقاومة الصهيونية دربًا من دروب «الإمبريالية»، على حين كانت «إسكرا» تعمل على مقاومة الصهيونية، وشكل شوارتز «العصبة اليهودية لمقاومة الصهيونية» ولكن معارضة حمتو، والأعضاء اليهود بالحركة، أدَّت إلى حل العصبة بعد أسابيع قليلة من تأسيسها.

نقطة خلاف أخرى حول «مدرسة الكوادر»، فقد لعب المثقفون من كوادر «إسكرا» دورًا هامًّا في تدريب العناصر العمالية بمدرسة الكوادر العمالية التي أُقيمَت أساسًا لتقريب الفوارق الثقافية (من الناحية النظرية) بين العمال والمثقفين. فسرعان ما اجتذبت «إسكرا» العناصر العمالية التي تخرجت في مدرسة الكوادر ممَّا كان له أثره في تحديد المواقف عندما احتدم الصراع بين المنظمتين.

وبنهاية فترة «شهر العسل» كما يسميها كورييل، أخذت الانقسامات تطلُّ برأسها، فرغم تأكيد الرفيق يونس (هنري كورييل) — في الخط السياسي الذي قدمه للجنة المركزية وحظي بموافقتها — على «التعميل» أي توسيع قاعدة العضوية العمالية لحدتو، و«التمصير» أي تمصير القيادة، إلا أنه لم يفهم أن التمصير يعني تخليه وشندي (هلل شوارتز) عن قيادة الحركة، واعتبر مطالبة العناصر المثقفة المصرية له بالتخلي عن القيادة نوعًا من «الشوفينية».

وهكذا بدأت «حدتو» تتفجر من الداخل، المنظمة التي أُقيمَت للقضاء على الانقسام، وتهيئة الظروف لإقامة «حزب شيوعي مصري» يحظى باعتراف واحترام الحركة الشيوعية الدولية، خرجت منها انقسامات جديدة كونت تنظيمات أخرى. وهكذا ظهرت منظمة «نحو منظمة بلشفية» و«صوت المعارضة» إلى جانب تكتُّل المثقفين المصريين المطالب بتمصير القيادة، وأطلق عليه «العادليون» نسبة إلى «عادل» (عبد المعبود الجبيلي) الذي تزعَّم هذه المجموعة. وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الصراع الداخلي — الذي بلغ حد محاولة كل فريق الاستيلاء على قسم النشر — أن أصبحت الضوابط الأمنية مختلة تمامًا، كما أصبحت «حدتو»، مخترقة من جانب البوليس السياسي، وتجلى ذلك في حملة اعتقالات مايو ١٩٤٨م بعد إعلان الأحكام العُرفية بمناسبة حرب فلسطين، فسقط كوادر حدتو في أيدي البوليس، وسيقوا إلى معسكر الاعتقال في الهايكستب.

وبعد الاعتقال، حسمت الجماعات المنقسمة على «حدتو» موقفها، فكون «العادليون» تنظيمًا خاصًّا بهم أطلقوا عليه اسم «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني – عمال ثوريون» (ع. ث)، وشكل شوارتز تنظيمًا مستقلًّا باسم «نحو حزب شيوعي مصري» (نحشم)، وانضم انقسام «نحو منظمة بلشفية» إلى «صوت المعارضة». وظل ما بقي من «حدتو» يعمل بنفس الاسم حتى يونيو ١٩٥٣م، عندما تزعَّم بدر (سيد رفاعي) انشقاقًا جديدًا باسم «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني – التيار الثوري» (ت. ث) وكان ذلك بعد ثلاث سنوات من طرد هنري كورييل من مصر، وإن كان خروجه من مصر لا يعني انقطاعه عن متابعة نشاط «حدتو» والمشاركة فيه، على نحو ما سنرى.

ووسط ذلك الخضم الهائل من الصراعات، كان هنري كورييل «يجمع كل شيء في يده، وكان الوحيد الذي يملك كل المعطيات» — على حد قول إيمي ستون لجيل بيرو — بل إن كورييل يذكر في ختام تقريره عن الحركة (رقم ٢) أنه «يتحمَّل وحده المسئولية» الكاملة عن عدم إدراك السلبيات التي ترتبت على تجربة الوحدة عام ١٩٤٧–١٩٤٨، ومن ثَم كان مهيمنًا على قيادة الحركة، مُتشبِّثًا بموقعه، رافضًا ضرب المثل لمبدأ «التمصير» بترك موقعه لقيادة مصرية.

من ذلك أيضًا، موقف حدتو من القضية الفلسطينية، فقد جاء هذا الموقف تعبيرًا عن قناعات هنري كورييل نفسه الذي وقف — في بداية الأمر — إلى جانب إقامة دولة عربية-يهودية واحدة في فلسطين، وكان يحتفظ بصلات وثيقة مع رجال الفيلق اليهودي (الصهاينة) خلال الحرب العالمية الثانية، وتعاون معهم في توزيع المطبوعات على الأسرى الألمان والإيطاليين، وأشاد بهم في مذكراته (سيرته الذاتية)، و«بشجاعتهم»، واستاء لعدم إسناد الإنجليز مهام قتالية إليهم خشية تحسين قدراتهم العسكرية (التي كانت تستخدم ضد العرب طبعًا)، وكذلك رأيناه يعمل على إحباط النشاط اليهودي المُعادي للصهيونية في مصر، ويتهم ذلك النشاط بالمعاداة للسامية، ومن ذلك أيضًا وَصْفه لحرب فلسطين عام ١٩٤٨ «بالحرب الإمبريالية الظالمة ضد دولة إسرائيل».

وعندما صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، أيَّدَت «حدتو» قرار التقسيم؛ لأنه نابع من الموقف السوفييتي، وقبلت بقيام دولة إسرائيل، ولم تشاركها في ذلك منظمات شيوعية مصرية ولا عربية أخرى، فيما عدا الحزب الشيوعي العراقي، ولعل ذلك يفسِّر اتهام أعداء حدتو لها — في غضون تلك الأيام — بالفاشية والصهيونية، فقد كان موقف حدتو من القضية الفلسطينية يتناقض تمامًا مع مفهوم «التحرر الوطني» الذي ظلَّت تتبناه، ولا يتفق مع تبنِّيها لهدف «الوحدة العربية» الذي يفخر به هنري كورييل، فكيف تتحقق الوحدة العربية مع وجود الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي؟!

وفي المعتقل عام ١٩٤٨م، كان هنري كورييل وثيق الصلة بالمعتقلين الصهاينة من اليهود المصريين، يتعاون معهم تعاونًا تامًّا، رغم أنه رفض أن يفرج عنه ضمنهم تطبيقًا لأحد بنود اتفاقية رودس الخاصة بالهدنة، والتي كانت تقضي بإخلاء سبيل المعتقلين اليهود وترحيلهم إلى إسرائيل، كان كورييل يعتقد أن له دورًا لا بد أن يلعبه على مسرح السياسة المصرية، وخروجه إلى إسرائيل يفقده مصداقيته، ويدينه، ويحرمه من صلاته بمصر، لذلك رفض أن يقبل الإفراج والرحيل إلى إسرائيل، حتى لا يكون مدينًا بحريته الشخصية لهزيمة الجيش المصري، على حد تعبيره.

وقد ظلَّ الموقف من إسرائيل موقفًا ثابتًا عند هنري كورييل، فرغم «تعاطفه» مع موقف مصر خلال العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م، إلا أننا نجده يلعب دور همزة الوصل بين العناصر الصهيونية الموجودة بالسجون المصرية. وأسرهم في إسرائيل من خلال إحدى كوادر حدتو الموجودة بالسجن (انظر رقم ٥ من الوثائق) بل نجده يصدر مذكراته بالدفاع الحار عن الدور الذي لعبه اليهود في الحركة الشيوعية المصرية، ويتهم مَن يثيرون الشكوك حول هذا الدور بمعاداة السامية (نفس المقولات التي اعتاد الصهاينة على ترديدها) وظلَّ حتى وفاته في ١٩٧٨ يعمل من أجل سلام عربي-إسرائيلي يحقِّق التعايش بين العرب والدولة العبرية دون أن يوجه انتقادًا للسياسات العدوانية التوسُّعية لإسرائيل. وإن كان قد لعب دورًا هامًّا في الحوار بين الفلسطينيين والحزب الشيوعي الإسرائيلي، كما كانت له صلات وثيقة مع عصام السرطاوي الذي دفع حياته فيما بعد ثمنًا لاتصاله بالتقدُّميين الإسرائيليين (باسم منظمة فتح).

(٤) طرد هنري كورييل من مصر

قبِلَ معظم الشيوعيين اليهود الذين اعتقلوا بمعسكر هايكستب عام ١٩٤٨م، أن يفرج عنهم تنفيذًا لشروط هدنة رودس، وأن يغادروا مصر، فقد أدركوا أن قيام إسرائيل قد أغلق الطريق أمام إمكانية متابعة العمل بمصر، بل إن هنري كورييل نفسه اعترف بأن الشيوعيين اليهود المصريين قد أدوا «دورهم التاريخي» وهكذا خرج الشيوعيون اليهود من المعتقل إلى إسرائيل، وكانوا قد قرروا الذهاب إلى أحد الكيبوتزات، والنضال داخل الحزب الشيوعي الإسرائيلي غير أنهم ما لبثوا أن غادروا إسرائيل إلى فرنسا؛ حيث الْتَقوا مجددًا مع هنري كورييل ليكونوا — كما سنرى — مجموعة روما.

خرج الجميع إذَن ما عدا ثلاثة هم هنري كورييل، وجو ماتالون، وشحاتة هارون، الذين رفضوا أن يفرج عنهم لقاء مغادرتهم البلاد، وبذلك تم ضمُّهم إلى الشيوعيين المصريين في المعتقل؛ حيث ظلوا هناك حتى أفرجت حكومة الوفد عن جميع المعتقلين في مايو ١٩٥٠م.

عندما خرج هنري كورييل من المعتقل كان يفكِّر في إعادة تنظيم حدتو بعد أن مزقتها محنة الاعتقال والانقسامات، وإقامة منظمة مصرية علنية للسلام استجابة لنداء ستوكهلم ضد القنبلة الذرية، فإن إقامة فرع مصري لحركة السلام العالمية من شأنه أن يساعد على تعبئة الشيوعيين المصريين، ويجلب العناصر التقدُّمية إلى الحركة، كما أن من شأنه أن يخرج الشيوعيين من عزلتهم ويتيح لهم فرصة الحصول على الاعتراف الدولي بهم.

وهكذا، رغم إدراك هنري كورييل أن الشيوعيين اليهود المصريين قد أدوا دورهم التاريخي، إلا أنه استثنى نفسه استثناء يتعارض مع المنطق، فكيف يستطيع يهودي أجنبي الأصل، مؤيدًا لقيام إسرائيل، أن يستمر في قيادة حركة شيوعية مصرية في بلد كانت قد بلغت فيه القضية الوطنية ذروتها وبدأ العد التنازلي للكفاح المُسلَّح ضد الوجود البريطاني، كما أن البلاد في «حالة حرب» من الناحية الرسمية مع إسرائيل؟! لم يستوعب هنري كورييل تطوُّرات أحداث ١٩٤٨–١٩٥٠م، وظلَّ يتوهَّم أن دوره لم يصبح بعد في ذمة التاريخ، ولو بقي هنري بمصر لأجبرته حقائق الأمور على الانسحاب بهدوء، ولكن جاءت نهاية دوره في مصر على يد أجهزة الأمن التي نجحت في إبعاده عن البلاد.

وكان جواز السفر المصري الذي يحمله هنري كورييل قد سُحب منه عند اعتقاله عام ١٩٤٢م، وأقام دعوى أمام القضاء مطالبًا باستعادته، والاعتراف بجنسيته المصرية، فقضت محكمة أول درجة برفض دعواه، ولكن محكمة الاستئناف حكمت بأحقيته للجنسية المصرية وبحقه في التعويض عمَّا لحقه من أضرار نتيجة حرمانه من جواز سفره المصري. غير أن وزارة الداخلية المصرية طعنت في الحكم أمام محكمة النقض، فقضت المحكمة ببطلان اكتسابه الجنسية المصرية عام ١٩٣٥م على أساس أن هنري كورييل لم يتخلَّ صراحةً عن الجنسية الإيطالية (رغم أن القانون الإيطالي لا يسمح بازدواج الجنسية، وبذلك يفقد مَن يحصل على جنسيةٍ أخرى جنسيتَه الإيطالية تلقائيًّا).

وفور صدور الحكم (٢٥ يوليو ١٩٥٠م)، أُلقي القبض على هنري كورييل لطرده من مصر باعتباره «أجنبيًّا خطرًا على الأمن العام». وفي ٢٤ أغسطس تم نقله إلى بورسعيد تحت حراسة مشددة؛ حيث أجبر على مغادرة البلاد على متن السفينة الإيطالية سوريانتو بعد أن زوده قنصل إيطاليا ببورسعيد (بتدخُّل من السلطات المصرية) بوثيقة سفر إلى … إسرائيل!

كانت المحطة الأولى لسوريانتو بعد مغادرتها بورسعيد هي مارسيليا، وانتهز كورييل فرصة توقف السفينة بها، وهرع إلى مكتب الحزب الشيوعي الفرنسي في المنطقة؛ حيث روى قصته للمسئولين هناك، فارتابوا في القصة وصاحبها وطلبوا منه الرحيل، فعاد إلى السفينة مرة أخرى لتنقله إلى «جنوة»؛ حيث أجبر على النزول منها بالقوة (على حد قول جيل بيرو)، فقد كان يرفض مبدأ الرحيل إلى إسرائيل أو الحياة في إيطاليا، ويصر على العودة إلى مصر.

وعندما لم يجِد مفرًّا من البقاء في إيطاليا، حاول أن يحصل على تأييد الحزب الشيوعي الإيطالي؛ حيث قابل الرفيق ريناتو مييلي — الذي كان يعيش في مصر كلاجئ خلال الحرب ويقصر نشاطه السياسي على الجالية الإيطالية — ولكن المسئول الشيوعي الإيطالي أبدى نفوره من كورييل وعدم اكتراثه بموضوعه، وعاد هنري بخُفَّي حنين، ورغم ذلك لم ييأس كورييل فتردد ثلاث مرات على مكتب مييلي ليقدم تقارير حول الحركة الشيوعية في مصر والأوضاع السياسية في البلاد، ولكن في المرة الرابعة أوصد باب المكتب (قسم العلاقات الخارجية) في وجهه.

هكذا كان موقف الأحزاب الشيوعية الكبرى من هنري كورييل وغيره من القيادات الشيوعية الأجنبية التي عملت في مصر، كانت تلك الأحزاب «تحتقرهم» على حد قول كورييل، وترتاب فيهم دائمًا، وكان الحزب الشيوعي الفرنسي ينظر إليهم باعتبارهم «مثقفين برجوازيين، يزعمون أنهم شيوعيون، ويقضون وقتهم في تبادل الشتائم.»

ولم يَطِب المقام لهنري كورييل بإيطاليا، فبعد ثلاثة شهور خيَّرته السلطات الإيطالية بين السفر إلى إسرائيل (حسب وثيقة السفر التي يحملها) أو مغادرة إيطاليا، ورفض الحزب الشيوعي الإيطالي — مرة أخرى — التدخل لصالحه، وأخيرًا استطاع التسلل إلى فرنسا بجواز سفر نمساوي قامت زوجته روزيت بتزويره، وبعدما استقر في باريس لحقت به هناك.

وفي باريس، راح يطرق أبواب الحزب الشيوعي الفرنسي، فقابل أندريه مارتي (وكان قد استضافه في بيته بالقاهرة عام ١٩٤٣) الذي كان أحد مسئولي مكتب المستعمرات، فنصحه بطلب اللجوء إلى الاتحاد السوفييتي أو تشيكوسلوفاكيا، فرفض هنري كورييل الفكرة حتى لا يؤدي ذهابه إلى دول الكتلة الشرقية إلى حرمانه من العودة إلى مصر. ورغم الفتور الذي قوبل به هنري من جانب الحزب الشيوعي الفرنسي، إلا أنه واصل طرق باب الحزب عن طريق التقارير التي كان يوافي الحزب بها عن مصر، والتي كان يرسلها مع رفيقه يوسف حزان، حتى كانت قضية مارتي الذي أبعد من الحزب عام ١٩٥٢ بسبب اتصاله «بزوجين مصريين مشبوهين» في إشارة واضحة إلى هنري كورييل، فكانت تلك قطيعة نهائية بين الحزب ومجموعة «المصريين» كما كانت تعرف في أوساط الحزب الشيوعي الفرنسي عندئذٍ.

كان كورييل وزوجته قد نجحا في التقرُّب إلى أندريه مارتي أثناء قدومه من موسكو في الطريق إلى الجزائر مارًّا بالقاهرة عام ١٩٤٣م، وورطاه في لقاء مع قادة الجنود اليونانيين المتمردين على قوات الحلفاء، وعندما حانت ساعة الحساب حسبت هذه العلاقة على مارتي، وخاصة أن المحامي الفرنسي أندريه-فايل كورييل (ابن عمة هنري) كان قد أدين لتعاونه مع النازية خلال الحرب. إذَن كان مارتي — من وجهة نظر الحزب الشيوعي الفرنسي — على صلة بهنري كورييل قريب المتعاون مع النازية والذي كان يقوم بنشاط مريب ضد مصلحة الحلفاء في مصر.

ولم يكن ذلك آخِر المطاف في سلسلة الاتهامات التي وجهتها الحركة الشيوعية الدولية إلى كورييل، فقد حسبت عليه صداقته لضابط إنجليزي بالمخابرات البريطانية هو روبرت براوننج كان يعمل بمصر خلال الحرب، ويزعم هنري كورييل أن براوننج كان ماركسيًّا، وأصبح بعد الحرب عضوًا بالحزب الشيوعي البريطاني، ولكن عندما أقام معه هنري كورييل صداقة حميمة كان الرجل ضابطًا بالمخابرات البريطانية، وتبقى علامات الاستفهام حول هذه العلاقة تطارد هنري.

وجملة القول، أصبح هنري كورييل كالجمل الأجرب (كما تقول العرب) يتحاشاه جميع الأعضاء بالأحزاب الشيوعية الأوربية خشية أن تحل عليهم لعنة الاتصال بهذا الشيوعي اللقيط «المشبوه» ترى هل كان لدى الحركة الشيوعية الدولية ما يبرِّر موقفها المعادي من كورييل وجماعته حقًّا؟ سؤال لا يزال يبحث عن إجابة رغم الجهود التي بذلها صاحب الكتاب «هنري كورييل، رجل من طراز فريد» لتبرئة ساحته.

على كلٍّ، لم يحفل هنري كورييل بموقف الحزب الشيوعي الفرنسي وغيره من الأحزاب الشيوعية الأوروبية، واستمر يزاول نشاطه من خلال «مجموعة روما للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني».

(٥) مجموعة روما

عادت مجموعة الشيوعيين المصريين اليهود التي خرجت من معتقل الهايكستب عام ١٩٤٩م إلى إسرائيل، عادت للتجمع مرة أخرى في فرنسا، ولا ندري لذلك سببًا، ربما أحسوا بالاغتراب في الكيان الصهيوني بسبب ثقافتهم الفرنسية، ربما لأن وجودهم في فرنسا يتيح لهم صلات مستمرة مع مصر. ولكنهم — على أية حال — تجمعوا في فرنسا حول هنري كورييل؛ حيث كوَّنوا عام ١٩٥١م «مجموعة روما» التي كانت تضم نحو خمسين عضوًا من الشيوعيين اليهود المصريين، وانتخبت المجموعة «لجنة قيادية» تكوَّنَت من هنري كورييل وزوجته، وريمون أجيون وزوجته، وألفرد كوهين، وريمون استانبولي، وأرمان سيتون، وداود ناحوم، ويوسف حزان. وكان كل عضو من الأعضاء الخمسين يدفع اشتراكًا يعادل ما يتراوح بين ٣٠٪ و٥٠٪ من دخله (على حد قول يوسف حزان لجيل بيرو)، واستخدمت تلك الأموال (الوفيرة) لتمويل نشاط المجموعة الذي تمثَّلَ في إصدار نشرة «أخبار مصر» بالفرنسية، وتقديم المساعدات المالية لمناضلي حدتو المعتقلين في مصر، وتغطية نفقات بعض الأعضاء الذين يوفدون إلى الخارج من حدتو لحضور المؤتمرات الدولية، فضلًا عن تغطية نفقات هنري كورييل وزوجته اللذين تفرَّغا تمامًا لأعمال المجموعة، بينما حقق الأعضاء نجاحًا في أعمال التجارة والأعمال المهنية الأخرى.

ظلَّ هنري كورييل على صلة وثيقة بكوادر حدتو أثناء وجوده بباريس، فكان يتراسل مع بدر (سيد رفاعي) وحميدو (محمد شطا) وعاكف (محمد خليل قاسم)، كما كان على اتصال دائم مع الحركة الشيوعية السودانية من خلال راشد (عبد الخالق محجوب).

كانت كوادر حدتو بعد رحيل كورييل «الذي كان يمسك بين يدَيه كل الخيوط» — على حد قول أحد رفاقه — يحسُّون بالضياع، وخاصة أن شوقي (كمال شعبان) — الرجل الثاني في الحركة — انسحب تمامًا من العمل التنظيمي، ولذلك كانوا يرجعون دائمًا إلى قائدهم المبعد «يونس» طلبًا للمشورة أحيانًا، وللاحتكام إليه أحيانًا أخرى.

فعندما قامت ثورة ٢٣ يوليو، كتب أحد كوادر حدتو إلى كورييل يبلغه أن الحركة تراقب الموقف، فكان رد هنري المطالبة بالنزول إلى الشارع لتأييد الجيش، وأيد موقف حدتو المناصر للثورة. على حين ناصبت المنظمات الشيوعية المصرية الثورة العداء ووصفت رجالها «بالفاشيين» و«عصابة بنك مصر» … إلخ، انسجامًا مع موقف الحركة الشيوعية الدولية التي كانت تنظر بارتياب إلى حركة الجيش المصري وتعتقد أن وراءها أصابع المخابرات الأمريكية.

وتضمَّنَت النشرة التي أصدرتها «مجموعة روما» بعنوان «دراسات ومعلومات حول مصر والسودان» بالفرنسية في باريس، مقالًا طويلًا حلَّل فيه هنري كورييل ما أسماه «كتلة الجيش – الشعب» وبين حقيقة التأييد الذي قدَّمَته مختلف قوى الشعب المصري لحركة الجيش من الطلاب إلى البرجوازية الصغيرة إلى العمال، وختم مقاله بالتعريض الواضح بموقف الحزب الشيوعي الفرنسي قائلًا: «لم تحدث (مؤامرة إمبريالية) على هذا القدر من التأييد الشعبي، إن الجماهير المصرية لا يمكن أن تكون مخدوعة إلى هذا الحد.»

كانت حدتو مطمئنة على سلامة توجهات الضباط الأحرار الذين كان من بينهم بعض كوادرها الهامة من ضباط الجيش كأحمد حمروش، ويوسف صديق، وخالد محيي الدين، وكذلك القاضي أحمد فؤاد الذي كان على صلة وثيقة بعبد الناصر، ولكن المنظمات الشيوعية المصرية — التي ضبطت بوصلتها على اتجاه الحركة الشيوعية الدولية — وصَمَت موقف حدتو بالانتهازية.

وجاء حادث كفر الدوار في أغسطس ١٩٥٢، الذي قُدِّم العمال على أثره لمحكمة عسكرية قضَت بإعدام المناضلَين النقابيَّين: خميس والبقري، ليضع حدتو في موقف بالغ الحرج، وليؤدي إلى هجوم شديد من جانب الحركة الشيوعية الدولية، والشيوعيين المصريين على «الدكتاتورية الفاشية»، واضطرت حدتو أن تغيِّر موقفها من الثورة ١٨٠ درجة، والتزمت «مجموعة روما» بالخط الجديد، فأصدرت النشرات التي تندِّد «بدكتاتورية الكولونيلات الفاشية»، ووزعت على المشاركين في مؤتمر باندونج عام ١٩٥٥ بيانات معادية لعبد الناصر، رغم أن مؤتمر باندونج أصبح نقطة تحوُّل في موقف العالم الشيوعي من النظام المصري الجديد. ولكن ما لبث هنري كورييل أن عاد لتأييد النظام خلال العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م، وأصدرت «مجموعة روما» النشرات التي تدافع عن وجهة النظر المصرية وتشجب العدوان.

كان هنري كورييل يرى أن نظام عبد الناصر لا يمثِّل حقيقة القيادة التي تحتاجها مصر، ويعتقد أن التغيير الذي حدث في مصر إنما جاء نتيجة ازدياد مشاركة الشيوعيين في قيادة الجماهير الشعبية، وأن النظام يقود مصر إلى التقدُّم في حدود الضغوط التي تمارسها الجماهير عليه، وأنه وإن كان يتبنى سياسة وطنية استقلالية إلا أنه يعمل لصالح الرأسمالية المصرية أساسًا، كما أن النظام عاجز عن حل مشاكل مصر الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

كان ذلك يمثِّل رأي هنري كورييل ومجموعة روما في ثورة يوليو حتى عام ١٩٥٧م، وعندما ألقى النظام بالشيوعيين جميعًا في المعتقلات، كونت مجموعة روما «لجنة الدفاع عن ضحايا الإرهاب في مصر»، التي لعبت دورًا هامًّا في مساندة المناضلين المعتقلين، بتوجيه النداءات إلى الهيئات السياسية الدولية للإفراج عن المعتقلين، واشتراك كبار الكتَّاب والفنانين الفرنسيين في شجب سياسة العنف ضد الشيوعيين المصريين، وإرسال محامين لحضور جلسات المحاكمات، كما لعبت دورًا أهم — من الناحية العملية — في مد أعضاء حدتو المعتقلين وعائلاتهم بالمعونات المالية، فضلًا عن طرود الملابس والأدوية والأغذية التي كان يتلقاها المعتقلون من المجموعة.

وعلى صعيد علاقة المجموعة بحدتو يفيض أرشيف المجموعة بالمراسلات المتبادلة بين هنري كورييل والمنظمة في مصر: تقارير ودراسات، وآراء تتصل بالمآزق المختلفة التي مرَّت بها حدتو، لعلَّ أحرجها «قضية مارتي» وموقف الحزب الشيوعي الفرنسي من هنري كورييل، فقد وصفت المنظمات الشيوعية المصرية المنافسة لحدتو هنري كورييل ﺑ «الجاسوس العالمي من طراز تروتسكي» و«الأفعى والمجرم الدنيء».

جاء ذلك في الوقت الذي كانت فيه حدتو تعاني انقسامًا جديدًا قاده بدر (سيد رفاعي) تلميذ كورييل، الذي سارع إلى وصف أستاذه بأنه «شخص مشكوك فيه» ويعلن باسم «حدتو – ت. ث» تأييد موقف الحركة الشيوعية الدولية منه؛ «لأن يونس كان من أعمدة النزاعات اليمينية والانحرافات»، وأعلن رفض التيار الثوري «لكل دور يلعبه يونس باسم الحركة الشيوعية المصرية، أو كممثل لها.»

وعندما دارت المفاوضات بين المنظمات الشيوعية المصرية في المعتقل لتكوين «الحزب الشيوعي الموحد» عام ١٩٥٥، وشاركت فيها منظمات حدتو، وحدتو التيار الثوري، والنجم الأحمر، وطليعة الشيوعيين، ونواة الحزب الشيوعي، وطليعة العمال، والحزب الشيوعي المصري، تقدَّمَت عدة منظمات باشتراط استبعاد يونس (هنري كورييل)، ورفضت حدتو ذلك، بل نجحت في منحه مقعدًا في اللجنة المركزية على أن تجمد عضويته في اللجنة المركزية لحين البت فيها من الحزب الموحد، وبذلك فقدت حدتو صوتًا من أصواتها العشرة باللجنة المركزية حرصًا على هنري كورييل ومجموعة روما، التي غيَّرَت اسمها لتصبح «مجموعة روما للحزب الشيوعي المصري الموحد». واستمرَّت تمارس نشاطها تحت هذا الاسم، وأصبحت نشرة «أخبار مصر» — التي تصدرها المجموعة بالفرنسية في باريس — تتضمَّن النصوص الفرنسية والإنجليزية للبيانات والمنشورات الصادرة عن «الحزب الشيوعي المصري الموحد». وبهذه الصفة — أيضًا — قادت مجموعة روما الحملة الإعلامية المؤيدة لحق مصر في تأميم قناة السويس، والمنددة بالعدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦.

وعندما عادت المنظمات الشيوعية المصرية إلى التفاوض من جديد حول الوحدة (عام ١٩٥٧) بعدما عصفت الأقدار بوحدة ١٩٥٥، بدأ اللغط يدور حول «مجموعة روما» التي بلغها ذلك، فسارعت بالكتابة إلى الحزب الجديد تحذر من حل «المجموعة» وتبدي ولاءها للتنظيم الجديد، ولكن الوضع تغير، فلم تعُد حدتو تتمسك بمجموعة روما ولا ترى مبررًا لوجودها، لذلك أصدر «الحزب الشيوعي المصري المتحد» قرارًا لحل المجموعة وفصل أعضائها ابتداءً من ١٤ مارس ١٩٥٨، وقد استجابت المجموعة لقرار الحل، واستمرَّت في دعمها للمعتقلين من أعضاء حدتو ماديًّا ومعنويًّا «حتى خروج آخِر معتقل»، على حد قول رفعت السعيد.

وهكذا، لم يعرف هنري كورييل كيف يختار الوقت المناسب لينهي دوره، في قيادة وتوجيه الحركة الشيوعية المصرية، رغم يقينه أن «اليهود المصريين قد أدوا دورهم التاريخي»، فعاد لإحياء ذلك الدور من جديد من خلال «مجموعة روما» وكان عليه أن ينتظر اللحظة التي يطالبه فيها «الحزب الشيوعي المصري» بالتقاعد. كان المنطق يقتضي ذلك، وخاصة أن الحزب الشيوعي المصري كان يسعى للحصول على اعتراف الحركة الشيوعية الدولية به، فكان عليه أن يتخلَّص من هذه المجموعة التي أثارت شبهات الحركة الدولية وخاصة فيما يتعلَّق بمصادر تمويلها، فلا شك أن مبالغ كبيرة أُنفقت على مدى نحو عشر سنوات، لا يكفي لتفسير مصدرها ما ذكره يوسف حزان عن تنازل خمسين من اليهود المصريين (الكرماء) عن نحو نصف دخلهم لمساعدة رفاق يعانون العذاب في معتقلات مصر، وخاصة أن يوسف حزان يقدِّر المبالغ التي أُنفقت على المعتقلين بنحو مليار ونصف المليار فرنك قديم، فالنوازع الإنسانية لا تلقى وزنًا في الحسابات السياسية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمبالغ كبيرة كهذه، من شأنها أن تثير الشكوك.

•••

ولكن هل تقاعد كورييل؟ إن رجلًا من طراز هنري الذي لا يعرف سوى التنظيم، والعمل السياسي، ما كان باستطاعته أن يتقاعد، لقد نقل اهتمامه السياسي من مصر إلى الجزائر، وأيَّد حركة التحرير الجزائرية واعتُقل مع قادتها، وبعد نجاح الثورة الجزائرية كان من بين مستشاري أحمد بن بللا.

كذلك جعل كورييل من قضية إقامة سلام بين العرب وإسرائيل هدفًا استراتيجيًّا سعى في سبيل تحقيقه إلى استخدام علاقاته مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وبعض عناصر منظمة التحرير الفلسطينية فضلًا عمَّا قيل عن علاقاته ببعض حركات التحرير الأفريقية، وما ذكرته المصادر الفرنسية عن صلات تربطه ببعض المنظمات الإرهابية.

ورجل كهنري كورييل، يترك الساحة المصرية مضطرًّا ليتحرك على هذا النطاق الواسع، لا بد أن يتقاطع طريقه مع طرق العديد من أجهزة المخابرات الدولية، التي ربما كان أحدها وراء اغتياله بعد ظهر الرابع من مايو ١٩٧٨، وهو يهم بمغادرة مصعد بيته في باريس في طريقه إلى درس اليوجا، ثم لقاء شخصية أعطاها اسمًا كوديًّا «الدكتور» قيل فيما بعد أنه عصام السرطاوي.

ومهما كان الأمر، فإن الدور الذي لعبه هنري كورييل في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية ومعه تلك المجموعة من البرجوازيين اليهود، وإنْ أدَّى إلى جعل الفكر الاشتراكي مطروحًا بشكل أكثر إلحاحًا على الساحة السياسية في مصر، وجعل الفكر الماركسي متاحًا باللغة العربية لأول مرة، (على نحو ما أشرنا من قبل) وكذلك ساعد على إعداد الكوادر المصرية من العمال والمثقفين ممَّن لعبوا أدوارًا مختلفة القيمة والعمق في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، إلا أنه أورث الحركة الشيوعية المصرية، داء الانقسام، والاهتمام بالحركة على الصعيد السياسي دون إعداد نظري كافٍ، وغياب التحليل الدقيق للواقع المصري، وإن كان كورييل يزعم أن حدتو توصَّلَت لمثل هذا التحليل الذي لم يصلنا.

وبغض النظر عن الاتهامات التي كِيلَت لهنري كورييل على صعيد الحركة الشيوعية الدولية، ومن جانب المنظمات الشيوعية المصرية المتصارعة، فإن الحقيقة التاريخية تظل ماثلة للعيان، فقد قدَّم كورييل مساهمة هامة في تاريخ الحركة تمثَّلَت في تأسيس أكثر التنظيمات استمرارًا، وأوضحها رؤية للواقع السياسي المصري رغم ما عاناه ذلك التنظيم من الانقسامات والانشقاقات، فضلًا عن كونه (حتى صدور قرار الحل عام ١٩٦٥) التيار الأوسَع قاعدة بين المنظمات الشيوعية المصرية.

ولعل ذلك يُضفي قيمة خاصة على هذه المجموعة من الوثائق التي تُلقي الضوء على تاريخ الحركة الشيوعية المصرية منذ الأربعينيات، وإن كان ذلك من وجهة نظر تنظيم مُعيَّن، وقيادة بذاتها، إلا أن ذلك لا يقلِّل من قيمتها التاريخية ومن أهميتها.

(٦) مراجع الدراسة

  • جيل بيرو: هنري كورييل، رجل من طراز فريد، بيروت ١٩٨٦م.

  • رءوف عباس: الحركة العمالية في مصر ١٨٩٩–١٩٥٢م، دار الكاتب ١٩٦٧م.

  • رفعت السعيد: تاريخ المنظمات اليسارية في مصر ١٩٤٠–١٩٥٠م، دار الثقافة الجديدة ١٩٧٧م. منظمات اليسار المصري ١٩٥٠–١٩٥٧م، دار الثقافة الجديدة ١٩٨٣م. تاريخ الحركة الشيوعية المصرية ١٩٥٧–١٩٦٥م، القاهرة ١٩٨٦م.

  • Agwani, M. S., Communism in the Arab East, Calcutta 1969.
  • Bashear, S., Communism in the Arab East 1918–1928, Ithaca press, London 1980.
  • Laqueur, W., Communism and Nationalism in the Middle East, London 1956.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤