الإسْلامُ في التَّارِيخِ الحَدِيث

ألف هذا الكتاب ولفريد كانتويل سميث أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة مونتريال، وقد أقام زمنًا في مدينة لاهور بالباكستان، وساح في بلاد الشرق الأوسط وبعض البلاد الإسلامية في القارتين الآسيوية والأفريقية، وتغلب عليه أحيانًا نزعة يسارية تتراءى من خلال تفسيراته المادية، ولكنه يجامل الشعور الإسلامي مجاملة الرجل الذي ترتبط أعماله بالمسلمين من حين إلى حين، ويتجنب المسائل الشائكة من وراء المنازعات الطائفية أو السياسية مكتفيًا من المعلومات بما يشبه الإحصاء والشواهد «الرسمية».

وقد اشتمل كتابه على فصول مسهبة عن الهند والباكستان وتركيا والبلاد العربية، وعرض لبعض الأمم الإسلامية الأخرى عرضًا موجزًا على قدر اتصاله بها وعلمه بأحوالها، وأفرد جزءًا من دراسته لمصر بالكلام على مجلة الأزهر وعن رسالتها الدينية ورسالة «العلماء» على الإجمال، ومهد للبحث كله ببعض الملاحظات العامة التي لا بد منها في رأيه للحكم الصحيح على وجهة التفكير الإسلامي ونظرة المسلمين إلى وقائع الحاضر وآمال المستقبل، ولم يخطئ في الكثير من هذه الملاحظات وإن كان قد أحاطها بشيء من الإغراب يوهم القارئ الأوروبي أن هناك أمرًا غير طبيعي في «النفسية» الإسلامية عند المقابلة بينها وبين المؤثرات الدينية في غير المسلمين.

يقول: إنه ما من دين استطاع أن يوحي إلى المتدين به شعورًا بالعزة كالشعور الذي يخامر المسلم في غير تكلف ولا اصطناع، وإن الفخر بالعربية قد يمازج هذا الشعور أحيانًا فيعتبر المسلم العربي آداب المروءة قبل الإسلام قدوة للأخلاق والعادات، ويشترك العربي في هذا الفخر ولو لم يكن من المسلمين، فيعنى بالتاريخ العربي قبل الإسلام وبعد الإسلام عنايةَ النسب الأصيل كما صنع جرجي زيدان وفيليب حتى وغيرهما من مؤرخي العرب المسيحيين. ولكن اعتزاز المسلم بدينه يعم المسلمين على اختلاف القومية واللغة، وكون الإنسان مسلمًا باعث من بواعث الحمد تسمعه من جميع المسلمين.

وبين المسلم المعاصر وسائر المعاصرين من الغربيين فارق عميق في النظر إلى العالم وإلى المستقبل؛ فإن الأمريكي مثلًا يواجه المستقبل بتجارب العصر الحاضر، ويغلب القيمة العملية الواقعية على قيم العاطفة والخيال في تقديره للأشياء وعلاقاته مع الناس، ولكن المسلم على خلاف ذلك ينظر إلى المستقبل ليقيمه على أساس من الماضي المجدد، ويسعى إلى الغد ولا يفوته أبدًا أن يلتفت إلى الأمس البعيد، وإن لم يكن من الجامدين الكارهين للتقدم ومسايرة الزمن على ما تقتضيه مطالب الحضارة الحديثة.

ويقرر المؤلف أن جنوح المسلم إلى مسايرة الحضارة الحديثة لا يزال مصحوبًا بكثير من التحفظ والحذر في علاقته بأصحاب هذه الحضارة؛ فإنه لا ينسى أن دول الحضارة الأوروبية هي التي أخضعته لسيطرتها منذ أواسط القرن الماضي، واقتحمت بلاده عليه في الوقت الذي ثار فيه على حكوماته الوطنية؛ طلبًا للإصلاح والأخذ بأسباب تلك الحضارة التي أرادها خالصة من شوائب الاستعمار، بريئة مما يناقض الدين.

قال: وإن المسلم ليحس أن الأوروبي يفرق في المعاملة بينه وبين أصحاب الديانات الأخرى ولو لم يكونوا من المسيحيين، وأن هذه التفرقة تظهر من الأوروبي حيث ينبغي أن تختفي جميع الفوارق في معاملة الإنسان للإنسان؛ فقد لوحظ أن مستشفيات الصليب الأحمر كانت تهمل الجرحى المسلمين أثناء حملة فلسطين وتميز عليهم جرحى اليهود، ويحدث هذا في المستشفى الواحد بغير مبالاة ولا محاولة للاعتذار من هذا التمييز.

ويعتقد المؤلف أن الغربي لا يفهم الإسلام حقَّ فهمه إلا إذا أدرك أنه أسلوب حياة تصطبغ به معيشة المسلم ظاهرًا وباطنًا، وليس مجرد أفكار أو عقائد يناقشها بفكره أو يتقبلها بغير مناقشة، فليس التفكير بنافع شيئًا إن لم يكن مصحوبًا بتطور المعيشة وتطور أسلوب الحياة الظاهر والباطن في المجتمع الإسلامي الحديث.

ويستعير المؤلف اسم المعتذرين Apologetics لرواد النهضة الإسلامية الحديثة؛ لأنهم — كما يرى — يسلكون المسلك الذي جرى عليه الآباء المسيحيون في صدر الدعوة المسيحية للرد على الفلاسفة والمفكرين الذين اشتهروا يومئذ باسم المعرفيين، وأرادوا أن يجعلوا مذهب المعرفة ديانة تقابل الديانة المسيحية وتتغلب عليها في مجال البحث عن الحقيقة الدنيوية والحقيقة الأخروية.

وقد كان المعتذرون قديمًا يردون على المعرفيين بإثبات العقائد الدينية من الوجهة العلمية أو وجهة المنطق ومباحث ما وراء الطبيعة، فلما شعر المسلمون بصدمة العلوم الحديثة كان مسلك الرواد الأوائل من طلائع نهضتهم كمسلك أولئك المعتذرين، وكان همهم الأول حقبة طويلة أن يثبتوا سبق العرب والمسلمين إلى كشف الحقائق العلمية، واستعداد العقيدة الإسلامية لقبول الحقائق العلمية التي تسفر عنها مباحث العلماء العصريين …

وأضاف إلى ذلك قائلًا: إنه يرى كما يرى الأستاذ «جب» المستشرق المشهور أن مستقبل الإسلام في هذه الحركة وفي غيرها من حركات الدفاع يستقر حيث استقر ماضيه من قبل بين أيدي حراسه الأوائل؛ وهم طائفة العلماء.

ثم يستطرد إلى الكلام على مجلة الأزهر؛ لأنها خط من خطوط هذا الدفاع يرسمه المعهد الإسلامي الذي يضم إليه العدد الأكبر من علماء الإسلام.

قال: إن هذه المجلة ظهرت أولًا باسم نور الإسلام، وظهرت منها الأعداد الأولى بهذا الاسم، ثم سميت من عددها السادس باسم مجلة الأزهر ١٣٤٩ هجرية و١٩٣٠ ميلادية، وقام على تحريرها العالم الأزهري الشيخ الخضر حسين، ثم أسندت رئاسة تحريرها إلى المجدد العصري Modernist الأستاذ محمد فريد وجدي، ولم يزل يشرف على تحريرها إلى سنة ١٩٥٤، وقد ذكر المؤلف أنه اتخذ المجلة موضوعًا لدراسته التي قدمها إلى جامعة برنستون سنة ١٩٤٨ باسم «مجلة الأزهر — عرض ونقد»، ولم ينقطع عن مراجعتها بعد ذلك إلى حين إصداره لكتابه الأخير باسم الإسلام في التاريخ الحديث.

ويقول الكاتب: إنه لا ينظر إلى الآراء الخاصة التي تنشرها المجلة للعلماء ولغير العلماء إلا من زاوية واحدة، وهي الزاوية التي تشير إلى اتجاه عام يتقبله المسلمون كافة أو تتقبله جمهرة منهم على التعميم، ورأيه في الأستاذ الخضر أنه يمثل المدرسة السلفية بمنهج الدفاع عن الإسلام، وأن الأستاذ فريد وجدي مجدد عصري لا تزال طريقته في التجديد على قواعد المعرفة الحديثة مقبولة عند أنصار التجديد، وإن يكن بعض آرائه منظورًا إليه اليوم كأنه تفكير فات أوانه وظهر بعده ما هو أوفق منه لزمنه، ولا اختلاف بين الأستاذ وجدي ولا بين السلفيين أو المجددين المتأخرين في رأي واحد يتفقون عليه: وهو أن العلم الحديث لا ينقض حقائق الإسلام، وأن القليل منه عند المتعلمين المتعجلين هو الذي يغريهم بالانصراف عن العقيدة الدينية، ولكنهم لا ينصرفون عنها، بل يزدادون إيمانًا بها، مع التوسع في العلم الحديث، والتوسع في العلم بالدين.

ويقول صاحب الكتاب في مقابلته بين منهج الشيخ الخضر ومنهج الأستاذ وجدي: «إن أولهما يعتبر الإسلام وحيًا تامًّا قد تنزل على صورته الكاملة منذ عصر الرسالة المحمدية، فلا إضافة إليه ولا زيادة عليه ولا تحوير فيه، وإنما الإيمان بالإسلام هو الذي يحتمل القوة والضعف كما يحتمل زيادة المعرفة أو النقص فيها، أو يحتمل المراجعة من عصر إلى عصر لتفقد الآثار العصرية فيه. وليس الأستاذ الخضر كما يرى المؤلف من أنصار الحنين إلى الماضي، بل هو من أنصار الدعوة التي لا زمان لها؛ لأنها صالحة لكل زمان، ومهما تتجدد مذاهب المعرفة فالمسلم يسلم أمره إلى إرادة الله كلما هدته معارفه إلى فهم تلك الإرادة الإلهية بالدرس أو بالإلهام. وقد تساوى في نظر الشيخ الخضر كلا الطرفين من المسلمين في الحاجة إلى التصحيح والإصلاح: وهما — على تعبير المؤلف — طرف اليسار من المتعلمين الذين جاوزوا حدود الإسلام، وطرف اليمين من الجامدين وأتباع الطرق الصوفية الذين ضيقوا حدوده عليهم وإن لم يجاوزوه.»

أما الأستاذ وجدي فخطته في الإصلاح تتجه قبل كل شيء إلى إحياء الشعور الروحاني في ضمير الرجل العصري؛ لأنه يرى أن الفكرة المادية طغت على العقول فلم تسلم منها العقائد ولا الأخلاق، وأن مشكلة الإنسان العصري مشكلة أخلاقية نفسانية تستدعي من المصلح أن ينهض بأمثلته العليا في معيشته الدينية والدنيوية معًا؛ ليعود به إلى حظيرة المثل الروحانية، وهي الخليقة بعد ذلك أن ترده إلى شعائر الدين ونصوص الكتاب والسنة النبوية.

•••

وليس المقام بمتسع هنا لشرح التعليقات التي عقب بها المؤلف على أحوال الإسلام في الباكستان والهند والبلاد التركية والإيرانية وسائر الأمم الإسلامية، ولكن تعليقاته التي أجملناها عن مصر نموذج حسن للتعريف بمقصده من البحث، وتقديره للحركات الإسلامية بين تلك الأمم، وزبدتها أن الحضارة الغربية قد أزعجت أمم الإسلام فنهضوا للدفاع عن عقيدتهم في وجهها، وشعروا بأنهم يعيشون في عالم غير عالمهم معها، وأنهم ليقبلون هذه الحضارة أو يرفضونها، ولكن القليل منهم هو الذي يُؤْثِرُ ترك الإسلام للسير مع الحضارة الأوروبية في ركابها، وإنما يتفقون — معظمهم — على صبغ الحضارة بصبغتهم ونقلها إلى عالم جديد لا ينفصلون فيه عن عالمهم القديم، ولم يظهر بعدُ كيف يكون هذا العالم المنظور ولا كيف تكون العلاقة بينه وبين العالم الغربي على اختلاف مناحيه، وكل ما هو واضح اليوم — ولا حاجة به إلى المزيد من الإيضاح — أن دعاة الحضارة الأوروبية يفقدون عطف العالم الإسلامي إذا حاولوا أن يعاملوه غدًا كما عاملوه أمس معاملةَ السيد العليم للجاهل التابع؛ إذ لا سبيل إلى التفاهم على غير أساس المساواة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤