المُبَشِّروُن نُقَّادُ القرآن

إن العقل السليم لا يتقبل الحكم على الشيء بالغباوة والقداسة لعلة واحدة في وقت واحد؛ فإن تقبل العقل ذلك فلا بد من سبب يوقعه في هذا الاضطراب باختياره، وأكثر ما يكون ذلك السبب مرضًا من أمراض الجنون، أو هوى دفينًا يحمله على المغالطة ويعجزه عن مقاومتها، أو خداعًا مقصودًا يعرفه العاقل بينه وبين نفسه ويصطنعه مع غيره؛ لغشه والاحتيال عليه.

ولسنا نخطئ في جماعة المبشرين المتخصصين لنقد القرآن وعقائد الإسلام آفة من هذه الآفات، فليس فيمن عرفناه منهم واحد يسلم من التخبط في التفكير كما يتخبط المصابون بالعلل العقلية، أو يملكه التعصب الذميم فيقوده إلى المغالطة ويسول له أن يحجب الحقيقة عن عينيه بيديه، أو يعمل عمل المحترف الذي يحتال لصناعته بما وسعه من وسائل الترويج والتضليل، ولا يعنيه إلا أن يعرض بضاعته ويهيئ لها أسباب النَّفاق في السوق، وربما اكتفى من النفاق بإقناع صاحب البضاعة بصدق الخدمة في العرض والترويج!

عرفنا في القاهرة منذ بضع عشرة سنة علمًا من أعلام التبشير كانوا يلقبونه «بالرسول المختار إلى العالم الإسلامي»، ويريدون بذلك أنه تكفل أمام جماعات التبشير بتحويل العالم الإسلامي عن عقيدته، ولم يكن يستكثر على همته أن يتصدى لتحويل مكة والمدينة في مقدمة المعاقل الإسلامية، ولا تحويل القاهرة بما اشتملت عليه من معاهد الإسلام وذكرياته الباقية.

وذلك الرسول المختار إلى العالم الإسلامي هو رئيس المبشرين في الشرق الدكتور صمويل زويمر، وقد بلغ الخامسة والثمانين، وتوفي منذ تسع سنوات،١ ولم يترك بعده واحدًا من «المهتدين» بتلك الرسالة يقال فيه بحق: إنه تحول من الإسلام عن يقين وإيمان؛ لأن تلميذه الذي اجتباه في القاهرة كان له مرتب يتقاضاه، ولم يرتفع له صوت بعد اعتزال أستاذه وظائفه المتعددة في صناعة التبشير!

ذكَّرنا بهذا «العلامةِ» كلامٌ قرأناه له في كتابه «بلاد العرب مهد الإسلام»، وكتاب ظهر أخيرًا في موطنه «عن الطب الطبيعي»، كأنما وضعوه عمدًا؛ ليردوا به على ذلك الكلام الذي نشره زويمر وأعاد نشره خلال ستين سنة ولا يزال مرجعًا من مراجع التبشير بين أيدي التلاميذ المتخرجين على يدي ذلك الرسول.

قال هذا الرسول إلى الإسلام في فصله عن العلوم والفنون العربية: «إن الشهد لم يزل معدودًا كالترياق في بلاد العرب؛ استنادًا إلى القرآن والحديث، وقد كانت الإشارة الوحيدة إلى الطب في وحي محمد هذه الكلمة الغبية التي يقول فيها عن النحل: يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وقد كان هذا هو العلاج الوحيد الذي وصفه الله في كتابه!»

إن الدجل المتعمد ظاهر في قول العلامة «الغبي»: إن القرآن حصر الطب كله في دواء واحد هو الشهد … فإن المعنى الذي تفيده الآية بغير لبس ولا محاولة أن الشهد شفاء لم تقل: إنه كل الشفاء، ولا إنه شفاء من جميع الأمراض؛ فإن وصف الشهد بهذه الصفة لا يزيد على أنه دواء من الأدوية كما يوصف أي عقار من العقاقير في الصيدليات.

ومثل هذا الادعاء «التبشيري» لا يعتسف اعتسافًا على هذه الصورة إلا للافتراء المتعمد طمسًا للحقيقة مع سوء النية.

أما حكم العلامة بالغباوة على وصف «الشهد» بالشفاء فليس له معنى غير غباوة مطبقة في القائل إن كان مصدقًا لما قال.

لِمَ لا يكون «الشهد» دواءً من الأدوية وهو خلاصة أعشاب وأزهار؟

إن علاج الأمراض بالأعشاب والأزهار قديم جدًّا في كل أمة، وهو قوام العلاج إلى اليوم في أكثر الأدوية التي يصفها الأطباء العصريون لضروب شتى من الأمراض وتستحضرها معاملُ الكيمياء في بلاد الحضارة.

وهذا قبل شيوع الكلام عن «الفيتامينات» وتقرير العلاج بها للأمراض الباطنية وأمراض الأعصاب وعلل الضعف والإعياء على اختلافها.

فلماذا يمتنع على العقل كلَّ الامتناع أن يصف دواء الشهد بوصف غير الغباوة؟

لماذا يرفض العقل أن تكون خلاصة الزهر ومستودع «الفيتامينات» والحيويات دواءً ينتفع به الضعيف أو المريض؟

إن «الغباوة» هي عجز العقل عن فهم الحقيقة أو عجزه عن فتح الباب لتصورها على كل احتمال.

وإلى هنا قد تكون الغباوة مفهومة إذا هي تشابهت في سوء الفهم ولم تتخصص للشهد دون غيره، ولكنها «غباوة» تنزل إلى ما دون «مستوى الفهم» إذا كان صاحبها يرفض الشهد علاجًا ثم يتقبل تطهير الأمراض الجلدية بدماء العصافير، ويتقبل أن تكون رائحة الشواء سرورًا للإله، ويتقبل أمثال ذلك من أوصاف الكتب التي يتلوها على الناس ويقدسها صباحَ مساءَ.

بعد وفاة زويمر ببضع سنوات ظهر باللغة الإنجليزية كتاب عن الطب الطبيعي، يقول مؤلفه عن الشهد ما كان زويمر يدعيه على القرآن الكريم، ويعقد المؤلف لخصائص الشهد الطبية فصلًا مستقلًّا يوشك أن يجعله «صيدلية» وافية تغني عن عشرات العقاقير.

وليس المؤلف واحدًا من أولئك المتطببين الجهلاء بتعاطي علاج الأمراض بوصفات الأقدمين من قبيل تذكرة داود الأنطاكي في اللغة العربية، بل هو الدكتور جارفس الطبيب المتخرج من مدارس الطب الحديث، وصاحب المباحث العلمية التي سمعها زملاؤه العظماء المصريون وأشاروا عليه بجمعها للإفادة منها، فجمعها ونقحها وأودع فيها صفوة التجارب التي حققها نحو أربعين سنة إلى أن جاوز الثمانين، وسماها بطب الجمهور Folk Medicine كما تسمى من قديم الزمن بين الغربيين.

وهو لا يعلل فائدة الشهد في العلاج «بالبركة»، ولا بالتأثير النفساني المستمد من العادة، ولا بالتغذية الصالحة التي تعمل عمل الدواء وإن لم يحسبها الأطباء من الأدوية العلاجية، ولكنه يعلله بأسباب علمية يعتمدها الأطباء والصيدليون في تحضير الأدوية وتقسيمها على حسب الجراثيم التي تحدث الأمراض أو تضاعف أضرارها. ويقول في تمهيدات فصل مطول كتبه عن الشهد خاصة: إنه لا يتكلم عن «نظرية» معروضة للامتحان، بل يقرر التجربة المحققة التي أثبتت أن «البكتريا» لا تعيش في الشهد؛ لاحتوائه على مادة «البوتاس»، وهي تحرم البكتريا تلك الرطوبة التي هي مادة حياتها.

قال: «إن الدكتور ساكيت أستاذ البكتريا بكلية الزراعة في فورت كولنز … وضع أنواعًا من جراثيم الأمراض في قواريرَ مملوءةٍ بالعسل الصرفِ … فماتت جراثيم التيفويد بعد ثمان وأربعين ساعة … وماتت جراثيم النزلات الصدرية في اليوم الرابع … وماتت جراثيم الدوسنتاريا بعد عشر ساعات … وماتت جراثيم أخرى بعد خمس ساعات …»

ثم استطرد المؤلف إلى بيان المواد الغذائية الموفورة في الشهد، فذكر منها الأغذية المعدنية وعدَّ أكثرَ من عشرة معادن غذائية تدخل في تركيبه، ونقل تقرير الأستاذ شويت Schuette العالم الكيماوي الذي يقول فيه: إن الأغذية المعدنية تختلف باختلاف ألوان الشهد، فالنحاس والحديد والمنجنيز أوفرُ في الشهد الضارب إلى السواد … والحديد ضروري لاتصاله بالمادة الملونة للدم أو الهيمجلوبين، ويلي ذلك كلام عن المعادن الغذائية وعلاقتها بألوان هذا الشراب كما جاء في القرآن الكريم، وهو يشير إلى اختلاف ألوانه وما احتوته عن أسباب الشفاء، ثم أجمل الطبيب مزايا المادة السكرية في الشهد فعدد منها: (١) أنها لا تهيج جدران القنوات الهضمية، و(٢) أنها سريعة التمثيل في البنية، و(٣) أنها تتحول سريعًا إلى طاقة بدنية، و(٤) أنها مناسبة للمشتغلين بالألعاب الرياضية لتعويض الطاقة، و(٥) أنها بين أنواع السكريات أوفقها للكليتين، و(٦) أنها مهدئة ملطفة، و(٧) أنها مساعدة طبيعية لعملية الهضم فضلًا عن سهولة الحصول عليها.

ومضى الطبيب في بيان خصائص الشهد النافعة للعلاج وغذاء الكبار والصغار وتفسير ذلك بالأسباب العلمية فأجملها في خمس وعشرين صفحة، ولم يذكر في سائر الفصول دواءً «طبيًّا» آخر له مثل هذه الخصائص أو لخصائصه مثل هذا الثبوت بالتجارب الواقعة وتجارب المعامل والمشتغلين بالتطبيب.

تصفحت هذا الكتاب عن الطب الطبيعي فذكرت كلمة زويمر عن الآية القرآنية، ووجدتها مثالًا أصلحَ من كل مثال لإبراز «عقلية المبشر» بما طوته من عيوب الزيغ والتعصب والمغالطة، مع عيوب الفدامة وَالْعِيِّ في كثير من الأحيان، ولاح لي أن نصيب زويمر من هذه العدة المعكوسة على قدر مكانته في ميدان التبشير، إلا أنها عدة لا ترشحه لرد المسلمين عما اعتقدوه، بل لعله لا يتطلب لرسالته عدة أوفى منها لو أنه أراد بها تثبيت المسلمين على عقائدِ الإسلام.

١  نشر هذا المقال في مايو سنة ١٩٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤