الإسْلامُ والجماعَة المُتَّحِدَة

هذا اسم كتاب صدر في هذه السنة باللغة الإنجليزية لمؤلفه الأستاذ «مونتجومري وات» عميد قسم الدراسات العربية بجامعة «أدنبره».

***

وفضيلة هذا الباحث في دراساته الأخيرة أنه تخلص من آفة التفسيرات المادية للتاريخ، وعرف مكان «الظروف» الاقتصادية في تطور الحوادث وتطويرها، فلم يجاوز بها حدها، ولم يجعلها أساسًا لكل حركة اجتماعية تحدث في هذا العالم الحافل بأسبابه وأسراره، فليست الحوادث الكبرى عنده معزولة عن العوامل الاقتصادية ولا عن عوامل المعيشة اليومية، ولكنها تختلط بها وتؤثر فيها إلى أمد محدود، ويجب على المؤرخ الباحث أن يصل بها إلى هذا الأمد ولا يزيد عليه.

ومن «أبسط» أمثلته على ضرورة الالتفات إلى العوامل الروحية، وعوامل العقائد والموروثات الفكرية، أنه يذكر حركة التجديد التي ارتبطت بإنشاء مدارس المبشرين في الشرق الأوسط، ويذكر أثرها في دعوات الثقافة ومذاهب التحرر، ويذكر اختلاف النظرة إلى هذه المدارس بين المسلمين وغير المسلمين من أبناء الشرقين: الأوسط والأدنى، ثم يقرر أن اختلاف هذه النظرة كان له أثر في دعوات الثقافة ومذاهب التحرر بين الطوائف والجماعات، وليس لهذا الأثر من سبب غير العقائد والموروثات الفكرية، مع التشابه في ظروف المعيشة وأطوار الاقتصاد بين جميع السكان المسلمين والمسيحيين.

وعلى هذه القاعدة من تحديد عمل «الظروف» الاقتصادية بحث الأستاذ مونتجومري عواملَ نشأة الإسلام وعواملَ «الوحدة» التي امتازت بها الدعوة المحمدية، وجعلها المؤلف موضوعًا لكتابه، وإن كان قد وقف بها عند نهاية القرون الوسطى ولم يتقدم بها إلى العصر الحديث.

وأهم وجهات النظر في المبحث كله أن المعركة بين محمد عليه السلام وبين كفار قريش لم تكن معركة بين دعوة تجديد ودعوة محافظة على القديم؛ بل كانت معركة بين حركة تجديد وحركة تجديد أخرى ولكن في طريقين مختلفين، بل متعارضين.

كانت حياة كفار قريش تتحول من معيشة البداوة إلى معيشة الحاضرة التجارية، وكانت ثروة الأرباح من تجارة القوافل تتدفق على زعماء العشائر القوية في مكة، وتتحول بهم من أخلاق فرسان البادية إلى أخلاق السادة المنعمين في الحاضرة، بين أناس من عشائرهم وأتباعهم وعبيدهم يخدمونهم مضطرين ولا يشاركونهم في نعيم الثروة ولا في عزة السطوة، فهم — كسادتهم — غير محافظين، وغير مطمئنين إلى ما هم فيه، وإن كانوا يخافون التغيير المجهول ولا يسلمون زمامهم للمصلحين على غير ثقة بعاقبة هذا التغيير.

فلم يكن السادة ولا العبيد — إذن — محافظين على القديم كما زعموا لإقناع أنفسهم بمحاربة المحمدية؛ وفاءً منهم لآبائهم وأجدادهم، ورعاية منهم لأربابهم ومعبوداتهم … بل كانوا جميعًا يتحولون من سنن أولئك الآباء والأجداد في معيشتهم وأخلاقهم، ويأخذون في معيشة جديدة شعارها الترف والمتعة، وأملها الأكبر زيادة الثروة والسطوة، وحقيقتها الواقعة هي حقيقة كل «متعة حسية» يجور صاحبها على نفسه ويجور على المحرومين منها باختياره وبغير اختياره، وهذه هي الحياة التي وصف القرآن الكريم أصحابها فقال: إنهم اتخذوا الهوى إلهًا وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.

أما التغيير الذي جاءت به الدعوة المحمدية فقد أفلح واستقر؛ لأنه أعطى النفس الإنسانية — كما أعطى الجماعة كلها — حياةً أفضلَ من حياتها وغايةً أحقَّ بالسعي إليها من غايتها.

ليس متاعُ الحياة الدنيا غايةَ حياة الإنسان؛ لأن متاع الحياة الدنيا غرور وضلال بغير الباقيات الصالحات.

وليس المجتمع الإنساني سوقًا للسادة والعبيد، ولكنه «أمة» تهتدي بإمام واحد أو إمامة واحدة، وقبلتها التي تؤمها وتستقيم على الْجَادَّةِ ما دامت مستقيمة عليها هي قبلة الخير والتقوى، يتساوى فيها العاملون الصالحون ولا يستأثر بها صاحب الثروة والسطوة أو تستأثر بها من حوله عصبة الأسرة أو العشيرة، وزعامة البادية أو الحاضرة.

ويقول الأستاذ مونتجومري: إن فكرة «الأمة» كما جاء بها الإسلام هي الفكرة البديعة التي لم يسبق إليها ولم تزل إلى هذا الزمن ينبوعًا لكل فيض من فيوض الإيمان يدفع بالمسلمين إلى «الوحدة» في «أمة» واحدة تختفي فيها حواجز الأجناس واللغات وعصبيات النسب والسلالة، وقد تفرد الإسلام بخلق هذه الوحدة بين أتباعه؛ فاشتملت أمته على أقوام من العرب والفرس والهنود والصينيين والمغول والبربر والسود والبيض على تباعد الأقطار وتفاوت المصالح، ولم يخرج من حظيرة هذه الأمة أحد لينشق عليها ويقطع الصلة بينه وبينها، بل كان المنشقون عنها يعتقدون أنهم أقرب ممن يخالفونهم إلى تعزيز وحدتها ولمِّ شملِها ونفي الغرباء عنها.

وتساءل المؤلف: أكانت العقيدة الدينية ضرورية لخلق فكرة «الأمة» بهذا المعنى؟ ألم يكن في وسع الزعامة العظيمة أن توحد بين العرب بسلطان «الشخصية» المطاعة المحبوبة ثم تدع هذه الوحدة تضم إليها من يضمه الدين من غير أبناء الجزيرة؟

ورأى المؤلف أن فكرة «الأمة» هي التي راضت رجلًا مثل عبد الله بن أُبَيٍّ لقبول الرئاسة الدينية، ولم يكن ليقبلها لو كانت رئاسةُ محمدٍ رئاسةً دنيويةً، وأن فكرة الأمة هي التي جعلت أناسًا من الفرس يؤمنون بأنهم أحق من بني أمية بنصرة الخلافة الإسلامية على قواعد المساواة بين جميع المسلمين، وأن فكرة الأمة هي التي جددت للبلاد الإسلامية في كل عصر «قبلة» تلوذ بها وتهتدي بهداها، وهي التي بثت في صدور المسلمين أنهم «أمة» واحدة أمام الغزوات الأجنبية.

ويقول المؤلف: إن عقيدة الإسلام تزود أبناءه في كل عصر «بالصورة المحركة» التي ينظرون إليها ويترسمونها، ويسمي هذه الصورة المحركة بالإنجليزية Dynamic Image أي «الطيف» أو المثال الذي يحفز السائر إلى الحركة والتقدم، ويهون عليه مشقة الطريق، وأقرب من ذلك باللغة العربية أن نسميها: «القبلة الموجهة» أو القبلة المستجابة؛ لأنها كلمة موافقة لشعائر الإسلام.

وسر هذه القوة في العقيدة الإسلامية أنها منحت الفرد مقياسًا للحياةِ أرفعَ وأسلمَ من مقياس العصبية والمنعة؛ وهو مقياس الضمير المستقل عن أصحاب السيادة، وأنها — مع هذا الاستقلال الفردي — لم تترك الجماعة بغير وجهة تصمد عليها، فأبدعت لها فكرة «الأمة»، وحررت هذه الفكرة من ربقة العصبية وحدود الوراثة، فأصبح معنى «الأمة» قابلًا للتطور مع الحوادث و«الظروف».

ونرى نحن أن صاحب كتاب الإسلام والجماعة المتحدة قد أصاب في التنويه بمعنى «الأمة» في العقيدة الإسلامية، واعتباره أنه معنى فريد خلقته العقيدة الإسلامية ولم يكن له مرادف في لغة من اللغات قبل — ولا بعد — الإسلام …

فكلمة «ناشن» Nation التي تقابل هذه الكلمة باللغات الأوروبية مأخوذة في أصلها من معنى الولادة، ومفادها أن الولادة في مكان واحد هي الرابطة التي تكسب أبناء الوطن حقوق هذه الوحدة الاجتماعية.
وكلمة «بيبول» People تقابل عندهم كلمة الشعب أحيانًا باللغة العربية، وترجع في أصلها إلى السكن والإقامة.

وكلا المعنيين — معنى الولادة ومعنى السكن — قاصر عن الدلالة على «القومية» كما يفهمها علماء التعريفات الاجتماعية والسياسية في عصرنا الحاضر، وأصبح منها أن تكون رابطة الأمة هي رابطة الاشتراك في وجهة عامة كما سبقت بها دلالتها في الآيات القرآنية.

إلا أننا لا ننسى في هذا المقام أن نعود إلى الناحية اللغوية؛ لنعرف مدلول اللفظ في اللغة، ومدلوله في الاصطلاح بعد الدعوة المحمدية.

فاستقبال الجهة أصيل في كثير من الكلمات التي تفيد معنى الوحدة الاجتماعية باللغة العربية وإن قل عددها بالنسبة إلى الأقوام الكثيرين.

فالقبيلة — وهي أصغر من الأمة ومن القوم — تطلق على الذين يستقبلون جهة واحدة في السكن والمرعى.

والفئة — وهي أصغر من القبيلة — تطلق على الذين يفيئون إلى ظل واحد.

والقوم — وقد يكونون قبيلة كبيرة أو قبائلَ متعددة على عهد بينها — هم كل جماعة «يقومون» معًا في أمور الحرب والسلم، ويغلب أن يكونَ قيامُهم معًا بأمور الحرب أعمَّ في بداية الأمر من القيام معًا بسائر مهام المعيشة، ولهذا كان المفهوم من القوم «أولًا» جماعة الرجال دون النساء، قبل أن تعم الرجال والنساء أجمعين.

فمعنى الوجهة أصيل في اللغة العربية للدلالة على وحدة الجماعة، ولكن القرآن الكريم قد جاء بكلمة الأمة في معارضَ كثيرةٍ تفيد معنى السبط من القبيلة، كما تفيد معنى الجماعة الكبرى التي تحيط بشعوب كثيرة.

فمن هذه الدلالة القرآنية لزمت وحدة الوجهة معنى الأمة في مواضعها الكثيرة، وحق لمؤلف كتاب «الإسلام والجماعة الموحدة» أن يعتبر هذه الفكرة — فكرة «القبيلة» الروحية — عصمة من التفرق وينبوعًا لكل دعوة ترد إلى حظيرة الإسلام كلَّ من يخالفون الجماعة باسم «الوحدة» وسعيًا إلى التوفيق؛ فقد تعلقت آمال المسلمين على الزمن بهذه القبلة الموثوقة، كأنها الأفق المشرق الذي لا يغيب عنه الضياء، ولا ينقطع دونه الرجاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤