هل يَتِمُّ الإصْلاحُ في الإسْلام بمُوافَقةِ القرآن أو عَلى خِلافِ أحْكامِه؟

وصلت إليَّ في البريد نشرة من مجلة البراهين Preuves التي تصدر بباريس ومعها بيان موجز عن دراسة إسلامية تتخلص فيما يلي:
يسأل الأستاذ جاك أوسترو Austruy في كتابه عن مواجهة الإسلام للتطور الاقتصادي: هل يجب على المسلمين — وهم بسبيل النهوض — أن يحققوا نهضتهم خلافًا لتعاليم الإسلام؟ أو هم مستطيعون أن يحققوها وفاقًا لتلك التعاليم؟

ويرد الأستاذ فرنسيس نور على هذا السؤال فيقول: إن الفكرة الرئيسة في الكتاب تجعل نظام رأس المال ونظام المادية الاقتصادية مدارَ الاختيار لمن يطلب التقدم الاقتصادي، ولكن المسلم المصلح غير مضطر إلى اتباع أحد النظامين؛ لأنه يستطيع أن يتبع نظامًا ثالثًا «من صميم تعاليم الإسلام» كما يقول صاحب الكتاب.

وهو لا يرى أن المسلمين شعب واحد، بل شعوب متعددة لا تعوزها موارد الثروة إلا أنه يستحسن أن تقلع الدساتير عن فكرة «أن الإسلام دين الدولة» كما أقلعت عنها الدساتير التي فصلت بين الأمور الدينية والأمور الدنيوية! ولا يوافقه الأستاذ فرنسيس على هذا الرأي، ولكنه لم يبين أسباب معارضته، ولا الأسباب التي تعزز الرأي المقبول في نظره.

هذه هي خلاصة المساجلة بين الأستاذين في موقف الإسلام من مواجهة النظم الاقتصادية الحديثة.

وتعليقنا عليه أن المسلم لا يشعر بالحرج الذي يضطره إلى الاختيار بين النظامين المذكورين، ولم يشعر بهذا الحرج قبل العصر الحاضر يوم وقفت به المواجهة أمام نظم أخرى كنظام الفروسية أو نظام الإقطاع أو نظام الصناعة الكبرى أو نظام الاستعمار؛ لأن الإسلام لم يكن خطة اقتصادية تقيد الأمة ببرنامج محدود تخرج على الدين إذا هي خرجت عليه، ولكنه عقيدة إنسانية تقيم للمسلم أصول الحلال والحرام، وتدع له الحرية التامة بعد ذلك في اختيار التفاصيل الموقوتة على حسب الأزمنة والمصالح والشعوب وعلاقات الأمم والحكومات.

ولا يعاب الإسلام بذلك؛ لأنه هو الشرط الأول من شروط الدين الذي ينبغي له قبل كل شيء أن يتكفل للمؤمن باستقرار اليقين وبالطمأنينة الروحية في مواجهة الأطوار والتقلبات، ومنها زعازع التناقض بين النظم الاقتصادية واضطراب المصالح مع تجدد الطبقات وتبدل العلاقات.

فالدين الذي يضطر المؤمن إلى تغييره مع كل نظام اقتصادي يطرأ على المجتمع أو على العالم كله إنما هو زي من الأزياء العارضة، وليس بالدعامة الروحية التي تكفل للإنسان فضيلة الثبات أمام الطوارئِ والْغِيَرِ، وتفتح له باب الرجاء كلما تطرق إليه اليأس بين نظام فاشل ونظام مرهون بالتجربة، أو للشكوك في عقباه إلى حين.

والتضاربُ بين نظام رأس المال ونظام المادية الاقتصادية خيرُ جوابٍ على من يطالبون الإسلام بمجاراة النظم الحديثة كلما تقلبت بها أطوار الاجتماع؛ فقد كان نقاد الإسلام بالأمس يزعمون أن حياة الأمم رهن بنظام المعاملات التي تقوم على الشركات والمصارف واستغلال رءوس الأموال والأرباح، وأن الإسلام يغل أيدي المسلمين ويعوق حركة التقدم؛ لأنه لا يقيم المعاملات كلها على هذا النظام، ثم شهد العالم نظامًا آخرَ ينكر رءوس الأموال أصلًا، ويبطل الملكية مالًا وأرضًا وعقارًا، ويطلب من الإسلام أن يصنع صنيعَه في مواجهة الأزمات العصرية، ولا يعلم أحد إلى أي أمد يطول بها البقاء، وعلى أي حال من الأحوال تتطور بين اليوم والغد القريب … وبين هذا وذاك تظهر النظم الفاشية والنازية على شتى الأوضاع والأشكال.

فكيف كان الإسلام يؤدي حق الدين لو أنه تقلب بين هذه النظم الطارئة عليه؟ وكيف كان يجمع بينها أو يحض المسلمين على اتباعها في مواطنها وعهودها؟

إنه لم يصنع ذلك، وحسنًا صنع، وإنه يظل دينًا للمجتمعات الإنسانية بين عصر وعصر، ولا يضطر المسلم إلى الخروج من عقيدته بين حقبة وأخرى، بل لا يضطره يومًا إلى ذلك السؤال: هل يجب عليه أن يترك الإصلاح، أو يحققه على خلاف أحكام القرآن؟

وليس معنى ذلك أن الإسلام ينفض يديه من مهمة الإصلاح الاجتماعي في زمن من الأزمنة كان أو يكون، ولكن معناه أنه يقرر للإنسانية أصولًا لا يتحقق لها صلاح بغيرها، ثم يفوض للعقل الإنساني كلَّ الرأي في اختيار ما يلائمه من تفاصيلِ الإصلاح، غير مقيد له بفرع من الفروع المتجددة ما دام أمينًا على تلك الأصول.

كانت نشرة المجلة الفرنسية في طريقها إلينا ونحن نكتب لمنبر الإسلام مقالًا عن الإسلام والنظم الاجتماعية، وفيه نقول: «إنما أقام الإسلام قواعد الاقتصاد التي يقام عليها كل نظام صالح … فقرر أن يمنع الاحتكار وكنز الأموال، وقرر أن يمنع الاستغلال بغير عمل، وقرر أن يتداول المجتمع الثروة، ولا تكون دُولَةً بين الأغنياء، وقرر أن تكون للضعفاء والمحرومين حصة سنوية لا تقل عن جزء من أربعين جزءًا من ثروة الأمة كلها، وقد يزيد عليها بأمر الإمام وإحسان المحسنين … ولا خوف على مجتمع قط يمتنع فيه الاحتكار والاستغلال وإهمال العاجزين عن الكسب والعمل …»

ونعود — بعد الإطلاع على مساجلة الأستاذين أوسترو وفرنسيس — فنقول: إنهما على حق فيما قرراه من إمكان المسلم أن يواجه الإصلاح الاجتماعي بغير اضطرار إلى مجاراة نظام رأس المال على علاته أو نظام المادية الاقتصادية على علاتها، ونزيد على هذا الرأي الصواب أن الإسلام يتأتى له ذلك دون أن يتقيد بنظام محدود يتبدل غدًا كما تبدلت النظم بالأمس أو تتبدل أمام أعيننا اليوم في بلاد المغرب والمشرق، وحسبه أنه يمنع الاحتكار والاستغلال، ويحمي الضعفاء والمحرومين؛ ليوفر للمجتمع خيرَ ما يحتاج إليه من صلاح وإصلاح، ويوفر للفرد خيرَ ما يحتاج إليه من عمل، وأنفعَ ما يقدر عليه من جهود.

إن القرآن صريح في النهي عن كنز الذهب والفضة، صريح في الأمر بتداول المال: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ.

وإن القرآن صريح في منع الاستغلال، ولا سيما الاستغلال بإفساد الحكم والسيطرة على الحكام: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ.

وإن القرآن يأمر بالإحسان، ويفرض الزكاة، وهي تخول الذين يستحقونها جزءًا من أربعين جزءًا من الثروة العامة لا من ثروة الربح وحسب، في العام وبعد العام.

ومن شاء فليتخيل نظامًا اجتماعيًّا يبطل فيه الاحتكار ويبطل فيه أكل الأموال «بالباطل» ويأمن فيه المحروم على قوته ومعاشه، ثم يتخيل موضعًا فيه للانتقاد من ناحية الصلاح والإصلاح.

إن عقل الإنسان ليعجز هنا عن نقد الحياة الاجتماعية في أصولها، إلا أن يكون من عبيد الحروف والعبارات المرصوصة على غير روية.

وإن «الضمير الديني» ليهدي العقل هنا غايةَ الهداية التي تطلب من الدين القويم دون أن يربطه بالقيود القاسرة أو يكرهه على الجمود المعطل عن التصرف والتصريف، وعلى هذا الضمير الديني تقوم رسالة الدين التي تعلو مع الزمن على نظم الاقتصاد وبرامج الساسة وشقاشق الأسماء من دعوة تلهج بالديمقراطية أو صيحة تلغط بالمادية، أو حذلقة تتعلق بأطراف المبادئ وأهداب القواعد والنظريات، وتحسب أن «الإنسانية» بنت يوم وساعة، وأن «الضمير الإنساني» زِيٌّ من أزياء الأمم يلبس مع الصباح ويخلع قبل المساء.

أما مسألة الدين والدولة في الإسلام، فقياسها على الأديان الأخرى قياس مع الفارق الكبير كما يقول المناطقة، ولا سيما الأديان التي توجد فيها الكهانة الدينية، أو توجد فيها طائفة من أصحاب الرئاسة الدينية تتولى الوساطة بين العباد والمعبود، وتدعي لنفسها — من ثم — حقَّ الإشراف على المدرسة والمحكمة والهيكل والمدفن، كما تدعي لنفسها حق «التطويب» لكل سلطة ولكل قانون، ولا وجود في الإسلام لهذه الكهانة ولا للوساطة كيفما كانت بين العباد والمعبود، فليست مسألة الفصل بين الدين والدولة في الإسلام بالمسألة التي تصدم بحق الراعي أو حق الرعية على الوجه الذي عرف في تاريخ هذه المسألة عند الأمم الأوروبية، وليست هي المشكلة المعروضة للبت فيها بين شعب من الشعوب الإسلامية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤