غَزْوة التَّبْشير في مَعْقِلِه

تكثر المؤلفات في اللغات الأوروبية عن حياة النبي عليه السلام، وبعضها خاضع لأغراض السياسة أو خاضع لأغراض التبشير، وبعضها الذي يكتبه أناس متمردون على ساسة الدول وجماعات التبشير يخضعون لآفة أخرى هي آفة الجهل بالحقائق والعجز عن فهم الشرق والشرقيين كما يفهمون أنفسهم في حاضرهم وماضيهم، ومن المؤلفين المحدثين عن نبي الإسلام من يكتب عنه ليتخذ من هذه الكتابة ذريعة إلى نشر مذهب في الحياة الاجتماعية يعارض مذهب الديانة الإسلامية في هذه الشئون، ولم تخلُ المكتبة الأوروبية الحديثة بعد هذا كله من كتابة عنه — صلوات الله عليه — تنقل الأخبار عن مصادرها صحيحة محققة، وتؤدي الأمانة للتاريخ أداء العالم الذي يحاسب ضميره وعقله فيما يكتب، ويترفع عن رواية الكذب أو الخطأ وهو عالم به متعمد لإخفائه.

إلا أن هؤلاء جميعًا يكتبون مؤلفاتهم للحاضر ولا يعنيهم أمر الماضي في هذا الموضوع بعينه، وهو موضوع حياة النبي وصفاته «الشخصية» كما نقول في تعبير العصر الحاضر، فيتركون المخلفات القديمة على حدة، في مكتبات علماء الدين وورثة اللاهوتيين من أبناء القرون الوسطى، وتظل تلك المخلفات مشحونة بالأباطيل والأغاليط، تسمم عقول أولئك اللاهوتيين ومن يتلقى العلم عنهم من ناشئة المبشرين، ثم يتخرج هؤلاء الناشئة مؤمنين بصدق دعوات التبشير وصواب الحملة على الإسلام كما فهموه وفهموا معه أخبار نبيه الكريم في حياته «الشخصية» وخلقه الموصوف بتلك الأباطيل، ولو أنهم فهموا أسرارَ أباطيلهم لارتدوا على أنفسهم واستطاع الإسلام أن يغزوهم في معاقلهم، فإذا هم يبشرون أنفسهم قبل أن يتفرقوا بين أنحاء العالم مستبسلين في تبشير المسلمين وتنفير غير المسلمين من الإسلام.

تلك المخلفات، عن القرون الوسطى، قد تجمعت في مكتباتها من تصانيف علماء اللاهوت الذين هالهم نفوذ الحكمة الإسلامية والأدب الإسلامي بين طلاب العلوم الدينية عندهم على أثر قيام الحضارة الأندلسية بأوروبة الغربية، وكان من طلاب الحكمة الإسلامية بينهم أناس وصلوا إلى مقام البابوية، وأناس ارتفعوا إلى مقام الهداية الفكرية بمعزل عن الكنيسة؛ بل على خلاف عقائدها المأثورة … فلما هالهم هذا النفوذ الفكري وأزعجهم شيوعه في معاقل الفكر ومعاهد العبادة، أقبلوا على تأليف الكتب التي اجتهدوا غايةَ الاجتهادِ أن يصبغوها بالصبغة العلمية؛ ليضمنوا رواجها بين طلاب المعرفة وإقناعها لمن يطلبون الدليل ولا يقبلون أن يخدعوا عقولهم بأباطيل الدعاية والتضليل، وجعلوا همهم كله تشويه الحكمة الإسلامية بتشويه مصدرها الأول وتمثيل صاحب الدعوة الإسلامية في صورة بعيدة عن التقديس والاحترام، ولا حاجة بهم بعد ذلك إلى البحث في دقائق الحكمة وأسرار الفلسفة؛ لتنفير الأفكار من النبي ورسالته؛ لأن تمثيل إنسان مقدس في الصورة التي تنزع القداسة عنه أيسر جدًّا من عناء الدراسة في نقض العقائد وإدحاض الأفكار.

وقد نجحت هذه «المكيدة» الساذجة في حينها، ولا تزال بقاياها بمرصدها في مكانها، يحفظونها ويعيدونها؛ أملًا في تكرار هذا النجاح بين الناشئة المتعلمين من رجال الدين قبل غيرهم، عسى أن يكون لها أثرها في خلق الحماسة الضرورية لكل مبشر يرجى أن يصدق الدعوة، والإقناع بعد أن شاعت في هذا العصر شكوكه وشبهاته، وأوشكت أن تعصف بيقين المبشرين أنفسهم، وهم يدعون الآخرين إلى اليقين.

إن مهارة أصحاب المكيدة من نوع المهارات الرخيصة، التي تعتبر رخيصة؛ لأنها تنجح بقليل من الجهد، ولكنها تفشل وتخفق بجهد أقلَّ منه، ونجاحها في أكثر حالاتها إنما يتوقف على «الفضيحة» وعلى سهولة الإصغاء إليها في طبائع الجهلاء والأغرار، بل في طبائع بعض الفضلاء الذين يسرعون إلى النفور من المتهم بالسوء؛ لأنهم يعافون السوء ويعرضون عن «التفتيش» في دخائله والتحدث بأخباره، أو تضيق عقولهم أحيانًا عن الجمع بين الاحتراز من قالةِ السوء والاحتراز من قبول هذه القالة بغير دليل.

أما فشل الفضيحة بالقليل من الجهد فمرجعه إلى طبيعة الإشاعات كلها في صميمها؛ فإن خبرًا صادقًا من أخبارها قد ينكشف للسامع فيهدم مئات الأخبار الكاذبة التي تستهوي الأسماع إلى تصديقها.

إحدى هذه الأكاذيب التي احتفل رواة القرون الوسطى بتزويقها وترويجها … أكذوبتهم عن قصة زينب بنت جحش وزواج النبي عليه السلام منها بعد تطليقها من زوجها.

كتب الراهب فيدنزيو Fidenzio فقال بعد تنميق مقدماتها على أسلوب القصص الغرامية:

كان هناك رجل يسمى سيدوس — زيد — له زوجة تسمى زبيب — هكذا — وكانت هذه الزوجة أجمل نساء الأرض في زمانها، وسمع محمد بجمالها الرائع فشغف بها حبًّا، وأراد أن يراها، فقصد إلى منزلها في غياب زوجها يسأل عنه، فقالت له الزوجة: ماذا تبغي يا رسول الله؟ وماذا جاء بك عندنا؟ إن زوجي قد ذهب إلى عمله، ولم تخفِ المرأة خبر الزيارة عن زوجها الذي سألها عند عودته: هل كان رسول الله هنا؟ فقالت: نعم، كان هنا … قال: هل رأى وجهك؟ قالت: نعم، رآه وأطال النظر إليه، فقال الزوج حينئذ: لا عيش لي معك بعد الآن …

ومضى الراهب «الأمين» في سرد القصة على هذا النمط مستشهدًا لها بما ورد عن حديث زيد وزوجته في سورة الأحزاب، فتمت «الأحدوثة» عند سامعيها بشاهد من كتاب الإسلام، وأضاف إليها هذا المؤلف وغيره ما اختاروا أن يضيفوه من كلام السيدة عائشة ومن مناسبات الوحي في هذه السورة، فخيل إليهم أنها حديث لا حيلة فيه للسامع غير التصديق والتأمين، وغير العجب بعد ذلك من خلائق نبي المسلمين.

ليس أسهل من شيوع هذه الأكذوبة كما شاعت في القرون الوسطى.

ليس أسهل من إسقاطها وإسقاط المروجين لها بخبر واحد لا شك فيه من أخبارها الكثيرة؛ وهو أن زوجة زيد كانت بنت السيدة أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي عليه السلام، وأن النبي عليه السلام هو الذي زوجها من ربيبه وعتيقه زيد وهو لا يطمع إلى الزواج من مثلها.

ويكفي أن يعرف هذا الخبر لتسقط الأكذوبة كلها ويسقط معها كل ما قيل عن مفاجأة النبي عليه السلام بجمالها وتطليق زوجها بعد نظر النبي إليها لأول مرة.

وشيء من التفصيل القليل لهذا الخبر يعكس الفضيحة على المبطلين فيعلمون حقيقة القصة المحرفة، ويعلمون أنها آية الخلق الكريم في نبي المسلمين.

فإن زيدًا الذي زوجه النبي من بنت عمه لم يكن إلا أسيرًا عتيقًا رباه النبي فأخلص له ولدينه، وآثر المقام في جواره على الرجوع إلى أهله بعد تسريحه، ورفع السيد الكريم عن عبده العتيق ذلة الرق بمصاهرته والمساواة بينه وبين أكرم أهله، وأطاعت الزوجة أمر النبي كما ينبغي لمثلها مع مثله، ولكنها عاشت مع زوجها كسيرة الخاطر؛ لما كانت تتبينه من نظرات لِدَاتِهَا وقريناتها إليها، ويشعر زيد بما تضمره من الحزن والأنفة، فيهم بتطليقها، ولكنه يستكبر أن يقابل جميل النبي برفض الزوجة التي اختارها له وميزه بها على صحبه، فارتفعت بنبي الإسلام مروءته إلى حيث ينبغي أن ترتفع مروءة الأنبياء، وأحل زيدًا من حرجه، وعوض زينب من مهانتها؛ لتعلم ويعلم الناس أنها كفؤ له، وإن كان قد اختارها لفتاه الذي كان يتبناه، ولولا ذلك لعاشت الزوجة المطلقة معضلة بين لداتها وأترابها وهي لا تطمع في الزواج من كفؤ لها بعد تطليقها، وليس مما يجبر خاطرها الكسير أن يساق إليها الزوج الذي يكافئها وتكافئه مأمورًا بزواجها.

تلك قصة أرسلوها في غياهب القرون الوسطى؛ لينظر الناس في ظلماتها إلى وصمة إنسانية يعاف من أجلها خلق الإنسان، ويعاف الدين الذي يدعو إليه من أجله.

ويزيد عليها خبر صغير لا شك فيه، فإذا هي شهادة بالنبوة كأحسنِ ما تكون الشهادة للأنبياء؛ لأنها شهادة بغاية البر والإحسان إلى الأسير الضعيف الغريب عن أهله ووطنه، وغاية البر والإحسان إلى المرأة المجروحة في عزتها، بعد أن غلبها ضعف الأنوثة والعرف على شعورها، برغم إرادتها.

وكانت فضيلة الصدق — مع فضيلة العفة — أكبر الأهداف التي تعمدها أصحاب هذه المكيدة بالإنكار فيما زيفوه من القصص المحرفة عن صفات النبي صلوات الله عليه.

وفي هذه أيضًا كانت لهم مهارتهم الرخيصة؛ لأنها سهلةُ الشيوع سهلةُ التفنيد.

فكل ما توارد من الأنباء بين القرآن والكتب الإسرائيلية فهو وحي صادق في كتب بني إسرائيل، ونقل غير صادق في كتاب الإسلام، مع التحريف والخطأ أحيانًا في الرواية عن الكهان اليهود أو الكهان المسيحيين!

وكان رواج هذا الزعم سهلًا سريعًا بين أبناء القرون الوسطى؛ لأنهم كانوا يعتقدون جميعًا أن الكتب الإسرائيلية هي مصدر تلك الأنباء الأول، وأن الاختلاف فيها إنما يكون بطبيعة الحال تحريفًا أو خطأً في النبأ الذي جاء بعد تلك الكتب بترتيب التاريخ.

لكن الخبر الصغير الذي ينقض ذلك الزعم على أساسه أن الكشوف الحفرية أثبتت اليوم أن الكتب الإسرائيلية لم تكن هي المصدر الأول لما ورد من أنباء القرون الأولى في التوراة أو التلمود، وقد أثبت القرآن الكريم أنه روى عن النبوءات السابقة أخبارًا لم تذكر ولم ترد الإشارة إليها في كتب العهد القديم ولا في أقاصيص التلمود وما شابهه من أسانيد اليهود، فإذا كانت مصادر الجزيرة العربية ومصادر بين النهرين أوفى وأقدم من المصدر الإسرائيلي فهذا المصدر الأخير أقرب إلى مظنة الخطأ والتحريف من ذلك المرجع الأصيل.

وتُزَادُ على هذه الملاحظةِ الصغيرةِ ملاحظةٌ أصغرُ منها؛ ليتحقق المؤرخ أن عمل العصبية القومية كان أفعل وأظهر من عمل الأسانيد التاريخية في ترويج تلك الإشاعات أو تلك الأكاذيب … لأن اسم الكاهن الذي زعموا أنه كان يملي قصص القرآن الكريم على النبي صلوات الله عليه، كان يختلف دائمًا باختلاف مرجع الإشاعة المفتراة، فإذا كان المرجع مسيحيًّا فالراهب سرجيوس — أو بحيرا — هو الملقن لتلك القصص! وإذا كان المرجع يهوديًّا فالملقن هو «حاخام» إسرائيلي مجهول، كما جاء في رواية «بيدرو دي ألفونسو» الذي ينتهي في أصله إلى بني إسرائيل!

إن هذا الموضوع يعاودنا كلما وقع نظرنا على عنوان من عناوين الكتب الكثيرة التي تصدر في هذه الأيام عن تواريخ القرون الوسطى، وقد عاودنا مجددًا — مؤكدًا — بعد الاطلاع على آخر كتاب مفصل ظهر بالإنجليزية عن «الإسلام والغرب» من سنة ١١٠٠ إلى سنة ١٣٥٠ ميلادية لمؤلفه الأستاذ نورمان دنيال من علماء كلية الملكة بجامعة أكسفورد، ولعلنا لا نخطئ التعبير إذا قلنا: إنها جميعها مكتبة تغري بالتأليف في التعليق عليها؛ لأن تفنيدها في هذا الزمن أيسر من ترويجها في زمانها، وليس أولى باجتهاد المسلم في رد العادِيَةِ عن عقيدته وتاريخه من رد التبشير على عقبيه إلى معقله الحصين؛ فإنه لأحرى أن يشتغل بالخوف على معقله عن الجرأة الخرقاء على معاقل الإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤