الصِّيامُ في القَرنِ العِشرين

من الإشاعات التي راجت زمنًا عن القرن العشرين، أنه عصر الحس والمادة، أو أنه عصر المادة المحسوسة.

ونقول: إنها إشاعات؛ لأنها لا تحسب من الرأي الذي يقوم عليه الدليل، ولا من الخبر الذي تثبته المشاهدة، ولا من الواقع الذي يستغني بذاته عن الرأي والإخبار.

فالواقع في القرن العشرين أن المادة كلها قد انتقلت — في البحث عن حقيقتها — من عالم الحس إلى عالم النظر أو عالم الغيب، وأن المباحث المادية قد رجعت إلى مجال من النظريات والغيبيات لا فرق بينه وبين مجال الروحيات في حكم الحس والمشاهدة، فلم نفهم من تسمية الكهارب والنوى بهذه الأسماء ما هو سر القوة التي تربط بينها، وما هو مكان المادة التي تستقل بوجودها عن الكهارب الموجبة والكهارب السالبة أو الكهارب التي تتردد من عنصر إلى عنصر بين السلب والإيجاب … وما من فرض من فروض «العلماء المحققين» عن أصل المادة ينتهي إلى فهمٍ أوضحَ من فهمنا لحقائق الروح أو العبادات الروحية؛ فقد أصبح العالم «المادي» الذي ينكر الغيب المجهول يحتكر لنفسه ما ينكره على طلاب المعرفة الروحية بغير مسوغ لهذا الإنكار يسوغه العلم أو التفكير.

وفي القرن العشرين قد ثبت للعبادات الروحية من الفضائل ما لم يثبت لها قبل القرن العشرين بغير فضيلة الطاعة الواجبة لأوامر الدين، أو بغير الأسباب التي ينفرد الدينيون بتفسيرها وإقامة الأدلة على لزومها، فلا تدخل في نطاق البحوث التي يتصدى لها علماء الماديات أو علماء المحسوسات.

والصيام في مقدمة هذه الأوامر الدينية التي أعيد فيها النظر على أيدي أبناء القرن العشرين، فظهرت لها مزاياها الكثيرة إلى جانب مزايا العبادة والإيمان بحقوق الغيب، مع حقوق الشهادة والعيان.

فقد أصبح أبناء القرن العشرين جميعًا يزاولون نوعًا من أنواع الصيام في وقت من الأوقات؛ لصلاح البنية أو صلاح الخلق أو صلاح الذوق والجمال.

ومعنى الصيام أنه هو الكف عن شهوات الطعام وسائر الشهوات الجسدية وقتًا من الأوقات، وهذا هو الصيام الذي تدعو إليه الحاجة في تحقيق أغراض التربية النفسية والتربية الاجتماعية وسائر ضروب التربية النافعة على حالة من الحالات: فمن الصيام ما يتقرر اليوم لتربية الأخلاق الفدائية في الجنود ومن يؤدون عملًا يستدعي من الشجاعة ورياضة النفس على تقلبات الحياة ما تستدعيه أعمال الجنود الفدائيين.

وقد يستدعي عمل الجندي الفدائي أن يكف عن الطعام بضعة أيام، أو يستدعي أيامًا أن يقبل الطعام الذي تعافه نفسه في سائر أيامه، أو يستدعي أن يرفض الطعام الجيد المشتهى وهو حاضر بين يديه.

ومن الصيام الذي ثبت لزومه في هذا العصر صيام الرياضيين وهم يملكون بإرادتهم زمام وظائفهم الجسدية، ويتجنبون كل طعام يحول بينهم وبين رشاقة الحركة، أو يحول بينهم وبين الصبر على الحركة العنيفة والحركة التي تتعاقب على انتظام إلى مسافة طويلة من المكان أو من الزمن، ولا يستطيعها من يجهل نظام الصيام ولا يروض نفسه وجسده على نوع من أنواعه طوال الحياة.

ومن الصيام العصري صيام التجميل، وقد يصبر عليه من لا يصبرون عادة على صيام الرياضة النفسية أو صيام الرياضة البدنية، وقد يقضي على الصائم من الرجال أو النساء أن يلتزم الحمية في شرب الماء وغيره من السوائل المروية كما يلتزم الحمية في تناول الغذاء المستطاب، وإن يكن صالحًا للتغذية موفور الفائدة للبنية الحية، ولكنه يؤخذ بمقدار لا يزيد عليه من يحرص على الوسامة واعتدال الأعضاء.

ومن الصيام الشائع في العصر الحديث صيام الاحتجاج على الظلم والتنبيه إلى القضايا والحقوق التي يهملها الناس ولا يعطونها نصيبها الواجب من الفهم والعناية.

وهذه الأنواع من الصيام كلها صالحة لغرض من أغراض التربية العامة أو الخاصة يهتدي إليه أبناء القرن العشرين ويعلمون منه أن الآداب الدينية تسبق «التحقيق العلمي» إلى خلق العادات الصالحة واشتراع الآداب الضرورية لمطالب الجسد والروح في الجانب الخاص أو الجانب العام في حياة الإنسان.

ولعل الفضيلة العصرية — فضيلة القرن العشرين — التي تحسب من الأخبار الصادقة ولا تحسب من الإشاعات المزجاة أنه يعرض مسائل الحياة للبحث والتقرير، ويجمع الأشتات المتفرقات من معلومات الأقدمين؛ ليجري عليها حكم العقل والعلم في نسق جديد.

وعلى هذا النسق يتناول الباحثون العصريون أنواع الصيام ويقسمونها إلى أقسامها على حسب أغراضها العامة أو الخاصة من قديم العصور إلى العصر الحديث … وقد أحسنوا تقسيمها حقًّا حين حصروها في هذه الأقسام الخمسة التي تحيط بها ولا تستثني نوعًا منها على ما نعلم؛ وهي:
  • (١)

    صيام التطهير الذي يكف الصائم عن الإلمام بالخبائث والمحظورات من شهوات النفوس أو الأجسام.

  • (٢)

    وصيام العطف: ومنه صيام الحداد في أوقات الحزن أو المحنة؛ ليشعر الصائم بأنه يذكر أحبابه الذاهبين أو الغائبين، ولا يبيح نفسه ما حُرِمُوهُ بفقدان الحياة أو فقدان النعمة والحرية.

  • (٣)

    وصيام التكفير عن الخطايا والذنوب؛ تطوعًا من الصائم بعقاب نفسه على الذنب الذي يندم على وقوعه، ويعتزم التوبة منه والتماس العذر فيه.

  • (٤)

    وصيام الاحتجاج والتنبيه؛ وهو صيام المظلومين وأصحاب القضايا العامة التي لا تلقى من الناس نصيبها الواجب من الاهتمام أو الإنصاف.

  • (٥)

    وصيام الرياضة النفسية أو البدنية التي تمكن الصائم من السيطرة — بإرادته — على وظائف جسمه؛ تصحيحًا لعزيمته، أو طلبًا للنشاط واعتدال الأعضاء.

وكل هذه الأنواع الصومية تستدعي الكف عن الطعام وشهوات الجسد، تارةً بالامتناع عن الطعام كله بعضَ الوقت، وتارة بالامتناع عن بعضه في جميع الأوقات، وتارة بالإقلال من جميع مقاديره والمباعدة بين واجباته، أو بالقدرة على مخالفة العادات المتبعة في تقديره وتوقيته على جميع الأحوال.

وشريطته العامة التي تلاحظ في جميع أنواعه هي تحكيم الإرادة في شهوات النفس والجسد، أو تربية العزيمة على قيادة الإنسان لنفسه حيث يريد.

والمتواتر من أقوال الباحثين عن عادات الأجناس البشرية أن الصيام بجميع أنواعه قديم في أمم العالمين: القديم والجديد.

ففي حضارات أمريكا الوسطى آثار تدل على قدم الصيام بين شعائر العبادة التي دان بها سكانها الأصلاء قبل ميلاد السيد المسيح؛ وقد اشتهر الصيام البرهمي والبوذي منذ أقدم العصور التاريخية، مع تحريم أكل اللحوم كما هو معلوم، واشتهر مثله صيام البابليين والأشوريين على نحو قريب من الصيام الذي تعلمه منهم اليهود أيام السبي؛ متابعةً للشعائر الدينية التي جاء بها الرسل الأسبقون فيما بين النهرين، وأولهم نوح — عليه السلام — على القول المشهور.

وكان الصيام معروفًا عند المجوس الزردشتيين، ولكنهم — أو طائفة منهم — حرموه أخيرًا؛ لثورتهم على العبادات البرهمية والعبادات الأشورية بعد اصطدام العقائد الجديدة بالعقائد الموروثة السابقة عليها.

ولا يندر الصيام في أمة من الأمم الكبيرة غير الأمم التيوتونية من أبناء الشمال؛ فإنه قليل في تاريخها القديم وإن لم يكن مهملًا كُلَّ الإهمالِ، ولعلهم أقلوا منه لصعوبة الاستغناء عن الطعام زمنًا طويلًا في البرد الشديد، أو لصعوبة توقيت المواعيد؛ حيث تطول الفترة بين شروق الشمس وغروبها، فلا ينتظم التوفيق بينهما وبين وجبات الطعام.

وعند المقابلة بين أنواع الصيام نتبين مزايا الصيام الإسلامي بين جميع هذه الأنواع؛ فإنه وافٍ بالشريطة العامة للصيام المفروض بحكم الدين أو المتبع لرياضة الأخلاق، وهو على ذلك صالح لمقاصد التطهير والعطف والتوبة، والتفكير … ولا جدال في رجحان الصيام بنظامه الإسلامي، على نظام الصيام الذي يتحرى الصائم فيه اجتناب بعض الألوان من الأطعمة الفاخرة أو الأطعمة الشهية؛ فإن اجتناب بعض الألوان لا يكفي لترويض وظائف الجسد وتغليب حكم الإرادة عليها؛ إذ كانت هذه الوظائف تؤدي عملها بكل لون من ألوان الطعام، وقد يكون فيه ترويض للذوق على اجتناب اللذائذ والشهوات الجسدية، ولكنه ترويض ينتفع به القادرون على تحصيل الطعام اللذيذ والطعام الثمين، ولا رياضة فيه — حتى للذوق — عند فقدان القدرة على تحصيل هذه الأطعمة في جميع الأوقات.

لا جرم؛ كان الصيام في الإسلام نظامًا لا يَفْضُلُهُ نظامٌ بين شتى الأنظمة التي تقدمت بها فرائض الصيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤