بعْثة المَسِيح في بَني إسْرَائيل

في المقال السابق١ تناولنا بالبحث الموجز موضوع القراءة الدينية بين المعاصرين من أبناء القارة الأوروبية، وأردنا بهذا البحث تصحيح بعض الآراء الشائعة بين المتعجلين من أدعياء «العصرية» أو الحياة الحديثة في بلادنا الشرقية؛ لأنهم توهموا على السماع أن موضوع «الدين» قد أصبح من الموضوعات المهجورة في عرف أبناء القرن العشرين الذي يسمونه بعصر «العلم» ويذهبون بالعلم فيه إلى أقصى الطرف المقابل للدين … ولكنه وهم باطل تنقضه الإحصاءات المتوالية عامًا بعد عام، وتثبت على خلاف ذلك أن العناية بالموضوعات الدينية في «عصر العلم» أشد مما كانت في عصور الظلام، وهم يحسبون الدين من «خصائصها» الموقوفة عليها بين سائر العصور.

والشواهد على هذه الحقيقة لا تنقطع في بريد واحد من بُرد المطبوعات الحديثة يصل إلى الشرق من البلاد الأوروبية، فلم نكد نفرغ من كتابة المقال الماضي حتى وافانا سجل هذه المطبوعات بطائفة من الكتب تحت عنوان «الكتب الدينية»، أحدها هذا الكتاب الذي نعلق عليه في هذا المقال، ويلاحظ أنه مكتوب بالفرنسية ومترجم إلى الإنجليزية في الولايات المتحدة … وعند أصحابنا المتعجلين «أدعياء الحياة العصرية» أن فرنسا وأمريكا في مقدمة الأمثلة بين أمم الغرب على آخر «الموضات» في «المودرنزم» المعرض عن هذا الموضوع العتيق …!

واسم الكتاب «عيسى الناصري في سنواته المجهولة».

ومؤلفه المؤرخ الفرنسي روبرت هارون هو كاتب يهودي كما يدل عليه اسمه.

وموضوعه أن السيد المسيح ينتسب إلى شعب إسرائيل، وأن الفضل في بعثته كله يرجع إلى الدروس الإسرائيلية التي تلقاها منذ صباه، وأنه قضى السنين الطوال التي لم يرد في الأناجيل الأربعة خبر عنها وهو يتلقى علومه على أحبار بني إسرائيل، وقد يدل على ذلك ما ورد في الأناجيل عن ذهابه إلى الهيكل في نحو الثانية عشرة وقضائه الأيام الثلاثة هناك وهو يساجل أحباره مساجلة أدهشتهم وأكبرته في أعينهم، وحق للمؤرخ أن يعلم منها أنه قد وعى — منذ صباه الباكر — كل ما يعيه الدارسون من أسرار الشريعة وفرائض العبادة وآداب السلوك، ويجتهد المؤلف غايةَ اجتهادِه في التوفيق بين هذه الآداب وبين معانيها المجازية باللغة الآرامية التي كان يتكلم بها مع أسرته وتلاميذه، فليس المقصود — في رأي المؤلف — بقول السيد المسيح أن العين بالعين والسن بالسن أن تسمل عين المعتدي وأن تخلع سنه، وإنما يقصد به «أن لكل جناية عقوبتها» وأن الجزاء موافق للبغي والاعتداء.

ويرى المؤلف أن فكرة الرسالة المسيحية ربما خطرت لعيسى — عليه السلام — أول مرة في صباه من تلك العادة اليهودية التي درج الشعب الإسرائيلي على اتباعها ليلة الاحتفال بعشاء عيد الفصح، فلا بد أن أهله كانوا يتركون على رأس المائدة كرسيًّا خاليًا عسى أن يجلس عليه الرسول «إيليا» إذا هبط من السماء.

واختار تلك المائدة لمشاركة الشعب في احتفاله واستئناف حياته على الأرض لقيادة القوم في سبيل الخلاص … ولا بد أن السيد المسيح قد تساءل بينه وبين نفسه عن «المخلص» المنتظر: لِمَ لا يكون على يديه ذلك الخلاصُ المقدور في ذلك الزمان؟!

ويقول المؤلف في رواية الناقد الذي ننقل عنه: إنه لا يدين بربوبية المسيح، ولكنه يدين برسالة له ربانية يواجه بها العالم الوثني ولا وجهة لها عند بني إسرائيل؛ فإن العالم الوثني من الإغريق واللاتين هو الذي كان بحاجة إلى نظرة إلهية ينظر بها إلى العالم، ويعيده بها إلى الإله الواحد الذي «اكتشفه» أنبياء إسرائيل على حد قوله، ولا حاجة بالشعب الإسرائيلي إلى رسالة من ذلك القبيل!

ولا يخفى غرض المؤلف من تقرير هذه الدعوى في كتاب وافٍ يصطبغ بصبغة التاريخ والعلم والحكمة الإلهية؛ فإن «اليهودية» في هذا العصر تستخدم العلم والدين كما تستخدم الدعوات السياسية والاجتماعية للتذكير بحقوقها المفقودة على زعمها بين أمم العصر الحديث … وتعنيها الأمم الأوروبية قبل غيرها من أمم العالم؛ لأنها تتقبل كلامها عن «التوراة» كأنه مقدمة «الأناجيل»، وتستعين بسطوتها الدولية في تحقيق مطامعها في أرض فلسطين: موطن السيد المسيح.

ولسنا نعرض لآراء المؤلف من ناحية الأغراض السياسية التي يبديها أو يخفيها؛ لأن الناحية التاريخية وحدها كافية لإحباط تلك الأغراضِ وإبراز نصيبها الذي تستحقه من تأييد العلم والدين.

إن بعثة السيد المسيح في بني إسرائيل لمخاطبة العالم كله — دون بني إسرائيل — هي الحقيقة التي كان على المؤلف أن يهرب منها، لو أنه أحسن النظر إلى مصلحته ومصلحة قومه، وإن لم تكن لهم مصلحة فيها غير المصلحة الأدبية المنزهة لوجه الحق والتاريخ.

فليس لبعثة السيد المسيح في بني إسرائيل — موجهًا دعوته إلى العالم — معنًى مفهومٌ واضحٌ غيرُ معناها الذي يدل على انتزاع أمانة الرسالة الإلهية من شعب إسرائيل، وانقضاء عهد النبوات في هؤلاء القوم؛ لأنهم نقضوه وخانوا أمانة الرسالة إلى بني الإنسان، منذ زمن بعيد.

ومن تقاليدِ هذا الشعبِ أنه يفخر بظهور الأنبياء الكثيرين بين ظهرانيه، وينسى أن افتقاره إلى الأنبياء الكثيرين معناه المفهوم الواضح أنه شعب قليل الخير عظيم الغفلة، لا يهتدي بالدعوة الواحدة ولا بالدعوات المتلاحقات … ولا يزال في نسيان بعد نسيان، مفتقرًا إلى تذكير بعد تذكير …

وكذلك وَصَفَهُ أنبياؤه مرة بعد مرة بأنه «شعب غليظ الرقاب»، ووصفهم القرآن الكريم كما وصفوا أنفسهم بأنهم غلف القلوب.

وبعد عشرات الأنبياء، بل مئات الأنبياء، إذا حسبنا منهم من ليس لهم كتاب مرقوم، يظهر السيد المسيح فيتجه بالدعوة إلى العالم ولا يتجه بها إلى شعب الأنبياء والمرسلين كما يقولون! فلا يعني ذلك شيئًا غيره معناه المفهوم الواضح أن الرسالة العالمية أمر يعجز عنه الشعب الذي ظهر السيد المسيح فيه، وأنهم أعرضوا عنه فأعرض عنهم بعد جهاد معهم لم يفلحوا فيه، ولم يجد معه فلاحًا غير التحول بدعوته من طريقهم إلى كل طريق سواه.

وهذا الذي حدث في التاريخ برواية الأناجيل، وإليه يشير السيد المسيح حين ضرب لهم المثل بالعرس الذي أعرض عنه المدعوون إليه، فقال أحدهم: «إني اشتريت حقلًا وعلي أن أخرج فأنظره.» وقال غيره: «إني اشتريت أزواجًا من البقر وسأمضي لأجربها.» فغضب السيد وقال لعبده: «اذهب عجلًا إلى طرقات المدينة وأزقتها وهات إليَّ مَنْ تراه من المساكين، فعاد العبد إلى سيده وقال: قد فعلت كما أمرت ولا يزال في الرحبة مكان، قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتى يمتلئ بيتي … فلن يذوق عشائي أحد من أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا الدعاء.»

والدعاء الذي لم يستجبْهُ «المدعوون» هو الدعاء إلى الإله الواحد إله الخلق أجمعين؛ لأن شعب إسرائيل لا يعرف هذا الإله ولا يعبده ولا يثبت على ميثاقه، وإنما كان يعبد إلهًا يسميه إله إسرائيل، ويحسب أنه يختاره ويميزه على عامة خلقه لغير طاعة ولا إيمان، ولا فضيلة ولا إحسان، ولكنها وثيقة كتبها عليه منذ القدم فهو مسئول عنها كما يسأل المدين عندهم عن القرض ورباه!

فلم يكن أولئك «المدعوون» يذهبون في سبيل الإله الواحد الذي دعا إليه السيد المسيح عامة خلقه من المشرق والمغرب، ولكنه كان إله «عشيرة» واحدة يسميها عشيرته وشعبه وتسميه هي ربها وإلهها دون العالمين، وحتى هذا «الإله» المحتكر لم يؤمن به شعبه المزعوم إلا ليكفر به حينًا بعد حين، وفي ذلك يقول لهم النبي «أرميا» بين النذير والوعيد: «إن آباءكم قد تركوني وذهبوا وراء آلهة أخرى وعبدوها وسجدوا لها وإياي تركوا، وشريعتي لم يحفظوها، وأنتم أسأتم في عملكم أكثر من آبائكم، وها أنتم ذاهبون كل واحد وراء عناد قلبه الشرير.»

•••

فالمؤرخ الفرنسي اليهودي — هارون — لم يكذب التاريخ حين قال: إن عيسى — عليه السلام — نشأ من إسرائيل وبعث في إسرائيل، ولكنه ينكر التاريخ في صميمه ولا يصيب مرماه من دعواه إذا ساق هذا الخبر مساق الفخر لبني قومه الأقدمين، أو مساق الزلفى إلى أمم العالم بحقوق إسرائيل عليها؛ إذ ليس من الفخر لإسرائيل أن تلحق فيها بعثة عيسى بعثات المرسلين من قبله إلى ذلك الشعب الصغير؛ فإن افتقار الشعب الصغير إلى الدعوات المتلاحقة علامة بينة على الضلالة الدائمة والعوج الدائم والحاجة الدائمة إلى التقويم والتذكير.

وليس في بعثة السيد المسيح في بني إسرائيل لتوجيه الدعوة إلى العالم من سبب صالح للزلفى إلى أمم العالم القديم أو الحديث؛ لأن هذه البعثة حجة قائمة على إفلاس إسرائيل في أمانة الرسالة الإنسانية، وحكم عليها من الخالق ومن الخلق بأنها لم تكن أهلًا في الدين للنهوض بدعوة عالمية، ولم تكن عبادتها غير ضرب من ضروب العصبية العنصرية على سنة البداوة في أطوار الهمجية الأولى.

وبعد ألفي سنة من التقلب بين العلاقات بالأمم تعود إسرائيل إلى دعوة صهيون فلا تعرف لها أساسًا تقيمها عليه غير تلك العصبية العنصرية.

١  نشر في مجلة «منبر الإسلام»، أبريل سنة ١٩٦٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤