سَذَاجَة المُنْكِرِين

يحب الماديون والمنكرون الملحدون على العموم أن يصفوا أنفسهم بأنهم أناس بعيدون عن السذاجة، معصومون من آفة التصديق السريع وقبول الآراء والعقائد بغير برهان، وأنهم — بهذه الصفة — على نقيض المؤمنين أو المستعدين للإيمان، الذين يصدقون ما يلقى عليهم من عقائد الدين، ويفتحون عقولهم سهلة طيعة لما يسمونه بالخرافات أو الغرائب التي لا تقبل التصديق.

فإذا كان الإنكار بغير برهان قاطع شبيهًا بالتصديق بغير هذا البرهان، فالثابت من التجارب الطويلة في تواريخ الأديان والشكوك الفكرية أن السذاجة عند جماعة المنكرين والملحدين أشد وأظهر من السذاجة عند المؤمنين والمستعدين للإيمان؛ لأنهم يسرعون إلى الإنكار لغير سبب، أو لسبب واهن لا يكفي لتكوين الرأي، ولا يبلغ من القوة والإقناع مبلغ رأي واحد من جملة الآراء التي تدعو إلى الإيمان والتصديق بالدين، ولا ريب أن إنكار الغيب المجهول قضية تحتاج إلى مئات البراهين والشواهد حيث لا يحتاج الإيمان بما وراء الظواهر إلى أكثرَ من براهينِ الواقعِ المشاهد بالتجربة اليومية؛ وذلك أن الظواهر تخفي وراءها من أسرار الوجود ما هو أعمق وأبعد أمدًا من كل ظاهرة تتكشف للعقول، ولا تزال قابلة للمزيد من التكشف كلما تقدم الإنسان في وسائل الإظهار والتدقيق.

وآخر الكشوف العلمية أو الصناعية هو بذاته آخر الأدلة على سذاجة المنكرين وجمهرة الماديين الملحدين.

فقد خيل إليهم أن العقائد الدينية مهددة في هذا العصر بما يكشفه العلماء من وسائل ارتياد الفضاء، ووسائل تحضير المادة الحية في معامل الكيمياء.

ولو تمهلوا قليلًا لعلموا يقينًا أن كشوف العلم العصرية أدعى إلى تثبيت تلك العقائد من كل كشف علمي عرفه الناس قبل العصر الحديث.

فماذا في الرحلة إلى أقصى آفاق الفضاء من دواعي التشكيك في أمر السماء؟

إن المؤمنين بالدين من أبناء العصور الماضية لم يعتقدوا قط في أمر السماء عقيدة تمنع القول بارتياد الفضاء إلى أبعد غاياته، بل منهم من يقدر المسافة بين سماء وسماء بألوف الألوف من السنين كما جاء في بعض الأخبار التي يدين بها أشد الناس تصديقًا للأوصاف المحسوسة عن عالم الغيب، وأكثرهم يؤمنون بأن عوالم الغيب تقاس بمقاييس الروح المعنوية، ولا تحيط بها هذه المقاييس التي تدخل في حساب الرحلات إلى الفضاء.

ولقد فتحت كشوف الفلك الأخيرة أبوابًا لتصور الآفاق السماوية لم تكن مفتوحة أمام الحس ولا أمام العلم قبل هذا القرن العشرين، وأقرب هذه الأبواب إلى إدراكنا بأن المجرة الأولى تعلوها مجرة ثانية وثالثة، ولا مانع من رابعة وخامسة، أو سادسة وسابعة، إلى مدى الملايين وملاين الملايين من السنوات الضوئية، وهي في امتدادها وابتعادها واستحالة عبورها وارتيادها شيء يفوق إدراك العقول … فماذا في كل هذا، أو في بعض هذا، مما يهدد عقائد المتدينين؟ بل ماذا فيه مما يجيز الشك في عوالم الغيب وفي أسرار السماوات؟ بل ماذا فيه مما يفتح له المتدين عقله وبصيرته فلا يزيده إمعانًا في الإيمان واستعدادًا للعجب من روعة المجهول؟

أما الكشف عن مادة الحياة في معامل الكيمياء فأمره أعجب وأدل على السذاجة في تفكير جماعة الماديين وجمهرة الملحدين؛ فإن هذه الكشوف قد أثبتت من عالم الروح بمقدار ما نقضت من عالم المادة، فإنها تحدثنا عن جزء من مائة مليون جزء من السنتيمتر، كما تحدثنا عن جزء من ألف جزء من الثانية، فهل هناك فرق في الإدراك العقلي بين تصور القوة الروحية وتصور الفضاء أو الزمن حين ينتهيان إلى هذه المقادير؟

إن الملليمتر جزء واحد بين عشرة أجزاء في السنتيمتر، ونحن نراه غاية في الدقة والصغر، فكيف نتصور جزءًا من عشرة أجزاء في هذا الملليمتر الدقيق الصغير؛ وكيف نتصور بعد ذلك جزءًا من مائة، أو جزءًا من ألف، أو جزءًا من مليون، أو جزءًا من مائة مليون؟

هنا لا بد أن نعتقد أن العالم المادي يتسرب أمامنا إلى عالم الروح، وأن القوى التي تكمن فيها الحياة هي شيء قد بلغ من الخفاء غاية ما يبلغه خفاء أمر الروح، وأننا أمام إدراك للعقل والبصيرة لا تجدي فيه تقديرات المادة والامتداد، وهما أساس كل إدراك يلغط به جماعة «الماديين» والمنكرين.

في سنة ١٨٢٨ تمكن الكيمي الألماني وهلر Wohler من تحضير مادة «البولينا» Urea بمعمل الكيمياء، وهي مادة توجد في بول الإنسان والحيوانات العليا.

وكانت زهوة الغرور بالعلم التجريبي يومئذ في إبانها على ديدن «النعمة الحديثة» في كل مغنم جديد، فتعالت الصيحة من جوانب الماديين بين أرجاء الأرض، وراحوا يتباشرون باقتراب اليوم الذي تخرج فيه المخلوقات الحية من المعامل الكيمية، ولو كانت أصغر الأحياء.

وهنا ظهرت السذاجة الأولى من هؤلاء «الخرافيين» أعداء الخرافة.

فقد خلطوا «أولًا» بين المادة الحية والمادة التي توجد في جسوم الأحياء، فالماء والكربون وصنوف من الغازات توجد في الجسم الحي ولا يقال عنها: إنها مادة حية، وقد كان صنعُ الماء والكربون وصنوف تلك الغازات ميسورًا للكيميين قبل صنع البولينا، ولم يقل أحد: إن العلم بتركيبها الكيمي هو علم بتركيب مادة الأحياء، مستقلة أو ممتزجة بالجسوم.

وقد خلطوا ثانيًا بين تركيب جزء من الجسم الحي وتركيب الحياة في سائر أجزائه … فإن المهم في الأمر كله هو التفاعل بين تلك الأجزاء حالة اجتماعها وتبادل العمل بينها في بنية واحدة، وليس المهم تركيب جزء واحد منها على حدة، ولو كانت فيه مادة الحياة.

ولقد مضى على صنع «البولينا» في سنة ١٨٢٨ أكثر من مائة وثلاثين سنة ولم يتقدم معمل الكيمياء قيد شعرة في هذه الطريق.

وحدث في هذه السنة الأخيرة أن طائفة من العلماء الكيميين تمكنوا من معرفة حامض نووي يعرف باسم حامض «الدال نون ألف» DNA يوجد في الخلية الحية، ويرتبط بالخصائص الوراثية التي تنقطع إذا لم تتوافر فيها هذه المادة بالمقدار المطلوب.

فعادت الصيحة «المادية» من جديد، وتناقلت الصحف أخبار هذا الكشف بما شاءت من العناوين الطنانة، ومنها «أن الحياة تخلق في مصانع الكيمياء.»

ولكن علماء اليوم أعلم بعلمهم من أسلافهم قبل مائة وثلاثين سنة، وكان أحدهم «جرهارد شرام» Gerhard Schramm من أشهر علماء الألمان المشتغلين بهذه المباحث في البلاد الألمانية، فراعه هذا التهويل الذي ينم على الجهل والسذاجة، وبادر إلى تصحيح هذا الوهم في بعض الأحاديث الصحفية؛ لأن المادة المكشوفة ليست «بالمادة الحية» ولكنها من التراكيب التي تدخل في بنية الأحياء، وليس المعول على المادة نفسها، وإنما المعول على أشكالها وتقسيماتها داخل الخلية، داخل الناسلة Geno التي هي جزء من الصبغة Chromosome التي هي جزء من الخلية التي لا تُرى بالعين ولا بالمجاهر العادية.

وحسبنا أن نذكر أن مقدار هذه المادة في أقسام الخلية تقاس بوحدة الإنجستروم؛ وهي جزء من مائة مليون جزء من السنتيمتر، ولا يمكن أن تُرى بالمجهر العادي ولا بالمجهر الإلكتروني، ولكنها تقدر بالحساب بعد استعمال الأصباغ لتلوين أجزاء الملايين منها ثم تكبيرها مرة بعد مرة بعد مرة ألوف المرات إلى أن تُرى بالحجم الذي تدركه العين.

ومع هذه الدقة التي تفوق تصور العقل للأبعاد المادية تفقد هذه المادة كل صفة حيوية لها ما لم تكن لها أشكالها وتقسيماتها وفجواتها التي تكمن فيها خصائصها الحيوية، ولا يكفي هذا لتزويدها بتلك الخصائص كلها، بل ينبغي أن توجد الصبغات بعدد مقدور في كل نوع من أنواع الأحياء، وأن تكون قابلة للانقسام بين خلايا الذكر وخلايا الأنثى بالتركيب الذي يسمح بالتعاون بينها بعد الانقسام والتركيب، ثم إعادة الانقسام والتركيب في الرحم، ملايين المرات.

فالمادة العامة التي تتألف منها الخلايا التناسلية متشابهة في جميع الحيوانات، ولكن الفرق بين أشكال الأجزاء في الخلية وبين تقسيمات تلك الأجزاء وفجواتها هو الذي تتولد منه فروق تنشئ من هذه الناسلة قطًّا أو زرافة، أو تنشئ منها إنسانًا على أروع مثال لبني آدم وحواء.

وللعدد شأنه الأكبر في تنويع الأحياء، فلا بد من عدد من الصبغيات لا يتغير في كل نوع؛ لأن كل صبغية تكمل غيرها عند تركيب الأعضاء، وقد تبدو الصبغية شبيهة بأخواتها في كل شيء، ولكنها بعد الانقسام والتركيب تبدو كأنها مخصصة لعمل واحد يتوقف على بعضه خلق الجلد أو خلق الشعر أو خلق الأعصاب أو خلق الدماغ.

والصبغيات في النوع الواحد متشابهة غاية التشابه الذي ندركه بالعيان أو بالحساب والتقدير، ولكنها مع ذلك مزدحمة بالفوارق التي لا تُحصى، والتي يترتب عليها أن يلد هذا الإنسان ولدًا أبيض اللون، أصفر الشعر، طويل القامة، قوي البنية، موفور الذكاء، قويم الأخلاق، وأن يلد إنسان غيره ولدًا على خلاف تلك الصفات.

فأين هو المعمل الكيمي الذي يودع في جزء من مائة مليون جزء من السنتيمتر خصائص تنتقل فيها بعد الانقسام مليون مرة هذه الأعضاء والوظائف الجسدية والنفسية على اختلافها بين الملايين من أبناء النوع الواحد، وبين ملايين الملايين من أفراد جمع الأحياء؟

لا سذاجة في عقل المؤمن الذي يعتقد أن الحياة قوة روحية تعلو على مقاييس المادة، ولكن السذاجة كلها في عقل المادي «الحصيف» الذي يصدق أن المعمل الكيمي يودع تلك الفوارق كلها في امتداد من المادة يعجز العقل عن إدراكه، مهما يبلغ من قدرته على حسبانه بالأرقام والمعادلات.

والمسألة — بعد — ليست مسألة سذاجة دينية أو حصافة مادية، ولكنها مسألة استعداد للإيمان بمجهولٍ أثبتَ من المعلوم، وتزداد الحاجة إلى الإيمان بذلك المجهول المغيب عن العقول كلما اتسع نطاق العلم، وتعلم العلماء كيف يتأدبون بأدب العلم الصحيح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤