الإسْلامُ في أفريقية الشرقيَّة

ألف هذا الكتيب الدكتور ليندون هاريس؛ علم من أعلام التبشير في القارة الأفريقية، وقصره على البحث في أحوال الإسلام والمسلمين بين أهل زنجبار وبمبا وتنجنيقا وما جاورها من بلاد السواحل الأفريقية، وجمع فيه معلومات متفرقة يتحرى في بعضها الدقة العلمية والمطابقة للمشاهدات الواقعة؛ لأنه يريد بها إطلاع العاملين في التبشير على حقيقة الموقف للاستعداد لها بما يصلح لها من العدة الكافية والوسيلة المجدية، ولا يملك في بعضها الآخر أن يتجرد من آرائه وأهوائه كلما تعرض لشرح العقائد الإسلامية، وتفسير الحوادث التاريخية ومآثر المسلمين في العالم كله، وفي تلك البلاد على التخصيص. فهو فيما عرض له من هذه الأمور مصطبغ بصبغته التبشيرية على الرغم منه أو باختياره ورضاه؛ مطاوعة لغايته وهواه.

بدأ معلوماته باقتباس كلمة الحكيم الإنجليزي صمويل جونسون التي يقول فيها: «إن المسيحية والإسلام في عالم العقيدة هما الديانتان الجديرتان بالعناية، وكل ما عداهما فهو بربرية.»

وعقب على هذه الكلمة فقال: إن وصف البربرية شديد بالنسبة إلى الديانات الأخرى التي كشفت حقائقها بعد عصر الدكتور جونسون، ولكنه استرسل في وصف الإسلام ليقول: إنه الديانة الوحيدة التي تعد على الدوام «تحديًا» أو مناجزة لجهود التبشير والمبشرين، ثم مضى يسرد المعلومات التي تطابق الواقع أحيانًا، وتناقضه أحيانًا، ونجتزئ منها بالمهم من وجهة النظر الإسلامية في السطور التالية.

يقول الدكتور ليندون هاريس — بعد ذلك التمهيد — بصريح العبارة: إن جهود التبشير بين المسلمين في أفريقية الشرقية عقيمة لا تؤذن بالنجاح القريب ولا بالنجاح المضمون، وإن نتيجتها كلها إلى اليوم عدم Nil، ولا يرجى أن تتغير هذه الحالة بغير جهود متواصلة يطول بها المطال.

ويخرج من هذه النتيجة بتقرير الواقع الممكن من أعمال التبشير، وهو توجيه الجهود إلى أبناء البلاد الأفريقيين الوثنيين؛ فإن الجهود في هذه الوجهة لا تذهب سدى، ولا يزال الأمل في نجاحها مفتح الأبواب لمن يحسنون الوصول إليها، وإن كانت هذه الأبواب مفتحة للمبشرين وللعاملين على نشر الدعوة الدينية من المسلمين، ومفتحة كذلك للمسلمين الذين يستميلون الوطنيين إلى ديانتهم بغير دعوة منتظمة.

ويذكر الدكتور ليندون عقبات الدعوتين بين القبائل الوطنية التي تحكم على الغرباء بالسمعة العامة بين سابقة ولاحقة.

فالمسلمون يَشيع عنهم — أو يُشاع عنهم — أنهم وحدهم المسئولون عن أعمال النخاسة في العصور الماضية، ولا يذكر المؤلف شيئًا عن النخاسة في أفريقية الغربية، وهي تدل بآثارها على الفارق بين النخاسة المنسوبة إلى تجار العرب وغيرهم من الآسيويين، وبين النخاسة الأوروبية الأمريكية التي نقلت السود إلى العالم الجديد، وعدتهم الآن هناك لا تقل عن ستة عشر مليونًا من الرجال والنساء، وهم أضعاف الأرقاء السود الذين نقلوا من بلادهم الآسيوية في عدة قرون.

أما التبشير المسيحي فالدكتور ليندون يقول عن السمة العامة التي تعوقه: إن الوطنيين يقرنون بين الرجل الأبيض والمستعمر وبين ديانته وديانة المبشرين، وإن جماعات التبشير تحسن صنعًا إذا اتخذت في السياسة مسلكًا يعزل فكرة التبشير عن فكرة الاستعمار في عقول أبناء البلاد أصلًا.

ويرى المؤلف من أعمال الدعوتين أن القرآن الكريم ترجم إلى اللغة السواحلية ترجمتين: إحداهما بقلم كاتون ديل المبشر سنة ١٩١٣ لم يقبل عليها أحد من الوثنيين، وكاد أن ينفرد المسلمون باقتنائها، وإن كانوا لا يعولون عليها.

والترجمة الأخرى نقلها «الأحمديون» الهنود وحشوها بالبحوث الفقهية «اللاهوتية» التي لا يطيقها أبناء البلاد الأصلاء، ويرتضيها المسلمون أهل السنة من قراء الكتاب باللغة العربية.

ويتطرف المؤلف في هذا السياق إلى الشيع الإسلامية فيروي كلمة للشاعر محمد إقبال ينعى فيها على المسلمين في بلاده أنهم أصبحوا كالبراهمة في تعدد الشيع والنزعات.

ومن المشاهدات التي يرددها المؤلف أن أثر المسلمين في بلاد العرب الجنوبية أظهرُ من أثر إخوانهم الذين ينتمون إلى سائر الأقطار الآسيوية، ويستدل على ذلك بعدد الأفريقيين الذين يقبلون على مساجد هؤلاء وهؤلاء، وبالصلات الاجتماعية التي تنعقد بين كل من الفريقين وبين الأفريقيين السواحليين وغير السواحليين الذين يدينون بالإسلام؛ فإن أبناء البلاد الأصلاء يأنسون إلى الجالية العربية عندهم منذ عهد بعيد.

ولا يحاول المؤلف أن يطمس الفارق بين أثر العرب وأثر الأوروبيين الأسبقين إلى استعمار أفريقية الشرقية؛ فإنه يقرر أن البرتغاليين قضوا فيها نحو مائتي سنة لم يتركوا بعدها أثرًا من آثار الحضارة النافعة، ولم يعقبوا بعدهم غير ذكرى الخراب الذي حل على أيديهم بالمعاهد والمعابد الإسلامية، ولم يزالوا حيثما نزلوا يخربون وينهبون حتى استغاث السواحليون بالإمام سعيد صاحب عمان، وهو والد سعيد الأول — أول سلطان تولى من هذه الأسرة حكم زنجبار.

أما العرب الذين انتقلوا إلى السواحل، فإنهم نقلوا إليها الكتابة والعمارة وأدوات الحضارة، وطبعوها بطابعهم في كثير من أحوال المعيشة.

ويتساءل المؤلف عن المستقبل فيقول: ماذا عند العرب يعطونه الأفريقيين بعد اليوم؟ وماذا عند الأوروبيين؟

ثم يجيب قائلًا: إن الأوروبيين يعطون المدارس والمستشفيات والمرافق العصرية، ويرجحون على العرب بمدارسهم التي تعد الطالب الوطني لأعمال الحياة العامة والخاصة في العصر الحديث، ولكن المدارس العربية ينحصر عملها في تحفيظ القرآن وتعليم الهجاء والمطالعة الأولية، ولا تصحب هذه المدارس — أو المكاتب — أعمال أخرى من قبيل أعمال الخدمة الاجتماعية التي ينشئها الغربيون، إلا قليلًا من المعونة يقوم بها أهل الخير هنا وهناك من قبيل الصدقة والإحسان.

يقول: «إن الإقبال على التعليم الحديث وفقًا للبرامج الأوروبية يقبل عليه المسيحيون والمسلمون على السواء، وقد كان المسيحيون يدخلون أبناءهم مدارس المبشرين ويؤثر المسلمون — لأسباب دينية — أن يعلموا أبناءهم في المدارس الحكومية، ولكن هذه المدارس مبعثرة متباعدة بين أطراف البلاد الداخلية، وأكثر التعليم على البرنامج الغربي تتولاه مدارس التبشير.»

ثم يقول: «إلا أن مدارس السواحل الإسلامية التي تشرف عليها الحكومة تقارن بأفضل المدارس التي يديرها المبشرون، ويقبل عليها أبناء الهنود والعرب، مع اتجاه الرغبة أخيرًا إلى نشر التعليم العصري وقيام الطائفة الإسماعيلية على الأكثر ببناء المدارس لنشر هذا التعليم، وقد تم بناء نحو خمسين مدرسة على البرنامج الحديث منها ثلاث مدارس ثانوية نشأت كلها بعد الحرب العالمية الثانية.»

ويوازن المؤلف بين الوسائل فيرى أن وسائل الإسلام أقل من وسائل المبشرين، ولكنه قدم لذلك بتردده في الحكم على المستقبل فقال: «إنه ليس في الوسع أن ينبئ أحد بمصير الأمور في بلاد تتوالى فيها المفاجآت على غير انتظار، فلا يبعد أن يميل رقاص الساعة كَرَّةً أخرى إلى جانب الإسلام؛ لأنه عامل من العوامل الحاضرة أبدًا في هذه البلاد.»

وعند المؤلف أن المؤثرات المعنوية تتقابل في نفوس المسلمين فتعطيهم من جانب عوضًا مما تسلبهم من الجانب الآخر، ولا يلبث المسلم أن يستكين شعورًا منه بالفارق بينه وبين الغربيين في الزمن الحديث حتى تثوب إليه العزة فخرًا بماضي الإسلام العريق، وإن هذا الفخر — كما يقول المؤلف — لعامل مهم جدًّا في هذا الموقع من بلاد العالم؛ إذ ليس للأفريقي تاريخ يذكره ويفخر به قبل أجيال معدودات.

ويخلص المؤلف من ذكريات الماضي ونبوءات المستقبل إلى خطة يرى أنها كفيلة بإتمام جهود المبشرين الأوروبيين التي يعجزون عنها في موقف المقابلة بين التراث الإسلامي العريق والتراث الأفريقي الحديث؛ فإن المبشر الأوروبي قليل الجدوى في هذا المجال، ولكن جدواه القريبة إنما تنتظر من المبشرين أبناء البلاد الأصلاء الذين تحولوا عن عقائدهم الأولى على أيدي بعثات التبشير منذ سنين؛ فإنهم أحرى أن يقابلوا الدعوة الإسلامية بشعورهم الوطني الديني، فيؤدون هنا عملًا لا ينتظر من المبشرين البيض.

قال: «إن ابن القبيلة الأفريقي يلمح نظافة المسلم شخصًا وبَزَّةً، كما يلمح المكانة التي يكسبها بأدب «الحشمة» الاجتماعية، وتتعلق مكانة الرجل الأفريقي بهذه الحشمة المصطلح عليها، وهي مكانة ذات شأن حيث يعيش الناس على مرأى بعضهم من بعض في حيزهم المحدود، فلا جرم أن يعتز المسلم بهذه الحشمة فوق اعتزازه بكل شيء؛ لأنها مقياس خلقه وحياته، وبها يستدعي المناظرة ومحاولة التشبه به من أبناء البلاد الأصلاء.»

ثم ختم الرسالة ملحًّا على التنبيه إلى «المناجزة المتحدية» من قبل الإسلام، مهيبًا بأنصار التبشير الغربيين أن يضاعفوا العون الذي لا غنى للتبشير عنه لبلوغ الغاية منه … «فليس في وسع البعوث التبشيرية أن تعهد للمبشرين من أبناء أفريقية الأصلاء دعوة إخوانهم المسلمين، ولكنها بغير هؤلاء لا يرجى لها نجاح.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤