الفصل الخامس عشر

أخطر رسالة عن إسرائيل

«كتبنا عن نظرية هولاكو التتري في غزو البلاد وقهر شعوبها، وكيف أن طريقتَه كانت إذا أراد أن يغزو عاصمة كبيرة مثلًا، أن يَختار مدينة صغيرة قريبة من تلك العاصِمة، ويقوم جيشُه بمذبحة هائلة يُفني فيها تسعة أعشار سكان المدينة، ثُمَّ يسمح للباقي بالهرب ذُعرًا إلى العاصمة ليحكوا عمَّا حدث وعن الهول الذي رأوه وأفلتوا منه، والنتيجة أن جيوشه كانت لا تكاد تصل العاصمة حتى يكون أهلها قد فرُّوا هالِعين أو استسلم له الذين لم يفرُّوا، وهكذا يَستولي على المدينة دون أي قتال ودون أن يَخسر مُحاربًا واحدًا، وكيف أن الصهيونية الحديثة قد اقتبست هذه الطريقة مثلما كان هتلر قد اقتبسها قبلًا، وأنها استعملت نفس الوسيلة للاستيلاء على الأرض في فلسطين.»

كتبتُ هذا قبل أن أقرأ كتاب الفيلسوف الذي أسلم أخيرًا رجاء جارودي عن «أحلام الصهيونية وأضاليلها»، وأمس فقط انتهيت من الكتاب، فإذا بكل ما فكَّرت فيه وتصورت أنه نوع من الاجتهاد الشخصي في رؤية الصهيونية وأحلامها وتكتيكاتها، ليس سوى الحقيقة والواقع؛ فها هو مفكِّر فرنسي تَفصلني عنه عشرات السنين وآلاف الأميال، وناتج حضارة مُختلفة تمامًا، وليس عربيًّا عانى أو يُعاني شخصيًّا من جرائم الصهيونية، قد اكتشَفَ وتثبَّت من نفس الأشياء التي تخيَّلتُها أحلامًا غير قابلة للتصديق، وانظر معي وهو يقول إن للجنرال آرييل شارون، الذي كان الرجل الثاني في النظام الحاكم، وجلاد لبنان، ماضيًا عريقًا في الاضطهاد والتعذيب يُلقي الضوء على نشاطه الأخير؛ فهو الذي كلفه موشي ديان في أغسطس (آب) ١٩٥٣ بمهمة إنشاء وقيادة «الوحدة ١٠١» المُناط بها التنكيل بأهالي القرى الحدودية، لزَرعِ الرعب في النفوس، ودفع السكان غير اليهود إلى الرحيل طبقًا لأول مطالب عقيدة الصهيونية السياسية.

أمَّا أولى غارات شارون وزبانيته، فقد كانت على «قبية» القرية الفلسطينية الأردنية الصغيرة، ليلة ١٥ / ١٠ / ١٩٥٤ حينما قتل ٦٦ شخصًا (كان ثلاثة أرباع عددهم من النساء والأطفال)، وقد أثبتَ مراقبو الأمم المتحدة العسكريون في تقريرهم المرفوع إلى مجلس الأمن الدولي أنهم رأوا — بعد وصولهم إلى «قبية»، عقب ساعتَين من المَجزرة — أجسادًا مزقها الرصاص، وآثار رصاص فوق الأبواب والنوافذ في البيوت المهدمة، مما يدلُّ على أن السكان قد أُجبِروا على البقاء في الداخل، بينما كانت المنازل تَنهار عليهم، والشهادات مجمعة على أن الجنود الإسرائيليين في ليلة الرعب هذه كانوا يتجوَّلون في جنوب القرية وهم يُفجِّرون البيوت ويُطلِقون النار من أسلحتهم الأوتوماتيكية على أبوابها ونَوافذها ويقذفونها بالقنابل اليدوية.

وبين الحوادث المثيرة التي سبقت أولى حروب سيناء، كانت مذابح خان يونس التي قادَها شارون شخصيًّا في ليل ٣١ / ٨ / ١٩٥٥ في الأراضي المصرية، كما قاد الغارات «التأديبية» على الضفة الشرقية من بحيرة طبريا.

أدان هذا العمل مجلس الأمن الدولي في ١٩ / ١ / ١٩٥٦.

أمَّا إسحق شامير وزير الخارجية، وهو الرجل الثالث في النظام السياسي، فإن له ماضيًا مثقَلًا كماضي صاحبه، حتى ولو لم نَتناول منه سوى ما يتعلق بعلاقاته مع الدول الأخرى والمنظمات الدولية.

العنصرية تسلَّطت على أفكاره العملية ونظرته إلى العالم والعلاقات الدولية، وهي واضِحة في مقال في عدد ١٤ / ١١ / ١٩٧٥ من صحيفة «يديعوت أحرونوت»، يُعلِّق فيه على تصديق الأمم المتحدة على قرار اعتبار الصهيونية شكلًا من أشكال التمييز العنصري.

«إذ كيف يتسنى لجماعات بدائية (يقصد كل شعوب العالم في هيئة الأمم) أن تكون لنفسِها آراء خاصة بها؟ إنَّ الضربة التي تلقَّيناها أخيرًا من هيئة الأمم المتحدة يجب أن تُقنعنا من جديد بأننا لسنا شعبًا كالآخرين.»

وكنتُ قد كتبت أيضًا أن طريقة اليهود في التعصُّب والعنصرية في حكم العالم هي التسلُّل لحكم أقوى دولة فيه، ومن خلالها يَستطيعون حكم العالم انتهاءً إلى إقامة وطن لهم يفرضون من خلاله سيطرتهم الذاتية على العالم كله، وهافي واقع عربي لا يُمكن هو جارودي يكتب في هذا المجال فيقول: إنَّ امتياز إسحق شامير مُستقًى من تلك النظرة؛ فشامير كان أحد الموجِّهين الثلاثة لحركة «ليهي» المعروفة بمجموعة «شتيرن».

وقد كشف المؤرِّخ الألماني كلاوس بوخن أثناء مراجعة محفوظات الرايخ الثالث السرية عن خطة تحالُف اقترحتها مجموعة «شتيرن» في يناير (كانون الثاني) ١٩٤١، على وزير خارجية هتلر، وقد حمل المقترحات الملحَق البحري في السفارة الألمانية في تركيا «الذي كان يُكلَّف بمهمات خصوصية في بلدان الشرق الأوسط»، هذا الملحق نقل في رسالته المؤرخة في ١١ / ١ / ١٩٤١، مقترحات «ليهي» أو مجموعة «شتيرن»، فإذا هي «إجلاء الجماهير اليهودية عن أوروبا كشرط أوَّلي لحل المشكلة اليهودية.» لكن هذا لم يكن ممكنًا دون إسكان هذه الجماهير في دولة يهودية ذات حدود تاريخية، وهو ما يهدف إليه نشاط «ليهي» وسعيُها سنوات عديدة عبر تنظيمها العسكري القومي:
  • (١)

    من الممكن أن تكون هناك مصالح مشتركة بين إقامة نظام جديد في أوروبا طبقًا للمفاهيم الألمانية، وبين طموحات الشعب اليهودي الحقيقية كما تُجسِّدها حركة «ليهي».

  • (٢)

    التعاون بين ألمانيا جديدة وأمة عبرية مُتجدِّدة سيكون ممكنًا.

  • (٣)

    إقامة دولة يهودية تاريخية على أساسٍ قومي وحكم الحزب الواحد، مرتبطة بمُعاهَدة مع الرايخ الألماني يُمكن أن تُساهم في تعزيز مركز ألمانيا في الشرق الأدنى وتعاون الحركة الإسرائيلية من أجل الحرية، «ليهي» يسير في الاتجاه الذي اختطَّه مستشار الرايخ الألماني السابق هتلر، عندما أشار في خطابه الأخير إلى القبول بأي ترتيب أو تحالُف في سبيل عزل إنجلترا ودحرها.

نفس الحقد على إنجلترا دفع شامير على رأس جماعة «شتيرن» إلى اغتيال وزير الدولة الإنكليزي لشئون الشرق الأوسط اللورد موين، في القاهرة، في نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٤٤، ثُمَّ وبنفس الطريقة الإرهابية إلى اغتيال الكونت برنادوت وسيط الأمم المتحدة في ١٧ / ٩ / ١٩٤٨ في القدس.

وقد كتَب الحاخام هارولد رينهارت من كنيسة «وست إند» في لندن في عدد ٢٢ / ٩ / ١٩٤٨ من جريدة «تايمز» ما يلي:

الجنون وحده هو الذي يُمكن أن يفسر مقتل الكونت برنادوت، لكن المعروف من تجربة النازيين الحاسمة أن الفاصل بين الجنون والقومية غير المحكومة ليس واضحًا؛ فالقومية العارية لا تعرف لها قانونًا غير الضرورة، وتحمس لأجل المجال الحيوي ليس في نطاق العقل ولا الرحمة. إن قومية عارية تتغذى من اليأس والخيبة تُخيِّم أحيانًا على يهود اليوم، خلافًا لكل المأثورات اليهودية.

ولكن مشكلة المؤسسة اليهودية الصهيونية ليست في الأشخاص، بل في العقيدة، عقيدة الصهيونية السياسية التي ساروا بها إلى أقصى الحدود. إنَّ وحشيةً تتقنَّع بوجه بشري لا تكفُّ عن كونها وحشية.

ولا شك أن ثمة من قد يفضل شيمون بيريز وطريقته، ولكن أي تغيرات ستأتي بها هذه «المعارضة» التي تُعارض شيئًا حوى النقاط الأساسية في السياسة الصهيونية؟

على أيَّة حال، فقد سبق لهذا الفريق أن وصل إلى الحكم، وكان شيمون بيريز من الأتباع المفضَّلين لبن جوريون، الذي رأينا كيف وضع الخطوط الرئيسية لبرنامج الصهيونية السياسية حتى في أسوأ أبعادِه ونتائجه.

فهل كان بيريز أكثر إنسانية تجاه الفلسطينيين؟

حينما أبدى بيريز سخطه في الكنيست على مسئولية وزير الدفاع آرييل شارون عن مذابح صبرا وشاتيلا، أجاب شارون بقوله: «أين كان الضباط الإسرائيليُّون حينما كان الفلسطينيون يُقتَلون في تل الزعتر؟ لقد كنت يومئذٍ يا بيريز وزيرًا للدفاع.»

واقرأ معي أيضًا جارودي وهو يقول: «صحيح أن آرييل شارون هو الذي راح يتباهى بجرائمه قائلًا: يجب أن نَضرب وأن نَضرب بلا هوادة، يجب ضرب الإرهابيين في كل مكان في «إسرائيل» وفي البلاد العربية، وفي كل مكان في الدنيا، وأنا أعرف كيف يكون ضربهم، لأني قد فعلت ذلك، والتحرُّك لا يتمُّ فقط بعد قيامهم بعمليات، بل كل يوم وفي كل مكان، فإذا وصل إلى علمنا أن بعضهم موجود في بلد عربي أو في بلد من بلاد أوروبا، فيجب الوصول إليه ليس في وضح النهار بل خفية، وهكذا يختفي أحدهم فجأة أو يُعثَر عليه ميتًا أو مطعونًا بخنجر في إحدى النوادي الليلية الأوروبية.»

ما قاله شارون يفعله حزب العمل؛ لأن إرهاب الدولة هو في صميم منطق الصهيونية السياسية، فبعد التحقيق الطويل في معتقل وائل زعيتر ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في روما بإيطاليا يوم ١٦ / ١ / ١٩٧٢، أوضحت محكمة الجنايات في روما في نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٨١ أنها لا تستطيع إدانة فرد معيَّن؛ لأنها أمام قضية سياسية ليست من اختصاصها.

هذه الجريمة من فعل سياسة مرسومة مسبقًا وموجهة بطريقة منهجية وبفعالية عسكرية بواسطة جهاز تابع لدولة «إسرائيل».

كما أشارت المحكمة إلى أن تصفية ستة فلسطينيين جسديًّا بين أكتوبر (تشرين الأول) ٧٢ ويوليو (تموز) ٧٣ قد سبقتها تصريحات رسمية وغير رسمية من قِبَل مسئولين إسرائيليين تعلن حربًا لا هوادةَ فيها وبلا رحمة ضد المقاومة الفلسطينية وممثليها في كل مكان وفي كل زمان وبكل الوسائل الممكنة، ورأت المحكمة وجوب إسناد هذه الجرائم إلى «أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وبشكل خاص إلى القسم التابع لهذه المخابرات المكلَّف بالاتصالات الخارجية».

بعد مقتل وائل زعيتر، كان تعليق رئيسة الوزراء «الاشتراكية» جولدا مائير مُشابهًا لأقوال آرييل شارون؛ فقد أجابت عن سؤال في الكنيست يوم ١٨ / ١١ / ١٩٧٢ أي بعد ٤٨ ساعة من وقوع الجريمة، بما يلي:

«كل ما أعرفه أن الرصاصات قد بلغت بالفعل هدفها.» مَن وضع القوانين العنصرية حول «العودة»؟

من نظم مراحل اغتصاب الأرض؟

من ضرب العاملين فيها؟ من قام بالاعتداء على السويس؟ (هيَّأ له في باريس موشي ديان وشيمون بيريز) ثُمَّ الاعتداء عام ١٩٦٧؟ من هنا يفهم موقف المستشار النمساوي برونو كرايسكي اليهودي الاشتراكي الذي قُتلت عائلته في معسكرات الاعتقال الهتلرية والقائل بعد التنويه بالصراع المتفاقم داخل الاشتراكية الدولية: «لا أريد أن تكون لي علاقة ﺑ «إسرائيل» هذه.»

•••

ويُلخِّص جارودي الموقف بقوله:

ليس للدولة الصهيونية حينما زُرعت أيَّة مشروعية لا تاريخية ولا توراتية ولا قانونية، كذلك ليست لها أخلاقية في تصرفها بالداخل والخارج «عنصرية – توسعية – إرهاب دولة»، هي دولة كغيرها، بل بين أسوأ أقرانها، شبيهة بالدول التي ترتبط بها أوثق ارتباط كجنوب أفريقيا، وتأخذ عنها ممارسة التمييز العنصري والمنهج الاستعماري القديم.

هكذا تكلم جارودي في كتابه، وما كتاباته إلا حقائق استقاها بعين الباحث الدءوب المفتش عن الحقائق وحدها وبدون أي تصورات أو أوهام.

وهكذا رحت أقرأ جارودي وأنا حائر؛ هل بلغ به الحذْق الشخصي مُنتهاه بالعثور على أطراف هذه الفكرة الجهنمية كلها، أم أننا، لأننا لصيقون بالقضية، نستطيع أن نتصور فعلًا كنه ما يُدبَّر لنا؟

إن كتاب جارودي لا يُمكن أن يمرَّ هكذا مرور الكرام. إن الحقائق الموجودة به لا بُدَّ أن تُقرَّر على كل طلبة وطالبات وشباب العرب ورجالهم ليقرءوها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤