الفصل الثالث والعشرون

المعجزة المقلوبة

لا أجد مثلًا حيًّا ملموسًا على ما هو حادث لنا قدر حكاية السوبر.

وبدلًا من أن أصدع رأسي ورأس القارئ — حتى المثقَّف — بتحليلات واصطلاحات لأُوضِّح ما أريد أن أقول، فلنأخذ كما قلتُ حكاية السجائر السوبر.

وبصرف النظر عن رأي الأطباء في التدخين، ورأي الصديق الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء في مضارِّه إلى درجة أنه يمنع التدخين في عيادته وحتى في أي ندوة يُدعى إليها، ومعه حق؛ فالسجائر مُضرَّة فعلًا، لا جدال في هذا، وهي ليسَت مُضرة صحيًّا فقط، بل إنَّ ضررها المادي والمَعنوي لا يقلُّ خطورة، ومع هذا، فليس هذا هو ما قصدتُ إليه …

في السنوات الأخيرة القليلة أُتيحت لي شبه جولة حول كثيرٍ من بلدان العالم بشرقه وغربه، ومن أقصى جنوب شرقي آسيا إلى أيسلندا، ومن أقصى درجات الفقر في بلاد عالَمنا الثالث إلى مجتمعات الوَفرة والكثرة والعز، ومع هذا، فلم أرَ في أي مكان من بقاع الدنيا طابورًا يقف قرب الثانية عشرة عند بائعي وأكشاك السجائر يَنتظِر أن تُهلَّ عربة الدخان ليحظى الواقف فيه بعلبة سجائر …

أبدًا لم أرَ، ولا أعتقد أن أحدًا رأى شيئًا كهذا … أنا أفهم أن نقف في طوابير تَذاكر، طوابير لحمة، طوابير عيش، أمَّا السجائر فهي الشيء الذي أستطيع أن أقول إننا نَنفرد به، وبجدارة، دونًا عن بلاد العالم …

ذلك لأن السجائر، بجانب أنها مزاج شعبي، مصدر دخل رئيسي لأي دولة من دول العالم؛ بحيث إن الدولة في أي مكان من الدنيا تَحتكر صناعة السجائر، بل وتحتكر استيراد السجائر، بل وفي السنوات الأخيرة لم تَعُد معظم دول العالم تستورد السجائر الأمريكية أو الإنجليزية المصنعة في الخارج، وإنما هي تأخذ امتياز تصنيعها في بلادها، لتكسب منها أكثر من ناحية، ومن ناحية أخرى لتضبط توريد الجمارك عنها وكذلك الضرائب المستحقة عليها.

فالسجائر نوع من الدعم.

بل هي أهم دعم.

ولكنه ليس دعمًا تدفعه الحكومة لاحتياجات الشعب الغذائية والكسائية، ولكنه الدعم الأكبر الذي تدفعه جماهير الشعب لإيرادات الدولة، دعم يصل في بعض الأحيان إلى مئات الملايين من الجنيهات كل عام، وفي مصر تصل حصيلة الضرائب المحصَّلة على الإنتاج المحلي للسجائر رقمًا قرأت ذات مرة أنه مائة وخمسون مليونًا من الجنيهات، وإن كنتُ أعتقد أنه أكثر.

بمعنى أن صناعة السجائر في أي بلد من بلاد العالم، أبدًا لا تخسر، إنها بالضرورة أربح وأضمن صناعة تقوم بها الدولة، جميل هذا؟

كيف يحدث إذن أن الدولة التي تَربح تلك الملايين من صناعة كهذه تبدأ تُهمل هذه الصناعة، بل المثير للذُّعر أني قرأتُ مرةً أنها تخسر، وأن الحكومة تدفع دعمًا للسجائر المحلية لتَبيعها بالسعر الذي تَبيعها به.

وهذا في رأيي مسألة كان من المُمكن في أي دولة من الدول وفي أي مجتمع من المجتمعات أن تُثير الذُّعر، فلا بُدَّ أن شيئًا مهولًا رهيبًا قد حدث لهذه الدولة ولذلك المجتمع؛ فالسيجارة في أي مكان من العالم لا تزيد تكاليفها على المليمَين في الجملة، بمعنى أن علبة السجائر لا تزيد في تكاليفها في أمريكا حتى على أربعة قروش مصرية، والفرق بين القروش الأربعة والخمسة والتسعين قرشًا أو «سنتيمًا» التي تُباع بها هو أرباح خالصة للمُنتِج، الذي هو الدولة، وللضرائب المسدَّدة — للدولة أيضًا — عن كلِّ علبة، بمعنى أن المواطن المصري يدفع للدولة في كل علبة سجائر يشتريها ضريبة لا تقل عن الثلاثين قرشًا.

واضرب ثلاثين قرشًا في كذا مليون — أو مليار! — علبة في السنة تخرج بحاصل رهيب لدخل الدولة من صناعة السجائر.

فكيف بتلك المعجزة المعكوسة تحدث في مصر، وتُصبح السجائر مصدر خسارة، وإن لم تكن مصدر خسارة، ويُصبح المعروض منها أقل بكثير جِدًّا من المطلوب؟ ما معنى هذا؟

معناه:

أوَّلًا: إنَّ القائمين على صناعة السجائر إمَّا أناسٌ غير موجودين أصلًا؛ لأنهم ظلوا يَرون الوضع يتدهور في الآلات وفي الإنتاج وهم يَحلُّون الكلمات المتقاطعة أو غائبون عن الوعي تمامًا؛ فصناعة كصناعة السجائر لا تتدهور بين يوم وليلة، ولا يقلُّ المعروض منها عن المطلوب بين يوم وليلة أيضًا. إن لهذا كله شواهدَ مُبكرة، وباعتبار السجائر مصدر دخل للدولة، كان مفروضًا أن تَنتبه «الدولة» إلى النقص الخطير في مواردها، وكان مفروضًا من وزارة الصناعة أن تستجيب إلى مذكِّرات القائمين على صناعة السجائر إن وُجدت أو أن تَنتبه هي إلى هذا الخلل المُروِّع وتُبادر بعلاجه، وعلاجه لم يكن يتجاوَز استيراد مكنِ مَزجٍ ولفٍّ ببضع عشرات من الآلاف أو حتى الملايين من الجنيهات ليستمرَّ هذا الدخل الأساسي الذي لا بُدَّ يجيء لتُنفقه الحكومة على إصلاح حال الشعب.

ولكن لا المسئولون عن صناعة الدخان تنبَّهوا؛ بدليل أني لم اسمع لأيهم صوتًا طوال السنوات الكثيرة الماضية، ولم أسمع أن أحدًا منهم استقال أو حتى هدَّد بالاستقالة لأنه لم يجد صدًى لتنبيهه لوزارة الصناعة، ولم أسمع شيئًا بالمرة.

إلى أن وجدت ووجدنا جميعًا، أسعار السجائر قد بدأت تَرتفِع، والطوابير قد بدأت، وما لبثت أن امتدَّت واستطالت، وكاد يَتوقَّف الإنتاج، لا أقصد إنتاج السجائر …

ولكن إنتاج المواطنين الذين يُدخِّنون، وهم بالملايين … وكيف يُنتج مواطن موظَّف أو عامل أو حتى عسكري، ولقد رأيت عساكر المرور يَتركون نقاطهم ليَقِفوا في الطابور، كيف ينتج واحد من هؤلاء وهو يقضي الفترة من التاسعة والنصف إلى العاشرة يُحاول الحصول على سنتدويتش طعمية، ومن العاشرة إلى الواحدة ملطوعًا في طابور السجائر، ومن الواحدة والنصف إلى ما شاء الله في طابور أي جمعية أو مطعم سمك أو حتى سندويتشات فول وطعمية القطاع العام؟!

ومن نُحاسِب؟ وكيف نُحاسِب؟

لو كنتُ من المدَّعي العام الاشتراكي لأقمتُ محاكمة عاجلة لكل وزراء الصناعة خلال السنوات العشر الماضية، ولكل المسئولين عن صناعة السجائر، للإهمال في إضاعة إيرادات الدولة وفي إيصال المواطنين المُنتجِين المُبتلَين بعادة التدخين وتحويلهم إلى قوة مَلطوعة في طوابير؛ فالمدَّعي الاشتراكي كان مَفروضًا أصلًا أن تكون وظيفتُه أن يُراقب أموال الدولة، والذين يُضيِّعونها، بجانب أن يُراقب المُواطنين الذين يَسرقونها ويَسرقون بني جلدتهم من أبناء الشعب، ولكني لا أعتقد أبدًا أن محاكَمة كهذه ستُعقَد.

فكلُّ مسئول يتنصَّل من المسئولية.

وعنده حق، فجهاز الحكومة جهاز مسئوليات، وليس جهاز تفكير؛ فالذين يُفكِّرون لا يحكمون، والذين يَحكمون لا يُفكِّرون، وإنما همهم الأول إزاحة المسئولية، حتى مسئولية الإنتاج، عن أكتافهم.

وقد كان مفروضًا والحال هذه، أن تتولى التفكير أجهزة أخرى، كان مفروضًا من مجلس الشعب أن يُفكِّر، أمَّا مصر الدولة، فلها ربٌّ اسمه الكريم.

وكان من المفروض أن الصحافة تُفكِّر وتقوم بالتحقيقات وتَعرف الأسباب، ولكن الصَّحافة أصبح مثلها مثل الموظَّفين الذين لا حول لهم ولا قوة، تَكتفي بالشكوى لترفعها إلى الحكومة والمسئولين، وبما أن الشكوى لغير الله مذلَّة، فقد كفَّتِ الصحافة هي الأخرى عن الشكوى … وكان مفروضًا أن الحزب الحاكم يفكر …

ولكن الحزب — حزب الأغلبية الحاكم — لا يُفكر؛ لأنه حزب أغلبية، وما دام ضامنًا أغلبيته فهو ضامن استمرار حكمه، وما دام ضامنًا استمرار حكمه، فماذا يُهمُّه من مناقشة إهدار مصادر تمويل الدولة ما دام يفوز كلما أراد الفوز في الانتخابات، ويُصوِّت بالأغلبية الساحقة على كل ما يريد من قوانين. وهناك جهاز مُسلٍّ تمامًا في مصر اسمه: المجالس القومية المتخصِّصة، جميلة، كان الهدف منها أن تُصبح كمعهد «وودرو ولسون» في أمريكا أو معهد «بروكنجز» الذي تتولى لجانٌ متخصصة فيه دراسة إمكانيات البلاد ومصادر قوتها ومصادر ضَعفها ودراسة علمية لكافة متطلباتها؛ بحيث تكون هناك سياسة ثابتة لتنمية مواردها وسد العجز في صناعتها وزراعتها وخدماتها … إلخ.

ولكن المجالس المتخصِّصة، تخصَّصت في إصدار تقارير، وآخرها تقرير قرأته عن «انحدار فن الرواية في مصر».

وكأن هذه هي المشكلة، وكأنَّ الملايين التي تُصرَف على هذه المجالس عملها أن تناقش الروائيين المصريين في ضَعف إنتاجهم.

كان مفروضًا على هذه الجهات كلها أن تفكر، وأن تَستجوِب، وأن تُحقِّق، وأن تتصرَّف، وأن تتلافى.

ولم تفكر أي جهة منها؛ لأنها جميعًا، كما قُلت، ليست في حاجة إلى تفكير، أو ربما وهو الأصح لا تعرف كيف تُفكِّر خارج إطار مصالحها الذاتية اليومية المباشرة …

جهة وحيدة هي التي بادَرَت بالتفكير …

هذه الجهة، هي الجهة المسئولة عن جزء من صناعة السجائر، وبالذات سجائر كليوباترا صاحبة الأزمة.

فكَّرت الجهة وفكرت …

وكان الحل … سيجارة جديدة تُنتجها اسمها سيجارة سيناء، أهناك فقر مجدب في التفكير أكثر من هذا، عندك أزمة مروِّعة في خطوط إنتاج كليوباترا، نَتيجتها تدهور خطير في إيرادات الدولة، وطوابير تهبط بالإنتاج إلى الصِّفر في بلد يجأر بالشكوى من ضعف الإنتاج، وبأنه الوسيلة الوحيدة للخروج من الأزمة، في ظروف كهذه، تذهب أيها الشاطر وتُحضر خطوط إنتاج لسيجارة جديدة، ليتها تستطيع أن تَحلَّ بالكم أو بالكيف محل الكليوباترا، فلا هي تُغني عنها من ناحية، ولا خطوط إنتاج قادرة حتى أن تُنتج أيضًا الكليوباترا.

ولا يبقى أمام أي حسن للنية إلا أن يقول إن ثمة جهة أجنبية قد دفعت عمولة لبيع هذه الخطوط غير الصالحة في بلادها. فلا أجد أبدًا، ولا يُمكن لمن يملك ذرة عقلة واحدة أن يجد سببًا يحدو بالقائمين على صناعة السجائر إلى شراء خطوط لسجائر مختلفة عن المطلوب وخَلق سيجارة جديدة لا وجود لها إلا في إعلانات الصحف، هذا هو العبث بعينه، أو هو التخريب لاقتصادنا القومي، وأي تخريب أكثر من أن تُحيل الشعب المنتِج إلى شعب «خرمان»؟ والخرمان أبدًا لا يُنتِج! وأي تخريب أكثر من أن تمنع عن خزانة الدولة مئات الملايين من الجنيهات، وحين تفكر في تجاوز الأزمة تَدفع بالخسارة ملايين الجنيهات في شراء آلات لا تحلُّ أزمة سجائرك، وإنما تُحمِّل خزائنك بالتالي مصاريف أكثر، وبالخسارة كما قلت؟! تخريب للاقتصاد لا أعتقد أنه نتيجة لفقر الفكر أو فكر الفقر؛ إذ هو إمَّا تخريب بحسن نية، وعلى هذا يكون المسئولون عن الجريمة هم المسئولون عن السياسة الداخلية والصناعية؛ إذ لا يُعقَل أن مشكلة كهذه لا تُشكِّل بالنسبة إليهم مسألة سياسية عظمى كان من الواجب حسمها سياسيًّا من زمن وتوقِّي حدوثها، وإمَّا أن يكون التخريب بسوء نية …

ومن هنا أتساءل: وأين هو دور عشرات الأنواع من المَباحث والبوليس والرقابة الإنتاجية والسياسية والحزب الحاكم والحكومة والمجالس القومية المتخصصة والموقَّر مجلس الشعب والموقر تمامًا مجلس الشورى؟

•••

إنَّ القضية هي قضية كرامتي وكرامة أي مواطن يقف أو حتى يرى — مجرَّد يرى — طابور الواقفين أمام دكان السجائر، ليحظى كلٌّ منهم بعد انتظار ساعات وساعات، بسيجارة لا يجد أي مواطن في أي دولة من دول العالم مشكلة أبدًا في الحصول عليها، ولا أي دولة من دول العالم تَرفُض أن تحصل على مئات الملايين من الجنيهات ثمنًا لسجائرها … كرامتي التي تَنزف كلما رأيت طابورًا كهذا …

ترى لو رآك الزعيم مصطفى كامل أكان يقول: لو لم أكن مصريًّا لوددتُ أن أكون مصريًّا؟!

يا إلهي …

ماذا حدث حتى جعلوا مصر التي كانت أغنية وأمنية في فم أبنائها، عقوبة توقَّع، وبالذات على من يؤثرون البقاء فيها، عقوبة محكوم عليهم بها أن لا يُفيقوا أبدًا من الأزمات وطوابير الأزمات؟!

وهذا أبدًا ليس فقر فكر وفكر فقر …

هذه — كما يقولون — قضية أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤