الفصل الثالث

المؤامرة بالنوايا

أحيانًا تكون الأشياء من الوضوح بحيث لا تُرى، ولقد قرأت في الصحافة العربية والمحلية والعالمية كمًّا من العويل على ما يحدث في لبنان إلى درجة جعلتني أتساءل: أيكون هذا العويل نفسه نوعًا آخر من «الكاموفلاج» المقصود به أن يُغطِّي ما حدث بطبقة كثيفة من دخان لا نستطيع أن نرى معه حقيقة الموقف؟

  • فأوَّلًا: الاستعداد لغزو لبنان مسألة لم تُخفِها إسرائيل أبدًا، إسرائيل بالعكس استعدَّت لها تمامًا، بل ووضَعت اسمًا للعملية (السلام في الجليل)، وإسرائيل جادة في هذا؛ إذ إن السلام على الطريقة الإسرائيلية، هو حماية أي إسرائيلي من أي عدوان في أي مكان؛ إذ هو الجنس الأعلى المتميِّز، حتى لو كانت الوسيلة إبادة شعب بأكمله أو منطقة بأكملها.
  • ثانيًا: الاستعداد والإعداد لغزو لبنان مسألة كان يَعرفها العالم كله بما في ذلك الولايات المتحدة، الشريك الكامل في عملية السلام والشريك الكامل في عملية الحرب أيضًا. ولقد صدَّق بعض الناس أن مشاركتها الكاملة في السلام تعني أنها قد أصبحت حليفتَنا نحن أيضًا بالقدر الذي هي حليفة لإسرائيل، في حين أنها أبدًا لم تتزحزح عن موقفها كشريك كامل لإسرائيل في السلام والحرب معًا، وواهمون من يعتقدون أننا نجحنا ولو بنسبة ملِّيمتر واحد في زحزحة موضع إسرائيل في قلب أمريكا. يا أيها الواهمون أفيقوا، إن هذا الحلف غير المقدس بين إسرائيل مُعتديةً ومتوحِّشة ومعتدًى عليها، رافعةً أعلام النصر أو رايات الاستسلام، وبين الولايات المتحدة، ليست مسألة هزلٍ أو غرام عابر، إنها زواج كاثوليكي رغم بروتستانية أمريكا ويهودية إسرائيل، زواج أبدًا لن تَنفصِم عُراه، والهدف بينهما واحد وإن اختلف الأسلوب؛ فعلى إسرائيل أن تضرب وعلى أمريكا أن تُهدهِد وتَعِد؛ فالمصالح واحدة، والعدو واحد، العرب، إنما باعتباره عدوًّا ساذجًا لا يزال يرى في أمريكا المحبَّ الوفيَّ فليتظاهر له هذا «الجيجولو» بالوفاء والوفاق، ما دام هذا سيُريح أعصاب العرب ويَجعلُهم يُساهمون مساهمةً خرافيةً في الدفاع عن «أمن الخليج!» ضد «السوفييت!» ضمن الاستراتيجية الأمريكية الموحَّدة لقُوات الانتشار السريع والبطيء كي يُتاح للعُدوان الحقيقي أن يَحدث على الأمة العربية من إسرائيل بالذات (أي من داخل منطقة الشرق الأوسط)، عدوان حقيقي لا تُحتلُّ فيه أرض أو يُستولى فيه على آبار بترول، وإنما يُجتَث فيه ومن الجذور شعب عربي عظيم هو الشعب الفلسطيني، حتى تُستأصَل القضية من جذورها الشعبية؛ إذ إن إسرائيل تخاف أن تتكرَّر المهزلة ويَنتشر الشعب الفلسطيني في العالم، يقوى ولا ينسى أبدًا قضيتَه ليعود بعد حين يَفتك بها كما فعل الإسرائيليون به، فلا بُدَّ إذن من اقتلاع شجرة الشعب المطالب بالوطن من جذورها وقصِّ رقاب الأطفال والنساء (شعب المستقبل)، وهذا، حسب المنطق الأمريكي، ليس عُدوانًا على منطقة الشرق الأوسط، ما دام قادمًا من الشرق الأوسط، وما دام لا يمسُّ آبار البترول وما دام يهدُّ قوة العرب. إنه العدوان الحلال المُباح، الذي لا يدخل ضمن استراتيجية الدفاع الأمريكي، بل وكأنَّه العدوان الذي يَدخل ضمن استراتيجية الهجوم الأمريكي على منطقة الشرق الأوسط «العربي».
  • ثالثًا: ولهذا أنا أعجب من أشياء:
    • هذه الاستغاثات التي تُطلقها البلاد العربية طالبة من واشنطن «التدخل» لإيقاف إسرائيل عند حدِّها، والضغط الشديد عليها للانسحاب غير المشروط من لبنان.

      كيف لواشنطن التي أعطت إسرائيل (وهي تعلم أنها تُعِدُّ العدة لغزو لبنان) خمسًا وسبعين طائرة مقاتلة قاذفة أن تُوقِف حربًا هي الشريكة الكاملة فيها؟

      وكيف لواشنطن التي جمَّدت اتفاقية الدفاع المشترك بينها وبين إسرائيل لسببٍ أقل بكثيرٍ من غزو لبنان، ثُمَّ عادت قبيل الغزو وجعَلت الاتفاقية سارية لتكون أيضًا في موقف الشريك الكامل في الحرب، كيف لواشنطن هذه أن تأمر إسرائيل بالتوقف؟

    • الشيء الثاني الذي عجبت له هو أن الحكومة اللبنانية هي آخر المُستغيثين بأمريكا والرأي العام العالمي، بل إني لم أقرأ للبنان أي استغاثة بالمرة.

      والأعجب أكثر أن الحكومة السورية لم تبدأ تتحرَّك لصد العدوان إلا بعد أن كانت إسرائيل قد احتلَّت تقريبًا كل جنوب لبنان إلى ما قبيل بيروت، وفقط حين أحدق الخطر بجيوش الردع السورية، خافت من الغَدرِ ربما، أو ربما لعدم احترام إسرائيل للخط الأحمر كعادتها حين بدأت تضرب قواعد الصواريخ في البقاع، حينئذٍ بدأت سوريا «تدخل» المعركة، وما كادت تبدأ حتى «قَبِلَت» وقف إطلاق النار، بناءً على «قرار» إسرائيل بإيقاف إطلاق النار. وهكذا خرجت سوريا من الحرب بأسرع مما دخلت، وبقي إطلاق النار وتنفيذ حكم الإعدام في الفلسطينيين ساريًا ولا يزال إلى الآن.

    • مواقف جبهة الصمود والتصدِّي تُثير ضحكًا أكثر بكثير مما تُثيره مواقف المُعتدِلين المُستغيثين بواشنطن وبون وباريس ولندن (الموحولة إلى آذانها في فوكلاند)؛ إذ ماذا بالله تفعل حكومة الجزائر الغامضة غير إصدار القرارات تلو القرارات، وأين ليبيا من حليفتها في السراء والضَّراء والوحدة القائمة بينها وبين سوريا، وللإنصاف أيضًا أقول: أين الموقف الأكثر حزمًا للسعودية من زيارات سموِّ الأمير الفيصل لميتران وشميث وريجان؟

      أين المغرب التي قاطعَت مصر من أجل السلام وهي التي وفَّقَت بين رءوس السلام في الخفاء؟!

وبعد.

ماذا أقول؟!

أأقول إن هناك نوعًا جديدًا من المسرح السياسي العالَمي أصبح موضوع الرواية فيه لا يُتفَق عليه في نصٍّ مكتوب، ولكن يُتفَق عليه بالنوايا، ويبدو أن نوايا الأطراف جميعها قد اتفقت على ما يأتي:
  • أوَّلًا: إجلاء السوريين والفلسطينيين أساسًا عن لبنان، أو بالأصح عن كلِّ غرب لبنان إلى زحلة بشماله وجنوبه وتسليمه إلى دُويلة مارونية عربية في الشمال، ودُويلة مارونية إسرائيلية بقيادة سعد حداد في الجنوب، ودُويلة مسلمة شيعية في الشرق تتبَع سوريا.
  • ثانيًا: أن تعقد الدويلات الثلاث صلحًا مع إسرائيل.
  • ثالثًا: تَخرج إسرائيل من هذه الحرب وقد كسبت «السلام» على طريقتها، فأبادت المقاومة الفلسطينية في الجنوب، وضمنَت تفتيت لبنان إلى دويلات أغلب الظن أنها ستكون على أطيب العلاقات معها.
  • رابعًا: بهذا «الحل» أيضًا تكون سوريا قد شُلَّت يدُها عن أي تهديد أو شبه تهديد لإسرائيل، بل تصبح هي في الحقيقة المهدَّدة، وقد انكشف ظهرها الغربي تمامًا حتى لمدافع الميدان الإسرائيلية ولا أقول الطيران.
  • خامسًا: وهكذا «تنحلُّ» قضية الشرق الأوسط بإقامة دويلة فلسطينية محدودة ومشلولة الفاعلية تمامًا، ومُحاطة ومضمونة بالأردن وسوريا وإسرائيل وثلاث دويلات أخرى في لبنان.

أو هكذا قالوا.

(١) خطاب أخير لصقور إسرائيل

ولكن.

أحب أخيرًا أن أوجه للإسرائيليين بالذات كلمة، وأنا لستُ إنسانًا ذا قوة في عالمنا العربي، ولكني أزعم أني أعرف تمامًا هذا الإنسان العربي كما أعرف نفسي.

لقد ضحكتم على الدنيا بأَسرها حين أظهرتم اليهود وكأنهم كانوا ضحية للوحشية النازية، ضحية هكذا بدون سبب وبدون منطق، وكأنما خُلق هتلر وخُلق الشعب الألماني ليُعاديَ اليهود لله في لله، وأنتم تعرفون أنكم أنتم الذين خلقتُم هتلر، فقال عن الألمان إنه الجنس الحامي الأسمى مثلما قلتم عن أنفسكم أنكم الشعب الأسمى المختار.

ولقد ذكرت مرة للكاتب الأمريكي اليهودي الكبير سول بيللو الذي حصل بعد لقائنا في شيكاجو على جائزة نوبل أن الإسرائيليِّين قد اختاروا أسوأ منطقة في العالم ليُقيموا عليها دولتهم، فهي المنطقة الموبوءة إلى الآن بالتعصُّب، اختاروها وزرَعوا فيها التعصُّب من جديد، وإذا قلت لي إنك تفخَر أنك يهودي، فسأقول لك إني أفخر أني مسلم، وسيقول لك آخر إني أفخر أني مسيحي أو أني قبطي أو أني شيعي أو أني علوي أو أني درزي أو أني ماروني.

وما ثورة الشيعة في إيران إلا الصدى الأول لقيام إسرائيل المتعصِّبة، وما تفعلونه بضرباتكم المُتتالية للفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين وإراقتكم للدم كل يوم في هذه المنطقة، إلا أنكم تزرعون بذور الحقد المتعصِّب المدمر الذي ستحصده أجيالكم القادمة وربما أجيالكم الحالية، ثمرًا شديد المرارة، قاتلًا.

وإني الآن وأنا أقرأ وأشاهد ما يدور على أرض لبنان وفلسطين المحتلة والجولان، مثلما شاهدت ما دار على أرض سيناء، أُحسُّ بالكابوس الرهيب يتبدى أمامي … أعوام رهيبة قادمة من الدم والعنف والظلام … الثمرة الوحيدة لما تزرعونه الآن، أن أرى آلافًا من آية الله الخوميني وشكري مصطفى وسرية يتخلَّقون من عنفكم الإجرامي خلقًا وتتشكَّل لهم نفسيات ستدمركم تدميرًا؛ فالتعصُّب لا يُولِّد إلا التعصب، والقتل صِنوه القتل، ومن يفقأ العيون عليه أن ينال طعنات الظلام.

إني، وأنا إنسان عادي جِدًّا، لم أنس لأي شخص اعتدى عليَّ عدوانه أبدًا؛ مُدرِّسًا كان أو أبًا أو أمًّا أو أخًا، حتى هؤلاء عُدوانهم لا يُنسى، فما بالك بعدوان الأغراب والأعداء، ما بالك بالدم يُراق والأوطان تُستباح.

كلمة لكم أيها الصقور في إسرائيل، ترفَّقوا بأنفسكم وشعبكم، فإنَّ تجبركم هذا سيرتدُّ إليكم مُضاعَفًا، وَثِقوا أنكم بكل جريمة منكم تُرتكب تُنبتون ألف متلهف على جريمة وألف طالب ثأر، فأنتم في تلك المنطقة من العالم التي عاشَت وتعيش بالثأر، أتَعرفون — أيها الصقور — ما هو الثأر؟!

ألديكم فكرة عن الجحيم الذي تُوقدون الآن نيرانه؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤