الفصل التاسع

لماذا لا ننتج؟!

لا تغيظني كلمة أكثر من كلمة الحرية إذا ذُكرت مجرَّدة.

فلا شيء هناك اسمه حرية، هكذا، في الهواء. الحرية مجرد رغبة بشرية لا يمكن أن تحقق نفسها إلا من خلال كفاح الإنسان ونضاله وقدرته على التحقيق.

وما أكثر المقالات التي نقرؤها في صحافتنا تطالب بالحرية …

حرية ماذا؟

وحرية مَن؟!

أنا أفهم أن يُطالِب الكاتب أو الحزب بحريات محدَّدة واضحة مجسَّدة من المُمكن تحقيقها، أفهم أن يُطالِب الكاتب بحرية الانتخابات، بحرية النقابات في مزاوَلة نشاطها، كافة أنواع النشاط، بحرية تشكيل الأحزاب، بحرية إصدار الصحف، بحرية الكاتب، بحرية المواطن أن يختار مُمثليه وحاكمِيه وتغييرهم …

بمعنًى آخر، الحرية مقترنة بتطبيق محدَّد.

فالحرية ككلمة لا معنى لها بالمرة، إنما المعنى الحقيقي في مزاولتها.

فحرية مثل حرية الصحافة مثلًا شعار جميل جِدًّا، ولكن لكي تتحقَّق هذه الحرية، فلا بُدَّ أن تُقرَن بالضمانات لتحقيقها، الضمانات التي تحمي هذه الحرية وتَكفُلها.

والديمقراطية أيضًا، مثلها مثل الحرية مجرد كلمة تظلُّ جوفاء لا معنى لها إلى أن تجسد على هيئة طرق ديمقراطية ووسائل ديمقراطية وحياة ديمقراطية.

لقد كان الشعار السادس لثورة يوليو هو إقامة حياة ديمقراطية سليمة …

ومنذ البداية كنتُ أعترض على كلمة سليمة هذه، فلا توجد حياة ديمقراطية سليمة وحياة ديمقراطية غير سليمة، وإنما توجد حياة ديمقراطية أو حياة غير ديمقراطية.

وكلمة مثل الانفتاح وترشيد الانفتاح أو الانفتاح الرشيد، كلمة مُصطَنعة تمامًا، وقد أردنا بها أن نتحايل للانتقال من المرحلة شبه الاشتراكية إلى مرحلة شبه رأسمالية، فلماذا لا نُسَمِّي الأشياء بمسمياتها! لماذا لا نقول إننا نعيش الآن في عصر رأسمالي! ونقولها بكل وضوح، ولا نقولها فقط وإنما نعيش هذا العصر فعلًا بكافة مُتطلباته.

فالرأسمالية تستلزم إقامة حياة كاملة ديمقراطية، وإلا فشلَت تمامًا كرأسمالية. إن إقامة الرأسمالية بدون ضمانات لحرية حركة رأس المال وحرية تكوين الشركات والأحزاب، وحرية اختيار ممثِّلي الشعب وحتى ممثِّلي الرأسمالية ليحكموا، هو سلب للرأسمالية من أهم ميزة لها؛ ألا وهي ميزة اختيار الأصلح والأقوى، ميزة حرية الصراع التي لا يصمد فيها إلا الجدير حقًّا بالصمود. أمَّا إقامة الرأسمالية في ظل وجود قيود أو «اختناقات!» ديمقراطية، فلا يَنتج عنه سوى المحسوبية والشِّلَلية والعصابات وإدارة دفَّة الحكم من أجل طبقة غير ظاهرة للعيان، وغير مسئولة أمام مجالس نيابية وأمام صحافة حرة في نقدها وكشفها وأمام قضاء له الحق الكامل في إدانتها إذا أخطأت أو غشَّت أو دلَّسَت أو تهرَّبَت أو سرقت، نحن قد جعلنا من الانفتاح رأسمالية بدون قواعد اللعبة الرأسمالية الكاملة. وإذا سمَّينا الأشياء بأسمائها، فإن قمة الرأسمالية في العالم هو النظام الأمريكي، والنظام الأمريكي ليس هو ما نراه في حلقات «دالاس» وقصص «الكاوبويز». إن النظام الأمريكي قائم على مبدأ حرية المنافسة التجارية والصناعية والزراعية، ولهذا فالحرية مطبَّقة في كل ناحية من نواحيه، وضمانات الحرية، حرية تكوين الأحزاب، حرية التعبير، حرية إصدار الصحف، حرية مهاجمة الكنيسة حتى، مكفولة تمامًا بحكم الدستور.

فإذا كُنَّا قد أردنا أن نُقلد الانتعاش الرأسمالي الأمريكي بانتعاش رأسمالي مصري، فلماذا نأخذ القطعة الضارة من الرأسمالية ونترك أحسن ما فيها ونستبدلها بأسوأ ما في الاشتراكية.

ذلك أن الاشتراكية هي الأخرى لها قواعد إمَّا أن تأخذها كلها كوحدة وإمَّا أن تتركها كلها وتُصبح رأسماليًّا، والاشتراكية لها هي الأخرى ضماناتها؛ فبجانب أنها تضمَن حق التعليم وحق العلاج وحق العمل، فإنها تَضمن — أو مفروض أنها تَضمن — حق التعبير عن الرأي، سواء في المجالس المحلية أو في داخل الأحزاب التي تُطبقها، وحزب «ميتران» مثلًا حزب اشتراكي، وقد حضرت مرة اجتماعًا له في باريس، وكان النقد الذي وجه إلى رئيسه وإلى مكتبه السياسي أمَرَّ بكثير من أي نقد يوجَّه إلى ريجان أو كارتر في الصحافة الرأسمالية الأمريكية.

ولكن لأننا اعتقدنا أن النظام الاشتراكي يستلزم بالضرورة أن يكون الحكم شموليًّا؛ فقد قرنَّا الاشتراكية بتَكميم الأفواه، وحق إبداء الآراء واختيار المُمثلين، وكثيرًا ما يبتسم الإنسان في سخرية حين يقرأ لبعض الصحفيين ردَّهم على بعض المعارضين الماركسيين بقولهم: وهل البرافدا أو الأزفستيا تنشر كذا أو كيت، وكأن الطريقة الروسية للحكم — بظروفها التاريخية وعيوبها — هي الطريق الوحيد للاشتراكية.

باختصار، أخذنا من الرأسمالية مساوئها، ومن الاشتراكية فعلنا نفس الشيء.

وأصبحنا لا اشتراكيين ولا رأسماليين، ولا أدري أي اسم نُطلقه على كل حكوماتنا العربية، ولا بُدَّ أن يفرد التاريخ المعاصر صفحة ليخترع لهذه النظم العربية كلمة جديدة في القاموس السياسي تستطيع بدقة أن تصف أنواعًا غريبةً من حكومات ونظُم، بالقوة تأتي، وبالقوة تحكم، وبالقتل أو التآمر يتم التغيير، وأيضًا إلى نظام بالقوة يأتي هو الآخر، وبالقوة يحكم.

•••

ولهذا لا تلوموا حكوماتنا العربية، رغم اختلاف أسمائها، على موقفها من أحداث لبنان البَشِعة.

فحكومات ما بعد الاستقلال في البلاد العربية، مجرَّد حكومات، ليس لها أي جذور شعبية، ولا تُعبِّر عن أي إرادة شعبية، وإنما هي تَعتمِد في وجودها واستمرارها على أنها وحدها تملك السلاح، وتحكم شعبها بقوة هذا السلاح.

ولو كانت الحكومات العربية ضاربةً بجذورها في أعماق شعوبها بمعنى أن كل رئيس دولة يُحسُّ وهو يأخذ المَوقِف أو يُناصِب إسرائيل أو أمريكا أو روسيا أو البرتغال العداء أنه مُستند إلى رأي عام، ليس فقط يُسانده، وإنما يرتبط به عضويًّا بواسطة حزب شعبي قوي ضارب أطنابه في قلب الجماهير، لو كان هذا هو الوَضع لما خاف أيُّ رئيس أو ملك عربي، ولقال للأعمى أنت أعمى، ولِلقاتل أنت قاتل، وللشريك أنت الآخر قاتل، ولما قال هذا فقط، بل إنه كان من فرط ثقته بجذوره في شعبه قادر على أن يضع يده في يد زميله رئيس الدولة الأخرى، وتأخذ البلاد العربية موقفًا يُعبِّر عن إرادة المائة والعشرين مليونًا فعلًا.

ولكن الحكومات العربية قد أخذت الموقف الذي يُعبر عن حقيقة قوتها، وقوة مستندة بطريقة أو بأخرى، لا إلى الشعب، وإنما للأسف إلى القوة العظمى المرتبطة بها، ولهذا فهي — أي هذه الحكومات — لا تملك حرية الحركة المستقلة، وإنما عليها أن تضع ألف حساب للفتوَّة الذي يحرس لها شعبها من أن يُغيرها، ويَحرس لها وجودها من أن تتدخَّل دولة عربية أخرى في شئونها.

إن موقف الدول العربية من المَهزلة المأساة الفلسطينية ومن العربدة الإسرائيلية المنحطَّة في لبنان هو موقف منسجم تمامًا مع كونها حكومات عرائس يُحركها هذا اللاعب أو ذاك، وهل تملك العرائس أن تخطو أو تتحدَّث، بله أن تُدافع أو تقاتل.

•••

وأيضًا نعود إلى قضيتنا، فكر الفقر، حتى لو كان الفقير غنيًّا جِدًّا، فالغنيُّ ليس هو من بيده مال، الغني هو القادر على خلق المال والرأسمال بجهده وعرقه.

وبلادنا العربية معظمها تُنتج الطبيعة نيابة عنه.

ولأن الفكر البشري لا يوجد إلا أثناء وبكفاح الإنسان من أجل أن يعيش ويتطوَّر ويُنتج، فلا يوجد ثمة فكر يهبط بباراشوتات من الفضاء يفرزه البشر أثناء رحلتهم الشاقة المستمرة للوصول إلى حياة أفضل، فإذا كانت الحياة الأفضل تحققها الطبيعة والجغرافيا والجيولوجيا، أو يحققها التهليب، فما الداعي لإعمال الفكر، وما الداعي للفكر أصلًا، بل ما الداعي للفن أو للعلم أو للحضارة نفسها؟!

نحن فقراء فكريًّا؛ لأننا لا نُنتج، ونحن لا نُنتج لأننا حقيقةً فقراء فكريًّا، وليس لأن هناك أزمة اقتصادية أو تضخُّمًا.

إن الأزمة الاقتصادية مرجعها إلى الدخول غير المنظورة التي لا تُحصَّل عليها ضرائب أبدًا، بينما الدخول في المجتمع الأمريكي مثلًا كلها منظورة، ولهذا تتكفَّل الضرائب بإقامة المشاريع وعمل المؤسسات ودفع الأجور العالية.

وفي تقرير لمجموعة «ميدلاند» البنكية الإنجليزية عن الوضع الاقتصادي في مصر، أنقل هنا فقرة تقول: إنَّ الاقتصاد المصري يبدو في صورة أحسن من الأعوام السابقة نظرًا لزيادة سعر البترول وتحويلات المصريين في الخارج ودخل قناة السويس والسياحة، وأيضًا (وهذا هو المهم) يضيف التقرير: بسبب الازدياد الكبير في الدخول غير المنظورة.

ولأننا نعيش في بحيرة عربية تنعم بدخول عالية من الجهود المُرهقة التي تبذلها الطبيعة والشركات الأجنبية، فإن العدوى قد انتقلت إلينا، والمصريون الكثيرون الذين رأوا كيف يعيش الناس في الدول العربية يُقارِنون دخلهم بما يحصلون هم عليه من أعمالهم في مصر فيجدونه قروشًا لا تُقارَن ولا تُحسَب، وهكذا يحدث الإحباط الشديد، وبالتالي نوع من الإضراب الصامت عن الإنتاج، فالإنتاج المصري يُباع رخيصًا أيضًا، ولهذا فأي جهد يُبذل فيه سيكون ثمنه رخيصًا، فلماذا الإنتاج أصلًا؟

وأيضًا لماذا التفكير المرهق وثمنه كسِلعة أرخص الأثمان، وأي شعب مهما بلغ من الغِنى والثراء يكفُّ عن التفكير لا بُدَّ أن يئوب إلى فقر سريع مُدقِع، فالنقود جنينها الأفكار، ولا يمكن للإنسان أن يكسب إلا بفكرة يتفتَّق عنها ذهنه، وهكذا من المستحيل على شعب لا يفكر أن يكسب إلا أن يفكر بعض أفراده بطريقة منحرفة، ويَسرقون.

والحل؟

•••

لا أريد أن أستطرد طويلًا في هذا الموضوع؛ فأنا أخاطب شعبًا بلَغَت به الأزمة الفكرية والاقتصادية أنه لا يريد أن يُجهد نفسه في بحوث وتمحيصات، بل لا يريد أن يُتعب نفسه حتى في تفحُّص مشكلته، هو يريد الحلول جاهزة مقدَّمة له على طبق من ثلاث كلمات.

والحل أن لا نقلد إخواننا الذين يَعيشون على إنتاج الطبيعة؛ فطبيعتنا لا تنتج إلا بشق الأنفس.

وأيضًا لا نقلِّد ذوي الدخول غير المنظورة ونَنحرف.

ولكن …

لكي ننتج لا بُدَّ أن نرسو على بر.

إمَّا أن نصبح رأسماليين بكل الضمانات الرأسمالية للعدالة والديمقراطية.

وإمَّا أن نصبح اشتراكيين بكل مزايا وعيوب الاشتراكية.

أمَّا الرقص على الحبل، أو أخذ ما يُعجب حاكمينا من عيوب الاشتراكية وعيوب الرأسمالية لضمان «سلاسة» الحكم، فقد أوقعنا هذا الرقص فيما نحن فيه الآن.

وإذا كان المسئولون في مصر قد أعلنوا أكثر من مرة أننا لا يُمكن أن نسير في كنف قوة عظمى، فكلنا مع هذا الرأي شرط أن نُدرك لماذا اضطررنا ونضطر للسير في كنفِ قوة عُظمى شرط الاعتماد على النفس أوَّلًا وأخيرًا، ولكي تعتمد عليَّ لا بُدَّ أن تُعطيَني الحق أن أكون أنا، ولكي أكون أنا لا بُدَّ أن يكون لي رأي ولي حزب، ولي جريدة ولي ممثِّل انتخبتُه بكامل حريتي ليدافع عن مصالحي ووجهة نظري.

إمَّا رأسمالية كاملة مُنتجة.

وإمَّا اشتراكية كاملة منتجة أيضًا.

ولا إنتاج بغير الرسوِّ على بر.

بر بكل مزاياه وبكل عيوبه.

برٌّ نبدأ منه رحلة وجودنا الحقيقية تلك التي نضطر معها أن نفكر تفكيرًا غنيًّا يتحول بدوره إلى إنتاجٍ غنيٍّ، وثروة حقيقية، وحياة وحضارة.

رحلةٌ نَعتمِد فيها على أنفسنا، ولكي نكون أنفسنا، فلا بُدَّ أن يكون لشعبنا حقوق وجوده كاملة.

فالمأزق الذي نحن فيه، مأزق وجود، وليس مجرَّد أزمة اقتصادية أو فكر، وخوفي الأكبر أن نخرج منه بطريقة متفجِّرة تؤدي بنا إلى مأزق أكبر بكثير، مأزق الجنون أو التعصب أو القوة الغاشمة، لا ليست المسالة هزلًا.

وليست مجرَّد مشكلة.

إنها مُفترق طرق.

وبلا خيار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤