الدهاء

إذا تحدث الراوية العربي عن صفة من الصفات العامة بلغ بها حد الاستقصاء، فأثبت في روايته كل ما يقع عليه الحس من أخبار تلك الصفة، وذكر لنا الأعلام المشهورين بها، والحوادث التي دلت عليها، والأقوال التي قالوها أو قيلت عنهم بصددها، والفوارق التي يختلفون بها فيما بينهم، والألقاب التي أطلقت عليهم من جرائها، ولم يتركوا مرجعًا من مراجع الدراسة التي يحتاج إليها الباحث العصري في استقصائه الحديث بعد استقصائهم القديم، إلا تحليل الصفات على حسب عواملها النفسية، فإنه باب لم يطرقوه ولم يطرقه أحد غيرهم من الأقدمين في الأمم، وعذرهم في ذلك واضح لا تلزمهم بعده حجة: عذرهم أن التحليل النفسي كله دراسة حديثة تركبت على دراسات علمية، أو فكرية أخرى لم يكن للأقدمين عهد بها إلى ما قبل بضعة قرون.

كذلك تحدث لنا الراوية العربي عن شجعان العرب، وفرسان العرب، وأجواد العرب، وصعاليك العرب، ودهاة العرب في الإسلام، ودهاة العرب في الجاهلية، وكل ذوي الشهرة في صفة من الصفات العامة التي تتعلق بها الروايات، وتتناقل بها الأخبار.

ويبدو لنا — ونحن نقرأ كلامهم عن دهاة العرب — أنهم كانوا «مولعين» بتلك الصفة خاصة، يتحدثون بها ويستطيبون حديثها ويتزيدون فيه كلما استطاعوا، كأنهم يجاوزون بالدهاء حد الإعجاب إلى حد التمني والعطف والمشاركة في الشعور، وعذرهم في هذا أيضًا واضح من تاريخهم وتواريخ منازعاتهم ومصالحاتهم، فإنهم كانوا يتفقدون فيها الدهاء جميعًا فيجدونه حينًا ولا يجدونه حينًا آخر، ولكنهم كانوا يجدون الشجاعة والفروسية في كل حين.

وسبب آخر من أسباب الولع بالحديث عن الدهاء أنه أصبح كفؤًا للشجاعة، أو راجحًا عليها في موازين الصفات الاجتماعية، فإذا عيب رجل من رجالهم بقلة الشجاعة؛ وجد العزاء — وفوق العزاء — بشهرة الدهاء أو دعواه إن لم يكن قد بلغ بدهائه مبلغ الشهرة الذائعة الصيت.

فالدهاء عندهم كان مزية، وضرورة، وعزاء، وغطاء للخوف والجبن، ودعوى سهلة لمن يدَّعيها بغير برهان … أما الشجاعة فبرهانها حاضر لا سبيل للمغالطة فيه …

ولهذا يتزيد الرواة كثيرًا في أحاديث الدهاء، ويوشك أن يجعلوه صفة من الصفات «السلبية»، التي تقترن بنقص الشجاعة حيث نقصت في مجال الغضب، أو مجال الصولة والقتال، وكاد القارئ يفهم — بداهة — من صوف رجل بالدهاء أنه رجل لا صولة له ولا خوف من غضبه وبأسه، وإنما الخوف مما يحتال به أو يكيد.

وكثير من أحاديثهم عن الدهاء يدخل في عداد هذه المعاذير أو هذه الخلال المتشابهات، ولكنهم إذا اتفقوا على دهاء رجل في سيرة حياته بحذافيرها،١ فالغالب أن يكون على شيء من الدهاء، وإن لم يكن دهاتهم كلهم من نوع واحد عند تحليل الأعمال والصفات، ولم يكن مصدر ذلك الدهاء ملكة واحدة في العقل أو في الطباع.

لقد كانوا يطلقون الدهاء على وسيلة «غير صريحة» يبلغ بها صاحبها مأربه، وينتهي بها إلى منفعته … فكل حيلة «غير صريحة» فهي دهاء على سواء …

إلا أن الواقع أن الوسائل «غير الصريحة» لا تتفق في مصادرها العقلية …

فقد يعتمد الرجل في دهائه على قدرة عقلية فائقة يتسلط بها على الناس، فيسخرهم في مطاعمه ويقودهم كما يقاد المسخر «بالتنويم المغناطيسي» لخدمته فيما يستفيدون منه أو فيما لا فائدة لهم فيه على الإطلاق … وقد يكون فيه الضرر لهم كل الضرر وهم لا يفقهون، ويغشاهم السحر بغشاوته فلا يستمعون لما يقال لهم غير ما يقوله ذلك الداهية، أو يوحيه إلى شعورهم بغير مقال.

هذا هو الدهاء من الطراز الأول.

ويليه الدهاء الذي لا يعتمد على قدرة عقلية فائقة، ولكنه يعتمد على قدرة «مادية» يستطيع بها صاحبها قضاء المصالح والتعامل مع غيره على أساس «التبادل» في المنفعة المعروفة، التي يفهمها المتبادلون جميعًا بغير حاجة إلى تغرير أو خداع أو إقناع.

رجل يملك السلطان أو المال، وأناس يحتاجون إلى سلطانه وماله، ولا يقدرون على بلوغ تلك الحاجة من غيره … فلا هو يخدعهم ولا هم يخدعونه؛ لأنهم كلهم يعرفون ما يطلبونه ويعرفون وسيلتهم إليه، فلا خادع فيهم ولا مخدوع، وإن لم يكونوا جميعًا صرحاء فيما يتوسلون به أو يتوسلون إليه.

من أي هذين الطرازين دهاء معاوية؟

أمن طراز القدرة العقلية الفائقة التي تسخر الأعوان منقادين مستسلمين مغمضي الأبصار والبصائر، أم من طراز القدرة المادية التي تعطي وتأخذ ويأملها طلاب الحاجات؛ لأنهم يعرفون ما يحتاجون إليه ولا يعرفون طريقًا إلى حاجاتهم تلك غير هذه الطريق؟

بأي الدهاءين تمكن معاوية من اجتذاب عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه، وغيرهم من الدهاة الذين سارت بدهائهم الأمثلة في صدر الإسلام؟

لعلنا نستطيع أن نقول: إن هؤلاء الدهاة ومن جرى مجراهم قد خدعوه وسخروه لقضاء مأربهم، كما نستطيع أن نقول: إنه هو قد خدعهم وسخرهم لقضاء مآربه … فإنهم جميعًا قد أخذوا ناجزًا مضمونًا حيث يأخذ منهم العوض مقدرًا غير مضمون، وأيًّا ما كان القول فليس دهاء معاوية هنا دهاء القدرة العقلية الفائقة التي أوقعت في روع أعوانه زعمًا تخفى عليهم حقيقته، وينقادون به إليه وهم لا يفقهون، وإنما أخذ منهم وأخذوا منه على حد سواء، وإنما أعطاهم المصلحة التي يريدونها ولا ينتظرون قضاءها عند غيره، ولم يتمكن من إعطائهم تلك المصلحة؛ إلا لأنه سبقهم إلى ولاية الشام عشرين سنة، ووضع أيديه على المرافق التي لم يكن في وسع واحد منهم أن يضع عليها يدًا من أيديه.

إن رواة التاريخ العربي يحدثوننا كعادتهم في التوصيف والتقسيم، عن دهاتهم في صدر الإسلام، فيقولون: إنهم أربعة: عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، ومعاوية بن أبي سفيان، ويقولون: إن ابن العاص للبديهة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لكل كبيرة وصغيرة، ومعاوية للروية.

وهذا تقسيم صحيح في جملته على الإيجاز، وقد يعرض له بعض التعديل عند الإسهاب والتفصيل، ولكن الرأي الذي لا شك فيه أنهم جميعًا من الدهاة على اختلاف نوع الدهاء، وأن دهاء الثلاثة الأولين هو الذي قادهم إلى معاوية، ولم يكن دهاء معاوية هو الذي قادهم إليه، فقد عرفوا مطالبهم وعرفوا أنهم يجدونها عند معاوية حيث لا يجدونها عند غيره، ولو أنهم استطاعوا أن ينازعوه الخلافة لما سلَّموها له طوعًا، ولما قنعوا منه بالنصيب الذي ارتضوه في خلافته، ولكن الخلافة كانت مطلبًا بعيدًا عليهم، فلم يضيعوا فيه جهودهم، ونظروا إلى غاية المطالب دونه فبلغوها بجهد يسير.

لم تكن لأحد منهم ولاية تمتد فتشمل سائر الولايات، وتنتهي بذلك إلى الخلافة إلا زياد بن أبيه، فإنه كان واليًا على أقاليم من فارس يخشى بأسه لما عنده من المال والجند، ولكنه مغمور النسب يدعونه بابن أبيه قبل أن ينسبه معاوية إلى أبي سفيان، ولن يسلس زمام الخلافة لرجل مثله إلى جانب طالب من طلابها، كمعاوية أو من دون معاوية في النسب والمكانة …

أما ابن العاص والمغيرة بن شعبة، فقد كانا من آحاد الرعية يوم نشب النزاع على الخلافة بين عميد بني هاشم علي بن أبي طالب وعميد بني أمية معاوية بن أبي سفيان، ولم يكن لأحدهما جند ولا مال ولا عصبة تنافس العصبة الهاشمية أو العصبة الأموية، فهما خليقان أن ينظرا إلى المطلب الميسور حيث تيسر، وقد نظرا إليه فلم يعرفا له طريقًا أقرب من طريق معاوية، وبخاصة بعد مقتل علي رضوان الله عليه.

وقصة كل رجل من هؤلاء الدهاة الثلاثة لا تدع محلًّا للظن بأنهم سيقوا إلى نصرة معاوية مخدوعين، أو منقادين بحيلة من حيل الدهاء، بل هي حرية أن تنبئنا بغلبتهم على معاوية في المبادلة، وأنهم أخذوا منه فوق ما أعطوه، وأنه هو قد أعطاهم شيئًا في اليد حين كان عطاؤهم كله شيئًا في التقدير، إما من قبيل الأمل المنظور أو من قبيل الخوف المحذور …

دعا عمرو بن العاص ولديه عبد الله ومحمدًا، فقال لهما: إني قد رأيت رأيًا ولستما باللذين ترداني عن رأيي، ولكن تشيران علي … إني رأيت العرب صاروا عنزين يضطربان، وأنا طارح نفسي بين جزاري مكة، ولست أرضى بهذه المنزلة، فإلى أي الفريقين أعمد؟

قال عبد الله، وهو من أهل التقوى: إن كنت لا بد فاعلًا فإلى علي …

قال عمرو: إني إن أتيت عليًّا يقول لي: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره، وكان محمد ابنه الآخر على هذا الرأي، فقال لهما عمرو: أما أنت يا عبد الله فقد اخترت لآخرتي، وأما أنت يا محمد فقد اخترت لدنياي.

ويروى أنه لما استشارهما، قال له عبد الله: إن النبي — عليه السلام — قد توفي والشيخان بعده وهم راضون عنك، فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس، وقال له محمد: أنت ناب من أنياب العرب، فكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت؟ فأجابهما بما تقدم وأتى معاوية، فوجدهم يطلبون دم عثمان فمضى معهم يقول: اطلبوا دم الخليفة المقتول.

والمشهور في رواية صاحب الإمامة والسياسة ابن قتيبة أن معاوية كان غافلًا عن شأن عمرو وعن خطره في معونة أي الفريقين فأعرض عنه، حتى نبهه عتبة بن أبي سفيان إلى شأنه وخطره، فكتب إليه يقول: «أما بعد، فقد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط علينا مروان بن الحكم في رافضة من أهل البصرة، وقدم عليَّ جرير بن عبد الله في بيعة علي، وقد حبست نفسي عليك فأقدم على بركة الله.»

وتردد عمرو قليلًا بين شد الرحال وحط الرحال، فقال له غلامه وردان، وهو من الموصوفين معه بالدهاء: أما إنك إن شئت بدأتك في نفسك: اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: مع علي الآخرة بلا دنيا، ومع معاوية الدنيا بلا آخرة، فأنت واقف بينهما، فقال عمرو: ما أخطأت ما في نفسي. فما ترى يا وردان؟ فقال: أرى أن تقيم في منزلك فإن ظهر أهل الدين عشت في دينهم، وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك، فقال عمرو: الآن حين شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية؟

وقدم عمرو على معاوية فساومه على رضاه، فلم يقنع بما دون ولاية مصر مدى الحياة، وهذه صفقة كأنها صفقة المنتصر الذي يملي شروطه في حومة الحرب؛ لأن ابن العاص كان واليًا على مصر فعزله عثمان، ولم يزل واجدًا على عثمان لذلك، حتى قيل: إنه كان يحرض عليه ويخاذل بين أنصاره، فإذا جاء الرجل قومًا يطلبون دم عثمان، فأخذ منهم ما أباه عثمان عليه، فإنما هو الرغم ولا مبالاة بما يقولون وبما يقال!

وشق على معاوية أنه يجيبه إلى هذا المطلب الضخم «فتلكأ معاوية — كما جاء في الإمامة والسياسة — وقال: ألم تعلم أن مصر كالشام؟ قال: بلى، ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك، وإنما تكون لك إذا طلبت عليًّا على العراق … فدخل عتبة بن أبي سفيان على معاوية، فقال: أما ترضى أن تشتري عَمْرًا بمصر؟ إن هي صفت لك ليتك لا تغلب على الشام، فلما سمع معاوية قول عتبة بعث إلى عمرو فأعطاه مصر، وكتب في أسفل الكتاب: ولا ينقض شرط طاعة، فكتب عمرو: ولا تنقض طاعة شرطًا.»

وعلى هذا خرج عمرو من الصفقة غالبًا غير مغلوب، وفهم ما يبتغيه فقصد إليه، ولم يكن معاوية يفهم ما يبتغيه إلا بعد ممانعة واستعصاء … وقد عقد معاوية لعمرو بعد ذلك أربعة ألوية: لواء له، ولواء لكل من ولديه، ولواء لغلامه وردان.

يقال في مصطلحات عصرنا عن الحيلة التي لا تخفى ولا حاجة بها إلى إخفاء: إنها «لعب على المكشوف» … كأنها هي لعبة تلعب نفسها بنفسها، ولا محل فيها لتدبير اللاعبين لظهوره، واتباعه في اللعب منهجًا لا محيد عنه، وهكذا كانت الحيلة بين عمرو ومعاوية.

قال عمرو لمعاوية: «أترى أننا خالفنا عليًّا لفضل منَّا عليه؟ … لا والله إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك وإلا نابذتك.»٢

وعلى هذه الخطة «المكشوفة» بدأت المعاملة بين الرجلين، وكان حظ عمرو فيها أكبر من حظ معاوية، بالقياس إلى ما بذل فيه.

•••

أما المغيرة بن شعبة فقد كان يبيع سمكًا في البحر، ويشتري به سمكًا مطبوخًا شهيًّا على المائدة.

عزله الفاروق عن ولاية الكوفة؛ لأن قومًا شهدوا عليه أنهم وجدوه على ريبة مع امرأة غير امرأته، وقال هو: إنها امرأته، وإن الأمر التبس على الناظرين لشبه بين المرأتين، ولم تثبت التهمة عليه ثبوتًا يوجب إقامة الحد، ولم تسقط عنه سقوطًا يزيل الشبهة، فعزله الفاروق وأبقاه زمنًا بغير عمل كأنه يؤدبه ويستتيبه، ثم بدا له أن يعيده إلى ولايته، فدعاه إليه وشدد عليه ليجتنبن الشبهات حتى الظنة، وولاه الكوفة مرة أخرى، فلما قام عثمان بالخلافة عزله، فاعتزل السياسة حتى قتل عثمان، وبويع علي بالخلافة في المدينة، فذهب إليه يمهد في العهد الجديد للزلفى٣ عند الإمام، وعند صاحب الأمر بالشام — معاوية — في وقت واحد، وأشار على الإمام بإقرار معاوية في ولايته؛ ليدين له بالولاء ثم يعزله متى شاء، فلما أبى الإمام أن يقره عاد إليه في اليوم التالي، فقال: «إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت وخالفتني فيه، ثم علمت أن الصواب فيما رأيت، فاعزلهم — أي: ولاة عثمان — واستعن بمن تثق به، فإنهم أهون شوكة مما كان.»

وعاد المغيرة إلى عزلته يترقب، ثم قصد إلى معاوية بعد رجحان كفته في أمر الحكمين غير مجازف بشيء بعد استقرار أمر الشام — على الأقل — لمعاوية وحزبه، فولاه معاوية إمرة الحج بعد انفراده بالدولة، وكان المغيرة ينظر إلى ولايته الأولى على الكوفة كما نظر ابن العاص إلى ولايته الأولى على مصر، فلما أراد معاوية أن يعهد بهذه الولاية إلى عبد الله بن عمرو بن العاص ذهب إليه يبذل النصيحة الذي يأخذ منها أكثر مما يهب، وقال له: أتستعمل عبد الله على الكوفة وأباه على مصر؟ … إنك بين نابي الأسد! فاستمع له معاوية وعزل عبد الله وولاه في مكانه، وسمع عمرو بخبر هذه المكيدة فردها بمثلها، ولم يطلب إعادة عبد الله إلى ولايته، بل قنع بحرمان المغيرة من ولاية الخراج واصطنع النصيحة للخليفة الجديد، فجاءه يقول: إنك تستعمل المغيرة على الخراج فيأخذه ولا تستطيع أن تنتزعه منه، والرأي أن تولي على الخراج رجلًا يخافك، ولا تبالي أن تعزله متى شئت، وأن تستعمل المغيرة على الصلاة والإمارة، فلا يقوى عليك بغير مال، فاتبع معاوية مشورته غير كاره؛ لأنها أكسبته المال والعداوة بين الداهيتين.

ثم استقر الأمر لمعاوية فهان عليه خطب المغيرة وهمَّ بعزله، فنمى٤ الخبر إلى المغيرة من عيونه٥ حول معاوية، وأشفق من غضاضة٦ العزل، فآثر أن يذهب إليه معتزلًا، وأن يحتال مع ذلك حيلته التي يرغم بها معاوية على استبقائه، وهو عزيز الجانب مرغوب فيه.

شخص إلى دمشق فاختلى بيزيد كأنه يلقاه عرضًا، ووسوس له أن يطلب إلى أبيه تسميته لولاية العهد، وزين له الأمر قائلًا: «إن أصحاب النبي وكبراء قريش قد ذهبوا، وبقي الأبناء وأنت من أفضلهم، فلا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟ قال: أوترى ذلك يتم؟ قال: نعم … فدخل يزيد على أبيه وأخبره بمقالة المغيرة، فتعجل معاوية لقاءه واستدعاه ليطمئن إلى حقيقة الخبر، وابتدره سائلًا: ما هذا الذي يقوله يزيد؟ … قال: إني يا أمير المؤمنين قد رأيت ما رأيت من سفك الدماء بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف فاعقد له البيعة بعدك، فإن حدث بك حدث كان كهفًا للناس وخلفًا منك، ولا تُسفَك دماء ولا تكون فتنة … قال معاوية: ومن لي بهذا؟ … قال: أكفيك أنا أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بين هذين المصرين أحد يخالف …»، فأمره معاوية أن يرجع إلى الكوفة، وأن يتحدث مع ثقاته في ذلك، ثم يرى ما يرى.

قال المغيرة لبعض هؤلاء الثقات: لقد وضعت رجل معاوية في غرز٧ بعيد الغاية وفتقت عليهم فتقًا لا يرتق٨ أبدًا، ثم أجابه ناس من قبيلة إلى بيعة يزيد، فأرسل منهم عشرة إلى دمشق، ولم يرسل سائرهم ليمد في حبل المساومة، وكان من حكمة معاوية أنه استمهلهم وطلب إليهم ألا يعجلوا بإعلان رأيهم، ولم يكن إعلان هذا الرأي من أرب المغيرة؛ لأنه باقٍ في ولايته ما احتاج الأمر إلى بقائه قبل إعلان البيعة والاتفاق عليها، وفي كل أولئك كان المغيرة كاسبًا لا يفقد شيئًا يقدر على استبقائه، فإن خرج مستعفيًا فذلك خير من خروجه معزولًا، وإن كانت المساومة على ولاية يزيد للعهد مجدية له فيما أراد؛ فقد ربح ولم يخسر، وباع السمك في البحر والشبكة من عند غيره، وإن أعرض معاوية عن المساومة ولم يقبل عقد البيعة لابنه — وهو أبعد الفروض — فقد كسب الوالي المعزول ولاء يزيد، ولم يفقد ولاء معاوية؛ لأنه مفقود قبل ذلك … ولعله يرمي من هذا التلويح بولاية العهد إلى استثارة الأمير المحروم، وإغرائه بأبيه وانتقامه منه بالكيد له في حجاب الحرم٩ إن لم يقدر على الانتقام منه بالثورة والعصيان، ويقال بحق في جميع هذه الأحوال: إن المخدوع من الرجلين — معاوية والمغيرة — لم يكن هو المغيرة إن كان لا بد بينهما من مخدوع.

وكان زياد بن أبيه آخر المبايعين من الدهاة الثلاثة، فلم يستطع معاوية أن يقنعه بترك فرصة من الفرص التي كان يترقبها، ويؤثرها على مبايعة معاوية بالخلافة، ولم يقبل على معاوية وله رجاء قط في الإعراض عنه، مع أنه كان أول المنظور إلى بيعتهم في تقدير بني أمية؛ لأنه كان — كما نقول في عرف هذه الأيام — ولدًا شرعيًّا لأبي سفيان، وأخًا لمعاوية من أبيه …

ولاه علي بن أبي طالب فارس وكرمان، فأرسل إليه معاوية يتوعده، فقام زياد في الناس خطيبًا يغلظ الجواب ويرد الوعيد بمثله، وجعل يقول في خطبته على رءوس أتباعه ومسمع من أعوان معاوية: «العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق! يخوفني بقصده إياي وبيني وبينه ابن عم رسول الله في المهاجرين والأنصار، أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أحمر١٠ مخشيًّا ضرابًا بالسيف.» فكتب إليه معاوية يترضاه ويلين القول، ودعاه بزياد بن أبي سفيان، ثم قال: «كأنك لست أخي، وليس صخر بن حرب أباك وأبي، وشتان ما بيني وبينك، أطلب بدم ابن أبي العاص وأنت تقاتلني، ولكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء، فكنت كتاركة بيضها بالعراء وملحفة بيض أخرى جناحها، وقد رأيت ألا أؤاخذك بسوء سعيك وأن أصل رحمك وأبتغي الثواب من أمرك، فاعلم — أبا المغيرة — أنك لو خضت البحر في طاعة القوم، فتضرب بالسيف حتى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدًا، فإن بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة١١ إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح، فارجع — رحمك الله — إلى أصلك واتصل بقومك، ولا تكن كالموصول يطير بريش غيره، فقد أصبحت ضال النسب، ولعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج،١٢ فإن أحببت جانبي ووثقت بي فإمرة بإمرة، وإن كرهت جانبي ولم تثق بقولي ففعل جميل ولا عليَّ ولا لي، والسلام.»
على أن زيادًا لم يستجب لدعوته حتى قتل الإمام وصالح ابنه الحسن معاوية على شروط تسلمه زمام الأمر كله في حياته، ولبث معاوية قلقًا من جانبه لا يأمن مكره وجرأته، يقول لخاصته: ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل البيت، فإذا هو قد أعاد عليَّ الحرب جذعة؟١٣ … فتقدم المغيرة يتوسط بينهما ليشد ساعده بزياد في كيده لابن العاص، واستأذن معاوية في إتيانه فأذن له أن يلقاه ويتلطف في خطابه، وجاءه المغيرة على يأس من خلافة بني هاشم، وأمل مبسوط من المواعيد وتصحيح النسب في خلافة بني أمية، واستجاب زياد للمغيرة في أمر البيعة لمعاوية، وتمنع بعد ذلك في أمر البيعة ليزيد بولاية العهد، وأنفذ رجلًا من ثقاته إلى الخليفة؛ ليوصيه بالأناة «فإن دركًا١٤ في تأخير خير من أناة في عجلة»، ولولا أنه مات قبل البيعة بولاية العهد لما استقر الأمر على قرار.

هؤلاء هم الدهاة الثلاثة، لم يغلب أحد منهم على رأيه بدهاء من معاوية، وإنما أفادوا منه جميعًا فوق ما أفادوه.

وتذكر في هذا المعرض بيعة الحسن، فلا يقول قائل من المطنبين في دهاء معاوية أو من المقتصدين في أمره إنه كان عملًا من أعمال الدهاء دخلت فيه الحيلة على الحسن وصحابته، فإنما بايع الحسن بعد أن ثار به جنده، واجترأوا على نهب معسكره، حتى امتدت أيديهم إلى البساط الذي يجلس عليه وجرحوه في فخذه … وقيل في أسباب تلك الفتنة ما قيل من مختلف الأسباب والإشاعات، فزعم بعضهم أنها نشبت في المعسكر بعد أن شاع فيه مقتل القائد الأكبر قيس بن سعد، وزعم بعضهم أنها نشبت فيه بعد إشاعة التسليم، وقبول المصالحة بين الحسن ومعاوية … ولا أمان على كل حال لأنصار يجترئون على إمامهم بالنهب والسطو لسبب من الأسباب كائنًا ما كان، بعد ما تقدم من عنت هؤلاء للإمام في حياته وشقاقهم فيما بينهم، واستبداد كل منهم بفتواه في أمر الدين، وأمر السياسة والولاية، فلو لم يكن معاوية على حظ من الدهاء — قل أو كثر — لما استعصى عليه أن يظفر من الحسن بالمصالحة على شروطه فضلًا عن المصالحة على الشروط التي أمليت عليه.

وما يذكر أحد غير هؤلاء من النابهين المعدودين الذين قصدوا إلى معاوية بالبيعة، أو المؤازرة إلا كان على علم بما يقصده قبل لقاء معاوية، فلا خداع في شأن واحد من هؤلاء المعدودين ولا انخداع.

جاءه عبيد الله بن عمر ففرح به فرحًا شديدًا، وقال لعمرو بن العاص: ما يمنع عبد الله أن يجيئنا كما جاءنا أخوه؟ قال عمرو: إنما جاءك عبيد الله؛ لأنه يخشى قصاص ابن أبي طالب منه لقتله الهرمزان بغير قضاء، وكان عبيد الله قد قتل الهرمزان؛ لأنه شوهد مع أبي لؤلؤة قبل مقتل أبيه، وشوهد معه الخنجر الذي حمله أبو لؤلؤة، ووُجِد معه بعد مقتل الفاروق، فأشار الإمام بالقصاص منه، وأبى عثمان ذلك؛ لكيلا يقال: قتل عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم، فلما بويع الإمام بالخلافة في الحجاز خرج عبيد الله إلى معاوية ونادى مع المنادين بثأر عثمان، وقال للإمام في بعض المواقف بين الجيشين: الحمد لله الذي جعلك تطلبني بدم الهرمزان، وجعلني أطلبك بدم عثمان …

•••

وذهب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه يطلب منه مالًا لسداد ديون عليه، فأنظره موعد العطاء له ولسائر أصحاب الأعطية، فتركه وذهب إلى معاوية، فقضى له جميع ديونه، وقال له بعد أيام: أنا خير لك من أخيك … قال عقيل: صدقت! إن أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك، فأنت خير لي من أخي، وأخي خير لنفسك منك!

فكل دهاء يذكر لمعاوية فإنما يذكر إلى جانبه رفد،١٥ أو عطاء وولاية يستفيد منها من ينصره، ولا ينخدع عنها في مبادلة النفع بينه وبينه، ولا جرم كان العطاء عماد هذا الدهاء، وكان نقش الخاتم الذي تختم به بعد ولايته: «لكل عمل ثواب».
ولهذا أعياه كل الإعياء أمر المخالفين الذين لا تعمل فيهم رقية١٦ المال والولاية … فامتنع عليه عبد الله بن عمر؛ لأنه لم ينخدع بالدرهم والدينار «وإنما ينخدع الرجال بهما» كما قال، وامتنع عليه قيس بن سعد ذلك البطل القوي الأمين الذي حفظ عهده لعلي بن أبي طالب قبل عزله إياه وبعد عزله، وظل حافظًا لهذا العهد بعد مقتله رضوان الله عليه، ومصالحة الحسن لمعاوية، وانقضاض الولايات واحدة بعد أخرى عن أعوان بني هاشم، وقد دانت الدنيا للخليفة الجديد فأرسل إلى قيس صحيفة بيضاء موقعة بتوقيعه مختومة بخاتم الخليفة يكتب فيها ما يشاء، فلم يكتب فيها إلا عهدًا بالأمان لأصحابه الذين نصروا عليًّا والحسن بقيادته، وجلس الخليفة بالكوفة يتلقى البيعة من مخالفيه القدماء، فقال قيس: إن كنت لأكره مثل هذا اليوم يا معاوية! فقال له: مه١٧ رحمك الله، عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، قال قيس: لقد حرصت أن أفرق بين روحك وجسدك قبل ذلك، فأبى الله يا بن أبي سفيان إلا ما أحب، قال معاوية: فلا يرد أمر الله! فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال: معشر الناس! لقد اعتضتم الشر من الخير، واستبدلتم الذل من العز، والكفر من الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وابن عم رسول رب العالمين، وقد وليكم الطليق بن الطليق، يسومكم١٨ الخسف ويسير فيكم بالعسف،١٩ فكيف تجهل ذلك أنفسكم، أم طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون؟! … فجثا معاوية على ركبتيه ثم أخذ بيده، وقال: أقسمت عليك … ثم صفق على يده ونادى الناس: بايع قيس! فقال: كذبتم والله ما بايعت … وضاع صوته بين الصياح والضجيج.

ولم يزل أمثال عبد الله بن عمر وقيس بن سعد بمعزل عن حزب الدولة الجديدة، إلا من آثر الجهاد في غزو الأعداء ولم يجد عَلَمًا للجهاد غير علم الخليفة القائم بتجنيد الجند، وتجريد السرايا على أطراف الدولة من بلاد القياصرة والأكاسرة، وبطلت كل حيلة من حيل «الثواب» بالمال والولاية مع أمثال هؤلاء القوم الذين كانوا بحق عند المسلمين «بقية الناس».

إلا أن معاوية كان يصطنع الحيلة التي تجديه في كفاح خصومه، وإن لم تكن من قبيل الغلبة بقوة العقل وصولة «الشخصية» الطاغية على من دونها في البأس والمضاء …

كانت له حيلته التي كررها وأتقنها، وبرع فيها واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين، وكان قوام تلك الحيلة العمل الدائم على التفرقة، والتخذيل بين خصومه بإلقاء الشبهات بينهم، وإثارة الإحن فيهم، ومنهم من كانوا من أهل بيته وذوي قرباه.

كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق، وكان التنافس «الفطري» بين ذوي الأخطار مما يعينه على الإيقاع بينهم، كما كان يحدث بين المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص بغير تدبير منه، أو بتدبير هين لا تخفى خبيئته على الرجلين، فكان يسمع لكل منهما في الآخر، ويطيع كليهما في دسه وإغرائه؛ ليعلما بعد ذلك بما صنعه كل منهما من الكيد لصاحبه، فلا يتفقا عليه، وما هما بمتفقين، ولا مأرب لهما في الاتفاق، بل المأرب الذي يحرصان عليه معًا أن يقوم بينهما حجاز يعطيهما ما يسألان، ويكيد بكيدهما كما يحبان.

ودأبه في الوقيعة بين أهل بيته كدأبه في الوقيعة بين النظراء من أعوانه؛ فلم يكن يطيق أن يتفق بنو أمية من غير بيت أبي سفيان، ولم يكن ليهدأ ويستريح أو يوقع بين آل عمومته من بني العاص … قال ابن الأثير في أخبار سنة أربع وخمسين: «وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل مروان، وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان، ويقبض أمواله كلها ليجعلها صافية، ويقبض منه فدك — وكان وهبها له — فراجعه سعيد بن العاص في ذلك، فأعاد معاوية الكتاب بذلك، فلم يفعل سعيد، ووضع الكتابين عنده، فعزله معاوية وولى مروان، وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص وهدم داره، فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك، أتهدم داري؟ قال: نعم، كتب إليَّ أمير المؤمنين، ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت … فقال: ما كنت لأفعل، قال: بلى والله …! قال: كلا … وقال لغلامه: ائتني بكتاب معاوية، فجاءه بالكتابين، فلما رآهما مروان قال: كتب إليك فلم تفعل ولم تعلمني؟ … قال سعيد: ما كنت لآمن عليك، وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا، فقال مروان: أنت والله خير مني، وعاد ولم يهدم دار سعيد، وكتب سعيد إلى معاوية: العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا أن يضغن بعضنا على بعض … فوالله لو لم نكن أولاد أب واحد لما جمعنا الله عليه من نصرة أمير المؤمنين الخليفة المظلوم وباجتماع كلمتنا؛ لكان حقًّا على أمير المؤمنين أن يرعى ذلك … فكتب إليه معاوية يعتذر ويتنصل،٢٠ وأنه عائد إلى أحسن ما يعهده، وقدم سعيد على معاوية فأثنى عليه خيرًا، فقال له معاوية: ما باعد بينه وبينك؟ قال: خافني على شرفه وخفته على شرفه، قال: فماذا له عندك؟ قال: أسره٢١ شاهدًا وغائبًا.»

ومضى معاوية على هذه الخطة التي لا تتطلب من صاحبها حظًّا كبيرًا من الحيلة والروية، ولعلها تناقض الدهاء فيما ينكشف من عللها التي لا تدق على فهم أحد، فلو أنه استطاع أن يجعل من كل رجل في دولته حزبًا منابذًا لغيره من رجال الدولة كافة؛ لفعل، ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح؛ لما وصفه بغير مفرق الجماعات، ولكن العبرة لقارئ التاريخ في زنة الأعمال والرجال أن تجد من المؤرخين من يسمى عامه حين انفرد بالدولة عام الجماعة؛ لأنه فرق الأمة شيعًا شيعًا فلا تعرف كيف تتفق إذا حاولت الاتفاق، وما لبث أن تركها بعده تختلف في عهد كل خليفة شيعًا شيعًا بين ولاة العهود!

وكانت خطة التفرقة عامة عنده لا يقصرها على الخصوم؛ ليضرب بعضهم ببعض، ويتقي شر فريق منهم بشر فريق، بل كان يتوخى هذه الخطة مقدمًا ومؤخرًا، وبين كل فريقين وعلى كل حال، وفي كل موقف كأنها غرض مقصود لذاته أو كأنها خير «مطلق» لا شر فيه …

وبدأ بهذه الخطة في السياسة العامة على عهد عثمان، فخص المهاجرين بدعوته قبل مرجعه إلى الشام، وقام بينهم يقول بعد أن دعاه عثمان للمقال: «أما بعد، يا معشر المهاجرين وبقية الشورى، فإياكم أعني وإياكم أريد …» ثم أتبع ذلك بكلام طويل في معناه، يقول فيه: «يا معشر المهاجرين وولاة هذا الأمر، ولاكم الله إياه فأنتم أهله، وهذان البلدان مكة والمدينة مأوى الحق ومنهاه، وإنما ينظر التابعون إلى السابقين والبلدان إلى البلدين، فإن استقاموا؛ استقاموا، وايم الله الذي لا إله إلا هو … لئن صفقت إحدى اليدين على الأخرى؛ لا يقوم السابقون للتابعين، ولا البلدان للبلدين، وليسلبن أمركم ولينقلن الملك من بين أظهركم، وما أنتم في الناس إلا كالشامة السوداء في الثور الأبيض …»

•••

ويروي بعض المؤرخين أنه لما استقر له الأمر، وبويع له بالخلافة، وجاءه وفد الأنصار؛ أمر أن يدعى كل منهم باسمه إلى حضرته بمشورة عمرو بن العاص الذي كره أن يدعى الجمع كله باسم الأنصار، ولكن عمرو بن العاص لم يكن معه يوحي إليه حين خص المهاجرين بتلك الدعوة قبل أن يتفقا على شيء في أمر الدولة، ولم يكن سلطان عمرو هو الذي احتمى به الأخطل حين اجترأ على هجاء الأنصار، فقال:

ذَهَبَتْ قُرَيْشٌ بِالْمَكَارِمِ كُلِّهَا
وَاللُّؤْمُ تَحْتَ عَمَائِمِ الْأَنْصَارِ

فإنما اجترأ الشاعر هذه الجرأة بما علم من رضا الخليفة وأمانه أن يصيبه مكروه من جراء ذلك الهجاء.

ولم تقف خطة التفرقة عند هذه التفرقة بين مكة والمدينة؛ لأنه عمد إلى أهل مكة والطائف في بقعة واحدة، ففرق بينهما حين آثر الثقفيين — وهم أهل الطائف — بزلفاه، وسنَّ لمن بعده سنَّة هذا الإيثار، فكان من رجال بين أمية المغيرة وزياد والحجاج ومحمد بن القاسم، ورهط من الأقربين والصنائع،٢٢ وكانت الطائف على عهد معاوية وخلفائه كالحرس على أهل مكة ممن بقي فيها غير الأمويين السفيانيين، وقد أوقع بين هؤلاء الأمويين كما تقدم؛ فقسمهم بين بني حرب وبني العاص، وقسم بني العاص بين بيت سعيد وبيت مروان.
ومن خطط التفرقة التي حسنت لديه في حينها، وساءت عقباها بعد حين، وبعد كل حين؛ ذلك النزاع المشئوم بين اليمانية والمضرية، أو بين الكلبيين والقيسيين على اختلاف النسب والعناوين، وقد خبط٢٣ الأكثرون من مؤرخي العصر في تعليله بمختلف العلل، إلا العلة المقصودة التي دبرت في ذلك العصر أسوأ تدبير، ولعل المدبرين كانوا يحسبونه يومئذ أحسن تدبير …

فالعصبية في القبائل العربية خليقة لا تُهمَل في حساب المنازعات والمناظرات في زمن من الأزمان، ولكنه من السخف أن يقال إن العصبية كانت علة انتصار اليمانية لبني أمية على بني هاشم، وإن اعتزاز الهاشميين بالنبوة هو الذي أحفظ عليهم صدور القبائل من غير المضريين، الذين ينتمي إليهم بيت النبوة من بني هاشم.

فقد كان بنو هاشم وبنو أمية جميعًا من قريش، وكان اعتزاز بني أمية بالنسبة القرشية أظهر وأجهر من اعتزاز الهاشميين عند قيام دولتهم — دولة الأمويين — إذ كانت هذه النسبة حجتها من جانب النسب في استحقاق الخلافة، وقد كانت اليمن هي القطر الوحيد الذي رحب بوالي الإمام علي في أول بيعته، وكان الأنصار أهل المدينة من حزبه وهم — بين أوس وخزرج — ينتمون إلى اليمانية، وكانت كندة تنصره وظلت على نصرته، ونصرة أبنائه زمنًا طويلًا بعد قيام الدولة الأموية والدولة العباسية، وكان أشد أعوان الفاطميين بعد ذلك من اليمانية في المشرق وفي المغرب، ولما تلاقى جيش عليٍّ وجيش معاوية في وقعة صفين كانت القبيلة العربية الواحدة تقاتل في كلا الجيشين … قال ابن الأثير: «وسأل عليٌّ عن القبائل من أهل الشام فعرف مواقفهم، فقال للأزد: اكفونا الأزد، وقال لخثعم: اكفونا خثعم، وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام، إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى من الشام ليس بالعراق منهم أحد؛ مثل بجيلة لم يكن بالشام منهم إلا القليل صرفهم إلى لخم …»

فالنزاع بين اليمانية والمضرية لم يكن نزاعًا على فخر النبوة، ولا على فخر الخلافة عند بداءة أمره، وإنما كان نزاعًا بين سلاحين أو بين جيشين متنافسين في مكان واحد، عدا ما هنالك من النزاع بين الفكرين، ونحن نرى في عصرنا — وفي كل عصر — أمثال هذا التنافس بين الأسلحة كلما جنح ولاة الأمر إلى فريق منهم دون فريق، وقد رأينا هذا التنافس بين سلاح البر وسلاح البحر وسلاح الهواء في الجمهورية الفضية، وكلهم من جنس واحد أو قومية واحدة؛ لأن ولاة الأمر هناك يؤثرون سلاحًا على سلاح في التنازل بينهم على السند الذي يستندون إليه.

لقد كانت عصبية النسب عنوانًا من عناوين الخلاف بين قبائل اليمن، وقبائل مضر في دولة بني أمية بالشام، ولكن هذه العصبية لم تكن لازمة كل اللزوم لإثارة الخلاف حينما أريد لغرض من أغراض السياسة، وقد حدث مثله بين قبائل اليمن، وحدث مثله بين قبائل مضر على حسب الطوارئ والمناسبات، ولو كان الجند كلهم من قبيلة واحدة وأراد ولي الأمر أن يثير المنافسة بينهم؛ لما أعياه ذلك كما حدث في هذا العصر بين الشعوب الأمريكية في الجنوب على ما قدمناه.

•••

ومعاوية كان يريد النزاع بين اليمانية والمضرية، ولم تكن له من خطة ثابتة فيه غير التفرقة بينهم تارة إلى هؤلاء، وتارة إلى هؤلاء، وقد كان هو نفسه من المضريين، ولكنه كان يبدو في بعض الأحايين كأنه من أبناء اليمن عدو لأبناء مضر، وطابت له هذه السياسة فاستمرأ٢٤ مرعاهم الوخيم حتى كانت عقباها ضياع الدولة الأموية كلها بعد جيلين.

وأبرع ما برع فيه من ألوان الدهاء إلقاء الشبهة بين خصومه في زمن كانت فيه هذه الشبهات من أيسر الأمور؛ لكثرة التقلب والتحول في الدول والممالك بين أنصار اليوم وخصوم الأمس، أو أنصار الأمس وخصوم اليوم …

كان إذا أراد أن يستميل أحد البطارقة من دولة الروم فاستعصى عليه؛ كتب له رسالة مودة وثناء، وأنفذها مع رسول يحمل إليه الهدايا والرُّشا كأنها جواب على طلب منه يساوم فيه على المصالحة والغدر برؤسائه من دولة الروم، ويخرج الرسول العربي من طريق متباعد كأنه يتعمد الروغان من العيون والجواسيس، فإذا اعتقله الروم — ولا بد أن يعتقلوه لأنه يتعرض للاعتقال ويسعى إليه — وقعت الشبهة على البطريق المقصود، وتعذر الاطمئنان إليه من قومه بعد ذلك، وعزلوه وأبعدوه إن لم ينكلوا به أشد النكال …

وقد احتال بمثل هذه الحيلة على قيس بن سعد حتى أوقع الريبة منه في نفس الإمام، وساعدته الحوادث على خلق هذه الريبة كما أجملنا ذلك في كتابنا عن عبقرية الإمام «فشبهاته لم تكن بالقليلة ولا بالضعيفة؛ فإن قيس بن سعد لم يدخل مصر إلا بعد أن مر بجماعة من حزب معاوية، فأجازوه ولم يحاربوه وهو في سبعة نفر لا يحمونه من بطشهم، فحسبوه حين أجازوه من العثمانيين الهاربين إلى مصر من دولة علي في الحجاز، ولما بايع المصريون عليًّا بقي العثمانيون لا يبايعون ولا يثورون، وقالوا لسعد: أمهلنا حتى يتبين لنا الأمر، فأمهلهم وتركهم وادعين حيث طاب لهم المقام بجوار الإسكندرية … وأراد الإمام أن يستوثق من الخصومة بين قيس ومعاوية، فأمر قيسًا أن يحارب المتخلفين عن البيعة فلم يفعل، وكتب إليه يقول: إننا متى قاتلنا ساعدوا عليك عدوك وهم الآن معتزلون، والرأي تركهم …»

وتعاظمت بعد ذلك الظنون في زمن صدقت فيه أكثر هذه الظنون، فأما معاوية فلم يكن يكربه٢٥ الظن ولا الشبه بالظن؛ لأنه يعلم المنفعة التي يعطيها والمنفعة التي يريده أعوانه من أجلها، وأما الإمام فلم تكن له عصمة من الظن غير الحيطة وغير التجربة، ولم تكن للتجربة سابقة مقطوع بها، بل كانت كلها مما سينجلي عنه مستقبل مجهول.
فهذه الحيلة — حيلة الشبهة — كانت من أنجح الحيل في سياسة معاوية مع خصومه؛ لأنه زمن الشبهات وهي كثيرة فيما ابتلاه أولئك الخصوم، وقد نجحت ونجعت٢٦ بفضلين لا بفضل واحد: أحدهما فضل التدبير، والآخر فضل الحوادث بغير تدبير.

وحيلة أخرى لا نجزم بها، ولكننا نشير إليها في مكانها مما رواه الرواة عن الوسائل «الخفية»، التي توسل بها معاوية للغلبة على خصومه ومنافسيه، وحسبت يومئذ من ضروب دهائه، أو من ضروب كيده وهو مرادف عند عامة القوم لمعنى الدهاء.

مات الحسن ومات مالك بن الأشتر الذي ولاه الإمام مصر بعد عزل قيس، ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وعوجلوا جميعًا بغير علة ظاهرة، فسبق إلى الناس ظن كاليقين أنها غيلة مدبرة، وأن صاحب الغيلة من كان له نفع عاجل بتدبيرها، وهو معاوية.

•••

ونُقِل عن ابن العاص بعد موت الأشتر أنه قال: «إن لله جنودًا من عسل …» وكان موت الأشتر بعد شربة من العسل لم تمهله غير ساعات.

ونقل الخبر عن دس السم للحسن — رضوان الله عليه — مؤرخ من الأمويين هو أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني المشهور.

قال في كتابه مقاتل الطالبيين: «أرسل معاوية إلى ابنة الأشعث: إني مزوجك بيزيد ابني على أن تسمي الحسن بن علي … وبعث إليها بمائة ألف درهم، فقبلت وسمت الحسن فسوغها٢٧ المال ولم يزوجها من يزيد، فخلف عليها رجل من أهل طلحة فأولدها، فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم، وقالوا: يا بني مسمَّة الأزواج.»

وقال ابن الكلبي عن أبيه في سبب موت الأشتر: «إنه لما سار الأشتر إلى مصر أخذ في طريق الحجاز، فقدم المدينة فجاءه مولى لعثمان بن عفان يقال له: نافع وأظهر له الودَّ، وقال له: أنا مولى عمر بن الخطاب، فأدناه الأشتر وقربه ووثق به وولاه أمره، فلم يزل معه إلى عين شمس، فلما وصل إلى عين شمس؛ تلقاه أهل مصر بالهدايا، وأسقاه نافع المذكور العسل فمات منه … وقال ابن سعد: إنه سم بالعريش، وقال الصوري: صوابه القلزم …»

وجاء في أخبار سنة ثمانٍ وثلاثين لابن الأثير: «خرج الأشتر يتجهز إلى مصر وأتت معاوية عيونه بذلك، فعظم عليه وكان قد طمع في مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر، فبعث معاوية إلى المقدم على أهل الخراج بالقلزم، وقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجًا ما بقيت وبقيت، فخرج الجايسات — وفي رواية الطبري: الجايستار — حتى أتى القلزم وأقام به، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم وأقام به استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول فنزل عنده، فأتاه بطعام، فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سمًّا، فسقاه إياه، فلما شربها مات … وقام معاوية خطيبًا ثم قال: «أما بعد … فإنه كانت لعلي يمينان، فقطعت إحداهما بصفين — يعني عمار بن ياسر — وقطعت الأخرى اليوم؛ يعني الأشتر.»

•••

واتفق ابن الأثير والطبري على رواية واحدة في الجملة عن موت عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: «وكان سبب موته — كما جاء في ابن الأثير — أنه كان قد عظم شأنه عند أهل الشام، ومالوا إليه لما عندهم من آثار أبيه ولغنائه في بلاد الروم ولشدة بأسه، فخافه معاوية وخشي منه، وأمر ابن آثال النصراني أن يحتال في قتله، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه خراج حمص، فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس له ابن آثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها فمات بحمص، فوفى له معاوية بما ضمن له، وقدم خالد بن عبد الرحمن المدينة فجلس يومًا إلى عروة بن الزبير، فقال له عروة: ما فعل ابن آثال؟ فقام من عنده وسار إلى حمص فقتل ابن آثال، فحمل إلى معاوية فحبسه أيامًا ثم غرمه ديته، ورجع خالد إلى المدينة فأتى عروة، فقال عروة: ما فعل ابن آثال؟ فقال: قد كفيتك ابن آثال ولكن ما فعل ابن جرموز؟ يعني قاتل الزبير: فسكت عروة!»

وسبق الطبري فقال: «ذكر جرير وغيره أن رجلًا يقال له: ابن آثال — وكان رئيس الذمة — سقاه شربة فيها سم فمات، وزعم بعضهم أن ذلك من أمر معاوية له في ذلك ولا يصح، ورثاه بعضهم فقال:

أبوك الذي قَادَ الجيوشَ مغربًا
إلى الروم لما أَعْطَت الخرجَ فارسُ
وكم من فتى نبهته بعد هجعة
بقرع لجام وهو أكتع٢٨ ناعسُ
وما يستوي الصَّفَّان صفٌّ لخالد
وصفٌّ عليه من دمشق البرانسُ٢٩

وقد ذكروا أن خالد بن عبد الرحمن بن خالد قدم المدينة، فقال عروة بن الزبير: «ما فعل ابن آثال؟» فسكت: ثم رجع إلى حمص، فثار على ابن آثال فقتله، فقال: «قد كفيتك إياه، ولكن ما فعل ابن جرموز؟ فسكت عروة، ومحمد بن مسلمة في قول».»

•••

وشاعت الشوائع بمثل ذلك عن آخرين من أعداء معاوية ومنافسيه، يملي للناس في تصديقها أن هؤلاء الأعداء ماتوا بغير علة موصوفة في الموعد الذي يبغيه معاوية، وتترتب عليه سياسته التي كان يرجئها إلى مواعدها … فالحسن يموت قبل بيعة يزيد؛ كي لا يخرج معاوية على شرطه المكتوب للحسن، ومالك بن الأشتر يموت على أبواب مصر، وعبد الرحمن بن خالد يموت وهو في أوج سمعته بين قوم أعجبوا من قبله بأبيه، ويوشك أن يتجمع حوله الناقمون من أهل الشام وأهل الكوفة والحجاز … وكله مما يذكر ولا يعجل بنفيه، ولكنه لا يقوم عليه دليل قاطع، وأضعف ما في هذه الروايات تكرار المكافأة بإسقاط الخراج، وهي مكافأة لا توافق جنايات الغدر والغيلة؛ لأنها تتجدد في كل موعد خراج، ولا يزال السؤال عن سبب إسقاطه متجددًا بين العمال وأصحاب الأمر، حتى تنكشف المكيدة كلها مع الأيام، وما كان معاوية بعاجز عن المكافأة على دس السم للأعداء ببذل المال المعجل والمؤجل في الخفاء، فلا يسع المؤرخ أن يقبل هذه التهم جازمًا ولا أن يرفضها جازمًا، ولكن الشبهات والأقاويل وحدها تحدثنا بالشيء الكثير عن ظنون الناس بمعاوية، ووسائله إلى قضاء ما يبغيه.

•••

ونحسب أننا في هذا الفصل قد ألممنا بأفانين الدهاء التي نُسِبت إلى رأس الدولة الأموية، ويتبين منها جميعًا أن دهاءه من قبيل الدهاء الذي يعول على قضاء المصالح وتبادل المنافع، ويتساوى فيه دهاء الطرفين أو يكون الرجحان من قبل الطرف الآخر، فليس دهاء معاوية من قبيل ذلك الدهاء الذي يسوق الأعوان سوقًا إلى خدمة مقاصده بسلطان القدرة العقلية الخارقة، وغلبة الإقناع لا برهان فيه على الحقيقة، ولكنه ضرب من «التنويم المغناطيسي» تعمل فيه المشيئتان بمشيئة واحدة …

وإنما استطاع معاوية أن يستهوي الناس إليه بقضاء المصالح لقيامه على ولاية الشام عشرين سنة، واستئثاره بأقطارها جميعًا على أيام عثمان بن عفان، واحتجازه لما شاء من أموالها وخيراتها، وولاء أعوانها بغير رقابة عليه بعد أيام الفاروق …

فالرجل على نصيب متوسط من العقل يملي له طبع مفطور على الأناة لم تتعجله الحوادث قط، كما تعجلت منافسيه في الحجاز والعراق، وكان ذلك النصيب حسبه من العدة في ذلك النزاع الذي لا سواء فيه بين المصاعب والعقبات من الجانبين.

•••

ولو أنه قورن بينه وبين زملائه في سعة الدهاء؛ لكان آخر الأربعة صفًّا، أو لم يكن على اليقين أول الأربعة قبل عمرو بن العاص على الخصوص؛ فإنه الفارق بينهما كالفارق بين العبقرية والدربة،٣٠ أو بين العقل المشبع بالقوة والحيوية، والعقل الذي قصاراه من الرأي أن يحذر ويتربص، ويتجنب حيثما كان.

كان دهاء عمرو سلاح هجوم ودفاع، وكان دهاء معاوية سلاح دفاع دائم على أحسن الأحوال، وكان هو يجهل موازين الرجحان بين الدهاءين، ويحسب أن اتقاء العواقب هو كل ما يطلبه الداهية من دهائه، كأنما الدهاء سلاح يعمل عمل الدرع، ولا يعمل عمل السيف أو السهم في وقت من الأوقات …

•••

سأل معاوية عمرو بن العاص: ما بلغ من عقلك؟ قال: ما دخلت في شيء قط إلا خرجت منه، قال معاوية: لكنني ما دخلت في شيء قط وأردت الخروج منه!

ولم يكن عمرو ليقتحم المخاطر على الرغم منه ثم يبحث عن مخارج النجاة منها، ولكنه يقتحم الخطر ويقول غير مرة: «عليكم بكل مزلقة٣١ مهلكة …» لأنه كان على ثقة بدهائه كلما ثاب إليه، وعلى وفاء لطبيعة الإقدام والاقتحام التي تقترن بالعبقرية ودوافع القوة والحيوية، وليس من عزم الأمور دهاء لا يندفع بصاحبه في المضمار، ولا يرجى من نفعه قط إلا أنه لجام.

ولا نكران — بعد — لدهاء معاوية على هذا التقدير، وإنما قصاراه من هذا التقدير أنه لم يضيع الفرصة التي سنحت له، وأنه صبر في انتظارها وأطال الصبر غير متعجل لها قبل أوانها، وقد كان ذلك حسبه فيما توخاه …

١  بحذافيرها: جمع حذفور وهو الجانب، وأخذه بحذافيره أي: بأسره.
٢  نابذتك: نابذ الرجل صاحبه: خالفه وفارقه، والعدو الحرب: أعلمه بعزمه على القتال وكاشفه به.
٣  الزلفى: القربة، والدرجة والمنزلة.
٤  فنمى: نمى إليه: بلغه.
٥  عيونه: جواسيسه.
٦  غضاضة: مذلة.
٧  غرز: ركاب الرجل من جلد.
٨  يرتق: رتق الشيء سده، ضد فتقه.
٩  الحرم: بكسر الحاء: المنع.
١٠  أحمر: أحمر هنا بمعنى شاق ومتعب.
١١  الشفرة: بالفتح: السكين العظيم.
١٢  اللجاج: التمادي في الأمر ورفض الامتناع عنه.
١٣  جذعة: بفتحتين، وأعاد الحرب جذعة: أي جديدة كما بدأت.
١٤  دركًا: الإدراك واللحاق.
١٥  رفد: بكسر الراء: العطاء والصلة.
١٦  رقية: تعويذة.
١٧  مه: اسم فعل أمر بمعنى اكفف.
١٨  يسومكم الخسف: يكلفكم المشقة والذل.
١٩  بالعسف: الجور والظلم.
٢٠  يتنصل: تنصل إلى فلان من الذنب: خرج وتبرأ.
٢١  أسره: الأسر القوة وضخامة الخَلْق.
٢٢  الصنائع: جمع صنيع أو صنيعة، تقول: هو صنيعي أو صنيعتي، أي: الذي ربيته وخرجته.
٢٣  خبط: سار على غير هدى.
٢٤  استمرأ: استمرأ الضيف الطعام: استطابه.
٢٥  يكربه: كرب الأمر الرجل اشتد عليه وضايقه.
٢٦  نجعت: نجع الدواء في العليل، والوعظ في السامعين أثر وأفاد.
٢٧  سوغها: سوغه ما أصاب … جعله هنيئًا له.
٢٨  أكتع: الأكتع من رجعت أصابعه إلى كفه.
٢٩  البرانس: البرنس بضم الباء والنون: رداء خافٍ يلبسه المسافر أيام الصيف يتقي به الغبار.
٣٠  الدربة: المرانة والعادة على الشيء.
٣١  مزلقة: أرض لا تثبت عليها قدم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤