الدراسات الإسلامية علمٌ تاريخي

البداية

يرتبط الإسلام بالعروبة بعلاقة تبادل فريدة. كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي شبه الجزيرة وواحاتها التي سُمِّيَت نسبة إليهم، يعيثون فيها فسادًا — على حد حكم سكان البلاد المتحضِّرة المتاخمة — حتى أتى محمد ودعاهم إلى الإيمان بإلهٍ واحدٍ خالقٍ بارئ، وجمعهم في كِيان واحد متجانس. كان الشعر العربي قد أثمر أكرم ثماره، عندما انطلقت نغمات آيات القرآن وسوره لأول مرة في مكة، وهو أقدم أعمال الثقافة الإسلامية العربية الخاصة المدوَّنة. ولكن العالم الواسع المترامي الأطراف ما كان ليحس بالعرب لو لم يتحولوا، بفضل صلتهم بالإسلام، إلى عامل من عوامل القوة السياسية ويصبحوا بذلك ذوي أهمية — إن صح هذا التعبير. ولو لم يتلقف الناس القصائد العربية القديمة متأخرًا لتكون شواهد على لغة القرآن المقدسة، لانتقلت هذه القصائد بالرواية إلى أنحاء البادية ثم لهوَتْ إلى هوة النسيان، ولما أصابت الشهرة التي أصابتها اليوم. لهذا كانت ظاهرة الإسلام ظاهرة تلقى أسبقية وأفضلية في ميدان البحوث الاستشراقية، أو على الأدق في ميدان البحوث العربية الإسلامية. ولهذا أيضًا كان لزامًا علينا أن نتعرَّض أولًا، في إطار أوسع، لتطوُّر الدراسات الإسلامية وحدها في عصر نولدكه، وفي الفترة التالية له. ولن ننظر في هذا المقام — على الأقل مؤقتًا — إلى الدراسات المتعلقة بالآداب، والتي لا تعالج موضوعات دينية خاصة، ولا إلى الدراسات المتعلقة بالشعر العربي القديم، ولا ينبغي أن نغفل مع ذلك أن هذه الدراسات كانت تلقى الاهتمام والعناية في الوقت نفسه، بل إنها كانت في أحيان كثيرة تلقى الاهتمام والعناية من العلماء أنفسهم. ويكفي أن نشير إلى نولدكه الذي نشط في ميدان الدراسات الإسلامية، ونشط في الوقت نفسه في ميدان الدراسات الدائرة حول الشعر العربي القديم.

وفي الأعوام ١٨٣٣ و١٨٤٣ و١٨٤٤م ظهرت مؤلفاتٌ فتحت، كلٌّ على طريقته، آفاق العصر الحديث في البحث التاريخي النقدي الذي تناول محمدًا وبداية الإسلام، من هذه المؤلفات: «النبي محمد، حياته وتعاليمه»، و«مدخل تاريخي نقدي إلى القرآن» لجوستاف فايل (١٨٠٨–١٨٨٩م)، كان هذا الكاتب من أصل يهودي، تَرَبَّي تربية تلمودية، ثم درس بالجامعات الألمانية وعرَف المنهج التاريخي. ويمتاز كتابا جوستاف فايل بأنهما من ناحية الموضوع أكثر شمولًا، وكتاب السيرة خاصة يستحق أن يُعتبر فاتحة عصر جديد. فإذا كان الكتابان لا يجدان اليوم قراءً يحفِلون بهما، فمَردُّ ذلك إلى أن البحث في حياة محمد قد تقدم في هذه الأثناء وظهرت نتائجه في منشورات حديثة قريبة المنال. وقد استعمل فايل في سيرته كل المصادر التي أمكنه الوصول إليها بكل الطرق، ورحل خاصة إلى مدينة جوتا ليبحث في المكتبة الأميرية بها عن مخطوطات تختص بموضوعه، ووجد كتاب دِيار بَكْري المسمى «تاريخ الخميس في أحوال أنفَس نفيس»، والسيرة الحلبية، وهما كتابان نشآ في القرن السادس عشر والسابع عشر، ولكنهما مع ذلك يحتويان على كثير من المواد القديمة الصادرة عن المنابع الأولى. كذلك وُضِعَ تحت تصرفه كتاب السيرة المحمدية الشهير، الذي لم يكن قد طُبِعَ بعد، «سيرة ابن هشام» (وقد نهض بنشر سيرة ابن هشام المستشرق فرديناند فوستنفيلد بين عام ١٨٥٨م وعام ١٨٦٠م، وفي عام ١٩٦٤م نشر فايل نفسه ترجمة كاملة لها). أما كتابه «مدخل إلى القرآن» فقد قسَّم فيه السور المكية لأول مرة إلى ثلاث مجموعات، تقسيمًا أخذ به نولدكه فيما بعد. وقد أتْبَعَ فايل كتابه «محمد النبي» بعد ذلك بكتاب في ثلاثة مجلدات هو «تاريخ الخلفاء»، أكمله ﺑ «تاريخ الخلافة العباسية في مصر». وفي هذه المصنفات كذلك استخدم المصادر الأولى بعد تمحيص مادتها وتقديرها قدرها على نحو استقلالي.

وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى مؤلَّف هام هو كتاب تاريخي مثير للجدل بطبيعته، اسمه «حياة محمد وتعاليمه حسب مصادر لم تُستخدم غالبيتها إلى الآن»، من تأليف ألويس شبرنجر (١٨١٣–١٨٩٣م)، ظهر في ثلاثة مجلدات من عام ١٨٦١م إلى ١٨٦٥م في برلين، ثم أُعيدَ طبعه عام ١٨٦٩م. (وكان الجزء الأول من الكتاب قد ظهر بالإنجليزية في الله آباد بالهند). كان ألويس شبرنجر من منطقة التيرول أصلًا، وكان رجلًا نشيط الفكر، بعيد الترحال، لا يكِلُّ في الإنتاج ولا يمَلُّ، وأُوتي حظًّا عظيمًا مكَّنه من تنفيذ برنامج للعمل خطه لنفسه في شبابه، نصَّ على تكريس نفسه للدراسات الآسيوية كليةً، وزيارة الشرق والإسهام في إدخال الثقافة الأوروبية هناك، والعودة إلى أوروبا بمعرفة صحيحة بالشرق وآدابه. وظل مدة تزيد على ١٢ عامًا مقيمًا بالهند عاملًا في ميادين التعليم والمكتبات والثقافة العامة، وانتهز الفرصة فوسع اطلاعه في الثقافة الإسلامية المدوَّنة، وعرَف ما كُتِبَ عن التاريخ العربي الإسلامي والتاريخ الهندي الإسلامي، فدفع ما دفع إلى المطبعة وجمع لنفسه ما استطاع إلى جمعه سبيلًا. وهكذا خرجَتْ بإشارة منه طبعة «فهرست كتب الشيعة» للطوسي، وطبعة «الإتقان» للسيوطي، في سلسلة «المكتبة الهندية» Bibliotheca Indica. كذلك كانت له يد في إخراج «ف. ن. ليس» لطبعة كشاف الزمخشري، وفي إخراج «أ. فون كريمر» لطبعة (عبارة عن مقتطفات) من كتاب المغازي للواقدي. وقد اكتسب شبرنجر علمًا واسعًا غير مألوف في عصره بأعمال أدب العصر الإسلامي المبكر، وكان يمتلك مخطوطات من سيرة ابن هشام وتفسيرها السواحيلي، ومن أجزاء من حوليات الطبري، وقد عثر على الجزء الأول من كتاب الطبقات لابن سعد في مكتبة خاصة في كاونبور، وعثر على أجزاء أخرى من الكتاب في دمشق. وكان على الأقل يعرف موطأ مالك، والصحيحين للبخاري ومسلم، ومجموعات الحديث الأربع المشهورة الأخرى، واستيعاب ابن عبد البر، وإصابة ابن حجر، وتاريخ ابن الأثير. ولما عاد شبرنجر عام ١٨٥٦م نهائيًّا إلى أوروبا، أحضر معه مجموعة من الكتب تقرب من ٢٠٠٠ مجلد، بينها ١١٠٠ مخطوط عربي، انتقلت ملكيتها بعد ذلك بقليل إلى مكتبة برلين. (وتقوم مكتبة جامعة توبنجن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالإشراف عليها والعناية بها، وباب الاطلاع عليها مفتوح للطالبين والراغبين).

وكان المتوقع أن يتمكن شبرنجر، بما بين يديه من مصادر كثيرة كثرةً كبيرة، من كتابة سيرة لمحمد لا تدع مجالًا للنقد أو المؤاخذة، ولكن السيرة التي ألفها خيَّبت الظنون في أكثر من ناحية، ولم ترْعَ شروط التقرير العلمي ومتطلباته. فقد ضلله اتجاهه إلى النظر إلى الإسلام باعتباره وليد روح عصره، وحمله على التقليل من شأن شخصية النبي ومن أهمية جهوده التاريخية. واستنتج من تقرير هو في ذاته تقرير صحيح، خلاصته أن الأخبار التي وصلتنا عن النبي محمد مصدرها رجال كانوا يبجلونه، استنتج من ذلك أنَّ «على كاتب السيرة أن يلعب دور محامي الخصم البغيض، وأن يستخرج مثالب شخصيته من بين المديح الذي يحيط بها». وانتهز كل فرصة ليلفت النظر إلى نواحي الضعف الإنسانية في محمد. ولكن سيرة شبرنجر رغم ما فيها من ألوان النقص هذه، تُعتبر جهدًا مهمًّا، لا لأنها أثَّرت على الصورة التي ظل الناس في البيئات المثقفة في ألمانيا عشرات السنين يكونونها عن الإسلام فحسب، ولكن لأنها تمثل أيضًا محاولة ناجحة — على الأقل من الناحية الشكلية — لصب معلومات مفصلة مستقاة مباشرة من المنابع في قالبٍ جامعٍ ضخم، ولتقديمها إلى جمهور واسع من القراء. كذلك كان مهتمًّا بتتبع الأثر العظيم الذي كان للظروف الثقافية النابعة من الإسلام على أوروبا في العصر الوسيط، وكان حريصًا على فتح أعين مجتمعه عليه وتنبيهه إليه. وكان يرى أن الناس «أفردوا لمعرفة الثقافة الكلاسيكية القديمة اهتمامًا كبيرًا جدًّا ولمعرفة الشرق اهتمامًا صغيرًا جدًّا». وكان علاوة على ذلك يريد «تحت تأثير فلسفة عقلية للتاريخ أن يتبيَّن قوانين تاريخية عامة وأن يفرق بين العوامل الثابتة والعوامل المتغيرة في التاريخ»، وكان يعلن فخورًا أنه بالسعي إلى هذا الهدف ينضم إلى مدرسة ابن خلدون.

ألفرد فون كريمر وتيودور نولدكه ويوليوس فيلهاوزن

إذا كان لنا أن نقول عن شبرنجر إنه تأمل في الإسلام من أوجه نظر تاريخ الثقافة خاصة، فإن هذا القول ينطبق بالأحرى على مواطنه النمساوي ألفرد فون كريمر (١٨٢٨–١٨٨٩م). قام ألفرد كريمر، خلال عمله في السلك القنصلي وخلال الاستعداد له، برحلات كثيرة إلى تركيا وسوريا ومصر وعرَف الشرق هو أيضًا معرفة دقيقة عن رؤية بالعين. ويبدو أن الخبرة العملية بالشرق أيقظت في نَفْسَي شبرنجر وكريمر الحاجة إلى تتبع جهود الثقافة الإسلامية في العصر الوسيط التي ما زالت موجودة في الشرق المعاصر مضمحلة حقًّا، ولكن واضحة أمام النظرة المتعرفة، في كثير من جوانبها، وإلى كشف خطوط الصلة التي تؤدي إلى عالم الغرب. يذكر ألفرد فون كريمر عن نفسه أنه تعلم كيف يفهم «أن الإسلام في العصر الحاضر لا يمكن الحكم عليه حكمًا صائبًا إلا إذا رُبِطَ بمجموع التاريخ الثقافي للشعب العربي، ذلك التاريخ الثقافي الذي نرى آخر صورة من صور تطوره في الشرق الحديث». ولم يرد «البقاء في الدائرة الضيقة للثقافة العربية حتى لا يأخذ طائفة من الأفكار والتطورات على أنها عامة شاملة، وهي في حقيقتها مقصورة على جزء صغير من الإنسانية». فقد برز في وجدانه في أثناء دراساته الاقتناع المُلح بأن «هناك في الإسلام كذلك آراء مسيطرة يمكن التعرُّف عليها بكل تأكيد، أثرت على تاريخ الأمم تأثيرًا هائلًا».

وظهرت العيِّنة الأولى من حصيلة اشتغال كريمر بالمسائل المتصلة بتاريخ الثقافة وعلم الاجتماع في عام ١٨٥٩م، متمثلة في دراسة مستفيضة عن «ابن خلدون وتاريخه الثقافي للدول الإسلامية». وتوالت كذلك في الأعوام ١٨٦٨م و١٨٧٥م و١٨٧٧م أعماله الرئيسة في تاريخ الثقافة: «تاريخ الأفكار السائدة في الإسلام. مفهوم الله، النبوة، فكرة الدولة»، ثم كتاب «تاريخ ثقافة الشرق تحت حكم الخلفاء» في مجلدين. وقد وجه البعض إلى «تاريخ الأفكار السائدة» نقدًا يتلخص في أنه أسرف في تضييق إطار النظرة الشاملة لتطوُّر الثقافة الإسلامية في مجموعها، وفي أنه معيب من ناحية الخطة. ولكن الكتاب في مجموعه يُعَدُّ جهدًا عظيمًا، ويعج بالملاحظات الهامة والأحكام الصائبة على أشكال التنظيم في الدولة وعلى تطوُّر الدين الإسلامي، والتصوُّف الإسلامي الذي لا يغفله، بل يوليه ما يستحق من التكريم. ويتم استعراض هذه الأمور كلها من مرصد الحاضر، لهذا تلُوح بعض مراحل التطور القديمة أحيانًا مسرفة في القِصر إذا ما أحاطت بها نظرة شاملة. ويعالج الجزء الأول من كتاب «تاريخ ثقافة الشرق تحت حكم الخلفاء» نُظم الدولة تحت العناوين الآتية: نشأة الخلافة، حياة المدينة، نظام الدولة في العصر القبلي، دمشق وبلاط الأمويين، توطيد كيان الدولة، الحرب، المالية، البنيان العضوي للدولة، القضاء. أما الجزء الثاني فيضم الفصول الثقافية الآتية: مدينة السلام (بغداد)، الزواج والأسرة، الشعب، الطبقات وحياتها، الخلق الشعبي، التجارة والحرف، الشعر، العلم والأدب، أسباب التدهور. والكتاب مكتوب بطريقة سلسة، ويضم كثيرًا من النصوص المستمدة من المصادر المناسبة والتي تجعل القراءة مسلية حقًّا.

يأتي تيودور نولدكه (١٨٣٦–١٩٣٠م) في هذا الموضع حسب الترتيب الزمني. لم يكن لنولدكه ما لرجالٍ غيره مثل شبرنجر وكريمر من موهبة التأمل الفلسفي، بل كان يهتم أول ما يهتم بفهم الوقائع وتحليلها، وقد ذكر عن نفسه أنه يتْبَع المدرسة العقلية، ويصح أن نقول عنه: إنه كان يتبع الوضعية. وهو في كل نشرياته يعالج الأمور كلها على نحو موضوعي خالص يلتزمه أشد الالتزام، ويعبر عما يريد بعبارات واضحة، وإذا حدَّث بشيء صدَق وأخلص. فإذا صادف أمرًا لم يكن متأكدًا منه، أبان عن ذلك، أو تركه كليةً دون أن يقول فيه رأيًا. فما ضل قط من انضوى لقيادته العلمية.

ونشرياته الكثيرة لا تمس تاريخ الإسلام إلا في جزء قليل منها هو الذي يعنينا هنا. فقد اضطلع بالجزء الخاص بالساسانيين عند إخراج طبعة لِيدن النَّموذجية لتاريخ الطبري، وكان الوحيد بين المشتركين في هذا العمل الجماعي العظيم الذي أتبع جزأه بترجمة ألمانية هي «تاريخ الفرس والعرب في عصر الساسانيين» (عام ١٨٧٩م) كذلك نشر في الكتاب الجامع المسمى «صور شرقية» (١٨٩٢م) مقالتين: واحدة عن الخليفة المنصور، والأخرى عن ثورة العبيد في السنوات من ٨٦٩م إلى ٨٨٣م. أما كتابه الصغير «حياة محمد، عرض مبسط لها مستمد من المصادر» (١٨٦٣م) فيتميَّز بحكم موضوعي هادئ على شخصية النبي العربي، تلك الشخصية التي تلوح، للمتبعِ مذهبَ العقلية، ذاتَ ألغاز على نحو خاص. ويتميَّز، علاوة على ذلك، بأنه مثَل نَموذجي لما ينبغي أن يكون عليه عرضٌ تاريخي علمي معتمِد على المصادر، وفي متناول فهم عامة القراء. على أن أهم كتاب لنولدكه في ميدان البحث في الدراسات الإسلامية هو بلا شكٍّ كتابه «تاريخ القرآن» الذي يدور حول موضوع كان قد نوَّه إليه في رسالة الدكتوراه، تلك التي حصل بها على جائزة، ثم تناوله مرة أخرى بنجاح لنيل جائزة أعلن عنها «مجمع الكتابات والآداب» في باريس. وفي عام ١٨٦٠م ظهر الكتاب في صيغته الألمانية، ثم ظهرت الطبعة الثانية منها وقد زِيدت إلى ثلاثة مجلدات في عام ١٩٠٩و ١٩١٩ و١٩٣٨م، ونهض بتعديل الجزأين الأولين المستشرق فريدرِش شفاللي، فلما مات قام جوتهلف بِرجشترِيسَر بالعمل في الجزء الثالث، ولكنه مات قبل أن يفرغ منه، فأكمله أوتو برتسل وأخرجه «تاريخ نص القرآن». وبهذا تم الكتاب. ولقد أصبح «تاريخ القرآن» منذ زمن طويل كتابًا أساسيًّا من كتب هذا الفرع من التخصص، ولا يحتاج لتبجيل أو تكريم أكثر من هذا. ولقد لقي تقسيم نولدكه (متأثرًا بجوستاف فايل) لسور القرآن زمنيًّا إلى ثلاث فترات مكية وفترة مدنية استحسانًا عامًّا. ولا تمس الشكوك التي أثارها ريشارد بل («مقدمة القرآن» ١٩٥٣م) ضد هذا التقسيم، بوصفه تقسيمًا. ويحدد الكتاب ميزات كل مجموعة من مجموعات السور من ناحية الأسلوب والمضمون تحديدًا ممتازًا. ويعطي المجلد الثاني من الكتاب كل ما يتطلبه الباحث من مؤلَّف علمي بهذا الحجم في موضوع جمع القرآن والمسائل المتصلة بذلك. وينطبق هذا الكلام أيضًا على المجلد الثالث الذي يعالج تاريخ النص القرآني. وعلى مَن يريد الاشتغال علميًّا بالقرآن على أي نحو، أن يعتمد كتاب نولدكه «تاريخ القرآن»، ذلك الكتاب الذي سيظل حافظًا لقيمته على مرِّ الأيام. ويكتمل هذا الكتاب بتكملة قيِّمة من إنشاء نولدكه هي دراسته: «في لغة القرآن» (التي نُشرت في مجموعة «مقالات جديدة في علم اللغات السامية» ١٩١٠م) التي تضم الأجزاء الآتية: «القرآن والعربية»، «خصائص أسلوبية وخصائص تكوين الجمل في لغة القرآن» و«كلمات أجنبية مستعملة عن عمد وغير عمد في القرآن».

أما يوليوس فيلهاوزن (١٨٤٤–١٩١٨م) فقد صنع لنفسه اسمًا في علوم التوراة بنقد لأسفار التوراة الخمسة، قبل أن يوجه اهتمامه التاريخي وجهده المثمر إلى عالم الإسلام المبكر والعروبة القديمة. فنشر: «محمد في مدينة أو كتاب المغازي للواقدي في ترجمة ألمانية ملخصة» (١٨٨٢م) الذي عرَّف العلم المتخصص بكتاب هام لم يكن يعرفه إلا من طبعة أ. فون كريمر بقدر الثلث وعلى نحو معيب. ولا شك أن هذه الترجمة الألمانية الملخصة ستظل تُستعمل في المستقبل كثيرًا، حتى بعد أن يظهر النص الكامل قريبًا في طبعة محققة يصح الإسناد إليها. على أن طريقة فيلهاوزن المميِّزة له في العمل، والتي تربط ربطًا منسجمًا بين تحليل ونقد المصادر وبين التركيب التاريخي العظيم، لم تبدأ في الظهور إلا في الكتب التالية: «آثار من الجاهلية العربية» (١٨٨٧م، الطبعة الثانية ١٨٩٧م)، وفي الوقت نفسه إعادة بناء لكتاب الأصنام لابن الكلبي، ثم كتاب «المدينة قبل الإسلام»، و«تنظيم محمد للجماعة في المدينة»، و«كتب محمد والسفارات التي وجهت إليه» (١٨٨٩م)، و«مقدمة للتاريخ الإسلامي الأقدم» (١٨٨٩م). أما دراسته المقدَّمة لأكاديمية جوتنجن المسماة: «أحزاب المعارضة الدينية السياسية في عصور الإسلام القديمة» (١٩٠١م) فتظهر لنا فيها خاصة طائفة الخوارج، أولئك المتعصبين للديمقراطية الراديكالية المسرفة في عصور الإسلام المبكرة، حية أمام أعيننا، تثير الفزع فينا والإعجاب في وقت معًا، حتى يكاد الإنسان يقول: إن فيلهاوزن أدركهم ومال إلى صفهم، وما حديثه إلا استقاء من المصادر وإعادة بناء لمادتها بفهم حادٍّ صائب. وكتاب فيلهاوزن «الدولة العربية وسقوطها» (١٩٠٢م) كتاب هائل من الناحية العلمية ومن الناحية الفنية، وعمل يعتمد على تحليل نقدي للمصادر المتمثلة في الفقرات المطلوبة من تاريخ الطبري، وعرض للتاريخ السياسي للإسلام حتى سقوط الأسرة الأموية يأخذ بمجامع قلوب القراء. ولو اقتصر ما وصَلَنا من إنشائه على هذا الكتاب وحده، لحق علينا أن نعُده، من أجْلِهِ، أهم مؤرخ كتب عن تاريخ الإسلام إطلاقًا. كان فيلهاوزن، كما قال كارل هاينرش بيكر في ذكراه فأصاب: لا يتجه إلى المادة بالتساؤلات، ولكنه كان يدع التساؤلات تفرض نفسها من روح المصدر نفسه، وكان يفوق كل مَن سبقوه في أنه يرى المصدر بوصفه كلًّا متكاملًا، ولذلك وقف حيال المدونات الفنية عظيمًا رفيعًا. وكان في إحساسه بأنه ينبغي تجديد كل شيء من أساسه، لا يجد ضرورة ملحة في الإحاطة بكل شيء علمًا وفي مناقشته وتمحيصه. ومن البديهي أن فيلهاوزن لم يقُل في الأمور كلها الكلمة الأخيرة، وقد تعرَّض النقد الذي وجَّهه إلى تصوير أهل البلاد لطريقة فرض الضرائب، تعرض حديثًا للشك وبحق. ولكن «الدولة العربية وسقوطها» كتاب سيظل مع هذا — حتى إذا ظهرت به أخطاء أخرى من هذا القبيل — تحفةً رائعة.

استقلال علم الدراسات الإسلامية على يد مارتن هارتمَن وكارل هاينرش بيكر

يشعر المرء دائمًا في محاولته تقدير جهود الاستشراق الألماني منذ عهد تيودور نولدكه، بأن العلماء الألمان الذين عملوا في هذا الصعيد لم يكونوا قط مستقلين استقلالًا ذاتيًّا، وبأن أمرهم في هذا يشبه أمر أقرانهم من الأمم الأخرى. ذلك أن الاستشراق مسألة عالمية، مسألة تهم أوروبا بأسرها. لهذا كان من التعسُّف حيال الموضوع أن يظن المرء أن في إمكانه أن يعالج جهود الألمان على أنها مطلقة، وأن يفْصِلها عن ارتباطها بالأوشاج والأربطة العالمية. فإن جهود الألمان ليست في الحقيقة إلا سهمًا، مهما ارتفع الإنسان في تقديرها وعلا من ناحية الكيف. ونحن — معشر المستشرقين الألمان — نتْبَع بصفتنا هذه جماعة كبيرة، ونعلم أننا لا نقوم إلا بها. وإذا أخذنا في اعتبارنا أن مجال البحث الذي يفتحه الاستشراق مجال فسيح كثير الجوانب، تبيَّنَّا أن العاملين به فعلًا قليلون عددًا. وهذا وحده يكفي سببًا لكي يتجمعوا ويتعاونوا ويتجنبوا ازدواج العمل ما أمكن ذلك حسب ما يقضي به اقتصاد القُوى. وكثيرًا ما يكون للمستشرق الفرد بزملائه الأجانب علاقات أوثق من علاقاته بالمستشرقين من أهل بلده، ويعرف كيف يقدِّر شاكرًا ما يأتيه التبادل معهم من تشجيعٍ علمي ونفْع.

هذا ما ينبغي أن نفكر فيه عندما نتعرَّض فيما يلي لاثنين من المستشرقين من غير الألمان، هما: إجناتس جولدتسيهر، وكرستيان سنوك هورجرونيه، أثَّرَا في تطور الاستشراق الألماني تأثيرًا كبيرًا جدًّا، حتى إنه لا يمكن تصوُّر تاريخه بدونهما.

إجناتس جولدتسيهر (١٨٥٠–١٩٢١م) يهودي مجري درس في برلين ولايبتسج، وحصل على الدكتوراه في لايبتسج على يد فلايشر، ثم اتجه إلى الدراسات الإسلامية بمجالها الواسع الشامل، وخصَّ ببحوثه النقدية تاريخ الشريعة الإسلامية ونشأة الحديث وتطوره خاصة. في كتابه «الظاهريون، مذهبهم وتاريخهم» (١٨٨٤م) أنشأ مدخلًا إلى طريقة دراسة علم الشريعة الإسلامية معتمِدًا مثال مدرسة واحدة من مدارسها. والمجلد الأول من كتابه «دراسات إسلامية» (١٨٨٩–١٨٩٠م) يضم بحوثًا مختلفة تتصل بالعروبة وعلاقتها بالدين الإسلامي، والمجلد الثاني يضم بحثًا هامًّا عن تطوُّر الحديث، وبحثًا آخر عن تبجيل الأولياء في الإسلام. ويشك جولدتسيهر بأبحاثه النقدية في القيمة الخبرية الأولية للحديث أساسًا، ولكنه يرفع قيمته الخبرية الثانوية بوصفه شاهدًا على التطوُّر الديني والاجتماعي للإسلام في القرنين الأولين لوجوده بقدر تشككه الأول. وتعالج مجموعته «محاضرات عن الإسلام» (١٩١٠م، الطبعة الثانية ١٩٢٥م) الموضوعات الآتية: محمد والإسلام، تطور القانون، النُّسُكية والصوفية، الطوائف، تشكيلات متأخرة. وينبغي أن نشير بعد هذا إلى إخراجه وإعداده لكتاب الغزالي «فضائح الباطنية» (١٩١٦م)، وإلى كتابه العظيم الأخير «اتجاهات تفسير القرآن عند المسلمين» (١٩٢٠م). هذه الكتب كلها تدخل في عداد المؤلفات التي لا غنى لمكتبة الدراسات الإسلامية عنها إلى اليوم.

وبينما كان جولدتسهير عالمًا نظريًّا بحتًا، وكان في أبحاثه يستند إلى ذاكرة فائقة، ويسير حسب مصادر مناسبة فحسب، متنقلًا من استشهاد إلى استشهاد، كان زميله في الاستشراق وصديقه العالم الهولندي كرستيان سنوك هورجرونيه، (١٨٥٧–١٩٣٦م) رجلًا يستند إلى خبرته العملية بالشرق، وقد قام في رسالته «العيد المكي» (١٨٨٠م) — تلك الرسالة التي لم تفقد قيمتها إلى اليوم — بفحص ناقد للتصريحات القرآنية الخاصة بإبراهيم واعتباره الأب الأول للإسلام ومنشئ الكعبة. وقد أقام كرستيان سنوك هورجرونيه — استعدادًا للعمل في خدمة الاستعمار — نصف عام متخفيًا، ١٨٨٥م، بين المسلمين في مكة، ووضع في كتابه «مكة» الذي أصدره باللغة الألمانية في جزأين (١٨٨٨–١٨٨٩م) النتائج العلمية لمهمته الفريدة تلك. وشغل بعد ذلك مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولندية الهندية، وأوتي بذلك، فيما أوتي، فرصة معرفة العرف السائر بين المسلمين هناك معرفة وثيقة. وتتضمن مقالاته «الصغيرة» — التي تعالج موضوعات متنوعة، من بينها ما يتخذ شكل مناقشات نقدية للكتب — مادة قيِّمة في الدراسات الإسلامية، وقد نُشرت هذه المقالات الصغيرة بعناية أ. ي. فِنسِنك ١٩٢٣–١٩٢٧م في ستة ثم سبعة مجلدات. ولسنوك هورجرونيه مقال واراه النسيان وإن ظل جديرًا بالاهتمام، مقال عن الإسلام اشترك به في الطبعة الرابعة من كتاب شانتيبي دي لاسوسي المسمى «كتاب تعليم تاريخ الأديان» (١٩٢٥م)، وكان كرستيان سنوك هورجرونيه متضلعًا من الفقه خاصة، ويجيد تاريخ الشريعة وتاريخ القانون الوضعي جميعًا، وكان نقده الذي كثيرًا ما اتسم بالحدَّة نقدًا مثمرًا دائمًا.

تقدَّمت الدراسات الإسلامية في طريق تحولها إلى علم مستقل في الصعيد الناطق بالألمانية تقدمًا كبيرًا بفضل جولدتسيهر، وسنوك هورجرونيه من ناحية وبفضل مبادرة ذاتية من ناحية ثانية. وقد أدى حصول الرايخ الألماني، في عامي ١٨٨٥–١٨٨٦م، على مستعمرات في أفريقيا تضم مناطق بعض سكانها من المسلمين (كانت ألمانيا منذ ذلك الوقت وحتى عام ١٩١٨م تُعَدُّ من الدول المستعمِرة) إلى إمداد الاشتغال بالإسلام وبالكتب الإسلامية المدوَّنة بالعربية بحافز معيَّن في ذلك الوقت، فتأسس طبقًا لهذه النظرة معهد اللغات الشرقية في برلين عام ١٨٨٧م، وهو معهد كانت مهمته تتلخص في الحصول على معلومات عن البلدان الشرقية الحالية وبلدان الشرق الأقصى، وعن شعوب هذه البلدان وثقافاتها. وقد نشر المعهد في «أخباره» على مرِّ السنين والأعوام أعمالًا هامة خاصة بالدراسات الإسلامية. نشر إدوارد زاخاو (١٨٤٥–١٩٣٠م) الذي قام في عامي ١٨٧٩–١٨٨٠م برحلة بحثية إلى سوريا والجزيرة، وفي عامي ١٨٩٧-١٨٩٨م برحلة إلى العراق، وكان يشغل منذ عام ١٨٧٦م كرسي الأستاذية بجامعة برلين، نشر بصفته المدير الأول للمعهد: «الشرع الإسلامي حسب المذهب الشافعي» (١٨٩٧م) ضمن سلسلة الكتب التعليمية التي أصدرها. أما مارتن هارتمَن (١٨٥١–١٩١٨م، ولا ينبغي الخلط بينه وبين ريشارد هارتمَن) الذي كان يقوم بتدريس اللغة العربية في هذا المعهد، فقد بذل جهودًا لإنشاء كرسي أستاذية خاص بالدراسات الإسلامية فلم يُوفَّق؛ لأن الوقت لم يكن قد بلغ النضج الكافي لتقبل مثل هذه الدعوة. كذلك لم يجد مارتن هارتمَن لاتجاهه الاجتماعي في البحث من الاهتمام إلا أقله. والسبب يكمن في شخصيته المتهوِّرة المتفاوتة التي كانت تضلله في كتاباته وتدفعه إلى التعجل في اتخاذ رأي على الفور، دون تأنٍّ وانتظار على الأفكار حتى تنضج بالفعل وتطرح ثمارها في أوانها. ولكنه مع هذا يحتفظ بفضل الاهتمام بالاشتغال العلمي بالعالم الإسلامي المعاصر والتأكيد على هذا الاهتمام، ولا شك أنه كان يضعه نصب عينيه عندما أنشأ، بالاشتراك مع مجموعة من المتفقين معه في الفكر، الجمعية الألمانية للدراسات الإسلامية عام ١٩١٢م. وقد نشر العديد من المقالات في مجلة «عالم الإسلام» التي كان جيورج كامفماير (١٨٦٤–١٩٣٦م) يخرجها لهذه الجمعية. وقد أسهمت هذه المَجلة، التي تسمَّت منذ عام ١٩٥٩م باسم «سلسلة جديد»، في تزويد الرأي العام المتخصص والرأي العام الواسع بكمية كبيرة من المعلومات القيمة طوال عشرات السنين، أما كتاب مارتن هارتمَن الأخير، والذي نُشِرَ بعد وفاته في نشريات الجمعية الألمانية للدراسات الإسلامية، فقد كان يدور حول شعراء تركيا الجديدة.

ويسوقنا الحديث إلى كارل هاينرش بيكر (١٨٧٦–١٩٣٣م) الذي اختير مرة لمنصب وزير الثقافة البروسي، وكان أول مَن شغل كرسي أستاذية تاريخ ثقافة الشرق، الذي أنشئ عام ١٩٠٨م في هامبورج عند إنشاء المعهد الاستعماري هناك. كان بيكر بما تلقى من ثقافة عالِمًا في الدراسات السامية والآشورية أصلًا، ولكنه تحول، متأثرًا بكتابات فيلهاوزن وجولدتسيهر وسنوك هورجرونيه، إلى البحوث الإسلامية. على أن اهتمامه الأول كان قبل كل شيء آخر يتركز على ميدان تاريخ الثقافة والدين. ولكن هذا لم يمنع من قيامه ببحوث تناول فيها المسائل الاقتصادية التاريخية. كتب فصلًا عن «توسع العرب» في «تاريخ كمبردج للعصر الوسيط». والحق أن كارل هاينرش بيكر كان يمكن أن يكون أي شيء آخر إلا أن يكون مهتمًّا بناحية واحدة فقط من الأمور. كان حتى إذا قام بدراسة جزء، لا يبعد نظره عن الكل. وقد جمع بنفسه كتاباته في كتاب من جزأين اسمه: «دراسات إسلامية» وعنوانه الثاني: «في كيان وتطور العالم الإسلامي» (١٩٢٤–١٩٣٢م)، ويتناول فيه موضوعات تبيِّن عناوينها طريقته في التفكير مثل: «الإسلام في إطار تاريخ الثقافة العام»، «الإسلام والاقتصاد»، «المسيحية والإسلام»، ومثل: «الخطوط الأساسية للتطور الاقتصادي بمصر في القرون الأولى للإسلام»، «نشأة أرض العشر والخراج في مصر»، «الحكر والإقطاع»، «في تاريخ الثقافة الإسلامية»، «الجدل المسيحي وتكون العقائد في الإسلام». والمقالات المجمعة في المجلد الثاني تتناول تارة «الإسلام في أفريقيا» (مثلًا: «الإسلام واستعمار أفريقيا»)، وتارة «مشكلات الشرق المعاصر» («الجامعة الإسلامية»، «فكرة الدولة التركية»، «مشكلة الثقافة التركية» وما إلى ذلك). ويرجع إلى بيكر فضل إنشاء المعهد الهامبورجي لتاريخ الشرق وثقافته، ويرجع إليه أيضًا فضل تأسيس مجلة «الإسلام» (١٩١٠م) خاصة، تلك المجلة — «مجلة تاريخ الشرق الإسلامي وثقافته» — التي بلغت أعدادها الآن ٤١ مجلدًا، والتي تعتبر أهم أداة نشرية للدراسات الإسلامية في ألمانيا والتي احتفظت على يد مَن خلفوا بيكر على كرسي الاستشراق في هامبورج بمستواها القديم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤