مأساة عزيزة وسعدى

ارتفعت أغاني البنات والصبايا متغنية بعزيزة ابنة سلطان تونس «معبد بن باديس»:

أول قوللي على عزيزة
العايقة أم حلق ودلال
يوم العرب خطبوا عزيزة
جاها «المنازع» و«العلام»
وجوها من أهل مكة
من العراق ووادي الشام.

وتلك بالفعل كانت مأساة عزيزة ابنة سلطان تونس الطاعن في السن المريض معبد بن باديس، الذي من نسله انحدر «المعز بن باديس» باني قاهرة المعز.

كانت مأساة أو فاجعة عزيزة تكمن في جمالها الباهر وسعة معرفتها، مما جلب إليها العشرات إثر العشرات من الخُطَّاب وراغبي التقرب منها والفوز بزواجها، متوسلين لتحقيق رغبتهم تلك بكل غالٍ ونفيس وركوب كل صعب يفضي إلى استحواذهم على عزيزة.

أما هي — أي عزيزة — فكانت ترفض في كل مرة مثل هذا المطلب، الذي سيقودها في نهاية المطاف إلى أن تصبح قابعة وظلًّا لرجل قد لا تعرفه أو تسمع به أو تكنُّ له أية مشاعر.

زوج أو خطيب قد يجيئها مرة من أطراف جزيرة العرب وقد يجيئها من مصر العدية، أو مراكش والأندلس، محملًا بأكياس الهدايا التي تنوء تحت ثقلها هوادج الجمال أو المراكب والبواخر، يريد أن يفرغها من فوره على أعتاب قصر أبيها السلطان المسجى على فراشه معبد بن باديس منذ سنين، ليعود بعزيزة إلى بلاده بدلًا من المال والهدايا والمجوهرات، وكأن الأمر هنا لا يعدو مجرد صفقة تجارية لا غير.

بل إن والدها ذاته «معبد» أصبح لا يرى في زواجها سوى مجرد تحقيق المزيد من الاستحواذ على عناصر قوة جديدة عن طريق زواج عزيزة من ذلك الحاكم أو ابن ذلك الأمير. وفي مثل هذه الحالات تعتريها ثورة من الغضب كلما عرض عليها قبول زيجة من هذا النوع: عزيزة لن تكون يومًا مجرد سلعة سياسية لتحقيق أطماع وتحالفات على حساب سعادتها ليس إلا.

هكذا كانت تصرح لأقرب صديقاتها ووصيفاتها محتدة في معظم حالاتها، وخاصة لصديقة طفولتها وابنة عمها «سعدى» ابنة فارس تونس الأول وحاكمها في غيبة والدها السلطان الذي صرعه المرض الأعوام الطوال، سعدى بنة الزناتي خليفة.

فكانت سعدى توافقها متحمسة بالنسبة إلى موقفها ومشاعرها تلك، وهي التي تربت معها لا تفارقها منذ مهد الطفولة وأيام الدراسة والأسفار لاستكمالها، حيث قضت بضع سنوات بغرناطة بالأندلس وعامين بإسطنبول، حيث ظلتا معًا لا تفترقان ليل نهار.

فكانتا تتبادلان معًا الأحاديث والآراء، وتصدران التعليقات ذاتها بعدما تلاقت وجهات نظرهما في كل شيء حتى بالنسبة إلى عادات وتقاليد الشعوب والأقوام والحضارات الغربية التي تمر عليهما.

كانت الهواية الأولى لعزيزة هي السفر والترحال دون كلل، تجد فيهما مهربها والنهل الذي منه ترتوي عبر التطواف في المدن والأمصار المختلفة، وكانت دائمة القول لسعدى: المدينة حقًّا تعلم الإنسان.

ففي تلك اللحظات التي يعن فيها للصديقتين الابتعاد عن تونس بأسرها، وخاصة عاصمتها قرطاج التي أحالها ابن عمهما العلام بن هضيبة إلى سجن كبير؛ كان يحلو لعزيزة إطلاق طاقات خيالها بحثًا عن كل جديد تشهده عيناها عبر بلاد الله الواسعة.

كانت لا تكف عن التعليق عما تشهده وتدونه من أحداث ومعالم تجمعات الغرباء، وخاصة الفقراء منهم، عبر أساليب تعبيرهم عن أنفسهم وممارستهم وعلاقاتهم الاجتماعية، سواء تمثلت في موسيقاهم وأغانيهم ورسوماتهم الشعبية والجدارية أو في أزيائهم وتصميماتهم، ومعمارية مساكنهم وشوارعهم وساحاتهم العامة.

أما ذروة فرح العزيزة وابتهاجها فكانت لحظة أن تحط مرساتها مشرفة على مداخل المدن والموانئ البحرية؛ في الأندلس والبسفور وعبر البنادقة — جمع بندقية — وهي المدن الساحلية التي بناها العرب الفينيقيون، وعلى مدن وشواطئ البحر الأبيض، ومنها المدينة التي تعيش فيها قرطاج.

ولم تقتصر رحلات عزيزة على مدن وموانئ وحضارات الغرب، فزارت الشرق كثيرًا وعاشت حياته؛ زارت بيروت وطرابلس وصور واللاذقية وحلب الشهباء والإسكندرية. وكان يحلو لها تدوين ملاحظاتها وأفكارها ليلًا؛ عن ملامح الناس البسطاء وأزيائهم ولهجاتهم وموسيقاهم ومساكنهم وأسواقهم وحتى أغطية رءوسهم، وكان يحلو لها تأملها واقتناؤها والعودة بها عقب كل رحلة مع ما يعجبها من منسوجات ومجوهرات ورسوم ومنحوتات وأزياء وآلات موسيقية، فتروح تنشغل في تأملها وكيفية عرضها فيما بعد على طول الجدران المرمرية — السوداء — التي شيد منها قصرها المنعزل على روابي قرطاج الفيحاء الكثيفة الخضرة.

فاستحال القصر إلى متحف شاهق انتقت العزيزة عناصره ومحتوياته بحرص شديد، والتي راوحت ما بين أغطية رأس الشعوب وشعورهم أو شعورهن المستعارة ومطرزات دمشق، وأرجوان صور، وعروش مهجورة لملكات يمنيات متآكلة الأخشاب وما دُوِّن تحتها من نصوص طريفة، منها ما كتب على قبر الملكة «تدمر بنت حسان بن أذينة»، وأذينة هو اسم والدة الملكة تدمر: خرب الله بيت من خرب بيتي!

فكانت تسافر المسافات الطوال بحثًا عن أشعار ومعلقات مزدانة بالمذهبيات لشعراء مندثرين، أمثال السموءل، وأمية بن أبي الصلت، وجليلة بنت مرة، والعنتريات وغيرها، تروح تنشد مقاطعها أمام شمعداناتهم ومراياهم ليلًا.

وكثيرًا ما استوقفتها سعدى وبعض الصديقات والجواري المقربات سائلات، لتندفع عزيزة من فورها في فيض لا ينتهي من الشرح والإسهاب سواء أكان هذا الموضوع متصلًا بالمدونات والمخطوطات العفنة البائدة، أو متصلًا بمنحوتات الأحجار الكريمة والرسوم والمنمنمات، أو متصلًا ببقايا مومياء متآكلة يفيض مرآها بالرهبة التي تدفع بسعدى خاصة إلى الخوف والرهبة، فكانت تصارح عزيزة بإحساسها فتمضي الأخيرة من جانبها في الاسترسال والحديث والشرح.

ولعل هذه المعرفة المتعطشة دومًا إلى كل استزادة ولو أدى الأمر إلى الأسفار والاتصال المباشر بالأشياء من جانب عزيزة، هو ما أفضى إلى اتساع شهرتها والتغني بها وبجمالها الآسر الباهر من جانب الشعراء والمداحين، وأصحاب مسارح خيال الظل التي عرفت باسمها السفيرة عزيزة.

كما أن هذه المعرفة كانت في ذات الوقت مصدر عذابها وعزلتها النفسية عن بني جلدتها، أو حتى بعدها عن الطمع في الاستحواذ على السلطة التي ستئول إليها، بحسب التوارث الأنثوي والطبيعي لعرش تونس وقلاعها السبع بالجزائر والمغرب العربي والأندلس.

بل إن هذا بذاته هو السبب الدافع الكامن والمؤجج لرغبات الاستحواذ عليها من جانب معظم طالبي الزواج منها، الذين رفضتهم بكل عنف كاشفة ومبررة لأبيها طموحاتهم الدفينة.

وهكذا خلا الجو لابن عمها «العلام بن هضيبة» الحاكم الفعلي لتونس وقلاعها، نظرًا إلى شبابه وحيويته المتدفقة وقسوته المتجبرة، خاصة مع كل طامع من الغرباء.

خلا الجو للعلام «ليبيض ويفرخ» مستعينًا في أحقيته القبائلية في الزواج من ابنة عمه عزيزة، مما ييسر له بالطبع الطريق المفتوح على مصراعيه إلى عرش تونس، الذي نضج وحان قطافه بمجرد أن يلفظ السلطان المعتزل المريض «معبد بن باديس» والدها أنفاسه الواهنة.

– العلام.

لكم فكرت عزيزة فيه وانشغلت كثيرًا في هذا الأمر، حتى أعياها التفكير دونما التوصل معه إلى سلام أو مهادنة تتيح لها الالتئام النفسي معه والاطمئنان منه! لكن دون جدوى.

وكثيرًا ما استعانت عزيزة بصديقتها المقربة سعدى، التي كانت بدورها تكره العلام، ليس فقط لمجرد التعاطف مع عزيزة، لكن بسبب دمويته وتجبره وشهوته العارمة للسلطة والتسلط.

ناهيك عما كانت تسمعه بنفسها من والدها خليفة الزناتي، الذي لم يكن يخفي عنها خافية من صراعه اليومي الطاحن مع العلام ابن أخته، حتى إذا ما انتهى الأمر به في أحضان فراشه، كانت سعدى آخر من يطبق عينيه على خيالها شاكية متأففة منه.

وكم من إهمال وصل بالزناتي الكمد حتى أقصاه، من العلام وأفعاله! وهو الذي أتاح له الوصول إلى قمة السلطة الحاكمة بتونس وقرطاج، إلا أن العلام كان لا يعرف له حدودًا يقف عندها حامدًا ربه.

فكان كمن يتغذى بالتملك الذي يتيح له مواصلة الصعود والتفوق دون مراعاة كافية لمعلمه وربيبه الزناتي، مما كان يتيح للأخير إحساسًا بصنع المعروف في غير أهله.

ومن هنا كانت تعلو شكواه لأقرب مقربيه ابنته سعدى متذمرًا شاكيًا: هذا العلام الأرقط، المسموم!

وبالطبع تقوم سعدى بنقل نص حديث وتذمر والدها الزناتي صبيحة اليوم التالي لأذني العزيزة، التي يصل بها النفور إلى حد كره تونس بمن فيها، وقد يدفعها الأمر أو الضيق إلى التفكير في السفر والسياحة، أو استعجال المؤجل من برامجها.

– لا مهرب لنا يا سعدى يا أختي سوى السفر لكي ننسى.

وتقاطعها سعدى في بعض الأحيان مؤكدة ضرورة عدم دفن الرءوس في الرمال.

– كيف نهرب من العلام؟

وينتهي الأمر بعزيزة إلى معاودة انشغالها بمخطوطاتها العفنة، أو مقتنياتها التي عادت بها فرحة من أرض الله الواسعة، أو اختصار الطريق والتجهيز لرحلة بحرية جديدة مشرقًا ومغربًا.

– دعينا ننسى يا سعدى.

– لكننا سنعود إن عاجلًا أو آجلًا إلى تونس.

وتغمغم عزيزة: إلى العلام!

– الجلاد!

وكثيرًا ما يستحوذ العبث بسعدى فتمضي مغيرة الموقف معابثة عزيزة: لكنه لم يُفِقْ بعد من هواك يا عزيزة!

وتغني متندرة:

العلام في هواك يا عزيزة
كل يوم يكسر له حصان.

هنا تدرك عزيزة أن سعدى بدأت تضايقها لتغيظها حين تسألها: أنت أيضًا تحبينه يا عزيزة يا حبيبتي.

– أنا؟!

– أجل أنت.

– أحب من؟

– الأمير العلام ابن عمك من لحمك ودمك.

وقد ينتهي الأمر بسعدى في لحظات الصفاء في معاودة مكايدة عزيزة بما تعرفه عنها من رومانتيكية ورغبات جامحة، وقد تلاعبها مصارعة إلى أن تطرحها أرضًا ضاحكتين عابثتين.

لكن وفي بعض الأحيان، يصل الحنق بعزيزة من مكائد وعنفوانية العلام بن هضيبة إلى حد يدفع بها دفعًا إلى شق ملابسها أمام سعدى، التي سرعان ما يأخذها الموقف وما انتهى إليه فأغضب عزيزة إلى هذا الحد، فتقاربها مصالحة مواسية: أنا لا أقصد شيئًا يا عيني يا عزيزة.

هنا تصرخ عزيزة ضائقة: أما من مهرب من هذا السجن الكبير قرطاج، تونس بأكملها؟!

وعادة ما ينتهي الأمر بالسفر البحري متنفسًا ولو للتغيير داخل موانئ تونس وقلاعها وتخومها السبعة، لحين انتهاء الرحلة والعودة مرة أخرى إلى الأهل والوطن.

وهكذا بدأت حياة الأميرة عزيزة الباهرة الجمال ابنة سلطان تونس أقرب إلى أن تكون حياة منقسمة أو مزدوجة الشخصية.

فبينما اتسعت شهرتها لتعم الآفاق ليتغنى بها الشعراء وينشدها المداحون وتذكرها مسارح خيال الظل في كل مناسبة ومكان؛ مضت هي تعاني وحدتها القاسية تفاديًا للمنغصات والمعوقات التي لم تفرغ منها جعبة العلام يومًا أو لحظة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤