القوة العمياء

جاء الربيع وتكلمت الطبيعة بألسنة السواقي فَفَرَّحَتِ القلب، وابتسمت بشفاه الأزهار فأسعدت النفس، ثم غضبت ودكت المدينة الجميلة فأنست الإنسان عذوبة كليماتها ورِقَّةَ ابتساماتها، قوة عمياء مخيفة نقضت بساعة ما أقامته الأجيال، موت ظلوم بأظافره المحدودة على الأعناق فسحقها بقساوة، نار آكلة التهمت الأرزاق والأعمار، ليل قاتم أخفى جمال الحياة تحت لحف الرماد، عناصر هائلة هَبَّتْ من مرابضها وقاتلت الإنسان الضعيف وخربت مساكنه وذرت بسرعة ما جمعه بالتأني، زلزال عنيف حبلت به الأرض فتمخضت متوجعة ولم تَلِدْ غير الخراب والشقاء.

جرى كل ذلك والنفس الحزينة ناظرة من بعيد تتأمَّل وتتألم، تتأمل بمقدرة الإنسان المحدودة تجاه القوى غير العاقلة وتتألَّم مع المصابين الهاربين من النار والدمار، تتأمل بأعداء ابن آدم الكامنة له تحت أطباق الثرى وبين دقائق الأثير، وتتألَّم مع الوالدات النائحات والأطفال الجائعين، تتأمل بقساوة المادة واستصغارها الحياة العزيزة، وتتألم مع الذين رقدوا بالأمس مستأمنين في منازلهم فأصبحوا اليوم واقفين عن بُعد يرثون المدينة الجميلة بغصات مؤلمة وعبرات مرة، تتأمل بكيفية انقلاب الأمل يأسًا، والفرح حزنًا، والراحة عذابًا، وتتألَّم مع قلوب ترتعد بين مخالب اليأس والحزن والعذاب.

كذا وقفت النفس بين التأمُّل والتألُّم تنقاد تارة إلى الشك بعدالة النواميس الرابطة القوات بعضها دون الآخر، وتعود طورًا فتهمس في آذان السكينة قائلة: إن وراء الكائنات حكمة سرمدية تبتدع من كوارث ونوازل نراها محاسن نتائج لا نراها، فالنار والزلازل والعواصف من جسم الأرض بمكان البغض والحقد والشر في القلب البشري تثور وتضج ثم تخمد، ومن ثورتها وضجيجها وخمودها تبتدع الآلهة معرفة جميلة يبتاعها الإنسان بدمعه ودمه وأرزاقه.

أوقفتني الذكرى ونكبة هذه الأمة تملأ الأسماع أَنَّةً وعويلًا، وصورت أمام عيني كل ما مَرَّ على مرسح الأيام الغابرة من العبر والخطوب، فرأيت الإنسان في كل أدواره يقيم على صدر الأرض البروج والقصور والهياكل، والأرض ترجعها إلى قلبها، رأيت الأشداء يشيدون المباني القوية، والنحاتين يختلقون من الصخور صورًا وأشباحًا، والرسامين يزينون الجدران والمداخل بالنقوش والنسيج، ثم رأيت هذه اليابسة تفغُر فاها وتبتلع بخشونة ما ألفته الأيادي المتفننة والعقول الراجحة، ماحية بقساوتها ظواهر الصور والأشباح، مدمرة بسخطها خطوط الرسوم والنقوش، دافئة بعنفها فخامة الدعائم والجدران، ممثلة دور حسناء مستغنية عن الحلي التي يصيغها ابن آدم، مستكفية بحلل المروج الخضراء المزركشة بذهب الرمال وجواهر الحصى.

على أنني وجدت بين هذه النكبات المخيفة والرزايا الهائلة، ألوهية الإنسان واقفة كالجبار تسخر بحماقة الأرض وغضب العناصر، ومثل عمود نور منتصبة بين خرائب بابل ونينوى وتدمر وبمباي وسان فرنسيسكو، ترتل أنشودة الخلود قائلة: لتأخذ الأرض ما لها فلا نهاية لي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤