خليلي

لو علمت يا خليلي الفقير أن الفاقة التي تقضي عليك بالشقاء هي هي التي توحي إليك معرفة العدل وتبثك إدراك كُنْهِ الحياة، لرضيت بقسمة الله، قلت معرفة العدل لأن الغني مشغول عن تلك المعرفة بخزائنه، وقلت كنه الحياة لأن القوي منصرف عنها إلى المجد. فافرح إذن بالعدل لأنك لسانه، وبالحياة لأنك كتابها، وابتهج فأنت مصدر فضيلة عاضديك، وعاضد فضيلة الآخرين بيدك.

ولو دريت يا حبيبي الحزين أن الأرزاء التي أصبحت مغلوبها، هي تلك القوة التي تنير القلب وترفع النفس من دركات الاستهزاء إلى درجات الاعتبار لقنعت بها إرثًا، وبتأثيراتها مهذبًا، وعلمت أن الحياة سلسلة ذات حلقات آخذة بعضها برقاب البعض، وأن الحزن حلقة ذهبية تفصل بين الاستسلام لمآتي الحاضر والتعلُّل ببهجة الآتي، كما يفصل الصبح بين النوم واليقظة.

خليلي، إن الفقر يطهر شرف النفس والغني يبين لؤمها، والحزن يلطف العواطف والسرور يدملها؛ لأن الإنسان ما برح يستخدم المال والسرور توصلًا للازدياد مثلما يفعل باسم الكتاب شرًّا ينزه عنه الكتاب، وباسم الإنسانية ما تأباه الإنسانية.

لو باد الفقر ونأى الحزن لأصبحت النفس صحيفة خالية إلا من أرقام تدل على الأنانية ومحبة الإكثار، وألفاظ مفادها الشهوات الترابية؛ لأني نظرت فوجدت الألوهية، وهي الذات المعنوية في الإنسان، لا تُباع بالمال ولا تنمو بمسرات فتيان العصر، وتأملت فرأيت الغني ينبذ ألوهيته ويحرص على أمواله، وفتى العصر يغادرها ويتبع ملذاته.

إن الساعة التي تصرفها أيها الفقير، مع رفيقتك وصغارك بعد مجيئك من الحقل، لهي رمز العائلة البشرية المستقبلة، هي عنوان سعادة الأجيال الآتية، والحياة التي يصرفها المثري بين الخزائن لهي حياة دنية تحاكي حياة الدود في القبور، هي رمز الخوف.

والدموع التي تذريها أيها الحزين، هي أعذب من ضحك المتناسي، وأحلى من قهقهة المستهزئ، تلك دموع تغسل القلب من أدران البغض، وتعلم ذارفها كيف يشارك منكسري القلب بشواعرة، هي دموع الناصري.

إن القوة التي زرعتها أيها الفقير، واستغلها الغني القوي سوف تعود إليك؛ لأن الأشياء ترجع إلى مصادرها بحكم الطبيعة، والأسي الذي عانيته أيها الحزين، ينقلب فرحًا بحكم السماء.

سوف تتعلم الأجيال الآتية المساواة من الفقر، والمحبة من الأحزان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤