الفصل السادس والثلاثون

الدكتور درِّي باشا

ترجمة حياته

ولد في القاهرة سنة ١٢٥٧ﻫ، وقد قام والده المرحوم السيد عبد الرحمن أحمد من محلة أبي علي القنطرة (بالغربية) إلى مصر بعد أن دخل العسكرية في زمن المغفور له محمد علي باشا الكبير، وأقام بها سنوات التحق فيها بالدكتور الطائر الصِّيت كلوت بك؛ لامتيازه إذ ذاك بمعرفة الكتابة والقراءة، ثم عوفي من تلك الخدمة واختار الإقامة في مصر، واشتغل فيها بالتجارة في الحبوب وغيرها، ورزق بأولاد منهم صاحب الترجمة، ربَّاهم كلهم تربية حسنة بتثقيفهم في المدارس، واختاروا الطب علمًا وعملًا، فكان لهم فيه ولأولادهم من بعدهم العمل النافع للبلاد والعباد.
figure
الدكتور دري باشا ١٢٥٧ﻫ–١٣١٨ﻫ.

ولما بلغ صاحب الترجمة السابعة من عمره (١٢٦٤ﻫ) أدخل مدرسة المبتديان، المعروفة الآن بمدرسة الناصرية، ولم يُقِمْ فيها سوى بضعة أشهر، ثم ألغاها المرحوم عباس باشا الأول في تلك السنة التي عرفت بسنة (البرار والبراماز)؛ أي سنة ما ينفع وما لا ينفع، فانتقل مع من انتخبوا من التلامذة إلى المدرسة التجهيزية، وكانت في الأزبكية، ومكانها الآن فندق شبرد، وبعد بضعة أشهر انتقل تلامذة هذه المدرسة إلى مدرسة أبي زعبل، فأقام فيها صاحب الترجمة إلى أن أكمل دروسها أو كاد.

ثم انتخب تلميذًا في مدرسة المهندسخانة، وكانت في بولاق مصر، وناظرها المرحوم علي باشا مبارك. على أنه كان يميل بطبعه إلى الطب، فكان يترقب الفرص لنيل مقصده، ولكنه لم يوفَّق إلى ذلك إلا سنة ١٢٦٩ﻫ بعد صبر وعناء، فألحق بتلامذة الفرقة الخامسة منها (سنة أولى). وفي الامتحان العمومي السنوي نقل إلى الفرقة الرابعة، وفي مثله من السنة التالية نقل إلى الفرقة الثالثة وهو يجدُّ في الطلب، لا يعلم ما خبَّأه القدر له ولسائر التلامذة، فلم تشعر المدرسة إلا وقد جاءها المرحوم علي بك علوي يدعو تلامذتها جميعًا إلى الديوان الخديوي بالقلعة بأمر المغفور له سعيد باشا، فخرجوا إليها واصطفوا أمام الديوان ينتظرون ما لا يعلمون، حتى خرج إليهم المرحوم سعيد باشا بنفسه في أبهة ملكه ومعه المرحوم الدكتور محمد بك شافعي الحكيم ناظر المدرسة الطبية وغيره، وفرز التلامذة بنفسه فجعلهم ثلاثة أقسام بحسب أعمارهم؛ فحديثو السن جدًّا أمر بطردهم من المدرسة، والمتوسطون أن يلحقوا بالشوشخانة السعيدية (أورطة عسكرية)، والمتقدمون ألحقهم بالمدرسة العسكرية الحربية في بلدة طره، وكان صاحب الترجمة من المتوسطين في السن فألحق بالعسكرية، فصرفت لهم الملابس العسكرية والجربنديات، وأقفلت مدرسة الطب، وخلت المدارس المصرية من علوم الطب والأطباء.

ولكن صاحب الترجمة لم يجئ في خاطره مع ذلك أن يترك ما تعلمه من العلوم، بل بقي يتذكره ويتعهده بالتفكير فيه؛ طمعًا في أن يعود الحاكم إلى صوابه فيعيد المدرسة الطبية، فيعود هو إليها ويكمل علومها، وغلب اليأس على رفاقه وهو يعزيهم وينشطهم، حتى صدرت الأوامر بالعفو عنهم وجعلهم تمرجية (ممرضين) في الجيش.

وبقي صاحب الترجمة تمرجيًّا ينتقل من أورطة إلى أورطة، ومن آلاي إلى آلاي، حتى نال رتبة الجاويش، ثم جاءت الهيضة سنة ١٢٧٢ﻫ فاشتغل في معالجة المرضى وتلطيف حالهم زمنًا طويلًا، مع العناية بالمرض والرفق بالمريض، وابتدأ من ذلك العهد في تأسيس آرائه في هذا المرض، وتدوين مشاهداته فيه، ونشر أكثر من ذلك في رسالته المعروفة بالإسعافات الصحية في الأمراض الوبائية الطارئة على مصر في سنة ١٣٠٠ﻫ، وهي مشهورة طبعت على نفقته في المطبعة الأميرية.

وفي سنة ١٢٧٣ﻫ عاد إلى مصر مؤسسُ مدارسها الطبية الشهير كلوت بك، والتمس من ولي أمرها المرحوم سعيد باشا إعادة المدرسة الطبية إلى ما كانت عليه، فأجابه إلى ذلك، وصدر أمره العالي بجمع تلامذتها من الآلاليات وإرجاعهم إلى المدرسة، فعادوا إليها وامتحنوا، فعاد صاحب الترجمة إلى الفرقة الثالثة، وما زال في المدرسة حتى أتم الطب، وخرج منها طبيبًا ماهرًا وعالمًا مدرسًا في فنونها، وتعيَّن فيها بوظيفة مساعد ومعيد لعلم الجراحة بمرتب قدره ثلاثة جنيهات في كل شهر.

وفي عام ١٢٧٨ﻫ توجه عباس باشا إلى أوروبا، وصحبه في رحلته إليها المرحوم محمد علي باشا الحكيم، فشاهد تقدُّم فن الجراحة في باريس، فحرَّك ذلك غيرة سعيد باشا لإرسال فريق من النابغين في المدرسة الطبية المصرية إلى باريس؛ ليتقنوا هذا الفن ويعودوا إلى مصر في زمن قريب التماسًا لقلة النفقات، ولإمكان الانتفاع بهم قريبًا من جهة أخرى، فبعث بهذه الإرسالية في عام ١٢٧٩ﻫ، وفيها صاحب الترجمة، وكان أصغرهم سنًّا ورتبة، وبعد أقل من عام توفي المرحوم سعيد باشا، وخلفه المرحوم إسماعيل باشا، فعرض عليه شافعي بك الحكيم ناظر مدرسة الطب استرجاع تلك الإرسالية؛ لأن مصر في حاجة إلى الأطباء، فصدر أمر إسماعيل بإرجاعهم، فعادوا جميعًا ما عدا صاحب الترجمة لصغر سنه.

وبعد رجوع رفاقه اشتغل هو بإتمام معارفه العلمية والعملية على أشهر الجراحين في ذلك الوقت الدكتور نيلاتون والدكتور نيليو، ولازم عيادة الأول الجراحية مدة سنتين كاملتين، فأظهر من العناية والمهارة بحيث لم يتمالك هذا الأستاذ عن الإعجاب به وتبشيره بمستقبل مجيد، وحث رفاقه على الاقتداء به.

وظل صاحب الترجمة مقبلًا على العلم والعمل في باريس إلى أن نال شهادة الدكتورية، فأراد رئيس الإرسالية هناك أن يعيده إلى مصر، فالتمس بقاءه مدة أخرى لإتمام العمل في بقية المستشفيات، فألح عليه الرئيس في الرجوع إلى مصر، وبلغ ذلك الدكتور نيلاتون فكتب إلى هذا يقول: «يجب الالتفات لدرِّي المصري والعناية بشأنه؛ لأنه قلَّ أن يوجد له نظير في الإقبال على العمل والاستفادة مما يشاهده منه، وإنني في غاية الامتنان، وأثني عليه أحسن الثناء»، فاقتنع رئيس الإرسالية بذلك، وبعث إلى صاحب الترجمة أن يخبره بكل ما يحتاج إليه.

وفي هذه الأثناء وصل الخديوي إسماعيل باشا إلى فرنسا، فلقيه الدكتور نيلاتون وأطنب له كثيرًا بصاحب الترجمة، وأثنى على أعماله واجتهاده، وساعده على ذلك جمهور من الحكماء الذين كانوا في حمامات فيشي، فحرك ذلك عاطفة الرعاية في الخديوي إسماعيل، وأمر بأن يعطى لصاحب الترجمة عدة كتب وبعض الآلات الجراحية ومائة بينتو، فأخذ الكل وضم المال المنعَم به عليه إلى ما كان معه، واشترى به القطع التشريحية التي أحضرها معه من البلاد الأوروبية إلى الديار المصرية، وبقيت أثرًا له إلى الآن.

وفي عام ١٢٨٦ﻫ وصل إلى مصر، وأُنعم عليه برتبة الصاغقول أغاسي، وعيِّن حكيمباشي قسم العطارين في الإسكندرية، ثم عيِّن حكيمًا ثانيًا لقسم الجراحة في مستشفى الإسكندرية، وبقي بها إلى أواخر عام ١٢٨٨ﻫ، ثم نقل إلى مصر وعيِّن معلمًا ثانيًا لعلم التشريح، وجراح باشي إسبتالية النساء بالقصر العيني، وظل بها إلى عام ١٢٩١ﻫ، ثم عيِّن معلمًا أول لفن التشريح، وجراح باشي إسبتالية النساء، وأنعم عليه برتبة البكباشي، وبقي كذلك إلى عام ١٢٩٤ﻫ، فأنعم عليه برتبة أميرالاي، وما زال في مستشفى القصر العيني بوظيفة جراح باشي وأستاذ أول الجراحة والكلينيك الجراحي إلى عام ١٢٩٩ﻫ، وفيها أنعم عليه برتبة المتمايز، وفي عام ١٣١٥ أنعم عليه برتبة أمير ميران الرفيعة الشأن، وفي أثناء هذه المدة قُلِّد عدة نيشانات علمية، منها نيشان الحرب بين الدولة العلية والروسيا، فإنه كان قد أرسل مع الجيش المصري وعيِّن حكيمباشي إسبتالية صوفيا، وكان له من العمل في هذا السفر والاهتمام بالمرضى ما لم يشاركه فيه سواه.

وما زال أستاذًا أول للجراحة في القصر العيني حتى جعلوا التعليم فيها باللغة الإنكليزية، فأحيل على المعاش فتفرغ لأعماله الخصوصية، ثم دُهم بفقد صهره وابن أخيه المرحوم حامد بك صدقي، فأثرت وفاته تأثيرًا شديدًا على صحته، فتوالت عليه العلل حتى توفاه الله في ليلة ٣٠ يوليو سنة ١٩٠٠م/١٣١٨ﻫ.

أخلاقه وأعماله

كان (رحمه الله) محبًّا لقومه، ساهرًا على مصلحتهم، مستهلكًا في خدمتهم، حتى لقد يحيي ليله مفكرًا في أحوالهم ومصيرهم، وقد حدا به ذلك إلى صرف عنايته وماله وراحته في رفع منار بلاده في السبيل الذي يستطيعه، فأنفق معظم ثروته في اختيار الكتب وجمع رسوم مشاهير المصريين وغيرهم، وحفرها كلها على النحاس في باريس، ولا غرض له من ذلك إلا إحياء ذكر الفضلاء، ناهيك بما أنفقه من العناية في رسم صور الأمراض التي لها أجسام وأشكال، ولم يقف عند هذا الحد، ولكنه كلف نفسه عملًا ليس هو من لوازم مصلحته، فأحضر مطبعة كاملة الأدوات سماها المطبعة الدرِّية طبع فيها بعض مؤلفاته ومؤلفات غيره، ولا ريب عندنا أنه لم يكن يستثمر من وراء ذلك غير التعب والخسارة، ولكنه كان يفعله مدفوعًا بغيرته على العلم والعلماء، ورغبته في خدمة وطنه ومواطنيه.

واشتهر الدكتور درِّي باشا بفن الجراحة، وفي منزله مجموعة تشريحية جاء بها من أوروبا، وجمع شيئًا آخر هنا، وقد شاهدناها منذ بضع وعشرين سنة، وكنا قد جئنا لإتمام درس الطب في مدرسة قصر العيني، وكان هو من جملة أساتذتها، وبيدنا كتاب توصية باسمه من صديق له في بيروت، فصحبنا إلى منزله أحد أصدقائنا من تلامذة القصر يومئذ (الدكتور نعمة الله أفندي طحان من أطباء الجيش المصري الآن)، فاستقبلنا الدكتور دري أحسن استقبال، وأحب من باب المباسطة أن يمتحن معرفتنا في فن التشريح، فجاءنا بجمجمة صناعية ظهرت فيها الأعصاب أحسن ظهور، وسألنا عن العصب الخامس وفروعه، وهو من أصعب مسائل التشريح، فأجبناه بما حضرنا وهو يسمع ويبتسم، ثم دعانا إلى حجرة التشريح وأطلعنا على ما عنده من التماثيل التشريحية وغيرها، فعلمنا من ذلك اليوم أنه ذو ولع شديد في مهنته، وقد تحققنا ذلك فيما بعد مما سمعناه عنه وشاهدناه من آثار فضله.

وكان مدققًا كثير الانتباه للفرص التي تعرض له في معاطاة مهنته، فإذا جاءه مريض ذكر في دفتر خاص بالمرضى اسم ذلك المريض، ومرضه، والعلاج الذي عالجه به، وتاريخ سير العلة بالتفصيل والإيضاح، فلما أحيل على المعاش في آخر حياته جمع ذلك كله في مجموعة أهداها إلى قصر العيني، وهي لا تزال محفوظة هناك، وقد كتب عليها «مجموعة محمد دري باشا الحكيم».

واشتهر بين الأطباء بدقة التشخيص وصدق الإنذار، حتى كاد يقترب ذلك من الإلهام، فإذا شاهد مريضًا وأنذره أو بشره كان كما قال، وكان متعلق الذهن بمرضاه، فإذا عمل عملية مهمة وعاد إلى بيته لا يهدأ باله على مريضه حتى يتفقده مرارًا؛ إما برسول خاص، وإما أن يذهب هو بنفسه، ولا فرق عنده في ذلك بين الغني والفقير، وربما كان أكثر عناية بالفقير مما بالغني، ويذكرون من فضله بنوع خاص مواساته الناس في أزمنة الأوبئة الوافدة ومعالجتهم بما سهل ورخص، ومن آرائه الخصوصية في الجراحة أن العمليات الجراحية تكون عاقبتها سليمة إذا عملت في شهري بئونة وأبيب، ويليهما كيهك وطوبة، أما مؤلفاته التي ظهرت في عالم المطبوعات فهي:
  • (١)

    رسالة في الهيضة الوبائية: وفيها وصف الهيضة وطرق معالجتها بالأدوية البسيطة.

  • (٢)

    كتاب بلوغ المرام في جراحة الأقسام: هو كتاب في الجراحة مطول، مزين بالرسوم والأشكال، ظهر منه ثلاث مجلدات ضخمة، طبعت كلها في مطبعته، والرابع كان عند وفاته لا يزال تحت الطبع.

  • (٣)

    كتاب التحفة الدرية في مآثر العائلة المحمدية العلوية: جاء فيه على خلاصة تراجم أعضاء العائلة الخديوية مع رسومهم ورسوم أنجالهم.

  • (٤)

    كتاب تذكار الطبيب: طبع مرتين أخيرتهما سنة ١٣١٣ﻫ، يشمل كل التذاكر الطبية التي كان يصفها مشاهير الأطباء في مستشفى قصر العيني، وهو كتاب ضخم صفحاته ٤٣٦ صفحة، ويسهل حمله في الجيب.

  • (٥)

    ترجمة حياة المغفور له علي باشا مبارك، استخرجه من الخطط التوفيقية، وطبعه في مطبعته سنة ١١٣١ﻫ.

وهناك كتب أخرى لم يطبعها، وقد ظهرت في مطبعته كتب أخرى لمؤلفين آخرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤