الفصل الحادي والخمسون

عبد الباقي العمري (شاعر العراق)

بقلم  سليمان البستاني

هو عبد الباقي العمري الفاروقي الموصلي، الشاعر الشهير المولود بالموصل سنة ١٢٠٤ﻫ/١٧٩٠م، والمتوفَّى ببغداد سنة ١٢٧٨ﻫ/١٨٦٢م، يتصل نسب أبيه سليمان العمري بالخليفة عمر بن الخطاب، ولهذا يعرف هو وسائر أبناء أسرته بالعمريين والفاروقيين. ولهم وجاهة ومكانة سامية في بلدتهم الموصل وسائر بلاد العراق، وبيتهم بيت علم وفضل، أنتج كثيرين من الشعراء والأدباء.

وقد اتصف عبد الباقي منذ صغره بالحذق والذكاء، واشتغل بالأدب ونظم الشعر وهو بعدُ فتى، وتقلَّد المناصب السامية ولم يتجاوز العشرين من عمره، وكان أعيان الموصل ينتدبونه لعظام المهام، ويوجهونه في معضلات الأمور، فاشتهر أمره لدى الولاة والحكام. وكان تعيين والي الموصل في تلك الأيام منوطًا بوالي بغداد قبل أن يقره الباب العالي على ولايته. واتفق انفصال والي الموصل في أثناء ولاية داود باشا على بغداد، فانتدب أعيان الموصل عبد الباقي للتوجه إلى بغداد، والتوسط بتعيين يحيى باشا، فسار إلى بغداد. وكان داود باشا من أهل العلم ومروِّجي بضاعة الأدب، فأكرمه وسأله عن سبب قدومه فأجابه بهذين البيتين:

يا مليك البلاد أمنيتي حا
شاك مثلي يعود منك كسيرا
أنت هارون وقته ورجائي
أن أرى في حماك يحيى وزيرا

فاستحسن داود باشا ذلك، وبادر إلى طلب الوزارة ليحيى باشا. وبعد أعوام انتقض داود باشا على الدولة، وكان والي الموصل إذ ذاك قاسم باشا ابن عم صاحب الترجمة، فأتته الأوامر من الآستانة بالمسير في جيش كثيف إلى بغداد والقبض على المماليك، وداود باشا من جملتهم، فسار قاسم باشا إلى بغداد يصحبه عبد الباقي، فأظهر المماليك الطاعة حتى أتاهم قاسم باشا بنفر قليل فغدروا به، ورجع عسكر الموصل ومعه عبد الباقي. فسيرت الدولة علي باشا اللاز من الآستانة إلى بغداد لقمع ثورتها وقتل داود باشا، فلما بلغ الموصل ورأى صاحب الترجمة أعجب بذكائه واصطحبه معه إلى بغداد. ولما استتب له الأمر وقبض على داود باشا أقرَّ عبد الباقي وقلده أسمى مناصبها، وجعله كتخدا الولاية؛ أي: معاونًا له، وبقي من ثم في بغداد إلى آخر أيامه. وكان نافذ الكلمة مَرْعِيَّ الجانب، يعهد إليه الولاة بالمهام الخطيرة، وهو على اشتغاله بخدمة حكومته يصرف همه في أثناء العطلة والفراغ للاشتغال بالآداب، ومجلسه حافل بالأدباء وسراة الأعيان.

وكان (رحمه الله) شاعرًا مجيدًا، قوي البديهة، سريع الخاطر، متفننًا في شعره، ميالًا إلى التصوف، كثير المدح لآل البيت، محبًّا لعلماء عصره وأدبائهم، بارًّا بهم وبغيرهم من ذوي الحاجات، ومن مؤلفاته:
  • (١)

    ديوان أهلة الأفكار في معاني الابتكار.

  • (٢)

    نزهة الدهر في تراجم فضلاء العصر.

  • (٣)

    ديوان طبعه بمصر الشيخ عثمان الموصلي وسماه «الترياق الفاروقي من منشآت الفاروقي»، وذيله بترجمة له مُسْهَبة، لخصنا منها معظم ما تقدم.

وحسبنا أن نورد مثالًا من شعره مقطوعة نظمها عندما شخص بباخرة من بغداد إلى الكوفة يؤم ضريح الإمام علي بن أبي طالب:

بنا من بنات الماءِ للكوفة الغرَّا
سبوح سرت ليلًا فسبحان من أسرى
تمدُّ جناحًا من قوادمه الصبا
تروم بأكناف الغري لها وكرا
كساها الأسى ثوب الحداد ومن حلى
تجملها بالصبر لاعجها أجرى
جرت فجرى كلٌّ إلى خير موقفٍ
يقول لعينيه قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى
وكم غمرة خُضْنا إليه وإنما
يخوض عباب البحر من يطلب الدرَّا
نؤمُّ ضريحًا ما الضراح وإن علا
بأرفع منه لا وساكنه قدرا
حوى المرتضى سيف القضا أسد الشرى
عليَّ الذرى بل زوج فاطمة الزهرا
مقام عليٍّ شرف الله وجهه
مقام عليٍّ ردَّ عين العلى حسرى
أثير مع الأفلاك خالف دوره
فمن فوقه الغبرا ومن تحته الخضرا
أحطنا به وهو المحيط حقيقة
بنا فتعالى أن نحيط به خبرا
تطوف من الأفلاك طائفة به
فتسجد في محراب جامعه شكرا
وحزب من العالين يهتف بالثنا
عليه بوحي كدت أسمعه جهرا
جدير بأن يأوي الحجيج لبابه
ويلمس من أركان كعبته الجدرا
حريٌّ بتقسيم الفيوض وما سوى
أبي الحسنين الأحسنين بها أحرا
ترى منه بالدنيا الثراء لمترب
وللمذنب الجاني الشفاعة في الأخرى
بأهداب أجفان وأحداق أعين
وجرِّ وجوه عفرتها يد الغبرا
أمطنا القذى عن جفن وجه مذكر
أجلَّ سيوف الله أشهرها ذكرا
فوالله ما ندري وقد سطع السنا
جلونا قرابًا أم جلينا له قبرا

وخلف عبد الباقي ثلاثة أبناء: سليمان فهيم أفندي، وحسين حسني بك، ومحمد وجيهي بك، أقام الأول في الموصل، وأما الأخيران فإنهما قدما مصر سنة ١٢٨١ﻫ وتنقلا أعوامًا في أسمى مناصب الحكومة المصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤