الفصل الرابع والخمسون

الحاج عمر الأنسي

هو ابن السيد محمد ديب بن أعرابي بن إبراهيم بن حسين، الشهير لقبُهم بالصقعان. ولد في بيروت سنة ١٢٣٧ﻫ وتعلم القرآن وأحكام التجويد على الحافظ الشيخ حسين الجيزي المصري. وتوجه سنة ١٢٥٩ﻫ مع الركب الشامي، وقضى فريضة الحج وهو في الثانية والعشرين من عمره. ولما عاد أكبَّ على تلقي العلم عن اثنين؛ هما أشهر علماء بيروت في القرن الماضي، أحدهما الشيخ محمد الحوت، والآخر الشيخ عبد الله خالد.

وكان مطبوعًا على الشعر، فكان أكثر اشتغاله به، على أنه تقلب في مناصب عديدة؛ منها أنه تقلد نظارة النفوس في جبل لبنان سنة ١٢٦٤ﻫ بأمر الأمير أمين أرسلان قائمقام جبل لبنان إذ ذاك، فأقام في الشويفات نحو أربع سنوات نظم عدة قصائد في مدحه، وتعيَّن سنة ١٢٧٤ﻫ عضوًا في مجلس إدارة بيروت، ثم تنقل في مناصب أخرى، فتقلد مديرية قضاء حيفا، ثم قضاء صيدا، ثم عاد إلى بلده واشتغل بالتدريس والمطالعة. وفي سنة ١٢٩١ﻫ وجهت إليه نيابة صور بطلب من المرحوم أسعد باشا والي إيالة صيدا الملغاة. وعاد سنة ١٢٩٢ﻫ مريضًا إلى بيروت، ولم يتحمل المرض إلا بضعة أشهر، فتوفاه الله في رجب سنة ١٢٩٣ﻫ.

وكان عذب المنطق، سريع الحفظ، محبوبًا، وله منظومات بديعة، عني نجله الدكتور عبد الرحمن أفندي أنسي نزيل بيروت بجمع شتاتها من بين أوراقه، وطبعها في ديوان سماه المورد العذب، تزيد أبياته على ٦٥٠٠ بيت، نقتطف منه أمثلة نستدل بها على شاعرية صاحبه. قال من مطلع قصيدة في مدح النبي:

قلوب الورى في مطمح الفكر قلَّبُ
وبرق المنى في غيهب الوهم خلَّبُ
أمانيك الأحلام والحلم يقظة
وأمالك الأوهام والنفس أكذب
ويا ربَّ نفس بالأماني عللت
وصاحبها من قابض الماء أخيب
فلا تعدن النفس بالخير طامعًا
إذا لم يكن للنفس في الخير مذهب
فكن صانع المعروف ما عشت إنه
سبيل نجاح في الذي أنت تطلب
وذو الود إن يذكر يدًا لك عنده
فإن التناسي منك ثمة أنسب
فإن قلوب الناس كالماء راكدًا
إذا ما تولاه الهوى يتقلب
ويعجب من حال الزمان بنوه في
تقلبه جهلًا وهم منه أعجب
وإياك والدعوى فيا ربَّ مدَّع
له صدق كشف الامتحان يكذب
إذا أنت لم تعمل بما أنت قائل
فأنت أسير الجهل أو أنت تكذب

وقال من قصيدة يمدح بها أخاه الحاج محمد بك ويهنئه بتقلده رئاسة حجاب السلطان، وفيها أبيات فخرية:

أأنت أم أنا ما نلت من رتب
أولى بنيل التهاني يا ابن خير أب
أنا المهنا بما أوليتَ من منح
بنيل أضعاف ما قد نلت من أرب
إن كان فخر بني العلياء في نسب
فنحن مفخر ذاك الفخر والنسب
من المفاخر أبناء الرسول وقد
جاءت محامدهم في منزل الكتب
كنا وكانت يد الأقدار تمنعنا
حظًّا بمجدين موروث ومكتسب
يا ذا الذي ظن بي ما فيه من عوج
إني أنا الشمس فانظر ظل نفسك بي
أنا الذي ساد أصلاه ومفتخري
أن اليراعة أمي والحسام أبي

وقال يصف الشيشة عن لسان حالها:

أنا التي اختارني قومي سميرًا على
أن الأديب فصيح النطق مختار
إذا الهوى بفؤادي مرَّ أكتمه
وللهوى بفؤاد الحر أسرار
قالوا تحملت نيرانًا فقلت لهم
النار في حب من أهوى ولا العار
شهرت حتى غدت تعشو السراة إلى
ناري ولي بمزيد الفضل آثار
فها أنا مثل صخر حيث قيل به
كأنه علم في رأسه نار

وقال يهجو خادمًا في قهوة اسمه هلال:

تعس الهلال القهوجي لأنه
قد قطع الأنفاس في أنفاسه
هذا الهلال هو الهلاك وإنما
غلطوا فلم يضعوا العصا في رأسه
وله قصيدة مدح بها الأمير أمين أرسلان المشار إليه، تفنن بها فجعلها من أبحر متعددة وقوافٍ مختلفة، إليك أمثلة منها:
يا للهوى مَن لصبٍّ لم ينل أربا (أملا) (وطرا) عطفًا على مستهامٍ رقَّ وانتحبا (انتحلا) (انحسرا)
عاني المها مستهل الدمع ساكبه (هاطله) (هامره) واهي القوى ما شكا بؤسًا ولا وصبا (ثقلا) (ضررا)
بادي الضنا ذو غرام سامه شجنا وافي العنا مشفقًا من برحه وهبا (وجلا) (حذرا)
يهوى الظبا وهوى الآرام غالبه (قاتله) (قاهره) طول المدى وهو لا يُصغي لمن عتبا (عذلا) (فشرا)
ويح العدا واللواحي حملته عنا أزكى لظى لاعج من وجده التهبا (اشتعلا) (استعرا)
جمر الأسى لم يزل دومًا يصاحبه (يواصله) (يساهره) وسط الحشا مصعدًا أنفاسه لهبا (شعلا) (شررا)
ماذا خوى ويح قلبي ظل مرتهنا مضنى الجوا تقاوي والهوى غلبا (قتلا) (قهرا)
يرجو اللقا والظبا تيهًا تعاقبه (تماطله) (تغادره) بعد الغوى وعيائي داؤه صعبا (عضلا) (عسرا)
كم من رشا وغزال هز قدَّ قنا تحت الحلى ذو جمال زين النقبا (الحللا) (الحبرا)
إذا رنا فتن الألباب حاجبه (ناحله) (ناظره) يسبي الحجا وبلُبي طالما لعبا (هزلا) (سخرا)

والقصيدة كلها على هذا النمط، فإن كل سطر مؤلف من شطرين، والشطر مقطوع إلى أربعة أجزاء، إذا تركَّبت الأجزاء الأولى تألف منها قصيدة مستقلة أو الأجزاء الثانية تألف منها قصيدة أخرى، ومن مجموع الجزأين في الشطرين تتركب قصيدة أخرى، ويتركب من أسطر كل حقل قصيدة على حدة، وأما الجزءان الثالث والرابع من كل شطر فهي ألفاظ يصح إبدال القوافي بها.

فالسطران الأولان يُستخرج منهما هذه الأشكال:
  • (١)
    يا للهوى مَن لصبٍّ لم ينل أربا (أو أملا أو وطرا)
    عطفًا على مستهامٍ رقَّ وانتحبا (أو انتحلا أو انحسرا)
    عاني المها مستهل الدمع ساكبه (أو هاطله أو هامره)
    واهي القوى ما شكا بؤسًا ولا وصبا (أو ثقلا أو ضررا)
  • (٢)
    يا للهوى. عطفًا على. عاني المها. واهي القوى
  • (٣)
    يا للهوى. من لصب لم ينل أربا
    عاني المها مستهل الدمع ساكبه (أو هاطله أو هامره)
    بادي الضنا ذو غرام سامه شجنا
    يهوى الظبا وهوى الآرام غالبه (أو قاتله أو قاهره)
  • (٤)
    عطفًا على مستهام رقَّ وانتحبا
    واهي القوى ما شكا بؤسًا ولا وصبا
    وافي العنا مشفقًا من برحه وهبا
    طول المدى وهو لا يصغي لمن عتبا
  • (٥)
    من لصب لم ينل أربا
    مستهل الدمع ساكبه
    ذو غرام سامه شجنا
    وهوى الآرام غالبه
  • (٦)
    مستهام رق وانتحبا
    ما شكا بؤسًا ولا وصبا
    مشفقًا من برحه وهبا
    وهو لا يصغي لمن عتبا
  • (٧)
    من لصب لم ينل أربا
    مستهام رق وانتحبا
    مستهل الدمع ساكبه
    ما شكا بؤسًا ولا وصبا

هذه سبعة أشكال، وإذا اعتبرنا إبدال القوافي تكرر ذلك ثلاث مرات، إلا الشكل الثاني، فيكون مجموع الأشكال ١٩ شكلًا، وربما أمكن استخراج أشكال أخرى.

وقال من مطلع قصيدة يمدح بها الشيخ محمد الخضري الدمياطي:

خذ في هوى الغيد عني أحسن الخبر
وقل رويناه بالإسناد عن عمر
وانقل أحاديث أشجاني مسلسلة
عن صبوتي عن مجاري الدمع عن سهري
واهجر مواضيع عذالي فقد وضعت
في العذل مفتريات حكمهن فري
وانسخ صحاح رواياتي فقد نسخت
أحكام شرع الهوى في سالف العصر
وانقل عن الأغيد البسام لي أثرًا
إذا نقلت عن العباس من أثر
يا ساحر الطرْف كم بالسحر تمرضني
أنا السها بالخفا يا كوكب السحر
نحول خصرك يا مولاي أنحلني
وطالما قد أطلت الهجر فاختصر
بما بعطفيك من لين ومن هيف
وما بعينيك من غنج ومن حور
وما بصبك من سكر ومن وله
وما بثغرك من خمر ومن سكر
ألا رحمت عليلًا لا علاج له
يا جارح القلب إلا مرهم النظر
أشتاق رشف اللمى واللحظ يمنعني
فيظمأ القلب بين الورد والصدر

وقال يصف شاطئ البحر:

يا حسن منظر شاطئ البحر الذي
يجلو الخواطر منه أحسن منظر
هاجت به هوج الرياح فأرسلت
أمواجه كطلائع الإسكندر
تطفو على تلك الصخور وتنثني
منهارة كالمدمع المتحدر
كسلاسل من فضة بفتائل
نبطت بهن من الحرير الأخضر

وقال من قصيدة في مدح الأمير أمين أرسلان، يتغزل باسمه:

كيف يقسو وعطفه حرف لين
لم لا تعتريه نحوي آماله
وإذا قيل تلك همزة وصل
قلت من لي بأن أنال وصاله
وعلى الصدغ واو عطف فهلا
عطفت من عليَّ أبدى دلاله
وعساها أن تجتمع الشمل قربًا
فهي للجميع يا منى القلب آله

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤