الجزء الأول

الجزء ١(أ)

يُوجَد بالفعل ما يُسمَّى مُؤرِّخ الرياضيات، وفيما يلي اقتباسٌ افتتاحيٌّ جيد عن أحد هؤلاء المؤرِّخين في ثلاثينيَّات القرن العشرين:

ثمة استنتاج حتمي لا مَهربَ منه: دون وجود نظرية مُتَّسقة عن الحدود الرياضية اللانهائية لا تُوجَد نظرية عن الأعداد غير النسبية، ودون وجود نظرية للأعداد غير النسبية لا يُوجَد أي شكلٍ من أشكال التحليل الرياضي ولا حتى شكل يُشبه — ولو من بعيد — ما لدَينا الآن، وفي النهاية، فإنه لولا التحليل لاضمحلَّت الغالبية العُظمى من الرياضيات — بما في ذلك الهندسة ومعظم الرياضيات التطبيقية — على النحو الموجودة به الآن، واختفت جميعها من الوجود. ومن ثمَّ، فإنَّ الهدف الأهم الذي يُواجه علماءَ الرياضيات سيكون فيما يبدو وضْعَ نظريةٍ مُرضية عن اللانهائية. حاول كانتور أن يفعل ذلك، وهو ما حقَّق النجاح الذي سنراه لاحقًا.

إنَّ مُصطلحات الرياضيات الرنَّانة ليست ما يُهِم الآن. يُشير اسم كانتور الواردُ في السطر الأخير أعلاه إلى البروفيسور جورج إف إل بي كانتور، الذي وُلِدَ عام ١٨٤٥، ومُنِح الجنسية الألمانية من طبقة التجار، ويُعدُّ الأب المُعترَفَ به لنظرية المجموعات المجردة والأعداد فوق المُنتهية، وقد وردت روايات من بعض المؤرخين عمَّا إذا كان يهوديًّا. و«كانتور» هي لفظة لاتينية تعني مُطربًا.

يُعدُّ جي إف إل بي كانتور أهمَّ عالِم رياضيات في القرن التاسع عشر، وشخصيةً شديدة التعقيد ومُثيرةً للشفقة. فقد قضى جزءًا كبيرًا من حياته خلال مرحلة البلوغ المتأخرة مُترددًا على المصحَّات النفسية، ووافته المَنيَّة في مصحةٍ في مدينة هاله١ عام ١٩١٨. كما أن كيه جودل أهمُّ عالِم رياضياتٍ في القرن العشرين، وتُوفي أيضًا جراء مرض نفسي. أما إل بولتزمان، وهو أهم علماء الفيزياء الرياضية في القرن التاسع عشر، فقد انتحر، وهكذا. يميل المؤرخون والعلماء الأفذاذ إلى قضاء وقتٍ طويل في مناقشة مشاكل كانتور النفسية وما إذا كانت لها علاقة بأبحاثه في عِلم رياضيات اللانهائية وماهية تلك العلاقة وأبعادها.

في المؤتمر الدولي الثاني لعلماء الرياضيات المُنعقد في باريس عام ١٩٠٠، وصفَ البروفيسور د. هيلبرت، الذي أصبح عالِمَ الرياضيات الأولَ على مستوى العالم، الأعداد فوق المنتهية لجورج كانتور بأنها «نِتاجُ عبقري رياضياتٍ فَذٍّ في أنقى صوره.» و«واحد من أبهى إنجازات النشاط البشري على الإطلاق في مجال المعقول.»

وفيما يلي اقتباسٌ من جي كيه تشيسترتون: «الشعراءُ لا يُصابون بالجنون ولكنَّ لاعبي الشطرنج يُصابون به، علماء الرياضيات يُصابون بالجنون، وكذلك الصرَّافون، ولكنَّ الفنانين المُبدعين نادرًا ما يُصابون به. إنني لا أُهاجم المنطق: أنا فقط أُوضح أن هذا الخطر يكمُن في المنطق، وليس في الخيال.» وفيما يلي أيضًا مُقتطفٌ من موجز لسيرة ذاتية صدرت مؤخرًا عن كانتور: «في أواخر القرن التاسع عشر، أُصيبَ عالِم رياضيات استثنائي بالضعف والهزال في مستشفى للأمراض العقلية … وكان كلَّما اقترب من الإجابات التي ينشدها، بدَت أبعدَ كثيرًا. وفي النهاية، ساقه هذا إلى حافة الجنون، مِثلما حدث لعلماء رياضياتٍ قبله.»

تلقى حالات علماء الرياضيات العظماء الذين أُصيبوا بمرضٍ نفسي صدًى هائلًا لدى صانِعي الأفلام والكُتَّاب العصريين. ويتعلق هذا في جزءٍ كبير منه بتحيُّزات الكتَّاب (المخرجين أنفسِهم) واستعدادِهم لتقبُّل هذه الأمور، التي هي بدورها وظائفُ لما يُمكن أن تُسميَه القالب النمطي الخاص لعصرنا. وبالطبع، غنيٌّ عن القول أنَّ هذه القوالب تتغير مع مرور الزمن. وبأشكال عدة، يُماثل الآن عالِم الرياضيات المريض نفسيًّا ما كان يُمثله الفارس الهائم والقديس الذليل والفنان المُعذَّب والعالِم المجنون للعصور الأخرى: شكل من العملاق بروميثيوس الذي ذهب إلى أماكنَ مُحرَّمة وعاد بهدايا وهباتٍ يُمكننا جميعًا استخدامُها، ولكنه وحدَه مَنْ دفع ثمنها. يبدو هذا على الأرجح تشبيهًا مُبالغًا فيه بعض الشيء، ولو في معظم الحالات على أقل تقدير.٢ لكن كانتور ينطبق عليه هذا القول أكثرَ من الغالبية العُظمى، وأسباب ذلك تُعدُّ أكثرَ تشويقًا بكثيرٍ عن كل ما كان يُعانيه من مشكلاتٍ وأعراض.٣

إنَّ الإحاطة بإنجازات كانتور تختلف عن تقديرها؛ فالتقدير هو المشروع العام هنا، ويتضمَّن النظر إلى رياضياتِ ما فوق المُنتهي بوصفها ضربًا من شجرةٍ ما، شجرةٍ تضرب بجذورها في مفارقتَي الاتصال وعدم القابلية للمُقايسة لدى الإغريق، بينما تتشابك فروعها في الأزمات الحديثة حول أُسُس الرياضيات — براور وهيلبرت، وراسل وفريج، وتسيرميلو وجودل، وكوهين وآخرون، الأسماء الآن أقلُّ أهمية من ذلك الشيء الأشبهِ بالشجرة، الذي يُمثل النظرة العامة الرئيسية التي سيُطلَب منك تذكُّرها دائمًا.

الجزء ١(ب)

ما قاله تشيسترتون أعلاه ليس صحيحًا في جانبٍ ما. أو على الأقل، غير دقيق. فالخطر الذي يُحاول أن يضع له اسمًا ليس المنطقَ؛ فالمنطق ما هو إلا وسيلة، والوسائل لا يُمكنها إرباك البشر وتشويشهم. ما يحاول تشيسترتون فعليًّا الحديث عنه هو خصيصة من الخصائص الأساسية للمنطق وللرياضيات. إنه التجريد.

من المُفيد أن ندخل مباشرةً في معنى التجريد. وربما يكون التجريد هو الكلمةَ الوحيدة والأهمَّ لتقدير أعمال كانتور والسياقات التي جعلَتها مُمكنة. نحْويًّا، يرجع أصل الكلمة إلى الصفة المُشتقة من اللفظة اللاتينية abstractus التي تعني «الانسحاب بعيدًا». يشتمل قاموس «أكسفورد» للغة الإنجليزية على تسعة تعريفات أساسية لهذه الصفة، التي يُعَد أكثرها تناقضًا التعريف رقم ٤(أ): «منعزل أو مفصول عن المادة، أو عن التجسيد المادي، أو عن التطبيق، أو عن أمثلة معينة. عكس concrete (مادي، أو ملموس).» ومن التعريفات المهمة أيضًا ما ورد في قاموس «أكسفورد» للُّغة الإنجليزية في التعريف رقم ٤(ب): «مثالي، مُصفًّى لأقصى درجة بما يعكس جوهره.» والتعريف رقم ٤(ﺟ): «عويص، مبهم.»
فيما يلي اقتباسٌ من كارل بي بوير، الذي يُحاكي إلى حدٍّ ما جيبون في أهميته ولكن في تاريخ الرياضيات:٤ «ولكن، في النهاية، ما هي الأعداد الصحيحة؟ يعتقد الجميع أنهم يعرفون، على سبيل المثال، ما يعنيه العدد ثلاثة — حتى يُحاولوا تعريفه أو توضيحَه.» بالنظر إلى ما سوف يتكشَّف عند التحدُّث إلى مُدرِّسي الصف الأول والصف الثاني ومعرفة الكيفية التي يتعلَّم بها الطلابُ فعليًّا موضوعَ الأعداد الصحيحة. عمَّا يعنيه، على سبيل المثال، العددُ خمسة. أولًا، لنقل إنهم أُعطوا خمس برتقالات، شيء يُمكنهم لمسُه أو مسكُه بأيديهم، ثم طُلِب منهم عَدُّها. وبعد ذلك، أُعطوا صورةً لخمس برتقالات، ثم صورة تجمع بين البرتقالات الخمس والعدد «٥» بحيث يربطون بين الاثنَين. وبعدها صورة للعدد «٥» فقط من دون البرتقالات. يُشارك الأطفال بعد ذلك في تمارينَ شفهيةٍ يبدَءون فيها الحديث عن العدد الصحيح «٥» بذاته، كما لو أنه شيءٌ مُستقل بذاته، بعيدًا عن البرتقالات الخمس. بعبارة أُخرى، فإنهم يُضلَّلون على نحوٍ منهجي، أو يُوجَّهون نحو التعامُل مع الأعداد على أنها أشياءُ بدلًا من أن تكون رموزًا لأشياء. وعندئذٍ، يُمكن تدريس الحساب، الذي يشمل العلاقات الأولية بين الأعداد (سوف تُلاحظ أوجه الشبَهِ بين هذا والطرُق التي تعلَّمنا بها استخدام اللغة. وهكذا، نتعلَّم في مرحلةٍ مبكرة أن الاسم «خمسة» يعني؛ أي يرمز إلى، العدد ٥، وهكذا).
ولكن، حسبما يقول المُعلِّمون، سيجد الطفل صعوبةً في بعض الأحيان. فبعض الأطفال يفهمون أن كلمة «خمسة» تُشير إلى العدد ٥، ولكنهم يحتاجون مع ذلك إلى معرفة الكلمة التي تأتي بعد ٥، هل هي ٥ برتقالات، أو ٥ أقلام، أو ٥ بِنسات، أو ٥ نقاط؟ هؤلاء الأطفال الذين لا يجدون صعوبةً في جمع أو طرح برتقالات أو عُملات، لن تكون نتائجهم في اختبارات الحساب جيدةً على الرغم من ذلك. فلا يُمكنهم التعامل مع ٥ كشيءٍ في حدِّ ذاته. فهم كثيرًا ما يُرَدُّون إلى نمَطٍ من الرياضيات يتعلق بالتعليم الخاص، حيث كل شيءٍ يجري تدريسُه وَفقًا لمجموعاتٍ من الأشياء الفعلية، وليس كأعداد «مُستقاة من أمثلة مُعينة».٥

الفكرة: التعريف الأساسي لكلمة «مجرد» في المَغزى الذي نقصده هنا سيكون التعريفَ المتسلسل نوعًا ما «المنزوع من أو الذي يتجاوز الخصوصية الحِسِّية، التجربة الحِسِّية». وبهذا المفهوم وحدَه، يكون لفظ «مجرد» عبارةً عن مصطلحٍ ميتافيزيقي. وفي الواقع، فإن كل النظريات الرياضية تتضمَّن نوعًا من الموقف الميتافيزيقي. مُؤسِّس التجريد في الرياضيات هو فيثاغورس، ومُؤسِّسه في الميتافيزيقا هو أفلاطون.

ومع ذلك، فالتعريفات الأخرى في قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية غير ذات صلة، ليس فقط لأن الرياضيات الحديثةَ مجردةٌ بمعنى أنها صعبة للغاية وغامضة وعادةً يصعب حتى مطالعتها بالنظر. ومن المفاهيم الجوهرية أيضًا في ذلك المفهوم الذي يُمكن أن يعنيَ به تجريدُ شيءٍ ما اختزالَه إلى جوهره البنائي المُطلَق، كما في خُلاصة مقال أو كتاب. وهكذا، فإنه من الممكن أن يعنيَ إمعانَ التفكير في الأشياء التي لا يُمكن للغالبية العُظمى من الناس إمعان التفكير فيها؛ لأن الأمر يسوقُهم إلى الجنون.

كلُّ ما نستعرضه هنا هو ضربٌ من الإحماء؛ فموضوع التجريد ككلٍّ لن يكون على هذا النحو. فيما يلي اقتباسان آخران عن شخصَين تُعانق شهرتهما عَنانَ السماء؛ إم كلاين: «كان من بين إسهامات الإغريق العظيمة لمفهوم الرياضيات الإدراكُ الواعي لحقيقة أن الكِيانات الرياضية عبارةٌ عن تجريدات، والتأكيد على ذلك، وهي أفكار تأمَّلَها العقل وتدبَّرها وجرى تمييزها بوضوحٍ عن الصور أو الأشياء المادية.» إف دي إل سوسور: «ما أغفله الفلاسفةُ وعلماء المنطق أنه من اللحظة التي يُصبح فيها نظامٌ من الرموز مُستقلًّا عن الأشياء المادية، فإنه في حدِّ ذاته يكون خاضعًا للإسقاطات الجارية التي لا حدَّ لها من جانب عالِم المنطق.»

التجريد يشمل كلَّ أنواع المشاكل والأزمات، حسبما نعرف جميعًا. ويكمُن جزءٌ من الخطر في طريقة استخدامنا للأسماء. نحن نُفكر في معاني الأسماء من حيث دلالاتُها. والأسماء ترمز إلى أشياء: رجل، مكتب، قلم، ديفيد، رأس، أسبرين. ويترتَّب على ذلك نوعٌ خاص من الملهاة عند وجود التباسٍ حول ماهيَّة اسم حقيقي، كما هو الحال في «مَنْ هو الأول؟» أو على غرار ما نجده في كتاب «أليس في بلاد العجائب» — «ماذا ترى على الطريق؟» «لا شيء.» «يا لها من رؤية ثاقبة! كيف يبدو اللاشيء؟» ومع ذلك، تتلاشى الملهاة عندما تدلُّ الأسماء على أفكارٍ مجردة؛ أي مفاهيم عامة منفصلة عن الأمثلة المُحددة. وكثيرٌ من هذه الأسماء المتعلقة بأفكارٍ مجردة تأتي من أفعال الجذر. كلمة «حركة» هي اسم، وكذلك كلمة «وجود»، ونحن نستخدم كلماتٍ كهذه طوال الوقت. ويكون الالتباس عندما نُحاول النظر فيما تَعنيه هذه الكلمات بالضبط. وهذا على غرار وجهة نظر بوير عن الأعداد الصحيحة. إلامَ تشير بالضبط كلمة «حركة» وكلمة «وجود»؟ نحن نعلم أن أشياءَ مادية بعينها موجودة، وأنها تتحرك أحيانًا. فهل الحركة في حدِّ ذاتها موجودة؟ كيف؟ ما الكيفية التي تُوجَد بها الأفكار المجردة؟

لا شكَّ أن هذا السؤال الأخير نفسه مجردٌ للغاية. ولربما بدأتَ تشعُر بالصداع؛ فأمورٌ كهذه تكون مصحوبةً عادةً بنوعٍ خاص من عدم الارتياح أو نفاد الصبر. مثل «ما هو الوجود بالضبط؟» أو «ما الذي نعنيه بالضبط عندما نتحدَّث عن الحركة؟» عدم الارتياح شيء مُميَّز جدًّا ويُوجَد فقط عند مستوًى مُعين في عملية التجريد؛ لأن عملية التجريد تتمُّ على مستويات، بالأحرى مثل الأُسُس أو الأبعاد. لِنقُل إن لفظة «رجل» التي تعني رجلًا ما بعينه هي المستوى الأول، ولفظة «رجل» التي تعني النوع هي المستوى الثاني، وشيء مثل «الجنس البشري» أو «الإنسانية» هو المستوى الثالث؛ إذن نحن الآن نتحدَّث عن المعايير المجرَّدة لشيءٍ ما يُوصَف بأنه إنسان أو بشري، وهكذا. التفكير بهذا الأسلوب قد يكون خطرًا، أو غريبًا. التفكير بشكل مُجرد بما يكفي في أي شيء … من المؤكَّد أننا جميعًا مرَرنا بتجرِبة التفكير في كلمةٍ ما، ولتكن كلمة «قلَم» مثلًا، وكرَّرنا الكلمة على مسامعنا مرارًا وتَكرارًا حتى فقدَت دلالتها؛ فغرابةُ إطلاق مُسمَّى «قلم» على شيءٍ ما تبدأ في التوغُّل تدريجيًّا إلى داخل الوعي، مثل نَوبة صرع.

حسَبما تعلَم على الأرجح، فإنَّ كثيرًا ممَّا نُسميه الآن الفلسفة التحليلية يُعنَى بأسئلةٍ من هذا القبيل تتعلَّق بالمستوى الثالث أو حتى الرابع. كما في نظرية المعرفة = «ماذا تعني المعرفة بالضبط؟»، والميتافيزيقا = «ما هي بالضبط العلاقات بين التراكيب العقلية والأشياء الحقيقية في الواقع الفعلي؟»، إلى آخره.٦ قد يكون الفلاسفة وعلماء الرياضيات، الذين يقضون وقتًا طويلًا في التفكير (أ) على نحوٍ مجرد أو (ب)، أو في الأفكار المجردة أو (ﺟ) كِلَيهما، هم مَن جعلوا أنفسَهم عُرضةً للإصابة بالمرَض النفسي. أو ربما تكون الفكرة فقط أن الأشخاص السريعي التأثُّر بالمرَض النفسي هم الأكثرُ عُرضةً للتفكير في مثل هذه الأمور. إنَّها مسألة مُستعصية على الحل كمسألة الدجاجة والبيضة وأيُّهما جاءَ أولًا. ومع ذلك، فثمة شيءٌ واحد مُؤكَّد. وإنها لخرافةٌ لا أساسَ لها من الصحة أنَّ الإنسان بطبيعته كائنٌ فضولي، لديه نَهَم إلى الحقيقة، ويريد — فوق ذلك كلِّه — أن يعرف.٧ وبالنظر إلى ما لدَينا من حواسَّ مُتعارَفٍ عليها لكي «نعرف»، ففي الحقيقة ثمة أمور كثيرة لا نُريد معرفتها. ودليلُ ذلك هو العدد الهائل من القضايا والأسئلة الأساسية للغاية التي لا نودُّ التفكير فيها على نحوٍ تجريدي.
النظرية: إنَّ مخاوف التفكير المجرَّد ومخاطرَه هما أحد الأسباب الرئيسية في أننا جميعًا نُريد أن نظلَّ مشغولين ومُنهمِكين تمامًا بالمُحفِّزات طوال الوقت. التفكير المجرد يحلُّ في أغلب الأحيان خلال لحظات السكون التام. كما هو الحال على سبيل المثال في الصباح الباكر، وخاصةً إذا استيقظتَ قبل أن يتوقَّف جرس المُنبه بقليل، عندها يُمكن أن يتبادر إلى ذهنك فجأةً وبدون مُبرر أنك اعتدتَ الاستيقاظ كلَّ صباح والنهوض من سريرك دون أن يُساورك أدنى شكٍّ في أن أرضية الحجرة تدعمك. وبينما أنت مُستلقٍ هناك تُفكر في الأمر، يبدو أنه من الممكن — ولو نظريًّا على الأقل — أن يحدُث خلل ما في بِنية الأرضية أو في وَحدتها الجزيئية يجعلها تنبعج، أو حتى أن يُؤدي بِت شاذ من التدفق الكمومي أو شيء ما إلى انصهارك مباشرةً. ومعنى هذا أن الأمر لا يبدو مُستحيلًا على مستوى المنطق أو أي شيء. والأمر يختلف عن أن تكون خائفًا حقًّا من أن الأرضية ربما تهبط في لحظةٍ ما عندما تنهض فعليًّا من السرير. والفكرة ببساطة هي أن بعض الحالات المزاجية وخطوط التفكير تكون أكثر تجريدًا، بحيث لا تكون مُركَّزة فقط على الاحتياجات أو الالتزامات التي ستنهض من سريرك لمباشرتها والاضطلاع بها. هذا مجرد مثال فحسب. السؤال المجرد الذي تتأمَّله وأنت مُستلقٍ هنا هو: هل لديك ما يُبرر حقًّا ثقتَك بشأن الأرضية؟ تكمُن الإجابة المَبدئية، التي هي «نعم»، في حقيقةِ أنك استيقظتَ في الصباح ونهضتَ من السرير آلاف المرات — بل لعلها في الواقع عشَرةُ آلاف مرة حتى الآن — وفي كل مرة كانت الأرضية تدعمك. وهذه هي الطريقة نفسُها التي يُوجَد بها لديك ما يُبرر أيضًا إيمانك بأن الشمس سوف تُشرق، وأن زوجتك سوف تعرِف اسمك، وأنك عندما تشعر بأحاسيس مُعينة فهذا يعني أنك تستعد لأنْ تعطس وتسعل وهكذا. وذلك لأن هذه الأمور قد حدثت من قبل مرارًا وتكرارًا. والمبدأ المُتضمَّن هنا هو في الواقع السبيل الوحيد الذي يُمكننا به أن نتنبَّأ بأيٍّ من الظواهر التي نُعوِّل عليها، وذلك بصورةٍ تلقائية فحسْب دون الاضطرار إلى إعمال العقل فيها. ويتكوَّن الجزء الأكبر من حياتنا اليومية من هذه الأنواع من الظواهر، ولولا هذه الثقةُ المَبنية على التجارِب السابقة لَكُنَّا أُصِبنا جميعًا بالجنون، أو على أقل تقديرٍ لأصبحنا عاجزين عن أداء وظائفنا؛ لأنه كان سيتعيَّن علينا وقتَها أن نقِف على كل شيءٍ ونُفكر فيه مهما كان صغيرًا. وإنها لحقيقةٌ فعلًا أنَّ الحياة كما نعرفها ما كان للمرء أن يحياها لولا هذه الثقة. ومع ذلك يبقى السؤال: هل للثقة ما يُبررها فعلًا، أم أنها تبعث على الراحة فحسْب؟ هذا هو التفكير المجرد، بمُخططه البياني المُميَّز الذي يُشبه في شكله درجاتِ السُّلَّم، وأنت موجود الآن في أعلى السُّلَّم ببضعة مستويات. أنت الآن لم تَعُد تُفكر فقط في الأرضية وفي وزنك، أو في ثقتك، وكيف أن هذا النوع من الثقة يبدو ضروريًّا لتلبية الاحتياجات الأساسية للبقاء. أنت الآن تُفكر في قاعدةٍ أكثر تعميمًا، أو قانون، أو مبدأٍ يُبرِّر فعليًّا هذه الثقة غير المدروسة بكل درجاتها وأشكالها التي لا تُحصى بدلًا من أن تكون مجرد سلسلةٍ من الاهتزازات أو المُنعكسات التوتُّرية الغريبة التي تنتابُك خلال اليوم. ومن العلامات الأخرى المؤكَّدة على أنه تفكير مجرد أنك لم تتحرَّك بعد. فالأمر يبدو كما لو أن طاقةً هائلة وجهدًا كبيرًا يُبذَلان وأنت لا تزال مُستلقيًا في مكانك لم تُحرِّك ساكنًا. هذا كلُّه يدور في عقلك. والأمر غريب للغاية، ولا عجبَ في أن معظم الناس لا يروق لهم ذلك. وفجأة، يُفهم السببُ في أنَّ المجانين غالبًا ما يُمثَّلون على أنهم يُمسِكون رءوسَهم بشِدة أو يضربونها في شيءٍ ما. ولكن، إذا كنتَ في الصف الدراسي المناسب الآن في تعليمك المدرسي، فربما تذكُر أنَّ القاعدة أو المبدأ الذي تريده موجود بالفعل، وأن مصطلحه الرياضي هو «مبدأ الاستقراء». وهو القاعدة الأساسية للعِلم الحديث. ولولا مبدأُ الاستقراء، لما استطاعت التجارِب تأكيدَ فرضيةٍ ما وإثباتها، وما غدا شيءٌ في الكون المادي يُمكن توقعُه بأي قدرٍ من الثقة على الإطلاق، وما كانت هناك أيُّ قوانينَ طبيعيةٍ أو حقائقَ علمية. ينصُّ مبدأ الاستقراء على أنه إذا حدث شيء ما في ظروف خاصة معينة بعدد من المرات في الماضي، فثَمة ما يُبرِّر لنا الاعتقاد في أن نفس الظروف سوف تُنتج في المرة . مبدأ الاستقراء جديرٌ بالاحترام تمامًا وموثوق فيه، ويبدو كما لو كان ملاذًا واضحًا للخروج من المشكلة ككلٍّ؛ أي إلى أن يتبادَر إلى ذهنك (كما يُمكن أن يحدُث فقط في الحالات المزاجية المجرَّدة للغاية، أو عندما يبقى على توقُّف جرس المنبه فترة زمنية كبيرة غير مُعتادة.) أنَّ مبدأ الاستقراء نفسَه ما هو إلا تجريد من التجرِبة الحِسِّية نفسِها. ومن ثمَّ، فالسؤال الآن: ما الذي يُبرر بالضبط ثقتنا في مبدأ الاستقراء؟ هذه الفكرة الأخيرة قد تُصاحبها ذاكرة مادية لبضعة أسابيع في مزرعة أحد الأقارب في مرحلة الطفولة (وتلك قصة طويلة). كان هناك أربع دجاجات في حظيرة يَحوطها السياج قُبالةَ المرآب، كانت بينها دجاجة مُميَّزة تُدعى السيدة دجاجة. كل صباح، يتسبَّب ظهور مُستأجر المزرعة في منطقة الحظيرة وهو يحمِل كيسًا من الخيش في إثارة هذه الدجاجة، وتبدأ في ضرب منقارها بالأرض استعدادًا للطعام؛ وذلك لأنها كانت تعلَم من ذلك أن وقت الطعام قد حان. ودائمًا ما كان يحدُث ذلك في نفس الزمن كلَّ صباح، وقد علمت السيدة دجاجة أن مضروبًا في (الرجل + الكيس) = الطعام؛ ومن ثمَّ فإنها في صباح الأحد الماضي أخذَت كعادتها تنقر بثقةٍ في الأرض استعدادًا للطعام عندما وصل المُستأجر وأمسك بها فجأة، وفي حركة انسيابية سريعة لَوى رقبتَها وأدخلها في الكيس وحملها إلى المطبخ. مثل هذه الذكريات تظلُّ حيةً في الذاكرة، لو أن أيًّا منها قد حدث لك. ولكن في ظلِّ المغزى العام، الكامن هنا، الذي يتمثَّل في أنه يبدو الآن أن السيدة دجاجة كانت مُحقة — طبقًا لمبدأ الاستقراء — في عدم توقُّع شيءٍ سوى الطعام عند الظهور رقم للمستأجر + الكيس عند الزمن . إنه أمرٌ لا يتعلَّق فقط بحقيقة أن السيدة دجاجة لم تتوقَّع أي شيء، وإنما أيضًا بأنه فيما يبدو ثَمة ما يُبرر تمامًا عدم شكِّها في شيءٍ على الإطلاق، وهذا الأمر يبدو غامضًا ومُزعجًا على نحوٍ واقعي وملموس. ومن ثمَّ، فإنَّ إيجاد مُبرر ذي مستوًى أعلى لثقتك في مبدأ الاستقراء يبدو أكثر ضرورةً بكثيرٍ عندما تُدرك أنه — دون هذا المُبرر — سوف نكون في وضعٍ لا يختلف جوهريًّا عن وضع السيدة دجاجة. ولكن الاستنتاج — المجرد كما هو — يبدو حتميًّا ولا مفرَّ منه: ما يُبرر ثقتنا في مبدأ الاستقراء هو أنه دائمًا ما أثبت جدواه في الماضي، على الأقلِّ حتى الآن. بمعنى أن مُبررنا الحقيقي الوحيد لثقتنا في مبدأ الاستقراء هو مبدأ الاستقراء نفسُه، الأمر الذي يبدو هشًّا ومُصادرةً على المطلوب إلى أقصى درجة.
المَخْرج الوحيد حتى لا تُصاب بالشلل وتُصبح طريحَ الفراش جرَّاء هذا الاستنتاج الأخير، وهو احتمالٌ وارد، هو أن تستمر في وضع المزيد من الاستفسارات الجانبية المُجردة حول ماهية «التجريد» وما يَعنيه بالضبط، وما إذا كان صحيحًا حقًّا أن التبريرات الصحيحة فقط لبعض المُعتقدات والمبادئ تكون عقلانيةً ولا يبدأ الاستدلال فيها بما يُحاوَل استنتاجه. على سبيل المثال، نحن نعلم أن عددًا من القضايا كلَّ عام تكون لسياراتٍ انحرفت فجأة عبر الخطِّ الفاصل للطريق نحو حركة المرور المُقبلة في الاتجاه الآخر، واصطدمت بمُقدمة السيارات التي يقودها أشخاصٌ في الاتجاه الآخر من دون أن يتوقَّعوا أنهم سيلقَون حتفَهم؛ ومن ثمَّ فنحن نعلم أيضًا — على مستوًى ما — أنه مهما كانت الثقة التي تجعلنا نقود سياراتنا في طريقٍ ذي اتجاهَين فليس ثَمَّة ما يُبرر هذه الثقة تبريرًا عقلانيًّا بنسبة مائة بالمائة في قوانين الاحتمال الإحصائي. ومع ذلك، ربما لا ينطبق «التبرير العقلاني» هنا. ربما يُعزى الأمر بشكلٍ أكبر إلى حقيقة أنك إذا كنتَ لا تستطيع أن تُصدِّق أن سيارتك ستتعرَّض للاصطدام فجأةً ومن دون مُقدمات، فأنت فقط لا تستطيع القيادة، ومن هنا تكون الحاجة أو الرغبة في أن تتمكَّن من القيادة كنوع من «تبرير» ثقتك هذه.٨ ومن ثمَّ، فربما كان من الأفضل عدمُ البدء في تحليل مُختلِف «المُبررات» المفترَضة لحاجتك أو رغبتك في أن تتمكن من قيادة سيارة؛ ففي وقتٍ ما سوف تعي أن عملية التبرير المُجرَّد يُمكن — ولو مبدئيًّا على الأقل — أن تستمرَّ إلى الأبد. إنَّ القدرة على إيقاف طريقة التفكير المجرد عندما ترى أنه لا نهايةَ له هو جزءٌ مما يُميِّز عادةً الأشخاصَ العقلاء الفاعلين — هؤلاء الأشخاص الذين عندما يتوقف في النهاية جرس المُنبه يُمكنهم النهوض والوقوف على أرضية الحجرة بلا خوفٍ أو ترقُّب؛ ومن ثَمَّ الانهماك في الشئون المادية للعالَم الاعتيادي الواقعي — عن المُختلِّين والمعتوهين.

جزء تكميلي

إنَّ السبب التكتيكي لاستخدام الرمز « » أحيانًا، بدلًا من «ما لا نهاية» في هذا الكتاب المكتوب باللغة الطبيعية، هو أن الغرابة التي يصعُب تفسيرها للرمز « » تُستخدَم على سبيل التذكير بأنَّ من غير الواضح حتى ما الذي نحن بصدد الحديث عنه. وهذا هو الحال حتى الآن. على سبيل المثال، إيَّاك أن تعتقد أن « » ما هو إلا عددٌ كبير على نحوٍ غير معقول أو لا يُصدَّق. يُوجَد بالطبع الكثير من تلك الأعداد، ولا سيَّما في الفيزياء والفلَك — فمثلًا في الفيزياء من المُتعارَف عليه عمومًا أن لحظةً فوق نانوية قدرُها من الثانية هي أصغرُ فترةٍ زمنية ينطبق عليها مفهومُ الزمن المُستمر العادي (وهو ما عليه الحالُ بالفعل)، فإنَّ البيانات الفلَكية تُشير إلى وجود ما يقرب من من هذه اللحظات فوق النانوية منذ الانفجار الكبير. وهذا العدد عبارةٌ عن أمامها صفرًا من جهة اليمين. جميعنا سمع عن أعداد كهذه، والتي نتصوَّر عادةً أنه لا يُمكن فهمها ومُعالجتها إلا باستخدام الحواسيب الفائقة التبريد المُتقدِّمة حقًّا، أو ما شابهها. في الواقع، هناك الكثير من الأعداد الكبيرة للغاية لدرجة أنه لا يُمكن لأي حاسوب حقيقي أو حتى نظري مُعالجتها. حَدُّ بريميرمان هو المصطلح المُطبَّق هنا. فعلى ضوء الحدود المفروضة من قِبل نظرية الكَم الأساسية، أثبت إتش بريميرمان عام ١٩٦٢ أنه «ما من نظامٍ لمُعالجة البيانات، سواءٌ أكان اصطناعيًّا أو حقيقيًّا، يُمكنه معالجة أكثرَ من بت كل ثانية لكل جرام من كتلته.» وهو ما يعني أنه لو أنَّ هناك حاسوبًا فائقًا افتراضيًّا بحجم الأرض (= جرام مضروبًا في ، حيث هو الثابت المُمثِّل لسرعة الضوء) يعمل باستمرار على مدى فترة طويلة تُعادل عُمر الأرض (حوالي سنوات، بما يعادل ثانية في السنة الواحدة) لكان في إمكانه مُعالجةُ بت على الأكثر، وهو العدد المعروف باسم حَدِّ بريميرمان. والحسابات التي تتضمَّن أعدادًا أكبرَ من تُعرَف بالمسائل الحسابية الفائقة المُعالجة، أي إنها غيرُ قابلة للمعالجة حتى لو نظريًّا، ويُوجَد الكثير من هذه المسائل في الفيزياء الإحصائية، ونظرية التعقيد، وهندسة الكسوريات، وغيرها. كلُّ هذا جيد ومُثير للاهتمام، ولكنه غيرُ ذي صِلة بالموضوع. ولكي نفهم ما هو وثيقُ الصِّلة بالموضوع، خُذ عددًا ما فائقَ المُعالجة، وتخيَّل أنه حبَّة رمل، وتصوَّر شاطئًا بأكمله، أو صحراء، أو كوكبًا، أو حتى مجرَّة مليئة بهذا الرمل، عندئذٍ لن يكون المناظِر وحدَه أصغر من ما لا نهاية، ولكن مُربَّعه أيضًا سيكون أصغر من ما لا نهاية، وكذلك ، وهكذا؛ وفي الواقع من غير الصائب حتى أن تُقارن بين وما لا نهاية حسابيًّا بهذه الطريقة؛ لأنهما لا يندرجان ضمن المجال الرياضي نفسه — حتى لو افترضنا أنهما يُشكِّلان البُعد نفسَه. ومع هذا، من المعروف أيضًا أن بعض قيم تكون أكبرَ من غيرها، كما في القِيَم الأكبر حسابيًّا. وهذا كله سوف نُناقشه لاحقًا؛ أما ما يَعنينا الآن هو أنه لم يتسنَّ الحديثُ عن الكميات غيرِ المُنتهية وعملياتها الحسابية على نحوٍ مترابط وذي معنًى إلا بعد آر ديديكند وجي كانتور. ومن هنا، جاءت فكرة استخدام الرمز « ».
م. إ.: الرمز « » نفسه يُسمَّى رياضيًّا «منحنى العُروتَيْن» (وهو لفظ مُشتق فيما يبدو من كلمة إغريقية بمعنى «شريط») وقد أُدخِل هذا الرمز في الرياضيات على يد جون واليس عام ١٦٥٥، عندما استخدمه في كتابه «حساب اللانهائي» Arithmetica Infinitorum، الذي كان أحدَ التمهيدات المُهمَّة لعِلم التفاضُل والتكامُل الذي ابتكره نيوتن.٩ اعترضَ توماس هوبز، وهو علَّامة رياضي مُعاصر لواليس، في مقال له بأن كتاب «حساب اللانهائي» جاء تجريديًّا على نحوٍ مبالغٍ فيه للغاية، حتى إنه يصعُب على المرء حتى محاولةُ قراءته؛ فهو «حفنة من الرموز»، ومِن ثمَّ فإنه كان يتحدَّث بلسان أجيالٍ قادمة من الطلاب الجامعيِّين لم تأتِ بعد. ومن بين الأسماء الأخرى لمصطلح «منحنى العُروتَيْن» «عقدة الحب» و«منحنى المُستوى الكارتيزي الذي يُحقق المعادلة ». ومن جهة أخرى، إذا تناوَلنا المصطلح من منظور حساب المثلثات، حيث يُطلَق عليه «المنحنى الذي يُحقق المعادلة القطبية »، فإنه يُعرَف أيضًا باسم «منحنى بيرنولي».
نهاية «جزء تكميلي»

الجزء ١(ﺟ)

على ذكر موضوع التجريد ودلالات الأسماء ككلٍّ، ثَمَّة عملية مُلازِمة لذلك؛ إما أن تكون تجريدًا عاليَ المستوى، أو نوعًا من الطفرات الاسمية الغريبة. كلمة «حصان» يُمكن أن تعنيَ ذلك الحصان الذي أمامنا مباشرةً، أو يُمكن أن تعنيَ المفهوم المجرَّد، كما في «حصان = حيوانٌ من الثدييات، له حوافر، ينتمي إلى فصيلة الخيليَّات.» والشيء نفسُه ينطبق على كلمة «قرن» وكلمة «جَبين». كلُّ هذه الكلمات يُمكن تجريدها من خصوصيتها، ورغم ذلك نظلُّ على علم بأنها مُشتقة من أمثلة خاصة بعينها. اللَّهم إلا ما نجده في حالةِ وحيد القرن، الذي يبدو أنه مزيجٌ من مفاهيم «حصان» و«قرن» و«جَبين»، ومن ثَمَّ فإنَّ له أصلَه الكامل في سلسلة التجريدات. هذا معناه أنه في مقدورنا دمجُ التجريدات ومُعالجتها لتكوين كياناتٍ ليس لأسمائها أيُّ دلالاتٍ خاصة على الإطلاق. وهنا تظهر المُعضلة الكبرى: ما الطريقة التي يُمكن بها أن نقول إنَّ وحيد القرن موجود، وتكون مختلفة اختلافًا جوهريًّا وأقلَّ واقعية عن الطريقة التي تُوجَد بها أفكار مجردة أخرى مثل «إنسانية» أو «قرن» أو «عدد صحيح»؟ وهو ما يقودنا مرة أخرى إلى السؤال: ما الكيفية التي تُوجَد عليها الكيانات المجردة؟ أو هل هي موجودة بأية حالٍ على الإطلاق باستثناء كونها أفكارًا في عقل الإنسان — على سبيل المثال، هل هي تخيُّلاتٌ ميتافيزيقية؟ هذا النوع أيضًا من الأسئلة يُمكن أن يجعلك تُلازم الفراش طوال اليوم، ويُخيِّم على الرياضيات منذ البداية — ما الوضع الأنطولوجي للكيانات والعلاقات الرياضية؟ هل الحقائق الرياضية اكتُشِفَت، أم أنها استُحدِثت ببساطة، أم أنها كِلا الأمرَين بطريقةٍ ما؟ تحضُرنا هنا من جديد مقولةُ إم كلاين: «المبادئ الفلسفية لدى الإغريق ضيَّقت على الرياضيات وحجَّمتها بطريقةٍ ما. خلال الفترة الكلاسيكية اعتقدوا أنَّ الإنسان لا يستحدِث الحقائق الرياضية: إنَّها سابقةٌ عليه في الوجود، ومِن ثمَّ يقتصر دوره على التحقُّق منها وتسجيلها.»

ثَمَّة اقتباسٌ آخر عن دي هيلبرت، العالِم الجليل الذي كان أول مَن أيَّد كانتور في نظريته عن الأعداد فوق المنتهية:

لا يُمكن العثور على اللامتناهي في أي مكانٍ في الواقع، بغضِّ النظر عن الخبرات، والملاحظات، والمعلومات المطلوبة. هل يُمكن أن يكون التفكيرُ في الأشياء مُختلفًا بدرجة كبيرة عن الأشياء نفسِها؟ هل يُمكن أن تختلف عمليات التفكير كثيرًا عن العملية الفعلية للأشياء؟ باختصار، هل يُمكن أن يُنتزَع التفكير من الواقع ويُجرَّد إلى هذا الحَد؟

صحيحٌ أنه لا يُوجَد شيءٌ أكثر تجريدًا من اللانهائية، على الأقل فيما يخصُّ مفهومَنا البديهي الضبابي باللغة الطبيعية تجاه اللانهائية. إنه نوعٌ من غاية الانسحاب عن التجرِبة الفعلية. لنتأمَّل السِّمة الوحيدة الأوسعَ انتشارًا والأكثر وطأةً للعالَم المادي، التي مفادها أنَّ كل شيءٍ إلى الزوال مآلُه، وأنه محدودٌ، وسوف يندثر، ثم نتصوَّر شيئًا ما بتجرُّدٍ من دون هذه السمة. إنَّ القياس على بعض الأفكار المتعلقة بالله تكون واضحة؛ فالتجريد من مُختلِف القيود هو أحد الأساليب التي يُفسَّر بها الباعثُ الديني بمصطلحاتٍ علمانية. ويُعرَف هذا أيضًا باسم أنثروبولوجيا الدين: كيانٌ كامل يمكن فَهمُ كينونته على أنها كينونة مُنزَّهة من كل النقائص التي نلاحظها في أنفسنا وفي العالَم، كيانٌ قدرته مُطلقة وإرادته غير محدودة، إلخ. حقيقة أنَّ هذا أسلوب جامد وكئيب للغاية للتحدُّث عن الدين هو أمرٌ غير وارد من قريب أو بعيد؛ فالفكرة هي أنه يُمكن بهذا الأسلوب نفسِه بالضبط تفسيرُ المصدر الذي استقَينا منه مفهوم «اللانهائية» وما نَعنيه في النهاية بكل صور لفظة «لا نهائي» و«غير مُنتهٍ» التي نتحاور بشأنها ونتبادل الآراء حولها. ومع ذلك، فإنَّ كون هذا هو التفسير الحقيقي فعلًا أم لا ينطوي على ما يُلزمنا هذا التفسيرُ القيامَ به، على نحوٍ ميتافيزيقي. هل نريد فعلًا أن نقول إن اللانهائية موجودة فقط بالطريقة التي يُوجَد بها وحيد القرن، وأن الأمر كله إنما يتعلق بأسلوبِ مُعالجتنا للأفكار المجرَّدة حتى يصير مُصطلح «لا نهائية» بلا مرجعية حقيقية؟ ماذا عن مجموعة الأعداد الصحيحة؟ ابدأ العَدَّ عند ١، ٢، ٣، وهكذا، واعلم أنك لن تتوقَّف أبدًا، ولا أولادك مِن بعدك، ولا أولادهم، وهكذا. الأعداد الصحيحة لا تتوقَّف؛ فهي لا نهاية لها. هل مجموعة الأعداد الصحيحة تُشكِّل لانهائيةً فعلية؟ أو هل الأعداد الصحيحة نفسُها ليست حقيقية بالفعل، ولكنها تجريداتٌ فحسْب؛ وما هي المجموعة بالضبط؟ وهل المجموعات حقيقية أم أنها أدواتٌ مفاهيمية فحَسْب، وهكذا؟ أو هل يُحتمَل أن تكون الأعداد الصحيحة و/أو المجموعات «حقيقيةً تبعًا للمفهوم الرياضي» فقط في مقابل ما يعنيه كونُها حقيقيةً بالفعل، وما هو الفرق بالضبط، وهل يُحتمَل أن نُريد إسباغ حقيقة رياضية مُعينة على اللانهائية ولكن ليس النوع الآخر (بافتراض وجود نوعٍ آخر واحد فقط)؟ وإلى أي مدًى يُمكن أن تُصبح الأسئلة مجردة للغاية والفروق دقيقةً جدًّا والصداع مُتفاقِم لدرجة أننا ببساطة لم نَعُد نَقْوى على التفكير في أيٍّ من هذا أكثرَ من ذلك؟

إنَّنا نُواجِهُ في مجالاتٍ مثل الرياضيات والميتافيزيقا واحدةً من أغرب سِمات العقل البشري للإنسان العادي، وهي القدرة على تصوُّر الأشياء التي لا نستطيع بالأحرى إدراكَها. على سبيل المثال، يُمكننا أن نتصوَّر على نحوٍ تقريبي مفهوم القُدرة المُطلقة. يُمكننا على الأقل استخدامُ كلمة «قدرة» ولدَينا درجة معقولة من الثقة في أننا نعرف ماهيَّةَ ما نتحدَّث عنه. ولكن حتى المفارقة التي يُثيرها تلميذٌ بطرح سؤالٍ من قَبيل «هل يُمكن لكائن يتمتَّع بقدرة مُطلقة أن يصنع شيئًا أثقلَ بكثير من أن يرفعه؟» هي ثغراتٌ خطيرة تبرُز في فهمنا اليومي للقدرة المُطلقة. ولذا، ثَمة نوعٌ آخر من التجريد وثيقُ الصلة هنا. وهذا النوع يتعلق أكثرَ بالجانب النفسي وهو حديثٌ للغاية.

الحقيقة الواضحة: أنه لم يحدُث أبدًا من قبلُ أن وُجِدَ هذا الكمُّ من الهوات السحيقة بين ما يبدو عليه العالَم وبين ما يُخبرنا به العِلم في هذا الشأن. ويُشير الضمير «نا» في «يخبرنا» إلى الأشخاص العاديين غير المُختصين. إنَّ الأمر ليبدو مثل مليون ثورة من الثورات الكوبرنيكية تحدُث جميعُها في آنٍ واحد. كالحال على سبيل المثال عندما «نعرف» — نحن خريجي المدارس الثانوية وقرَّاءَ «نيوزويك» — أنَّ الزمن نسبي، وأنَّ الجسيمات الكَميَّة يُمكن أن تكون موجودة وغير موجودة في آنٍ واحد، وأنَّ الفضاء مُنحنٍ، وأنَّ الألوان لا تكون مُلازِمة للأشياء نفسِها، وأنَّ المُتفردات الفلكيةَ ذاتُ كثافة لا مُتناهية، وأنَّ حبَّنا لأبنائنا مُبرمجٌ داخلنا مُسبقًا من منظور تطوُّري، وأنَّ هناك بقعةً عمياء في مركز رؤيتنا تملؤها أدمغتُنا تلقائيًّا، وأنَّ أفكارنا ومشاعرنا هي في الحقيقة مجردُ عمليات نقل كيميائية في ٢٫٨ رطل من الأنسجة المُكهرَبة (أي الدماغ)، وأنَّ غالبية أجسادنا مكوَّنة من الماء، والماء أغلبه هيدروجين، والهيدروجين قابلٌ للاشتعال، ومع ذلك لسنا قابِلين للاشتعال. نحن «نعلم» عددًا من الحقائق التي تتعارَض مع خبراتنا المنطقية المباشرة تجاه العالَم، ومع ذلك علينا أن نعيش وأن نعمل في هذا العالَم. ومن ثَمَّ، فإننا نُجرِّد، ونُجزِّئ: هناك أشياءُ نعرفها وأشياءُ «نعرفها». إنني أعرف أنَّ حُبي لأولادي هو مسألةٌ تتعلق بالانتقاء الطبيعي، ولكني أعرف أنني أُحبه، وأشعُر وأتصرَّف على أساس هذه المعرفة. ومن وجهة نظر موضوعية، فإن الأمر كله انفصاميٌّ للغاية؛ بيد أن الحقيقة أننا كأشخاصٍ عاديين ذاتيين لا نشعر غالبًا بالتناقُض. ذلك لأن ٩٩٫٩٪ من حياتنا هي بالطبع عملياتٌ حِسِّية ملموسة، ونحن نعمل بشكلٍ حسِّي ملموس على أساس ما نعرف، وليس ما «نعرف».

مرةً أُخرى، نحن نتحدَّث عن الأشخاص العاديين غير المُختصين مِثلي ومِثلك، وليس عن عباقرة الفلسفة والرياضيات، الذين اشتُهِر عن كثيرٍ منهم أنه يُعاني صعوبةً في مواكبة العالَم الحقيقي: أينشتاين ترك منزله مُرتديًا ملابسَ النوم، جودل عجز عن إطعام نفسِه، وغيرهما. لكي نُقدِّر ماهية الحياة الباطنية لعظماء العُلماء أو الرياضيين أو الميتافيزيقيين، كلُّ ما نحتاجه هو أن نسترخيَ ونُحاول صياغة فكرةٍ شديدة الدقة ومُترابطة تمامًا — على النقيض من الأفكار الضبابية والنيوزويكية — عمَّا نعنيه فعلًا ﺑ «قوة مُطلقة»، أو «عدد صحيح»، أو «لا محدود»، أو «مُتناهٍ ولكنه غيرُ محدود»، أن نُحاول ممارسة نوع من التفكير المجرد المنضبط والمُوجَّه.١٠ ينطوي هذا النوع من التفكير على إجهادٍ أشبهَ بالشرود، وهو إجهاد واضح جدًّا لكن لا يُمكن تأويلُه، والإحساس بأن تَكراره كلمة «قلم» مرارًا وتَكرارًا وكأنه مريضٌ بالصرع ما هو إلا ظلٌّ شاحب ضعيف لهذا الشرود. إحدى أسرع الطرُق إلى هذا الشعور هو (من واقع التجرِبة الشخصية منذ خلْقِ العالَم) أن تُحاول التفكير بإمعانٍ في البُعد. ثَمَّ شيء «أعرفه»، وهو أنه تُوجَد أبعادٌ مكانية بخلاف الأبعاد الثلاثة المعروفة، بل يُمكنني إنشاء مُكعب فائق رباعي الأبعاد (تسراكت) أو مكعَّب زائدي من الورق المُقوَّى. وبوصفه نوعًا غريبًا من مُكعب داخل مُكعب، فإن المُكعب الفائقَ الرباعي الأبعاد هو إسقاطٌ ثلاثي الأبعاد لجسم رباعي الأبعاد بنفس الطريقة التي يعتبر بها () عبارة عن إسقاط ثنائي الأبعاد لجسم ثُلاثي الأبعاد. الفكرة هنا هي أن نتصوَّر أن كلًّا من خطوط المكعب الفائق الرباعي ومُستوياته متعامد على الآخَر بزاوية ٩٠ درجة (هذا ينطبق أيضًا على () ومكعب حقيقي)؛ لأن البُعد المكاني الرابع هو البُعد الذي يُوجَد بطريقةٍ ما عند الموضع الذي تتكوَّن عنده زاوية قائمة مع أبعاد الطول والعَرض والعُمق الخاصة بمجال إبصارنا العادي. أنا «أعرف» كل هذا، حسبما تعرفه أنت على الأرجح … ولكن حاول الآن أن تتصوَّره حقًّا، بشكل مادي. يُمكنك أن تشعر، على نحوٍ شبه فوري تقريبًا، بإجهادٍ ذهني، حيث تبدأ خيوط التفكير الأولى في التزاحُم على الذهن.
بالنظر إلى «المعرفة» بمفهومها العام المُطلق في مقابل ما نعرفه بحُكم الواقع الفعلي حقًّا، نجد أن النوع الثانيَ هو ما قصده ديكارت بقوله «الفَهم الواضح والمُميَّز» وما تُشير إليه اللغة العامية الحديثة بالفِعلَيْن «يُعالج» و«يتعامل مع». ومن هنا تتجلَّى من جديدٍ حالة الانفصام المعرفي للعقل العادي غير المُتخصِّص الحديث: نشعر كما لو كنَّا «نعرف» أشياءَ لا يستطيع في الواقع الجهازُ الإدراكي لعقولنا التعاملَ معها. هذه غالبًا عبارة عن أشياءَ ومفاهيمَ في أقاصي التجريد البعيدة، أشياء لا يُمكننا حرفيًّا تصورها: من المُجمعات، وتصميم الحركة الكُمومية، والمجموعات الكسورية، والمادة المُظلمة، والجذور التربيعية للأعداد السالبة، وزجاجات كلاين، والمكعب المُستحيل (مكعب إيشر)، والدرج المستحيل (درج بنروز)، وبالتأكيد. في الغالب، تتَّسِم هذه الأنواع من الأشياء بأنها موجودة من منظور «عقلي» أو «رياضي» فقط. ومرة أخرى، من غير الواضح تمامًا ما يعنيه هذا، على الرغم من أن المصطلحاتِ نفسَها سهلةُ الاستخدام للغاية.
يُرجى ملاحظة أن هذه القدرة العادية غير المُتخصِّصة على تقسيم وعْينا و«معرفة» أشياءَ لا نستطيع التعامُل معها هو أمرٌ حديث على نحوٍ مُميَّز. قدماء الإغريق، على سبيل المثال، لم يستطيعوا فعل هذا أو ما كان ليُمكنهم ذلك. إنهم يُريدون الأشياء دقيقةً ومرتَّبة، ومن ثمَّ شعَروا أنك لا تستطيع معرفةَ شيءٍ ما لم تكن تفهمه حقًّا.١١ وليس من قبيل المُصادفة أن الرياضيات لديهم لم تتضمَّن الصِّفر ولا ما لا نهاية. كما أنَّ الكلمة المُرادفة لديهم لمصطلح اللانهائية تعني «فوضى».

خبرت الشخصية الإغريقية الفلسفةَ وممارسة الرياضيات من البداية. فالحقائق الرياضية تقوم لديهم على البرهان المنطقي، وتتَّسِم بأنها تكون على درجةٍ كبيرة من التنظيم والوضوح. وهذا وحدَه هو ما يُخلِّص الرياضيات من مشاكلَ مُعقدة مثل كيفية تبرير مبدأ الاستقراء؛ فالعلاقات والبراهين الرياضية ليست استقرائيةً ولكنها استنتاجية، منهجية. وبعبارةٍ أُخرى، الرياضيات نظامٌ منهجي، حيث تعني كلمة «منهجي» نموذجًا أصليًّا، مجرَّدًا تمامًا. وجوهر الفكرة هنا أن الحقائق الرياضية مؤكَّدة وعامة تمامًا؛ لأنها لا شأن لها بالعالَم. وإذا كان الأمر يبدو مُبهَمًا بعض الشيء، فها هو جزء من كتاب «اعتذار عالِم رياضيات» لمُؤلِّفه جي إتش هاردي، وهو أبرز الأعمال النثرية الإنجليزية التي تناولت الرياضيات من حيث الوضوحُ وسهولة الفهم.

يقول أيه إن وايتهيد: «يعتمِد يقين الرياضيات على تعميمها المُجرَّد تمامًا.» عندما نُؤكِّد أن ، فإننا نؤكِّد علاقة بين ثلاث مجموعاتٍ من «الأشياء»، وهذه الأشياء ليست تفَّاحات أو بِنسات أو أشياء من أي نوعٍ أو آخَر بعينه، ولكنها فقط أشياء، «أي أشياء قديمة». فمعنى الجملة مُستقلٌّ تمامًا عن مجموع السِّمات الفردية لأجزائها. جميع «الكائنات» أو «الكيانات» أو «العلاقات» الرياضية، مثل « » أو « » أو « » أو « » أو « »، وجميع الفرضيات الرياضية التي تظهر فيها، تكون عامة تمامًا، أي مُجرَّدة تجريدًا تامًّا. وفي الواقع، في كلمات وايتهيد إسهابٌ زائد عن الحاجة؛ إذ إنَّ «التعميم» بهذا المفهوم هو نفسُه «التجريد».
يُرجى ملاحظة أن كلمة «تعميم» في أيٍّ من الاقتباسَيْن لا تُشير فقط إلى تجريد المصطلحات الفردية ومَرجعياتها، ولكن أيضًا إلى الشمولية المُجردة تمامًا للحقائق المُؤكَّدة. وهذا هو الفرق بين الحقيقة المُثبَتة (أي القاعدة أو الصيغة) في الرياضيات البحتة وبين النظرية الرياضية. وأحد الأمثلة المشهورة على هذا الفرق (وهو مثالٌ معروف لتلاميذ د. جوريس، على أية حال) هو أن (١) «مجموع المُتسلسلة حقيقة مُثبَتة، في حين أن (٢) «لأيِّ ، مجموع أول عدد من الأعداد الصحيحة الفردية = هو نظرية، أي رياضيات بمعناها الفعلي».
إنَّ الهدف في الغالب مما سوف نعرضه هنا أن يكون تذكيرًا ببعض الأشياء التي تعرفها إلى حدٍّ ما أو سبق أن درستها في المدرسة. إذا كانت معرفتك بالنظم الشكلية أفضلَ من بسيطة، فسوف تتعامَل مع الفقرات الثلاث التالية على أنها معلومات بسيطة للغاية وغير مُعقَّدة، ومن ثَمَّ يُمكن أن تتعامل معها على أنها معلوماتٌ إضافية يُمكنك تخطِّيها أو المرور عليها سريعًا. يتطلَّب النظام الشكلي للبرهان مُسلَّماتٍ وقواعدَ استدلال. المُسلَّمات هي فرضياتٌ جلية يُمكن التأكُّد منها دون برهان. على سبيل المثال، لعلَّك تذكُر مُسلَّمات إقليدس أو فرضيات بيانو من أيام الدراسة. أما قواعد الاستدلال، التي تُسمَّى أحيانًا قوانينَ التفكير، فهي المبادئ المنطقية التي تُجيز اشتقاق حقائقَ من حقائقَ أخرى.١٢ وتكون بعضُ قواعد الاستدلال بسيطةً مثل قانون الهُوية، الذي ينصُّ أساسًا على أنه إذا كان شيءٌ ما هو ، فإنه إذن . والبعض الآخر يكون أكثر تعقيدًا. وفيما يخص نقاشنا هنا، ثمة قاعدتان من قواعد الاستدلال ينفردان بأهميةٍ خاصة. تُعرَف القاعدة الأولى باسم قانون الوسَط المُستبعَد أو الثالث المرفوع. طبقًا لهذا القانون، أيُّ فرضية رياضية إما أن تكون صحيحة أو، إذا كانت غير صحيحة، فإنها خطأ، ولا ثالث بين الاحتمالَيْن.١٣ تتضمَّن القاعدة المهمة الأخرى من قواعد الاستدلال علاقة الاستتباع المنطقي أو الاقتضاء أو الاستلزام، بمعنى أنه «إذا كان … فإن»، وعادةً ما يُرمَز لها بالرمز « ». والقاعدة الأكثر وضوحًا لعلاقة الاستتباع المنطقي أو الاقتضاء هي أن (١) « » و(٢) « صحيح» يستتبعان منطقيًّا استنتاج أنَّ (٣) « صحيح». وسوف نستخدم كثيرًا عكس هذه القاعدة أو مقابلها، وهو ما يُسمَّى عادةً «استنتاجًا خلفيًّا» modus tollens؛ فهو ينص أن (١) « » و(٢) « خطأ» يستتبعان منطقيًّا أن (٣) « خطأ».١٤
أحد الأسباب التي تُوضِّح أهمية قانون الوسط المُستبعَد والاستنتاج الخلفي بالنسبة إلى الرياضيات هو أنهما يسمحان بتطبيق طريقة البرهان غيرِ المباشر، التي تُعرَف أيضًا بطريقة البرهان بنقض الفَرض، أو أحيانًا البرهان بالنقض فقط. وفيما يلي توضيحٌ لآلية عمل هذه الطريقة. لنفترض أنك تُريد إثبات . ما تفعله هو افتراض العكس ثم إثبات أن تُمثل « »، (باستخدام قانون الوسط المُستبعَد، لا شيءَ يحتمل الخطأ والصواب في آنٍ واحد، ولذا فإن الاقتران « » سوف يكون خطأً دومًا.) وباستخدام الاستنتاج الخلفي، إذا كان (١) و(٢) « » خطأً، فإن (٣) تكون خطأً، وباستخدام قانون الوسط المُستبعَد،١٥ إذا كان خطأً، فإن لا بدَّ أن يكون صوابًا.
الكثير من البراهين العظيمة حقًّا والمشهورة في تاريخ الرياضيات كانت براهينَ بالتناقُض (أي براهين بنقض الفَرض). وإليكم مثالًا على ذلك. إنه برهان إقليدس للفرضية ٢٠ في الجزء التاسع من كتاب «الأصول» أو «العناصر» لإقليدس. تختص الفرضية ٢٠ بالأعداد الأَولية، وهي — حسبما تذكرها على الأرجح من أيام الدراسة — الأعداد الصحيحة التي لا تقبل القسمة على أي عدد صحيح أصغرَ منها، ويكون الباقي صفرًا. تنصُّ الفرضية ٢٠ بالأساس أنه ليس ثمة ما يُقال عنه العدد الأوَّلي الأكبر. (هذا يعني بالطبع أن عدد الأعداد الأولية هو في الحقيقة لا نهائي، ولكن إقليدس أخذ يحوم حول هذا المعنى؛ إذ لم يقُل صراحةً إنه «لا نهائي».) وفيما يلي برهانُ ذلك. افترض أن هناك بالفعل عددًا أوليًّا أكبر. دعنا نُسمِّ هذا العدد . هذا يعني أن متتابعة الأعداد الأولية ( ) بصورتها الشاملة والمنتهية: ( ) هي جميع الأعداد الأولية الموجودة.١٦ لنُفكر الآن في العدد الصحيح ، وهو العدد الذي تحصل عليه عند ضرب جميع الأعداد الأولية حتى في بعضها ثم تُضيف . من الواضح أن أكبر من . ولكن هل عدد أولي؟ إذا كان كذلك، فإننا أمام تناقُض مباشر؛ لأننا افترضنا بالفعل أن هو أكبر عدد أوَّلي ممكن. لكن إذا كان ليس عددًا أوليًّا، فما هو العدد الذي يقبل القسمة عليه؟ من الواضح أنه لا يقبل القسمة على أيٍّ من الأعداد الأولية في المتتابعة ( )؛ لأن قسمة على أيٍّ منها سيُعطينا الباقيَ . ولكن هذه المتتابعة هي جميع الأعداد الأولية الموجودة، والأعداد الأولية هي في نهاية المطاف الأعداد الوحيدة التي يقبل القسمة عليها عددٌ غير أولي. فإذا كان ليس عددًا أوليًّا، وإذا كان لا يقبل القسمة على أيٍّ من الأعداد الأولية ( )، فلا بدَّ من وجود عددٍ أولي آخر يقبل القسمة عليه. ولكن هذا يتناقض مع الافتراض أن ( ) متتابعة تشمل جميع الأعداد الأولية. في كِلتا الحالتَين، نحن إزاء تناقُض واضح. وبما أنَّ الافتراض بأن هناك عددًا أوليًّا أكبر يستتبع تناقُضًا، فإن قانون الاستنتاج الخلفي يقتضي أن الافتراض خطأٌ بالضرورة، وهو ما يعني طبقًا لقانون الوسط المُستبعَد١٧ أنَّ إنكار الفرض صوابٌ بالضرورة، بمعنى أنه لا يُوجَد عدد أوَّلي أكبر، وهو المطلوب إثباته.
يُرجى ملاحظة أن لفظة «الأَولية» ليس لها علاقة بالعالَم، ولكنها تُعنى فقط بالعلاقات بين الأعداد. الإغريق هم المُؤسِّسون الحقيقيُّون لما نُسمِّيه الرياضيات؛ لأنهم — مرةً أخرى — أولُ مَنْ تعامل مع الأعداد وعلاقاتها كأفكارٍ مُجردة بدلًا من كونها خصائصَ مجموعات من الأشياء الحقيقية. من المُهم أن نَرى ما مثَّله ذلك من قفزةٍ كبيرة. بالنظر في سجلِّ التاريخ القديم، أو ما يُمكن أن نُسمِّيَه «سجلَّ الحفريات» إن جاز التعبير، يُمكن أن نرى بسهولةٍ أن الرياضيات لها منشؤها في الأساس. تأمَّل حقيقة أن الأعداد تُسمَّى «أرقامًا» وأن مُعظم نُظُم العَدِّ — ليس فقط النُّظم ذات الأساس ١٠، ولكن أيضًا النُّظم ذات الأساس ٥، والأساس ٢٠ في أوروبا في عصور ما قبل التاريخ — مُصممةً بوضوح على أساس العَدِّ بأصابع اليدَين والقدمَين. أو أننا ما زلنا نتحدَّث عن «ساق» المُثلث أو «وجه» مُتعدِّد الوجوه أو مُتعدِّد السطوح، أو أن «حساب التفاضُل والتكامل» مُشتقٌّ من الكلمة الإغريقية المرادفة لكلمة «حصاة»، وهكذا. من المعروف جيدًا وجودُ حضاراتٍ سابقة على الحضارة الإغريقية، كما في حالة البابليِّين والمصريين، بدرجة بسيطة من التعقيد في مجال الرياضيات؛ ولكن الرياضيات لديهم كانت رياضياتٍ عَملية بقدْرٍ أكبر، وكانت تُستخدَم لأغراض المسح، والتجارة والمال، والمِلاحة، وغير ذلك. بعبارة أخرى، كان البابليون والمصريون مُهتمِّين بالبرتقالات الخمس بدلًا من ٥. أما الإغريق، فإنهم هم الذين حوَّلوا الرياضيات إلى نظامٍ مجرَّد، لغة ذات رموز خاصة تسمح للأشخاص ليس فقط بوصف العالَم المادي، ولكن أيضًا بتفسير أعمق الأنماط والقوانين. ومن ثمَّ، نحن مَدينون لهم بكل شيء.١٨ والأهم من ذلك أنَّ إنجازات كيه فايرشتراس، وجي كانتور، وآر ديديكند في نظرية المجموعات والأعداد الحديثة يستحيل تقدير أهميتها دون فَهم القفزة المتعددة الأبعاد من الرياضيات بوصفها تجريدًا عمليًّا لخصائص العالَم الحقيقي إلى الرياضيات بوصفها نظامًا سوسوريًّا — نسبةً إلى العالِم فرديناند دي سوسور — «من الرموز … مُستقلًّا عن الأشياء المُحدَّدة بعينها.» وما كان من الممكن أيضًا الوصولُ إلى تقدير حقيقي دون النظر كذلك في «الإسقاطات التي لا تُحْصَى …» التي أعقبَت ذلك؛ لأن الرياضيات المجردة التي قضت على الخُرافات والجهل واللامعقول، وأنتجت العالَم الحديث هي أيضًا الرياضيات المُجردة المليئة باللامعقول والمُفارقات والأُحجِيات، ولطالما حاولَتْ دائمًا أن تحلَّ القضايا الشائكة لديها على نحوٍ مُتسرِّع وغير مدروس منذ بداية وضعها كلُغةٍ حقيقية. مرة أخرى، يُرجى أن تأخذ في اعتبارك أن اللغة هي خريطة العالَم كما أنها عالَمٌ خاص في حدِّ ذاتها، لها دهاليزها وأخاديدها الخاصة، ويُقصَد بتلك الدهاليز والأخاديد المواضع التي تتضمَّن جُملًا تمتثل في ظاهرها لكلِّ قواعد اللغة، ولكن يستحيل على الرغم من ذلك التعاملُ معها.
يُمكن أن نفترض أن معظم عناصر اللغة الطبيعية مألوفة بالفعل، ولكن على سبيل التذكير فقط، انظر إلى المسافة (المستويات المُتضمَّنة) بين استخدام لفظتَي «شجرة» و«صخرة» لتحديد أشجار وصخور فعلية، وبين دلالات دبليو جيه كلينتون المريرة للفظتَي inhale «يُدخِّن» أو have sex «يمارس الجنس». أو حلِّل المفارقة المشهورة «أنا أكذب» (والإغريق هم مَنْ وضعوها أيضًا). أو تأمَّل جُملًا مثل «عبارة «هُراء لا معنى له» ليس لها معنًى». أو «هل «إذا كانت الجملة تتبع الاقتباسَ الخاص بها مباشرةً، تكون خطأً» تعني أنه «إذا كانت الجملة تتبع الاقتباس الخاص بها مباشرةً تكون خطأً».» سوف تُلاحظ أن هذه الجمل الثلاث الأخيرة، مثلها مثل أكثر المواضع تناقُضًا، تنطوي إما على إحالة ذاتية أو ارتدادٍ لا نهائي، وكلاهما تأثيران سلبيان ابتُلِيَت بهما اللغة منذ زمنٍ بعيد جدًّا.
الرياضيات ليست استثناءً في ذلك. وبما أن الرياضيات لغة مجردة تمامًا، فإنها بالطبع لغة يُفترَض أن افتقارها إلى مرجعياتٍ محددة في العالَم الحقيقي يُحقِّق لها أقصى درجات السلامة والاتساق، مفارقاتها وأحجياتها أكثر بكثيرٍ من مجرد مسألة. فالرياضيات ينبغي في الحقيقة أن تتعامل مع تلك المفارقات والأحجيات بدلًا من مجرد تجاهلها عندما يزول المُحفِّز. بعض المُعضلات يُمكن التعامُل معها بالقواعد الرياضية الصحيحة، بحكم التعريف والاشتراط إن جاز التعبير.١٩ مثالٌ بسيط من مادة الجبر في المرحلة الثانوية: من منطلق الحقيقة غير القابلة للنقاش التي مفادها أن القواسم في معادلة من كسرَين تكون متساويةً إذا كان البسطان مُتساوِيَين، أي إذا كان فإن — سيبدو الأمر أنه إذا كان ، فإن ، أي ، وهو ما ليس صحيحًا بكل تأكيد. يمكن مُعالجة هذا بافتراض أنَّ الحل الوحيد الممكن ﻟ ، هو (حيث إنَّ قسمة الصفر على أي شيءٍ يُساوي الصفر نفسَه، وهو ما لا يستتبع أن ) وباشتراط أن النظرية لا تتحقَّق إلا إذا كان .
أو إليك مثالًا آخر يتطلَّب مزيدًا من الانتباه؛ جميعُنا يذكر الأرقام العشرية المتكررة، مثل كتابة على صورة . هذا يعني أنه يُمكنك توضيحُ أن الرقم العشري المُتكرِّر مثل العدد يساوي بخطوتَين فقط صحيحتَين تمامًا. بعبارة أخرى: إذا كان ، فإن ؛ وعندئذٍ نطرح من :
وسوف تحصل على ؛ ومِن ثَمَّ . هل هذا معقول أم لا؟ يعتمد ذلك على كيفية مُعالجتنا للمُتتابعة غير المُنتهية « »، مثل إذا ما اخترْنا افتراضَ وجود عددٍ ما أكبر من ، ولكن أصغر من . سيتضمَّن هذا العدد جزءًا مُتناهيَ الصغر، وهو ما يعني حرفيًّا كِيانًا رياضيًّا صغيرًا على نحوٍ لا متناهٍ. ومع ذلك، ربما لا تتذكر جيدًا — لأن أحدًا لم يُخبرك بذلك على الأرجح — أن مُتناهياتِ الصغر جعلَت أساسيات حساب التفاضُل والتكامُل مُتداعيةً للغاية ومُثيرةً للجدل على مدى ٢٠٠ سنة، وذلك لنفس السبب تقريبًا الذي جعل رياضيات كانتور للأعداد فوق المُنتهية تُقابَل بهذا القدْر من التشكيك في أواخر القرن التاسع عشر: ليس ثَمَّة ما سبَّب مشاكلَ للرياضيات — من الناحية التاريخية، والمنهجية، والميتافيزيقية — أكثرُ من الكميات غير المُنتهية. وبطرُقٍ شتَّى، يُمثِّل تاريخ هذه المشاكل المرتبطة باللانهائية هو قصةَ الرياضيات نفسها.

الجزء ١(د)

هذه المقدمة سريعة وعامة بالطبع. وتُوجَد بعض الاختلافات التي سوف تتكشَّف الآن عندما نبدأ في تناول اللانهائية من منظور أنها موضوعٌ تاريخي. يتمثَّل الاختلاف الأول في الفرق الواضح بين اللامتناهي في الكبر (= فوق المنتهي أو اللامتناهي) ومتناهي الصغر (= المتناهي = ). والاختلاف الثاني الكبير هو بين اللانهائية بوصفِها إحدى سمات العالَم المادي — كما هو الحال في مسائل مثل هل الكون لا مُتناهٍ، هل المادة لا مُتناهية التقسيم، هل الزمن له بداية أو نهاية — وبين اللانهائية بوصفِها كِيانًا أو مفهومًا رياضيًّا مُجردًا على غرار الدالة، والأعداد، ومبدأ الأولية، وهكذا. أُجريَت بالفعل بعضُ الأبحاث حول أنطولوجيا التجريد والمفاهيم المجردة، وما إذا كانت الكيانات الرياضية موجودة فعلًا وكيفية وجودها، وهي موضوعاتٌ من الواضح أن ثمَّة الكثيرَ من الجهود البحثية التي يمكن القيام بها لِسَبر أغوارها. أما الشيء المُهم الذي ينبغي أن تضعه في اعتبارك دائمًا، فهو أن هذه المسائل الخلافية والجَدلية بشأن اللانهائية التي سوف تظل محورَ اهتمامنا هنا إنما تنطوي على معرفة ما إذا كانت الكميات غير المُنتهية يُمكن أن تُوجَد حقًّا في صورة كياناتٍ رياضية.
قد يبدو لأول وهلة أنَّ الاختلاف الثالث تافِهٌ وبسيط، فهو يتعلق بالكلمات المُتعلقة باللانهائية مثل «كمية»، و«عدد». ولهاتين الكلمتَين دلالةٌ مزدوجة غريبة ومُحيِّرة، تمامًا كما في كلمات مثل «طول» أو «أوقية». فالجزء من الحَبل له طولٌ مُعين، ولكنه أحيانًا ما يُطلَق عليه أيضًا «طولٌ من الحبل»، كما أن كمية مُعينة من الأدوية بوزن جرام واحدٍ يُمكن أن يُطلَق عليها أيضًا «جرام من الأدوية». وبالطريقة نفسها، يمكن استخدام كلمتَي «كمية» و«عدد» على نحوٍ إسنادي؛ وذلك حين يأتيان كإجابةٍ عن السؤال عن كمية شيءٍ ما أو عدده، كما يمكن استخدامهما كاسمَيْن عاديَّين يُشيران إلى الشيء الموصوف. ومن ثمَّ، قد يكون من غير الواضح عند استخدام مصطلح مثل «عدد لا نهائي» ما إذا كان يُستخدَم بطريقة إسنادية («يُوجَد عدد لا نهائي من الأعداد الأوَّلية») أم كاسمٍ («أول عدد لا نهائي (بمعنى غير مُنتهٍ) لدى كانتور هو ألفا الصفري »). والفرق بين الاستخدامَيْن مُهم؛ لأن استخدام اللانهائية إسناديًّا يُمكن أن يكون ضبابيًّا وترجيحيًّا فيعني فقط «كبير بلا حدود» أو «كبير حقًّا»، في حين أنَّ بعد ديديكند وكانتور أصبح للاستخدام الاسمي دلالةٌ مُحدَّدة للغاية ومجرَّدة.
في نواحٍ مُعينة، تكمُن قوة لغة الرياضيات، وربما السبب الرئيسي لوجودها في أنها قد صُمِّمَت بحيث تكون واضحةً للغاية وغير ضِمنية؛ حتى تتجنَّب التباساتٍ كالمذكورة آنفًا. فمحاولة كتابة كمياتٍ عددية وعلاقاتٍ باللغة الطبيعية — لترجمة فرضياتٍ رياضية إلى الإنجليزية أو العكس — غالبًا ما تتسبَّب في حدوث مشاكل.٢٠ ومن الأمثلة المُفضَّلة التي قدَّمها د. جوريس حول هذا الموضوع المثال القديم لثلاثة رجال قرَّروا المبيت بأحد النُّزُل في وقتٍ متأخر من الليل. ولم تكن هناك سوى غرفة واحدة شاغرة، وسعرها ٣٠ دولارًا، فقرَّروا أن يقتسموها، ويدفع كلٌّ منهم ١٠ دولارات، ولكن عند دخولهم الغرفة وجدوا أنها في حالة فوضى مُزرية؛ إذ من الواضح أن الغرفة كان بها مجموعة من الأشخاص ولم تُنظَّف منذ مغادرة النزلاء السابقين، وبطبيعة الحال اتَّصل الرجال بالمدير للإدلاء بشكواهم. ثم ذُكرت بعض التفاصيل السردية والتنميقات الأسلوبية التي يمكن حذفها. الفكرة هنا أن الوقت كان متأخرًا، وخدمة تنظيف الغُرَف لهذا اليوم كانت قد انتهت منذ فترة طويلة، ولا تُوجَد غرفة أخرى للانتقال إليها، ومن ثمَّ بعد فترةٍ من الشَّدِّ والجذب المتبادَل وافق المدير على خصم ٥ دولارات من سعر الغرفة وتوفير أغطية نظيفة، وأرسل أحد العاملين إلى الغرفة بالأغطية والمناشف ومبلغ الخمسة دولارات المُسترَدِّ في صورة خمس ورقاتٍ نقدية فئة دولار واحد. ومن ثمَّ، أصبح الوضع كالآتي: هناك خمس ورقاتٍ نقدية فئة دولار واحد وثلاثةُ أفراد، وما فعله الأفراد الثلاثة (الذين كانوا مُبتهجين على نحوٍ غير مفهوم) هو أنَّ كلًّا منهم استردَّ دولارًا واحدًا وسمحوا للعامِل أن يحتفظ بالمبلغ المُتبقي وهو دولاران على سبيل الإكرامية. وهكذا، دفع كل رجل في البداية ١٠ دولارات واستردَّ دولارًا واحدًا، أي إن كلًّا منهم دفع ٩ دولارات، وبذلك يُصبح إجمالي المبلغ ٢٧ دولارًا، بينما حصل العامِل على الدولارَين الآخرَيْن، وهو ما يجعل المجموع الكلي ٢٩ دولارًا، تُرى أين الدولار الآخر؟ تكمن الفكرة في مثل هذه المسائل في الإسهاب أو الحشو (الذي كان هناك الكثير منه في رواية د. جوريس، حيث أمضى سنةً كاملة في الاستشهاد بقصة هؤلاء الرجال الثلاثة وطرُق تعاملهم والصعاب المختلفة وألغاز الرياضيات التي دائمًا ما يتعثَّرون فيها) الذي يقودك إلى محاولة مُشوَّشة لحساب بدلًا من العكس ، وهو ما ينتج عنه مزيدٌ من الارتباك والابتهاج والمبلغ الإضافي المُحتمَل.
تُوجَد مثل هذه الجُمَل اللغوية البينية المُحيِّرة بجميع أنواعها. الجمل التي يستعصي حلُّها تصير مُفارقاتٍ وتناقضاتٍ فعلية، بعضها يكون عويصًا ومُتعمقًا. ولا غروَ بطبيعة الحال أنه بما أن اللانهائية هي أقصى مستويات التجريد، والغموض مُترسِّخ فيها، فإنها تظهر في الكثير من مثل هذه المُفارقات أو التناقضات. لتأخذ، على سبيل المثال، فكرةَ أنه لا يُوجَد عدد صحيح أخير أو أكبر، وفكرةَ أن الزمن يمضي للأمام إلى ما لا نهاية. بعد ذلك، تخيَّل مصباحَ مكتب، مُركَّبًا جيدًا ومشحونًا، وله مفتاح أحمر كبير للتشغيل وإيقاف التشغيل، وتخيَّل أن المصباح لم يكن مُضاءً هذا الصباح ولكنه سوف يُضاء عند الساعة الرابعة والنصف عصرًا بالتوقيت المركزي القياسي سوف يُضاء، ثم في الساعة الرابعة والنصف عصرَ الغَدِ سوف يُطفأ من جديد، ولكنه سوف يُضاء مرةً أُخرى في الساعة الرابعة والنصف عصرَ اليوم التالي، ويستمر الحال هكذا كلَّ يوم حتى آخر الزمان. والآن، لك أن تتساءَل: هل المصباح سوف يكون مضاءً أو غير مضاءٍ بعد عددٍ لا نهائي من الأيام؟ لعلك تذكُر من مقرر الرياضيات الجامعي٢١ أن هذه في الواقع مسألة كلامية تتضمن ما يسمَّى متسلسلة غيرَ منتهية متباعدة، أو بشكل أدق متسلسلة جراندي، ‎‎ ، وهي متسلسلة مجموعها يُساوي صفرًا إذا نحن جمعناها على الصورة في حين أن مجموعها يصبح إذا نحن جمعناها على الصورة ، وبما أن كلتا العمليتَين الحسابيتَين صحيحتَان رياضيًّا، فإن المجموع «الحقيقي» للمتسلسلة هو وليس معًا، وهو ما يستحيل أن يكون طبقًا لقانون الوسط المُستبعَد. ومع ذلك، ربما تذكُر أو لا تذكُر أن متسلسلة جراندي هي نوعٌ فرعي من المُتسلسلات غير المنتهية المتباعدة يُسمَّى المتسلسلة التذبذُبية؛ ومن ثمَّ فإنها موضوع درس في شروط المجاميع الجزئية (يُرْمَز لها بالرمز )، حيث «الرموز ذات الصلة هي ؛ حيث عندما يكون عددًا زوجيًّا و عندما يكون عددًا فرديًّا.» ويبدو هذا الترميز قديمًا وغامضًا جدًّا من الناحية الرياضية؛ إذ كان ينبغي أن يُصمَّم بحيث يتفادى مشاكل مثل مُفارقة المصباح.
أو ثَمة تعارُضات وتناقضات حول اللانهائية ليس بوصفها مفهومًا في اللغة الطبيعية أو مفهومًا غامضًا ذا صِلة بالأعداد، ولكن بوصفها إحدى سمات الهندسة، ويُمكن تمثيلها في صور بسيطة، ولا يمكن أن تكون مجردَ شروط فحسب. لنأخذ مثالًا على ذلك موضوع النقاط والخطوط. من المعلوم أن أي خطٍّ يشتمل على عددٍ لا نهائي من النقاط. والنقطة، حسبما تذكُر من أيام الدراسة، هي «عنصر في الهندسة يشغل حيزًا في الفراغ ولكن ليس لها امتداد.» بمعنى أن النقطة كيان أو مَوضع مجرَّد. ولكن، إذا كان الخط يتألَّف بالكامل من نقاط، والنقاط ليس لها امتداد، فكيف يمكن أن يكون للخط امتداد؟ وهو ما ينطبق على كل الخطوط بحُكم تعريفها؛ فجميعُ الخطوط لها امتداد. والإجابة فيما يبدو تتعلق باللانهائية، ولكن كيف يمكن أيضًا أن يكون يساوي أيَّ شيءٍ أكبر من ؟٢٢
فيما يلي مفارقةٌ أشدُّ وطأةً. كل ما نريده هو إقليدس ومسطرة. ارسم خطًّا مُستقيمًا على هذا النحو:
حيث القطعة المُستقيمة طولها ثلاثة أضعاف طول القطعة المستقيمة . بما أن القطع المُستقيمة تتكوَّن من نقاط، من المنطقي أن عدد النقاط على لا بدَّ أن يكون أكبر ثلاث مراتٍ من عدد النقاط على . ولكن، يتضح أن عدد النقاط مُتساوٍ في كلتَيهما. يمكنك أن ترى ذلك. حوِّل الخط المستقيم إلى المثلث القائم الزاوية ، ذلك بتدوير لأعلى بحيث تصبح فوق تمامًا، ثم ارسم القطعة المستقيمة :
ثم تذكَّر أنه طبقًا لإقليدس في مُسلَّمة التوازي،٢٣ أي نقطة على القطعة المستقيمة سيُوجَد خط واحد فقط يمُر عبرها ويكون موازيًا للقطعة المستقيمة :
وأن هذا الخط الجديد سيقطع القطعة المستقيمة في نقطةٍ واحدة فقط. وينطبق الأمر نفسُه بالنسبة إلى كل نقطةٍ مفردة على — كل ما عليك ببساطة أن ترسُم خطًّا موازيًا ﻟ يقطع في هذه النقطة، وسوف يقطع هذا الخط في نقطةٍ واحدة فقط:
بلا أي تَكرار، ودون إغفالٍ لأي نقاط؛ أي بمعنى أنَّ لكل نقطةٍ على تُوجَد نقطةٌ مُناظِرة على ، أي إنَّ عدد النقاط على مُساوٍ تمامًا لعدد النقاط على ، مع أن .
يمكنك تكوينُ مُفارقة مُماثلة باستخدام الدوائر ورسم دائرتَين مُتَّحدتَيِ المركز، حيث نصفُ قطر الدائرة الكبرى ضِعْف نصف قطر الدائرة الداخلية.٢٤ بما أنَّ مُحيط أيِّ دائرة عبارة عن دالة مباشرة في نصف قطرها، سيكون مُحيط الدائرة الكبرى ضِعف طول محيط الدائرة الصغرى. والمحيط هو أيضًا خط؛ لذلك لا بدَّ أن يكون عدد النقاط على مُحيط الدائرة الكبرى ضِعفَ عددها على محيط الدائرة الصغرى. ولكن لا: بما أن الدائرتَيْن لهما المركز نفسُه، فإن مجرد رسم عددٍ من أنصاف الأقطار يؤكِّد أن أي نصف قطر يقطع الدائرة الكبرى في نقطةٍ ما سوف يقطع الدائرة الصغرى في نقطة مناظرة واحدة فقط ، دون تكرار نقاط أو إغفالها:

وهو ما يوضح بذلك أنَّ عدد النقاط على مُحيطَي كلتا الدائرتَين متساوٍ.

هذه المسائل مُستقاة من الواقع، وهي ليست مُزعجة أو مخالفة للحَدس والبديهة فحسْب، ولكنها عويصة ومُعقدة من الناحية الرياضية. حلَّ جي إف إل بي كانتور كل هذه المسائل تقريبًا. ولكن، في اللغة الطبيعية يمكن بالطبع أن تعنيَ كلمة «حل» أشياء مُختلفة. كما سبق أن أشرْنا، أحد أساليب الرياضيات في هَدْم أساس المسائل هو تجريدها من الوجود الفعلي — بإزالة بعض أنواع الكيانات الرياضية و/أو وضع نظريات ذات شروط واستثناءات تهدُف إلى درء النتائج غير المعقولة. قبل ظهور رياضيات الأعداد فوق المنتهية، كانت هذه هي الطريقة التي عُولِجت بها معظم مُفارقات اللانهائية وتناقضاتها. لقد «حللتها» أنتَ أولًا بتفادي الفرق بين مفارقة وتناقُض، ثم بتطبيق نوعٍ من النقض المتيافيزيقي: إذا افترضنا أن كمياتٍ غيرَ مُنتهية، مثل عدد النقاط على خط أو مجموعة الأعداد الصحيحة بأكملها، تؤدي إلى استنتاجاتٍ مُتناقضة، فلا بدَّ من وجود شيءٍ خطأ أو غير ذي معنًى في حدِّ ذاته بشأن الكميات غير المنتهية، ومن ثمَّ لا يمكن أن «تُوجَد» الكيانات المتعلقة باللانهائية في الحقيقة بمفهوم رياضي. وكانت هذه بالأساس هي الحجةَ التي استُخدِمت — على سبيل المثال — ضد مفارقة جاليليو الشهيرة في مُستهل القرن السابع عشر. وفيما يلي مضمون هذه المفارقة. تنصُّ المُسلَّمة الخامسة من مُسلَّمات إقليدس على أن «الكل دائمًا أكبر من الجزء»، وهو ما يبدو أمرًا غير قابل للجدل ولا يرقى إليه الشكُّ مُطلقًا. من الواضح أيضًا أنه في حين أن كل مُربع كامل (أي ) هو عدد صحيح، فليس كل عددٍ صحيح مُربعًا كاملًا. بعبارةٍ أخرى، مجموعة المُربعات الكاملة كلها ما هي إلا جزء فقط من مجموعة الأعداد الصحيحة كلها، وحسب مُسلَّمة إقليدس الخامسة فإنها أصغرُ منها. المشكلة هي أن نفس فكرة التساوي من خلال التناظر، التي رأيناها مع القطعتَين المُستقيمتَين والدائرتَين مُتَّحدتَي المركز، يمكن تطبيقها هنا؛ وذلك لأنه بما أن ليس كل عددٍ صحيح مربعًا كاملًا، فإن كلَّ عددٍ صحيح هو فعلًا الجذر التربيعي لمُربع كامل — فالعدد هو الجذر التربيعي للمربع الكامل ، و هو الجذر التربيعي للمربع الكامل ، و هو الجذر التربيعي للمربع الكامل ، و هو الجذر التربيعي للمربع الكامل ، وهكذا. وعلى نحو تصويري، يمكنك كتابة المجموعتَين بحيث تكون إحداهما أعلى الأخرى، وتُثبِت وجود تناظر أحاديٍّ تامٍّ غير مُتناهٍ بين عناصر المجموعتَين:٢٥
912 911 5 4 3 2 1
831.744 829.921 25 16 9 4 1
ومن ثمَّ، فإن النتيجة المُترتبة على مفارقة جاليليو هي أن مُسلَّمة إقليدس الخامسة — وهي جزءٌ لا يتجزأ من الرياضيات الأساسية، ناهيك عن كل حقيقةٍ واضحة يُؤكدها كل نوع فريد من المجموعات يمكن أن نراها أو نعُدَّها — تتعارض مع المجموعات غير المنتهية من جميع الأعداد الصحيحة وجميع المُربعات الكاملة. بالنظر إلى هذه الحالة، نجد أنَّ هناك طريقَين يمكن سَلكُهما. الطريق القياسي، كما ذكرْنا، هو توضيح أن المجموعات غير المنتهية هي المُكافئ الرياضي لوحيد القرن أو اﻟ «لا شيء»، الذي تراه ألِيس على الطريق.٢٦ أما الطريق الآخر — الذي هو تغيير جذري على المستوى الذهني والنفسي — فهو التعامُل مع التكافؤ المُتناقض لجاليليو ليس باعتباره تعارُضًا ولكن باعتباره وصفًا لكيانٍ رياضي من نوع جديد بعينه، فهو مجردٌ وغريب للغاية، حتى إنه لا يتوافق مع قواعد الرياضيات المُعتادة، ويتطلَّب معالجةً خاصة. ومثال ذلك أن تقول (حسبما قال واضع العبارة، لك أن تُخمِّن مَن يكون) إنَّ «الخلل الأساسي في جميع البراهين المزعومة لاستحالة الأعداد غير المُنتهية هو أنَّ هذه البراهين تمنح هذه الأعدادَ جميعَ خصائص الأعداد المُنتهية، في حين أنَّ الأعداد غير المُنتهية … تُشكِّل نوعًا جديدًا تمامًا من الأعداد، نوعًا ينبغي أن تكون طبيعته وماهيته مَوضعَ بحثٍ بدلًا من التحامُل التعسُّفي المُجحِف.»
ولكن، على الجانب الآخر، قد لا يكون هذا الرأي بمثابة تغييرٍ جذري ولكنه مَحض هُراء ولا يمتُّ للمعقول بصِلة.٢٧ وذلك مثل أن تأخذ حقيقة أنَّ أحدًا لم يرَ أبدًا وحيد القرن وتزعُم أنَّ هذا ليس دليلًا على أن وحيد القرن لا وجود له في الواقع، بدلًا من أن تأخُذَه دليلًا من باب أولى على أن حيوانات وحيد القرن تُمثِّل حيوانًا من نوع جديد كليةً يتمتَّع بخاصيةٍ فريدة وهي التخفِّي عن الأنظار. وهنا نجد بالطبع الخيط الرفيع الذي يفصل بين الذكاء الحادِّ والجنون الذي يتحدَّث عنه الكُتَّاب وصانعو الأفلام في العصر الحديث. الحقيقة هي أنَّ كلَّ أنواع الكيانات الغريبة، التي لا يمكن رصدُها رصدًا مباشرًا مثل الصفر والأعداد الصحيحة السالبة والأعداد غير النسبية وغيرها، دخلت أساسًا الرياضيات تحت النوع نفسِه من سحابة الجنون أو عدم الاتِّساق، ولكنها مقبولة تمامًا الآن، بل وأساسية. وفي الوقت نفسِه، يُوجَد الكثير من الابتكارات الأخرى التي كانت حقًّا مَحضَ جنون أو غيرَ قابلة للتنفيذ وأصبحت أضحوكةَ مُجتمع الرياضيات، ولم نسمع — نحن الأشخاص العاديين غير المُختصِّين — عنها أبدًا.

ذلك فقط لأن الخيط الرفيع لشيءٍ ما لا يعني أنه ليس خطًّا، رغم ذلك. التفكير الرياضي مجرد، ولكنه أيضًا تفكيرٌ يتحكَّم فيه الأفراد أو المؤسَّسات الخاصة، ويُركِّز على تحقيق النتائج. ومن ثمَّ، فإن الفرق بين نظريةٍ رياضية عبقرية وجديدة من نوعها وأخرى مجنونة ولا عقلانية يكمُن في كل ما يمكن القيام به باستخدام هذه النظرية، من حيث كونها تُحقق نتائجَ ذات دلالة أو لا. فيما يلي شرح جي إتش هاردي لمفهوم «النتائج ذات الدلالة»:

قد نقول على نحوٍ عام إنَّ فكرةً رياضيةً ما تكون «ذات دلالة» إذا كان من المُمكن ربطُها، بطريقةٍ طبيعية ومُستنيرة بمجموعةٍ كبيرة ومُعقدة من الأفكار الرياضية الأخرى. ومن ثمَّ، فإنَّ أيَّ نظريةٍ رياضية ذات دلالة، أي نظرية تربط بين أفكارٍ ذات دلالة، من المُرجَّح أن تُسفِر عن تطوُّراتٍ مُهمة في الرياضيات نفسِها، بل وفي علومٍ أُخرى كذلك.

هذه بالضبط هي الطريقة التي أصبحت بها نظريات جي إف إل بي كانتور عن المجموعات غير المُنتهية والأعداد فوق المنتهية ذات دلالةٍ في نهاية المطاف. ويُعزى سبب ذلك في جزءٍ منه إلى أن كانتور كان عالِم رياضيات يهتمُّ بالتفاصيل الدقيقة إلى أقصى درجة وتوصَّل إلى براهين بارعة للخصائص الشكلية المُهمة التي جعلتْ من أفكاره نظرياتٍ حقيقية بدلًا من أن تكون مجرد فرضياتٍ حماسية. ولكنْ هناك أيضًا أسباب أخرى. لقد افترض جاليليو نفسُه أن النتيجة الحقيقية لمُفارقته هي أنَّ «المسند «يساوي» و«أكبر» و«أصغر» لا ينطبق على الكميات غير المنتهية، ولكن فقط على الكميات المنتهية». مع ذلك، لم يأخُذ أحدٌ هذا الأمر بجدية، وذلك ليس بسبب الغباء؛ الرياضيات لا تَميل إلى أن تكون حافلةً بالأغبياء أو ذوي التفكير المُنغلق. ولكنَّ الزمن لم يكن مُهيَّأً بالمعنى الحرفي للكلمة لاقتراحات جاليليو، كما أنه لم تكن قد استُحدِثت بعدُ الأدواتُ الرياضية المناسبة للتعامُل معها بوصفها نظريةً حقيقية، حتى إن أراد جاليليو ذلك … وهو ما لم يُرِده، وانطلاقًا من هذه الحقيقة سيكون من الخطأ استنتاجُ أنه لم يكن في مثل عبقرية جي كانتور. وعلى غرار غالبية الروَّاد العظماء الذين أحدثوا ثورةً في الرياضيات أو العلوم، كان كانتور رجلَ زمانه ومكانه تمامًا، وكانت إنجازاته الاقتران الطبيعي بين الذكاء الشخصي الفائق للعادة والشجاعة،٢٨ والسياق الصحيح للمسائل العامة والشروط التي — عند النظر إليها لاحقًا — تميل إلى جعل التقدُّم الفكري يبدو أمرًا حتميًّا لا مفرَّ منه؛ ومن ثمَّ يبدو مؤلِّفوها شيئًا عارضًا قليلَ الأهمية نوعًا ما.

والآن دعونا نتناوَل الأمر من منظورٍ آخر، الرياضيات هَرَمية تراكُمية؛ فكانتور لم يأتِ فجأةً من اللامكان. ومن ثمَّ، فإنَّ التقدير الحقيقي يتطلَّب استيعاب المفاهيم والمشكلات التي ساعدت على ظهور نظرية المجموعات وجعلت رياضيات الأعداد فوق المُنتهية مُهمة بمفهوم هاردي. لقد استغرق ذلك بعض الوقت، ولكن بما أنَّ طبيعة النقاش أنه هَرَمي في حدِّ ذاته، يُمكننا أن نَمضي قدمًا بأسلوبٍ مُرتَّب بعض الشيء، والموضوع كلُّه لن يكون تقريبًا مُجردًا واستطراديًّا مثل هذه المُقدِّمة التمهيدية.

هوامش

(١) م. إ.: هاله تعني حرفيًّا منجم مِلح يقع أعلى النهر من لايبزيغ، وتشتهر بأنها مسقط رأس هاندل.
(٢) م. إ.: على الرغم من الصورة النمطية المقابلة الأخرى لعلماء الرياضيات بوصفهم مخلوقات مهووسة مُتكاثرة ترتدي رابطةَ عنق فراشيةَ الشكل. في علم الآثار الحاليِّ، يبدو أن الصورتَين النمطيتَين تتفاعلان بأساليبَ على درجةٍ من الأهمية.
(٣) في أحكام الطب الحديث، من الواضح إلى حدٍّ ما أن جي إف إل بي كانتور كان يُعاني مرض الهوَس الاكتئابي في وقتٍ لم يكن هذا المرضُ معروفًا لأحد بعدُ، وأن دوراته القطبية كانت تتفاقم بتعاظُم الضغوط المِهنية والإحباطات، التي لاقى منها كانتور ما يفوق طاقته. وبالطبع، حظِيَ هذا الأمر باهتمامٍ أقلَّ ممَّا حظي به خبر «عبقريٌّ يُصيبه الجنون جرَّاء محاولاتٍ للتعامُل مع مسألة اللانهائية». ومع ذلك، فالحقيقة هي أن أعمال كانتور وسياقها كانا مُمتِعَيْن ورائعَيْن لدرجة أنه ما من حاجةٍ تستدعي أن نُضفي على حياة ذلك الفتى المسكين الطابعَ البروميثيوسي اللاهث. والمفارقة الحقيقية هي أنَّ النظر إلى اللانهائية بوصفها منطقة مُحرمة أو طريقًا يُفضي إلى الجنون — كانت تلك النظرة قديمة جدًّا وقوية للغاية وظلَّ شبحُها يُطارد الرياضيات لما يزيد على ٢٠٠٠ عام — هو بالضبط ما أثبتت أبحاثُ كانتور نفسِه عدمَ صحته وقلبَته رأسًا على عقب. ومن ثمَّ، فإن القول بأن اللانهائية هي ما قاد كانتور إلى الجنون هو أشبهُ بالنحيب لِخَسارة سانت جورج أمام التنين: إنه ليس خطأً فحسْب، وإنما شيءٌ مُهين.
(٤) م. إ.: لم يضع بوير على رأس قائمة تاريخ الرياضيات سوى البروفيسور موريس كلاين. يتمثل العمل الرئيسي لكلٍّ من بوير وكلاين على التوالي في: «لمحة من تاريخ الرياضيات» و«الفِكْر الرياضي من العصر القديم إلى العصر الحديث». ويتميز كلا الكتابَين بأنه جيدٌ وشامل على نحو استثنائي، وسيجري الاقتباس منهما بِحُرية.
(٥) بي راسل له فِقرة مُثيرة للاهتمام في هذا الموضوع عن رياضيات التعليم الثانوي، التي هي غالبًا القفزة الكبيرة التالية في التجريد بعد عِلم الحساب:

في بدايات عِلم الجبر، حتى الطفل الأكثر ذكاءً كان يجد — كقاعدةٍ مُسلَّمٍ بها — صعوباتٍ كبيرةً. واستخدام الحروف مُعضلة، الغرَض الوحيد منها فيما يبدو هو الحيرة. في البداية، من المُستحيل تقريبًا ألا تفكر أنَّ كل حرفٍ يرمز لعددٍ مُعين، اللَّهم إلا إذا كشف المُعلِّم عن العدد الذي يرمز إليه الحرف. والحقيقة أنَّ في عِلم الجبر يتعلم المخُّ أولًا أن يعيَ الحقائق العامة، الحقائق التي من غير المؤكَّد أن تقتصِر فقط على هذا الشيء المُحدَّد أو ذاك، ولكنها تشمل أي شيءٍ من مجموعة أشياء كُلِّية. ولِفَهم مثلِ هذه الحقائق واستكشافها، من الجيد أن تحلَّ سيادةُ العقل على عالَم الأشياء الفعلية والمُمكنة بأكمله؛ والقدرةُ على التعامُل على هذا النحو مع المفهوم العام للأشياء هي إحدى الهِبات التي ينبغي أن تُقدِّمها دراسة الرياضيات.

(٦) م. إ.: طبقًا لأغلب المصادر، لم يكن جي إف إل بي كانتور عالِم رياضياتٍ فحسب، لديه فلسفة حقيقية عن اللانهائية. وكان هذا الأمر غريبًا وشِبه ديني، ومن غير المُستغرَب أنه كان مجردًا. ففي مرحلةٍ ما، حاول كانتور تحويل وظيفته الجامعية في مدينة هاله من قسم الرياضيات إلى قسم الفلسفة. ولكن طلبه قُوبِل بالرفض. وباعتراف الجميع، لم تكن هذه إحدى الفترات الأكثر استقرارًا في حياته.
(٧) م. إ.: مصدر هذه الخرافة الوخيمة هو أرسطو، الذي يلعب في نواحٍ مُعينة دور الشرير في قصتنا كلِّها. (انظر أيضًا الجزء ٢.)
(٨) يُذكِّرنا ذلك بموقفٍ مُشابِه وهو حقيقة أن مُعظمنا يُسافر جوًّا على الرغم من معرفتنا بأن هناك نسبةً مئوية مُسجَّلة لحوادثِ تصادم الطائرات كلَّ عام. ولو أنَّ هذا يقودنا إلى الأنواع العديدة المختلفة للمعرفة في مقابل «المعرفة» بمفهومها العام المُطلق (انظر الجزء ١(ﺟ) أدناه). ويشمل هذا أيضًا آدابَ التعامل، حيث إن السفر بالطيران التِّجاري عام، ومن هنا يبرُز نوعٌ من الثقة الجماعية. ولهذا السبب، فإن التفاتك إلى الشخص الجالس بجوارك لإخباره بالاحتمال الإحصائي الدقيق لتعرُّض الطائرة لحادث تصادُم ليس بتصرفٍ خطأ ولكنه قاسٍ: أنت تتلاعب بالبِنية الأساسية النفسية الهَشَّة للتبرير الذي لديه للسفر جوًّا.
م. إ.: بناءً على الحالة المزاجية أو الزمن، قد يُثير اهتمامك أن الأشخاص الذين لا يُمكنهم استحضارُ هذا الإيمان الغريب بالمبادئ التي لا يُمكن تبريرها عقلانيًّا، ومِن ثمَّ لا يُمكنهم ركوب الطائرات، يُشار إليهم عمومًا بأنَّ لديهم «خوفًا غيرَ منطقي» من ركوب الطائرات.
(٩) م. إ.: في الحقيقة الشيء الوحيد الذي منَع واليس من استحداث حساب التفاضل في كتابه «حساب اللانهائي» هو جهله بنظرية ذات الحَدَّيْن، التي هي مفهوم أساسيٌّ للتعامُل مع المُتناهيات في الصِّغر (انظر على وجه الخصوص الجزء ٤ أدناه).
(١٠) اعتاد د. إي روبرت جوريس الإشارة إلى هذا أيضًا باسم «تفكير القطاع الخاص»؛ إذ كان من المُتوقَّع أن يُحقق معدلاتٍ إنتاجيةً حقيقية.
(١١) م. إ.: هذا لأنَّ معظم أعمال أفلاطون (وتقريبًا كل أعمال أرسطو) تدور حول محاولة وضع تصوُّر ومنهجية لما هو مُجرَّد.
(١٢) ملاحظة مُهمة: طبقًا للمصطلح الرياضي، تُعرَف أي حقيقة مُثبَتة في نظام شكلي ما باسم «نظرية»؛ ومن هنا جاءت نظرية فيثاغورس وغيرُها.
(١٣) م. إ.: يُعَدُّ الجزء «أو، إذا كانت غير صحيحة» ضروريًّا في المنطق الصوري؛ نظرًا إلى خصائص مُعينة يُوفرها عامل العطف الفاصل «أو». ولن نتطرَّق كثيرًا إلى هذا النوع من التفاصيل الدقيقة. (ولكن، دعُونا نعترِف أننا نستخدم قانون الوسط المُستبعد بطريقةٍ غير مُتخصصة تشمل أيضًا مبدأ التكافؤ الثنائي. من الجيد لخدمة أغراضنا هنا أن نفترض أن قانون الوسط المُستبعَد يُشير ضمنًا إلى كل ما له صِلة بالمنطق الثنائي القيمة، ولكن يُرجى العِلم أنه ليس دقيقًا تمام الدقة).
(١٤) ربما لا يبدو modus tollens (= لفظة إغريقية تعني «أسلوب النقض أو الإنكار») قاعدة عامة إلا إذا أخذتَ في حُسبانك أن الاستتباع المنطقي أو الاقتضاء، بوصفه علاقة منطقية، لا يتعلق بالسبب وإنما بالضمانة. الشرط الضروري والشرط الكافي هما المصطلحان المُستخدَمان في المنطق التطبيقي. إذا اعتبرنا مثلًا أن تعني «طوله ٤ أقدام» و تعني «طوله لا يقلُّ عن ٤ أقدام و١١ بوصة»، فإن المعنى المنطقي تمامًا ﻟ « » يُصبح واضحًا: إنه يعني في الحقيقة «إذا كان صحيحًا، فلا مجال مُطلقًا أن يكون خطأً». وإذا طبَّقنا الاستنتاج الخلفي، حيث يتحوَّل هذا إلى « »، وهو ما يعني ببساطة أنه إذا كان هناك شخصٌ طوله ليس ٤ أقدام و١١ بوصة، فلا يُمكن مُطلقًا أن يكون طوله خمس أقدام وصفر بوصة.
بالمناسبة، ثمَّة علاقة منطقية أخرى مُهمة سنعرضها في الجزء ٥ (ﻫ) وقد يكون من المفيد أيضًا عرضُها هنا. إنها علاقة الاقتران، أي «و» ويُرمَز لها في العادة بالرمز «&» أو الرمز «». والقاعدة الكبرى هي أن « » لا تكون صحيحة إلا عندما يكون كلٌّ من و على حدةٍ صحيحًا وكلاهما صحيح معًا؛ أما إذا كان أحدهما خطأً، فإن علاقة الاقتران بأكملها تكون خطأً.
(١٥) م. إ.: حسنًا، من المنظور الرياضي الصِّرف، لا يتعلق هذا كثيرًا باستخدام قانون الوسط المُستبعَد بقدْر ما يتعلق بالرابط الصائب داليًّا not-، الذي يُشتَق تعريفه رغم ذلك من قانون الوسط المستبعَد أو الذي يُعدُّ (كما يقول البعض) هو نفسه قانون الوسط المستبعَد. ويُلاحَظ أيضًا أن بعض النظم الشكلية تتضمَّن عملية البرهان بنقض الفرض بأكملِها كفرضية، وهو ما يُسمَّى أحيانًا بقانون العبثية أو اللامنطق.
(١٦) سوف تتذكَّر من أيام الدراسة الثانوية أن علامة القطع أو الحذف داخل متتابعة أو متسلسلة تعني «جميع الحدود ذات الصِّلة المحصورة بينها»، وإذا جاءت في النهاية فإنها تعني «وهكذا، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية». ويُعدُّ هذا أحدَ الاختصارات المُستخدَمة كثيرًا في الرياضيات البحتة.
(١٧) مرةً أخرى، الأمر في الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك، ولكننا نكتفي هنا وَفقًا لأهدافنا بقانون الوسط المُستبعَد.
(١٨) م. إ.: بما في ذلك التجريد والفصام والعبودية والتكنولوجيا، وأخيرًا التفكير العلمي.
(١٩) أحد الأسباب التي جعلت نصوص الرياضيات مجردة ومُتخصصة للغاية هو كل تلك المواصفات والشروط التي ينبغي وضعُها في النظريات للحفاظ على خلوِّها من التناقُضات والثغرات. ومن هذا المنطلق، فإنها تُشبه الوثائق القانونية، وغالبًا ما تُحقق قدرًا كبيرًا من المُتعة حال قراءتها.
(٢٠) سوف تتذكَّر كيف كانت المسائل الكلامية غير مُستحَبَّة في دروس الرياضيات على وجه الخصوص.
(٢١) م. إ.: دعنا نُوضح من البداية أن جُملًا من قبيل «لعلك تذكُر» و«غنيٌّ عن القول إنَّ» وغيرها، ليست لازماتٍ لفظية لا إرادية، وإنما هي استهلالات بلاغية، الهدف منها تقليل الانزعاج لدى القرَّاء الذين هم على درايةٍ مُسبقة بما يجري مناقشته أيما كان. وفي الواقع، لا يستوجب هذا الكتيب خبرةً محددة أو تذكُّر موضوعٍ بعينه من مُقرر الرياضيات الجامعي، ولكن يبدو فقط أنه من المنطقي افتراضُ أن بعض القرَّاء ستكون لديهم خبرة جيدة بالرياضيات، ومن الكياسة الاعترافُ بذلك من حينٍ لآخر. وكما سبق أن ذكرنا باختصارٍ في المقدمة، فإنَّ فنَّ الكتابة التقنية مليءٌ بالمشكلات المُحيِّرة التي تتعلق بمستويات الخبرة للقرَّاء على اختلافهم وتنوُّعهم، وكذلك بمُنحنيات الارتباك مقابل الانزعاج لديهم. وبالطبع، المشكلة لا تقع على عاتقك في أيٍّ من هذه الأمور، على الأقل ليس بشكلٍ مباشر.
(٢٢) الفقرة التالية لا تُصنَّف على أنها معلومات إضافية بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن حتى يتسنَّى لك استيعابها جيدًا فإنَّ الأمر يتطلَّب على الأرجح أن تكون لديك بعض المعرفة بمُقرر الرياضيات الجامعي. أما إذا لم تكن لديك هذه المعرفة، فإنَّ كل ما يَعنيك هنا هو أسلوب الربط بين الرموز والشروط. (م. إ.: إذا كنتَ قد درستَ مواد حساب التفاضل (١) و(٢) وترى أن الرموز هنا غير قياسية إلى حدٍّ ما، فمرة أُخرى لا تقلق؛ لأنَّ معظم الرموز ذات الصِّلة لم تُعرَّف بعد.)
(٢٣) م. إ. = التعريف رقم ٢٣ في الجزء الأول من كتاب «الأصول» لإقليدس.
(٢٤) م. إ.: تتعلق هذه المفارقة بشيءٍ يُسمَّى بمفارقة دولاب أرسطو، والتي هي قصة كاملة بذاتها.
(٢٥) م. إ.: كما سوف نرى في الجزء ٧، فإنَّ التناظُر الأحادي بين عناصرهما هو في الحقيقة تعريفُ التساوي بين المجموعتَين.
(٢٦) م. إ.: هذا بسيط إلى حدٍّ ما. في الحقيقة، استندَتِ الطريقة التي حيَّدَتْ بها الرياضيات مفهوم اللانهائية ( ) إلى تمييز ميتافيزيقي مُعين وضعَه أرسطو على النقيض من زينون، وجميعها أمورٌ سوف نتطرَّق إليها لاحقًا.
(٢٧) من الإنصاف التنويهُ إلى أنَّ كانتور كان له نصيبه من التصريحات الرنَّانة الحمقاء في النقاشات الجدلية حول المجموعات غير المُنتهية، التي كان كثيرٌ منها مُغلفًا بصبغةٍ دينية مُتكلَّفة على نحوٍ خطير، كما في قوله «لا تُساورني أيُّ شكوك بشأن حقيقة الأعداد فوق المُنتهية، التي أدركتُها بعون الله.» أو «الخوف من اللانهائية هو ضربٌ من قِصَر النظر الذي يُدمِّر إمكانية رؤية اللانهائي الفعلي، مع أنه قد خلقَنا في أسمى صورة، ويمدُّ إلينا يدَّ العون.»
(٢٨) بطبيعة الحال، فإنَّ النتائج العامة التي تُضفي الشرعية على نظريةٍ رياضية ما تستغرق بعض الوقت في استنتاجها والتوصُّل إليها، ومن ثمَّ تستغرق وقتًا أطول كي تُصبح مقبولةً تمامًا، وبالطبع خلال هذه الفترة يظلُّ السؤال عمَّا إذا كانت ضربًا من الجنون أم العبقرية مطروحًا، وبالأحرى بالنسبة إلى عالِم الرياضيات نفسِه، ولذا فإنه يضع نظريته ويُعِدُّ براهينَه في ظل ظروفٍ من الشك والضغط العصبي الهائل على المستوى الشخصي، وفي بعض الأحيان لا تتأكَّد حتى صحتُها في حياة العالِم نفسِه، إلى آخرِ ذلك من أمور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤