انبثقت نظرية اللامتناهي الحديثة نتيجةَ تطوُّر متقاربٍ من الرياضيات التي
سبقتها.
إس لافين
لكنَّ غير المُلمِّين بالموضوع قد يتساءلون كيف يُمكن التعامُل مع عددٍ غير
قابل للعَدِّ.
بي راسل
يُرجى من الجميع التأهُّب وربط أحزمة الأمان لأننا على وشك صعود ارتفاعٍ شاهق
شديد الانحدار.
أيه آر جوريس
لأسباب صارت معروفة الآن، سيكون كل ما سوف نتناوله فيما يلي سريعَ الإيقاع حقًّا.
وسيكون أيضًا صعبًا إلى حدٍّ ما في البداية، ولكن على غِرار كثيرٍ من موضوعات الرياضيات
البحتة فإنه سيُصبح أسهلَ كلما تعمَّقنا فيه أكثر. كما ذكرنا سلفًا، فإن جي إف إل بي
كانتور أدَّى بحث تخرجه في جامعة برلين تحت إشراف فايرشتراس وكرونكر؛ إذ كانت باكورة
مقالاته المنشورة عبارة عن بحثٍ معروف إلى حدٍّ ما حول بعض المسائل المتعلقة بنظرية الأعداد.١ وبعد نَيله الدكتوراه حصل كانتور على وظيفة منخفضة الدرجة كمحاضر خاصٍّ
(وهي فيما يبدو نوعٌ من وظيفة «المعيد» الحُر)٢ في جامعة هاله، وهناك التقى بإي إتش هاينه (١٨٢١–١٨٨١)، وهو مُختصٌّ في
التحليل التطبيقي الذي له بحث مُهم في موضوع الحرارة، وتحديدًا في معادلة طاقة الوَضْع.٣ على أية حال، اعتبارًا من عام ١٨٧٠ تقريبًا، أصبح هاينه جزءًا من كوكبة
علماء الرياضيات الكبرى الذين يعملون على متسلسلات فورييه والقضايا التي أثارها ريمان
«حول قابلية تمثيل …»، وفيما يبدو أن هاينه هو مَنْ جعل كانتور يهتم بما عُرِف بعد ذلك
بمسألة الوحدانية: إذا كانت أي مُعطاة يُمكن تمثيلها بواسطة مُتسلسلة مُثلثية، فهل هذا هو التمثيل
الوحيد، بمعنى هل يُمكن لمُتسلسلة مُثلثية واحدة فقط أن تفعل ذلك؟ لم يستطع هاينه نفسه
إثبات الوحدانية إلا شريطة أن تكون المتسلسلة المُثلثية ذات الصِّلة مُتقاربة تقاربًا
منتظمًا.٤ ومن الواضح أنَّ هذا لم يكن جيدًا بما يكفي، حيث تُوجَد الكثير من
المتسلسلات المُثلثية، بل ومن متسلسلات فورييه، التي ليست متسلسلاتٍ مُتقاربة تقاربًا
منتظمًا.
في عام ١٨٧٢، عرَّف مقال كانتور «حول توسيع نطاق فرضية من نظرية المتسلسلات المُثلثية»٥ نظريةً أكثر تعميمًا بكثيرٍ عن الوحدانية وأثبتها، ولا تشترط هذه النظرية
وجود تقارُب مُنتظم، كما أنها تسمح باستثناءاتٍ فيما يخصُّ التقارُب عند عددٍ لا نهائي
من
النقاط، بشرط أن تكون هذه النقاط الاستثنائية٦ مُوزَّعة بأسلوب خاصٍّ مُعين. وكما سوف نرى، فإن هذا التوزيع الدقيق معقَّد
إلى حدٍّ ما كما هو الحال في النظرية عام ١٨٧٢ نفسها، التي كان كانتور قد صاغها في واقع
الأمر في عددٍ من الأبحاث السابقة ونشر ملاحقَ لها، حيث تطوَّرت معاييره للفردية
تدريجيًّا من ضرورة أن تتقارب المتسلسلة المُثلثية المُعطاة لجميع قيم
إلى السماح بعددٍ محدود من النقاط الاستثنائية، إلى الصيغة النهائية
العامة تمامًا من مُبرهنة الوحدانية. ومن المُثير للاهتمام أنَّ البروفيسور إل كرونكر
هو
مَنْ ساعد كانتور في تنقيح برهانه وتبسيطه في عدة نقاط أولية. وفي الوقت نفسه، كان نهج
كرونكر مُلمًّا بعُمق بأبحاث فايرشتراس حول الاتصال والتقارُب، على سبيل المثال، ملاحظة
أنه لكي تكون متسلسلة مُثلثية عامة ما على الصورة قابلة للتكامُل حدًّا حدًّا (وهو الأسلوب الذي حاول به هاينه وكلُّ
علماء الرياضيات الآخرين دراسةَ مسألة الوحدانية)، فلا بدَّ أن تكون المُتسلسلة مُتقاربة
تقاربًا مُنتظمًا. لاحظ المؤرخون أنَّ علاقات كانتور وفايرشتراس أخذت في الفتور وأنَّ
خطابات إل كرونكر أصبحت أكثر تعقيدًا عندما بدأت تنقيحات كانتور لمُبرهنة الوحدانية تسمح
بعددٍ لا نهائي من النقاط التي يُمكن أن يُسمَح عندها باستثناء إما تمثيل دالة معطاة أو السماح بتقارب المتسلسلة.٧ في كل نسخة من نسخ البرهان المُتتالية، كان كرونكر بالأساس يُراقب كانتور
وهو ينتقل من منطقه الجَبري الإنشائي إلى منطقٍ خاص بنظرية الدوال ليُصبح أقربَ إلى
فايرشتراس. واكتمل هذا الارتداد عند ظهور النسخة النهائية من بحث عام ١٨٧٢ وكان الجزء
الأول برمته من هذا البحث مُخصَّصًا لنظرية الأعداد غير النسبية/الحقيقية الموضحة بالتفصيل
في الجزء ٦(ﻫ).
إنَّ فهم الأسباب التي تُؤكِّد ضرورة وجود نظرية مُتسقة عن الأعداد غير النسبية هي
وسيلةٌ جيدة لمعرفة كيف أنَّ أبحاث كانتور عن مُبرهنة الوحدانية قادته إلى دراسة
المجموعات غير المُنتهية في حدِّ ذاتها. يتطلَّب النقاش، الذي أصبح مُعقَّدًا نوعًا ما،
أن
تتذكَّر قانون نظرية بولزانو-فايرشتراس بأنَّ كل مجموعة غير مُنتهية من النقاط تحتوي
على
نقطة نهاية واحدة على الأقل، ومن ثمَّ نتساءل بالتأكيد عن مفهوم نقطة النهاية.٨ وبالإضافة إلى أنَّ عليك أن تضع في اعتبارك أن المفاهيم الأساسية لبرهان
الوحدانية تدور جميعها حول خط الأعداد الحقيقية (أي عند استخدام مصطلحاتٍ مثل «مجموعة
نقاط» أو «نقطة استثنائية» أو «نقطة نهاية»، فإنها جميعًا تُشير في الحقيقة إلى نقاط
هندسية مناظرة لأعداد.٩ ويُرجى أن نُلاحظ أيضًا أن «المجموعات غير المنتهية من النقاط» قيد البحث
في كلٍّ من نظرية بولزانو-فايرشتراس وبرهان كانتور هي في الحقيقة مُتتابعات، وهي أيضًا
أسهل كيانات يُمكن من خلالها فَهمُ نقاط النهاية — على سبيل المثال، المجموعة غير
المنتهية من نقاط خط الأعداد ١٠ لها نفس نقطة النهاية التي هي نفس نهاية المتتابعة غير المُنتهية .
سنتناول فيما يلي الكيفية التي توصَّل بها كانتور إلى نتيجته العامة على نحوٍ متزايد.
في البداية (عام ١٨٧٠)، كان كانتور يحتاج إلى متسلسلة مُثلثية غير مُتقاربة تقاربًا منتظمًا،١١ ولكنها متقاربة عند كل موضع، بمعنى أنها متقاربة لجميع قيم . في الخطوة التالية (عام ١٨٧١)،١٢ استطاع أن يُثبت أنه إذا كانت متسلسلتان مُثلثيتان مختلفتان فيما يبدو
تتقاربان لنفس الدالة (الاختيارية) عند كل موضع باستثناء عددٍ محدود من نقاط ، فهما في الحقيقة نفس المتسلسلة. سوف نتخطَّى هذا البرهان؛ لأن الموضوع
وثيق الصلة بنقاشنا الحاليِّ هو ما سوف نتناوله في النقطة التالية، وهو النتيجة التي
توصَّل إليها كانتور عام ١٨٧٢ حيث استطاع أن يسمح بعددٍ لا نهائي من النقاط الاستثنائية
وأن يُثبت مع ذلك أن المُتسلسلتَين المُثلثيَّتين المُمثلتين مُتطابقتان في النهاية.١٣ واستطاع كانتور أن يفعل ذلك من خلال تقديم مفهوم المجموعة المُشتقة، التي
تعريفها بالأساس كالتالي: إذا كانت مجموعة نقاط (بمعنى أي مجموعة من نقاط الأعداد الحقيقية، مع أن من
الواضح أن ما كان يَعنيه كانتور هو مجموعة غير مُنتهية من جميع النقاط الاستثنائية بين
المُتسلسلتَين المُثلثيتَين)، فإن المجموعة المُشتقة للمجموعة هي مجموعة كل نقاط النهاية الخاصة بالمجموعة . أو ينبغي لنا بالأحرى أن نقول إن هي المجموعة المُشتقة الأولى من ؛ لأنه ما دامت مجموعات النقاط ذات الصلة غير منتهية، فإن العملية
بأكملها تكون مبدئيًّا تكرارية إلى ما لا نهاية — هي المجموعة المُشتقة من ، هي المجموعة المشتقة من ، وهكذا، حتى يكون لديك بعد من التكرارات وهي المجموعة المشتقة رقم من . في شرح مبرهنة الوحدانية في الفِقرتين السابقتَين، يرتكز المعيار
«شريطة أن تكون هذه النقاط الاستثنائية مُوزَّعة بأسلوب خاص معين.» على هذه المجموعة
المشتقة رقم ، وعندئذٍ يكون السؤال الجوهري هو ما إذا كانت غير منتهية أم لا.
تنطوي بعض المفاهيم الرياضية الحقيقية لمبرهنة الوحدانية على معلومات تقنية تمامًا
عن
كيفية عمل نقاط النهاية، ولكن سنستعرِض فيما يلي ما تَعنيه في الأساس فكرةُ توزيع النقاط
الاستثنائية في مبرهنة الوحدانية. ربما لم يأنِ تنفُّس الصُّعداء بعد.١٤ افترض أنَّ لديك مجموعةً غير منتهية من النقاط بحيث تكون، لأي عددٍ محدود ، المجموعة المُشتقة رقم للمجموعة ، أي ، غير منتهية بينما مجموعتها المُشتقة رقم ، أي ، محدودة ومنتهية. وعليه، إذا تقاربت مُتسلسلتان مُثلثيَّتان إلى نفس باستثناء عند بعض أو كل النقاط في ، فإنهما يكونان مُتسلسلتَين متكافئتين؛ ومن ثمَّ تثبُت الوحدانية.
ربما لم يكن هذا واضحًا ومفهومًا للغاية. والجزء الذي من الضروري توضيحه هو شرط أن تكون
محدودة ومنتهية. ولكي نشرح ذلك، يجب أن نتعرَّف على فرق آخر: أيُّ
مجموعة تكون مجموعتها المشتقة محدودة ومُتناهية لعددٍ محدود هي ما أسماه كانتور مجموعةً من النوع الأول، في حين إذا
كانت غير منتهية لأي قيمة منتهية ﻟ ، فإن هي مجموعة من النوع الثاني. (هذا هو سبب وصف آلية المجموعات المشتقة
أعلاه بأنها غير منتهية «مبدئيًّا» — والمجموعات من النوع الثاني فقط هي التي لا ينتج
عنها أبدًا مجموعات مُشتقة منتهية، ومِن ثمَّ تسمح بعددٍ لا نهائي من التكرارات التي
نحصل
فيها على مجموعة مُشتقة لمجموعة مشتقة أخرى وهكذا دواليك.)
حسنًا إذًا. نستعرض فيما يلي السبب الذي جعل كانتور، في برهانه لنظرية الوحدانية،
يحتاج إلى أن تكون المجموعة غير المنتهية الأصلية من النقاط الاستثنائية مجموعةً من النوع الأول، ومن ثمَّ أن تكون منتهيةً. والسبب هو أنك تستطيع بالتأكيد، من خلال نظرية القيم
المُتطرفة لفايرشتراس، إثباتَ أنَّه إذا كانت أي مجموعة مُشتقة منتهية، فإنَّه عند نقطةٍ ما أبعد من ذلك سوف تأخذ المجموعة المشتقة أصغرَ قيمة مُطلقة لها ، التي ستكون في هذه الحالة إما وإما بلا نقاطِ نهاية على الإطلاق. وهو ما يعني، بعبارةٍ أخرى، أنه في
أي وقتٍ تصل فيه داخل المتوالية الكاملة إلى مجموعة مُشتقة منتهية، عليك أن تعلم أنَّ العملية التَّكرارية
بأثرها سوف تتوقف في مكانٍ ما؛ حيث إنك ستحصل في النهاية على مجموعة بدون عناصر. ونعلم بالطبع أنَّ عناصر هاتَين المجموعتَين المُختلفتَين و هي نقاطُ نهاية، كما نعلم من نظرية بولزانو-فايرشتراس أنَّ أي
مجموعة غير منتهية تكون لها على الأقل نقطةُ نهاية واحدة. وإذا كانت بلا عناصر، فإنَّ المجموعة التي هي المجموعة المُشتقة لها تكون بلا
نقطة نهاية، ومن ثمَّ فلا بدَّ طبقًا لنظرية بولزانو-فايرشتراس أن تكون هي نفسُها
مُنتهية، ومن ثمَّ لا بدَّ طبقًا لنظرية القيم المتطرفة لفايرشتراس عند نقطةٍ ما أن تأخذ
قيمتها الصغرى وهي من العناصر، وهي النقطة نفسها التي تصبح عندها المجموعة التي هذه هي
مجموعتها المُشتقة منتهية، وهكذا رجوعًا عبر و و و… و، وهو ما يعني أن الأمر برُمته يتلخَّص في أنه عند نقطةٍ ما قابلة
للإثبات يمكن توضيح أن المُتسلسلتَين المُثلثيَّتَين المُمثِّلتَين يتحوَّلان إلى متسلسلة
واحدة، وهو ما يُثبت الوحدانية ويُؤكِّدها.
ومع ذلك، سوف تتذكر من الجزأَين ٥(ﻫ) و٦(أ) أنَّه لكي تكون نظرية القيم المتطرفة
قابلة للتطبيق ١٠٠٪ في كل الحالات، فإنها تتطلب نظريةً عن الأعداد الحقيقية، وأن نسخة
فايرشتراس من هذه النظرية كانت (كما أوضح كانتور نفسه) خرقاء. وهذا هو أحد الأسباب التي
استلزمت أن يكون لبرهان كانتور لعام ١٨٧٢ نظريتُه الخاصة عن الأعداد الحقيقية. أما عن
السبب الآخر والمُتعلق أيضًا بنفس الموضوع، فهو أنَّ كانتور لكي يستخدم نظرية بولزانو-فايرشتراس
الأكثر تعميمًا في بناء نظريته عن المجموعات المُشتقة وأنواعها، كان عليه
التوفيقُ بين الخصائص الهندسية للنقاط على تسلسُل أحد الخطوط — وهو ما يعني هنا مفاهيم
مثل «نقطة النهاية» و«الفترة» وغيرها — واتصال الأعداد الحقيقية (أو ما يُعرَف أيضًا
بالاكتناز المترابط)، حيث تكون بالطبع الكيانات المُتضمَّنة في التحليل أعدادًا حقًّا
وليست نقاطًا.١٥
إذا لاحظنا أنَّ المجموعات المُشتقة لدى كانتور تُشبه الفكرة العامة للمجموعة الجزئية،
وأنَّ القيمة الصغرى هي بالأساس تعريف المجموعة الخالية نفسُه، فمن الممكن أن نستشفَّ
بذور ما يُعرَف الآن بنظرية المجموعات١٦ في برهان كانتور للفردية. كما أنَّ المجموعات المُشتقة واتصال مجموعة
الأعداد الحقيقية/الخط الحقيقي، ومبرهنة الوحدانية هي اللَّبِنات الأولى لرياضيات
الأعداد فوق المنتهية لكانتور، وإنْ كانت بأساليب مُعقدة نوعًا ما. لقد رأينا توًّا أن
في مبرهنة الوحدانية تستلزم أن تكون منتهية؛ أي إن كانتور لم يُطبِّق عملية إيجاد مجموعة مُشتقة لمجموعة
مشتقة أخرى في برهانه إلا لعددٍ محدود فقط من المرَّات. وبما أنَّ هناك بالفعل العديد
من
المجموعات غير المنتهية التي تحوم حول البرهان، مع أنَّه (كما في: الأصلية غير منتهية، وكلُّ المجموعات من و وهكذا وصولًا إلى يمكن أن تكون غير منتهية، وبالطبع المتسلسلات المُثلثية ذات الصلة هي
متسلسلات غير منتهية، ناهيك عن أنَّ نقاط النهاية تحتوي على عددٍ لا نهائي من النقاط
داخل الفترات، وأن تلك الفترات هي نفسها يمكن أن تكون متناهية في الصغر)، فلا غروَ في
أن
يبدأ كانتور بالنظر عن كثبٍ في خصائص مجموعاته المشتقة بموجب عددٍ من التكرارات
اللامتناهية.
وعلى نحوٍ أكثر تحديدًا، بدأ كانتور يتساءل عمَّا إذا كانت لا نهائية مجموعة مُشتقة
من
النوع الثاني غير مُتناهية التكرار قد تختلف عن — أو تفوق بطريقةٍ ما — لا نهائية المجموعة من النوع الأول غير المتناهية التَّكرار. وعلى نحوٍ أكثرَ تحديدًا
أيضًا، لاحظ (كانتور) مدى التشابُه الكبير للغاية بين هذه الأسئلة والسؤال حول
اللانهائيات النسبية لكلٍّ من الأعداد النسبية على خطِّ الأعداد في مقابل الأعداد
الحقيقية على خطِّ الأعداد الحقيقي. يتعلق هذا السؤال الأخير بالموضوع الذي نُوقِش لأول
مرةٍ في الجزء ٢(ﺟ) — على الرغم من أن الأعداد النسبية لا نهائية وغير مُتناهية الكثافة،
فإنها ليست متصلة (أي إن خط الأعداد تتخلله فراغات)، في حين أنَّ كلًّا من ديديكند
وكانتور قد أثبتا الآن اتصال مجموعة كل الأعداد الحقيقية كما هو مخطَّط على خط الأعداد
الحقيقية، ومن هنا، من الطبيعي فيما يبدو أن يتساءل كانتور١٧ — الذي في سبيل مبرهنة الوحدانية قد وضع أساليب لفحص كلٍّ من الأعداد
الحقيقية مقابلَ الأعداد النسبية وخصائص المجموعات غير المنتهية — عمَّا إذا كانت
المجموعة غير المنتهية من جميع الأعداد الحقيقية أكبر بطريقةٍ ما من المجموعة غير
المنتهية من جميع الأعداد النسبية. وذلك باستثناء ما يُفترَض أن تَعنيَه كلمة «أكبر»
هنا، وكذلك كلمة «تفوق» في السؤال الوارد أعلاه عن مقابل — أي كيف يُمكن وصف المقادير النسبية من اللانهائيات المختلفة
وتفسيرها رياضيًّا؟ وهي النقطة التي، أثارها جيه جليسون بكلماته الخالدة …
جزء تكميلي حول نهج الكتاب
يُوجَد الآن موضوعان إجرائيَّان يتعيَّن تناولهما. ثمة مجلدات علمية بأكملها مكرَّسة
لإنجازات كانتور.١٨ ويُمكنك أن تحصل على دورة دراسية مُدتها فصلان دراسيان عن نظرية
المجموعات تحت عناوينَ خاصة بأقسام المنطق أو الرياضيات أو الفلسفة أو علوم الحاسب١٩ ومع ذلك تكون قد درستَ القشور الخارجية فقط. من الناحية التاريخية، تمتد
نظريات كانتور وبراهينه حول الأعداد فوق المنتهية على مدى ما يَزيد عن ٢٠ عامًا٢٠ بالإضافة إلى عشرات الأبحاث المختلفة المصحوبة غالبًا بتنقيحاتٍ
وتعديلاتٍ مُتتالية للمحتوى السابق، حتى إنه تُوجَد أحيانًا أكثرُ من نسخةٍ للبرهان
الواحد. وعليه، فمن الواضح أنَّ من المُستحيل هنا أن نشرح رياضيات الأعداد فوق
المنتهية بشكلٍ كامل، أو أن نتحدَّث باستفاضةٍ عن تطوُّرها في أبحاث كانتور المنشورة،
ونوفيها حقَّها في هذا الصدد.٢١ من جهة أخرى، تُوجَد بعض الكتب الحديثة المُبسَّطة التي تُعطي معلوماتٍ
سطحية ومختزلة عن براهينِ كانتور (وعادةً ما تكون هذه المعلومات، كما ذكرنا، في
مرتبةٍ أدنى ممَّا قاله بروميثيان عن مشاكل كانتور النفسية أو انتماءاته الغامضة
المزعومة) لدرجة أن الرياضيات شُوِّهت وحُجِبَ جمالها؛ ولا شك أننا لا نُريد أن
نسلك هذا المسلك أيضًا.
وعليه، فقد اتخذنا قرارًا لتحقيق التوازن بأن يكون النهج من الآن فصاعدًا هو
التضحية بالتسلسل الزمني وبقدْر معين من الاستفاضة في مراحل التطوير لصالح الشمولية
المفاهيمية والترابط المفاهيمي؛ أي لعرض مفاهيم كانتور ونظرياته وبراهينه بأسلوب
يُلقي الضوء على العلاقات القائمة فيما بينها وعلاقاتها بالرياضيات في حدِّ ذاتها.
وهذا لن ينطويَ فقط على التنقُّل من موضوعٍ لآخرَ على نحوٍ عشوائي قليلًا، ولكننا في
الغالب لن نُخبرك أننا نفعل ذلك، أو أنه يُوجَد أحيانًا عدة نُسَخ مختلفة من برهان
مُعطًى وأننا لا نتناول سوى أفضلِها فقط، أو التواريخ الفعلية والعناوين الإنجليزية
في مقابل الألمانية لكل المقالات ذات الصلة،٢٢ وهكذا. ويستلزم هذا أيضًا مسردَ مصطلحات خاصًّا عن نظرية المجموعات،
وإنْ كان يلزم إعداده هذه المرة على نحوٍ تدريجي وفي موضعه المناسب؛ لأن بعض
المعلومات التي يتضمَّنها مجردة للغاية، حتى إنه لا يُمكن عرضها عليك مقدمًا دفعةً
واحدة وبدون سياق.
نهاية «جزء تكميلي حول نهج الكتاب»
الجزء ٧(ب)
كما ينبغي أن يكون واضحًا، انبثقت بعض الأفكار المهمة للغاية حول اللانهائية من برهان
«مبرهنة الوحدانية» العامة. تتعلق إحدى هذه الأفكار بالأحجام النسبية لمجموعة كل
الأعداد النسبية في مقابل مجموعة كل الأعداد الحقيقية، بينما تدور أخرى حول ما إذا كان
اتصال خط الأعداد الحقيقية له علاقة بطريقةٍ ما بحجم المجموعة الأخيرة أو تركيبها. بل
وثمة فكرةٌ ثالثة، وهي مفهوم العدد فوق المنتهي، الذي استنتجه كانتور من الاعتبارات
نفسِها التي قادته إلى التمييز بين المجموعات غير المنتهية من النوع الأول والنوع
الثاني في برهان عام ١٨٧٢.
ولكي نعرف كيف تصوَّر كانتور الأعداد فوق المنتهية واستحدثها، علينا أولًا التأكدُ
من
استيعاب المحتوى الوارد في مسرد المصطلحات حول بعض مصطلحات نظرية الأعداد التي من
المُحتمل أنك رأيتها لأول مرة في مرحلة التعليم الأساسي.٢٣ بعبارة أخرى: مجموعة هي مجموعة جزئية من المجموعة إذا كان وإذا كان فقط لا يُوجَد عنصر من غير موجود في . واتحاد المجموعتَين و هو مجموعة كل عناصر وكل عناصر ، بينما تقاطع و هو المجموعة التي تتضمَّن فقط عناصر الموجودة التي هي أيضًا عناصر في . ويُرمَز عادةً إلى الاتحاد والتقاطُع بالرمزَين و على الترتيب. وأخيرًا المجموعة الخالية، ورمزها المُعتاد هو (فاي)، وهي مجموعة لا تشتمل على أي عناصر — واعلم أنه من خلال ما
يبدو للوهلة الأولى على أنه ضربٌ من المراوغة في تعريف «المجموعة الجزئية»، فإنَّ أي
مجموعة مهما تكن سوف تتضمَّن كمجموعةٍ جزئية منها. نهاية الجزء الأول من مسرد المصطلحات الثالث.
إضافة إلى ذلك، ينبغي أن تتذكَّر هنا ما تناولناه بشأن النوع الأول في مقابل النوع الثاني
لمجموعات النقاط في الجزء السابق. كما تُوجَد في الواقع بعض المعلومات التقنية التي
تتضمَّن معايير خاصة بالمجموعات «الكثيفة» في مقابل المجموعات «كلية الكثافة» التي سوف
نتجاوزها هنا، ولكن في جوهر الأمر سوف نتناول الطريقة التي تصوَّر بها كانتور الأعداد
فوقَ المنتهية واستحدثها، وهي كالتالي:٢٤
افترض أنَّ هي مجموعة نقاط غير منتهية من النوع الثاني. أثبت كانتور أن المجموعة
المشتقة الأولى من ، وهي ، يمكن «تحليلها»٢٥ أو تقسيمها إلى اتحاد مجموعتَين جزئيتين مُختلفتَين: و، حيث هي مجموعة تضم كل النقاط التي تنتمي إلى المجموعات المُشتقة من الجيل
الأول للمجموعة ، و هي مجموعة تضم كل النقاط المُتضمَّنة في كل مجموعة مشتقة واحدة من ، بمعنى أنَّ هي مجموعة تضم فقط النقاط المشتركة بين كل المجموعات المشتقة من . ولتقرأ هذه الجملة الأخيرة مرةً أخرى.٢٦ هي الجزء المهم، وهي فعلًا الطريقة التي عرَّف بها كانتور «تقاطع»
المجموعات لأول مرة، من خلال المتتابعة غير المنتهية من المجموعات المشتقة (المتتابعة غير منتهية؛ لأن هي مجموعة من النوع الثاني). وعلى عكس رمز التقاطُع لدَينا ، كان رمز كانتور للتقاطع غريبًا ومائلًا للغاية ، (مرةً أخرى، لن نستفيض في شرح كل شيءٍ في هذا الصدد). وعليه، فإنَّ
تعريف رياضيًّا هو: ، وهو ما يعني مع تعريف «المجموعة من النوع الثاني»، أنَّ كلًّا من
العلاقتَين التاليتَين صواب:
في الواقع، تُمثل الخطوتان (١) و(٢) معًا نوعًا من البراهين، وهو برهانٌ آخر
شهيرٌ بجانب البرهان بنقض الفرض. يُسمَّى هذا البرهان «الاستنتاج الرياضي». لإثبات
جملةٍ ما لكل () من الحالات باستخدام الاستنتاج الرياضي، عليك (أ) إثبات أن صواب للحالة الأولى ، ثم (ب) افتراض أن صواب لأول من الحالات (رغم أنك لا تعلم العدد الذي يُمثله ، فإنك تعلم من الخطوة (أ) أنه موجود، وهو إذا لم يكن خلاف ذلك)، ومن ثمَّ (ﺟ) إثبات أنَّ صواب لأول () من الحالات. وسواءٌ بدا الأمر غريبًا أم لا، فإن النقاط من (أ)
إلى (ﺟ) تؤكِّد أن سوف تكون صوابًا مهما تكن قيمة ، أي إن هي نظرية حقيقية.
نهاية «جزء تكميلي صغير مُضمَّن»
•••
أتاحت الخطوتان (١) و(٢) لكانتور تعريف ، بوصفها مُشتقة من ، كالتالي: — أي إنَّ هي المجموعة المشتقة رقم من . وبما أن (مرة أخرى) هي مجموعة من النوع الثاني، فلا يُوجَد أي احتمال أن تكون ، وهو ما يعني أن نفسها سوف تُؤدي إلى المجموعة المشتقة ، التي ستُؤدي بدورها إلى المجموعة المُشتقة وهكذا، إلا أنَّ كلمة «وهكذا» هنا تعني أننا يمكن أن نستمرَّ في
استنتاج عددٍ لا نهائي من المجموعات المُشتقة من الصورة المجردة٢٨ . وبما أنَّ و في هذه الصيغة مُتغيران، استطاع كانتور تكوين المتتابعة غير
المنتهية التالية من المجموعات غير المنتهية: . ويقول كانتور عن هذه المتتابعة: «نرى هنا إنتاجًا للمفاهيم على
أسسٍ جَدَلية، وهو ما يؤدي إلى أبعدَ من ذلك بكثير، ومن ثمَّ فإنه يظل في حدِّ ذاته
خاليًا بالضرورة وبالتبعية من أي اختياراتٍ عشوائية» … وهو ما يعني به أن هذه
«المفاهيم» هي كيانات حقيقية في الرياضيات — الأعداد فوق المنتهية — بُرهِنت بدقة
باستخدام نظرية بولزانو-فايرشتراس وتعريفات جي كانتور نفسه فيما يخصُّ «العدد
الحقيقي» و«المجموعة المُشتقة» و«التقاطع» والاستنتاج الرياضي.
إذا اعترضتَ (مثلما فعل البعض منَّا مع د. جوريس) بأن الأعداد فوق المنتهية لكانتور
ليست في الواقع أعدادًا على الإطلاق، لكنها بالأحرى مجموعات، فاعلم أنَّ المقصود
بشيء مثل أنه رمزٌ لعدد عناصر في مجموعةٍ معطاة، تمامًا كما أنَّ هو رمز لعدد العناصر في المجموعة . وبما أن الأعداد فوق المنتهية مختلفة وتُكوِّن متتالية مرتَّبة
غير منتهية مثل الأعداد الصحيحة تمامًا،٢٩ وهو أمرٌ يمكن إثباته فعليًّا، فإنها أعدادٌ حقًّا، ويمكن تمثيلها
باستخدام نظام كانتور المعروف المُشتمِل على الحرف «أليف» أو .٣٠ ونظرًا لأن الأعداد فوق المنتهية أعدادٌ فعلية، فإنها تقبل نفس أنواع
العلاقات والعمليات الحسابية شأنها شأن الأعداد العادية، وإنْ كانت قواعد هذه
العمليات — كما في حالة الصفر تمامًا — تكون مختلفة جدًّا في حالة ، ويتعيَّن إثباتها والبرهنة عليها على نحوٍ مُستقل.
(معلومة إضافية: لن نسترسل كثيرًا في ذلك، لكن إذا كان لديك فضول للاستزادة،
فإليك بعض النظريات القياسية لجمع الأعداد فوق المنتهية وضربها ورفعها لأسٍّ،
وجميعها نظرياتٌ استنتجها كانتور أو اقترحها. (يُرجى ملاحظة أن حاصل جمع/ضرب عدد لا
نهائي من الحدود هنا لا علاقة له تمامًا بمجاميع/نهايات المتسلسلات غير المنتهية في
التحليل، وهي المتسلسلات المعروفة الآن — بعد كانتور — بالمجموعات «شبه المنتهية»).
افترض أن عدد صحيح مُنتهٍ، وأن لدَينا عددَيْن مختلفَيْن من الأعداد فوق
المنتهية، هما و، حيث ،٣١ ومِن ثمَّ كل العلاقات التالية صحيحة:
(1)
(2)
(3)
(4)
(5)
(6)
(7)
(8)
لاحظ أنَّ عمليتَي الطرح والقسمة لا يُمكن إجراؤهما إلا في حالاتٍ مُعينة فقط،
ليست بين الأعداد فوق المنتهية في حدِّ ذاتها، كما هو الحال — على سبيل المثال — لعدد
محدود ، حيث تكون ، و. (مرةً أخرى، لا يختلف هذا على الإطلاق عن العمليات الحسابية في
حالة الصفر.) لاحظ أيضًا أنَّ أُسس الأعداد فوق المنتهية مثل ، و، وهكذا هي حالة خاصة وسوف نشرحها بإسهابٍ لاحقًا. نهاية المعلومة الإضافية.)
في حال إذا كنتَ تتساءل عن علاقة أيٍّ من هذا بالموضوعات الكبرى الأخرى المُتعلقة
باللانهائية — أي العلاقة المقارَنة بين لا نهائية الأعداد النسبية في مقابل لا
نهائية الأعداد الحقيقية، ودور الأعداد الصماء في اتصال خط الأعداد الحقيقية — اعلم
أنَّ إحدى حجج كانتور المُفضَّلة عن حقيقة٣٢ الأعداد فوق المنتهية هي تشابهها رياضيًّا/ميتافيزيقيًّا مع الأعداد
غير النسبية، التي سبق أن عرَّفها ديديكند بنجاح بمصطلحات المجموعات غير المنتهية.
وهكذا صاغ كانتور الأمر:
إنَّ الأعداد فوق المنتهية في حدِّ ذاتها هي بمفهومٍ معينٍ الأعدادُ غيرُ
النسبية الجديدة، وأرى في الواقع أنَّ أفضل طريقة لتعريف الأعداد غير
النسبية المُنتهية مُماثل تمامًا؛٣٣ بل ربما يجوز لي القول من حيث المبدأُ إنها نفس طريقتي في
تناوُل الأعداد فوق المنتهية. ويمكن للمرء أن يُؤكِّد قطعًا أنَّ: الأعداد
فوق المنتهية يعتمد وجودها أو عدم وجودها على الأعداد غير النسبية
المنتهية؛ فكلاهما مُتماثلٌ في جوهره؛ إذ إن كلَيهما بمثابة أشكال أو صور
مُعينة ومُحدَّدة بدقة من اللانهائية الفعلية.
من المُثير للاهتمام أنَّ هذه العبارات الواضحة التي لا التباسَ فيها ظهرت في بحث
«إسهاماتٌ في دراسة الأعداد فوق المنتهية» حيث نرى — بالعودة إلى الجزء ٣(أ) —
كانتور يستشهد باعتراض القديس توما الإكويني على الأعداد غير المنتهية بوصفها
مجموعاتٍ غير منتهية ويُصدِّق عليه. ومع ذلك، كانت حجة كانتور الأولى بشأن الأعداد
فوق المنتهية — وهي حجة تكرَّرت بأشكالٍ عدَّة في الفترة ما بين عام ١٨٧٤ وأواخر
التسعينيات من القرن التاسع عشر — أنَّ «وجودها يترسخ مباشرةً من خلال تجريدها من
وجود المجموعات غير المنتهية.»٣٤ ومن ثمَّ، كان المشروع الأساسي لأبحاث كانتور ما بين عامَي ١٨٧٤ و١٨٨٤
هو وضعُ نظرية مترابطة ومُتسقة عن المجموعات غير المنتهية — ويُرجى ملاحظة أنَّ كلمة
«مجموعات» هنا بصيغة الجمع؛ لأنه لكي لا تكون مثلُ هذه النظرية بسيطةً لا بدَّ من
وجود أكثرَ من نوعٍ واحد (أي: أكثر من نوع حسابي، وهو ما يعني بالأساس «حجم»٣٥ بالإضافة إلى مجموعة من القواعد لتقييم هذه الأنواع والمقارنة
بينها.
الجزء ٧(ﺟ)
من الواضح أنَّ هذا ينقلنا بسلاسة إلى السؤال عمَّا إذا كان اتصال خط الأعداد
الحقيقية يعني أن المجموعة غير المنتهية لكل الأعداد الحقيقية تكون بطريقةٍ أو بأخرى
أكبر من المجموعة غير المنتهية لكل الأعداد النسبية. لاختصار الموضوع، واصلَ كانتور
العملَ في أبحاثه بشأن هذه المسألة على نحوٍ متزامن تقريبًا مع ما صاغه من نتائجَ بشأن
المجموعات المُشتقة والأعداد فوق المنتهية.٣٦
حسنًا. توصَّل كانتور أثناء محاولة إيجاد طريقةٍ ما لمقارنة حجمَي مجموعتَين كلٌّ
منهما متناهية الكبر إلى المفهوم الدقيق المُستخدَم حاليًّا في الصف الرابع لتعريف
تَساوي مجموعتَين، وهو التناظُر الأحادي. (في الحقيقة، الفعل «توصَّل إلى» ليس صحيحًا
تمام الصحة؛ إذ رأينا كلًّا من جاليليو وبولزانو يستخدمان التناظُر الأحادي لإثبات
مفارقاتهما الخاصة. (وإن كانت بعد نظرية كانتور لم تعُد مفارقات).) التناظُر الأحادي
—
حسبما تعرف — هو الطريقة المُستخدَمة لإثبات تَساوي مجموعتَين من عدمه دون الحاجة إلى
إحصائهما. تَستخدِم الكتب الدراسية كلَّ السيناريوهات على اختلاف أنواعها لتوضيح فكرة
التناظر الأحادي وآلية استخدامه في المقارنة، ومثالُ ذلك أصابعُ اليد اليُمنى في مقابل
أصابع اليد اليسرى، وعددُ الحضور في مقابل عدد المقاعد المتاحة في إحدى دُور المسرح،
وعددُ الأكواب في مقابل عدد الأطباق في أحد المطاعم. وتضمَّنت عبارة د. جوريس المَجازية
المُفضَّلة لديه (التي من الواضح أنها اخْتِيرَت بما يناسب الحضور وقتها) عددَ الأولاد
في مقابل عدد البنات في حفلٍ راقص، حيث يُكوِّن كلٌّ منهم ثنائيًّا مع الآخر ويرقصان
معًا، وملاحظة ما إذا كان أيٌّ منهم يقف حزينًا وحيدًا وظهره إلى الحائط. أظنُّ أنَّ
الفكرة قد اتضحت الآن. فيما يلي تعريفان اصطلاحيان: يُوجَد تناظُر أحادي بين المجموعتَين
و إذا وفقط إذا وُجِدَت طريقةٌ (وهو ما لا يتعيَّن رياضيًّا الإحاطة
به) لتكوين أزواج من عناصر وعناصر بحيث يقترن كلُّ عنصر من عناصر مع عنصر واحد فقط من عناصر والعكس صحيح. وتُعرَّف المجموعتان و بأنَّ كلتَيهما لها نفس العدد الكاردينالي (وهو ما يُعرف أيضًا
بالأصلية أو «الكاردينالية») إذا وإذا فقط كان هناك بالفعل تناظُر فِعلي بينهما.٣٧
والآن، فيما يخصُّ التعريف التالي، يُرجى استرجاع الطريقة التي استحدث بها جاليليو
المفارقة المُسمَّاة باسمه في الجزء ١(د). وسيكون من المفيد أيضًا تذكُّرُ التعريف
الاصطلاحي للمجموعة الجزئية في الجزء السابق. تكون مجموعة مجموعةً جزئية فعلية من المجموعة إذا وإذا فقط كانت مجموعة جزئية من وكان هناك عنصرٌ واحد على الأقل من ليس عنصرًا في .٣٨ ومِن ثمَّ، طبقًا للتعريف، كلُّ مجموعة هي مجموعة جزئية من نفسها، ولكن لا
تُوجَد أي مجموعة تكون مجموعة جزئية فعلية من نفسها. أهذا منطقي؟ كان ينبغي أن يكون كذلك،
على الأقل في حالة المجموعات التي تتضمَّن عددًا محدودًا من العناصر.
لكن ما افترضه جي كانتور على أنه الخاصية الأساسية المُميِّزة للمجموعة غير المنتهية
أنَّ هذه المجموعة يمكن أن تُوضَع في تناظُر أحادي مع مجموعةٍ واحدة على الأقل من
مجموعاتها الجزئية الفعلية. وهو ما يعني بعبارةٍ أخرى أنَّ أي مجموعة غير مُنتهية يُمكن
أن يكون لها نفس العدد الكاردينالي مثل مجموعتها الجزئية الفعلية، كما في حالة مجموعة
جاليليو غير المنتهية التي تضمُّ كل الأعداد الصحيحة الموجبة، والمجموعة الجزئية
الفعلية لهذه المجموعة التي تضمُّ كل المُربعات الكاملة، التي هي نفسُها مجموعة غير
منتهية.
تجعل هذه الخاصية فكرة مقارنة «أحجام» المجموعات غير المنتهية برُمتها غريبةً للغاية،
حيث إن المجموعة غير المنتهية يمكن بحُكم التعريف أن يكون لها نفس حجم (كاردينالية) أي
مجموعة تكون هي أكبر منها طبقًا للتعريف. ما فعله كانتور هنا٣٩ أنه أخذ عنصرًا آخر من مفارقة جاليليو وحوَّله إلى أداة فعَّالة ومهمة
للغاية لمقارنة المجموعات غير المنتهية. وهذه — إذا أردتَ تعقُّب الأمر والبحث فيه —
هي
أولى أفكاره العبقرية المدهشة التي لا تُصدَّق، على الرغم من أنها ربما لا تبدو بالفكرة
العظيمة في البداية. إنها فكرة التناظُر الأحادي مع مجموعةٍ تتضمَّن كل الأعداد الصحيحة
الموجبة؛ أي . والسبب في أهمية هذا أنَّ مجموعة كل الأعداد الصحيحة الموجبة يمكن — من حيث المبدأ
— عَدُّها،٤٠ كما في إمكانية المُضي قدمًا على المنوال التالي: «ها هو العنصر الأول، ، والعنصر التالي هو ، و…» وهكذا، على الرغم من أن العملية لا تنتهي أبدًا من الناحية
العملية. على أية حال، من هنا جاء مفهوم كانتور عن «قابلية العَدِّ»: تكون مجموعة غير
منتهية قابلةً للعَدِّ إذا وإذا فقط كان هناك تناظُر أحادي بين ومجموعة كل الأعداد الصحيحة الموجبة.٤١
أثبتت أيضًا مجموعة كل الأعداد الصحيحة الموجبة نوعًا من العدد الكاردينالي الأساسي
للمجموعات غير المُنتهية؛ حيث يرمز كانتور إلى كاردينالية هذه المجموعة برمزه الشهير
.٤٢ والفكرة هي أنَّ الأعداد الكاردينالية للمجموعات غير المنتهية الأخرى يمكن
حسابها عن طريق هذا العدد الكاردينالي الأساسي؛ أي يُمكنك مقارنتها ﺑ عن طريق معرفة ما إذا كان يمكن وضعها في تناظُر أحادي مع مجموعة
الأعداد الصحيحة الموجبة. وفيما يلي مثالٌ على ذلك (ليس لكانتور نفسه، لكنه مثال جيد
ويفي بالغرض):
انظر ما إذا كانت المجموعة التي تضمُّ كل الأعداد الصحيحة الموجبة والمجموعة التي تضم كل الأعداد الصحيحة (بما فيها الصفر والأعداد الصحيحة
السالبة) لهما نفس الكاردينالية. المشكلة هي أنَّ هناك اختلافًا جوهريًّا بين هاتَين
المجموعتين: المجموعة بها عنصر أول (أي، أصغر)، وهو ، بينما المجموعة (التي هي أساسًا المجموعة ) لا يُوجَد بها ذلك. ومن الصعب أساسًا معرفة الطريقة التي يُمكننا بها
اختبار مجموعتَين لإثبات التناظُر الأحادي من عدَمه إذا كانت إحداهما ليس بها عنصر أول.
ولحُسن الحظ أنَّ ما نتحدَّث عنه هنا هو الكاردينالية، وهو ما ليس له أي علاقة بالترتيب
المُحدَّد لعناصر المجموعات؛٤٣ ومن ثمَّ يُمكننا التلاعُب بترتيب المجموعة بطريقةٍ ما بأنْ نقول إنه على الرغم من أن ليس بها عنصر أصغر، فإن بها بالفعل عنصرًا أول، ولنقُل هنا إنه . ويسمح لنا هذا التلاعُب البسيط بإعداد تناظُر أحادي كامل، وتمثيله
بطريقة تخطيطية.
وهذا يثبت أنَّ و لهما نفس الكاردينالية. لاحظ أنه على الرغم من أنك لا تستطيع
الانتهاء حرفيًّا من عملية مطابقة المجموعات غير المنتهية، طالما أنك تستطيع إرساء
إجراءٍ للتناظُر الأحادي يصلح للحالة الأولى والحالة رقم والحالة رقم ، فقد أثبتَ بالاستنتاج الرياضي أن التناظُر سوف يتحقق مع كل عناصر
المجموعتَين. في المثال أعلاه، أثبتنا أنَّ مجموعة كل الأعداد الصحيحة تكون قابلة
للعَدِّ على الرغم من أننا ربما لا نستطيع عَدَّ كل عنصر.٤٤ ترجع هذه الطريقة في البرهان إلى جي كانتور بالأساس، وجديرٌ بالملاحظة أنه
استطاع مرةً أخرى استخدام خاصيةٍ ضمنية لشيءٍ ما — وهو هنا قدرة الاستنتاج الرياضي على
تجريد عددٍ محدود من النتائج بحيث يشمل عددًا لا نهائيًّا من الحالات الممكنة — وجعلها
قابلةً للتطبيق بوضوح وبدقة على المجموعات غير المنتهية.
وهكذا يتضح كيف استطاع كانتور إجراء مقارنة بناءً على الحجم بين المجموعة غير
المنتهية التي تضمُّ كل الأعداد النسبية والمجموعة غير المنتهية التي تضمُّ كل الأعداد
الحقيقية:٤٥ استطاع أن يعرف ما إذا كانت إحدى المجموعتَين أو كلتاهما قابلةً للعَدِّ.
وسنتناول فيما يلي سلسلة من البراهين المشهورة للغاية، التي صِيغَ مُعظمها ووُضِعَ في
مراسلاتٍ مع آر ديديكند، ونُشِرَت في سبعينيات القرن التاسع عشر، ثم نُقِّحَت ووُسِّع
نطاقها في أوائل التسعينيات. أولًا، الأعداد النسبية.٤٦ عندما تتأمَّل الكثافة اللانهائية التي استخدمها زينون فقط في النسب الهندسية
بين و، فإنَّ الأمر يبدو كما لو كان أنَّ مجموعة كل الأعداد النسبية يستحيل
أن تكون قابلة للعَدِّ. والسبب في ذلك لا يقتصر على أنَّها ليس بها «أصغر عنصر» ولكنها
ليس بها حتى «أكبر عدد تالٍ» بعد أي عددٍ نسبي مُعطًى (كما رأينا برهانَيْن مختلفَيْن
على ذلك). ومع هذا، لاحظ كانتور أنه بتجاهل «علاقات المقادير» بين العناصر المتتالية،
يمكننا بالفعل ترتيب مجموعة كل الأعداد النسبية في صف، على غرار الصف الذي يتضمَّن كل
الأعداد الصحيحة الموجبة، وفي هذا الصف سيكون هناك عنصر أول وعنصر ثانٍ وهكذا. وفي الواقع، فإنَّ المصطلح التقني لوَضْع مجموعة في صفٍّ كهذا
هو «عَدُّ المجموعة» — بالإضافة إلى أنَّ الصف نفسه يُسمَّى «صف عَدِّ» المجموعة — وهو
ما يعني هنا إنشاء صفٍّ مرتَّب على نحوٍ صحيح سيكون بمثابة برهانٍ على أن مجموعة كل الأعداد
النسبية قابلة للعَدِّ حقًّا (أي إنها تقبل التناظر الأحادي مع مجموعة كل الأعداد
الصحيحة، ومن ثمَّ فإنها تكون مكافئة لها من حيث الكاردينالية). وهكذا انتشر تفسير
كانتور الذي أحيانًا ما يُشار إليه خطأً ﺑ «البرهان القُطْري»:٤٧
كما رأينا في الجزء ٦(ﺟ)، كل الأعداد النسبية يمكن وضعها على صورة نسبة بين عددَيْن
صحيحَيْن . ومن ثمَّ، نُنشئ مصفوفةً ثنائية الأبعاد من كل ، حيث نجد في الصف الأُفقي العلوي كلَّ الأعداد النسبية على الصورة (أي: الأعداد الصحيحة) وفي العمود الرأسي الأول كل الأعداد النسبية
على الصورة ، وكل عدد نسبي