الرسالة الأولى

٤ مايو عام ١٧٧٠

أنا مسرور لافتراقنا، على أنني أعجب جدًّا من جَلدي أمام فراق الرجل الذي كان رفيق صباي المحبوب، ولم يزل شطرًا من نفسي، والذي تلائمني أخلاقه وميوله كل الملاءمة. أواه! ما أشد عجزنا عن تفهُّم القلب البشري! إنه يبحث عن الراحة حيث لا راحة ولا نعيم! أنا واثق من عفوك يا صديقي، إن كل ما ظننتُه سعادة وهناء، وبنيتُ عليه الأماني والآمال قد أراده القدر أن يكون أصل الشقاء، ومنبع العذاب.

مسكينة ليونورا! بيد أنني بريء مما أصاب فؤادها الحساس، من أجل إعجابي بمحاسن أختها، ولكن هل أنا حقيقةً بريء؟ أليس من الجائز أنني كنت أزيد في نيرانها حين أظهرتُ سروري المتناهي بكل مظاهر شغفها؟ إيهِ أيها الإنسان، ما أشد دأبَك في تعذيب نفسك بالآثام والشرور الخيالية! ولكن لا تفزع أيها الصديق، سأُفرِغ مجهودي في التغلب على هذه الكآبة، وبدلًا من تذكُّري الآلام الماضية، وابتئاسي بتلك الأحزان المرافقة للحياة، سأدَعُ الكل للنسيان، يفعل به كيف شاء، ثم أغتبط أنا بحاضري. تلك نصيحة صديقي وإنها لقيِّمة؛ فإن المرء يتعذب عذابين بتذكُّره الماضي المؤلم الذي احتمل غُصَصَه فيما فات.

أعلِمْ أمي أنني سأوافيها قريبًا بما يتم في المهمة التي أسندتْها إليَّ، والتي سأنهض بها جهدي. أما خالتي فقد حادثتُها، فلم أرَ فيها تلك المرأة الغشوم التي كانوا يصِفونها لي، نعم إن طِباعها جافة، ولكنها طيبة القلب، وقد نكصت عن خُطتها، ورضيتْ بشروط بيَّنتها؛ أن تردَّ لأمي أكثر مما أطلبنا من الممتلكات التي مُنِعناها زمنًا طويلًا، فأكِّد لأمي أن هذه المهمة ستنتهي كما تبغي وتريد. وإنني — أيها الصديق — لأستخلص من هذه الحادثة التافهة أن سوء التفاهم والإهمال يخلُقان قلقًا ومشاكلَ بين الناس، أكثرَ مما تسبِّب المماذَقة والخداع، أو على الأقل تكون عواقبهما أعمَّ وأكبرَ.

مَسْكني هنا رائع لطيف، وإنني لأجد في هذه الجنة الأرضية بلسمِ النفوس الحائرة، الوحدةَ الحلوة — أيها الصديق — التي طالما كانت مسرَّة البائس المسكين. إن الربيع الجميل ليطرب فؤادي وينعش جسمي، والطبيعة تظهر فرحةً في كل حقل، في كل شجرة، والهواء معطر شذي، والطيور تغرد مرحِّبة بالصباح، وفيلوميل١ يترنم في المساء مودِّعًا النهارَ المتراجع.

ما أعظم الفرق بين المدينة والخلاء! في هذه البلدة لا أجد ما يشوقني، أما فيما يحيط بها فهناك أعظم الجمال، جمال الطبيعة وبهاؤها الجليل. وعلى قمة أحد التلال التي تزيد في رونق هذه المناظر الخلوية تقوم حديقة أنيقة بسيطة للمرحوم مركيز موبرلي، وإن نظرة واحدة إليها لتحملنا على الاعتقاد بأن الذوق الطبعي قد حلَّ هنا محل المهارة الصناعية، وأن هذه الحديقة لم تنمقها فقط يد بستاني، بل يد رجل شاعر ذي عواطف. وهناك على قبر تحت مظلة مهجورة منذ قريب كادت تذهب بها يد الأيام، أطلقت الدمع في ذكرى صاحبها الراحل، وقد علمت أن هذا المكان كان معتزَله المحبوب، كما أنه مجلسي الآن، وأنا واثق أنني سأخلفه؛ فقد اكتسبت وداد البستاني الذي سأحفظ له بعناية خدماته لي.

١  فيلوميلا في الخرافات اليونانية ابنة بانديون ملِك أثينا، وقد تحوَّرت إلى بلبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤