الرسالة الثالثة عشرة
حقًّا إن أيامي الآن سعيدة ممتعة، تشبه الآخرة التي يُوعَدها المتقون، خلِّ المستقبل يأتي كما يشاء، ولكن عليَّ الآن أن أعترف بأني قد نعمت في حاضري بأكمل هدوء وأتم سلام. أنت تعرف قرية والهيم، فاعلم أنني أسكن بها الآن، على بُعد ثلاثة أميال تقريبًا من شارلوت، وإنني في عزلتي هذه لأفخر بسعادة لم يظفر بأكثر منها إنسان، ولم يكن يخطر ببالي من قبل حين اخترت هذا المكان ليكون معتزلي ومأواي، أنه يحوي هذه الجوهرة العظيمة، وطالما رأيت في جولاتي هذا المقعد الخلوي، الذي أرتاح له وأغتبط به الآن، لقد تطلعت إليه أحيانًا من قمة الجبل، ورَقَبْتُه من الحقول على ضفة النهر المقابلة، ولشد ما فكرت كثيرًا في دأب الإنسان وسعيه دون فائدة أو جدوى، يعمى عن كنوز بلاده وجمالها؛ فيشرئب إلى البعيد، ويضرب في الأرض منقِّبًا عن كل مكتشفٍ جديد، ولكن هذه البدع سرعان ما تفقد بهاءها، فينقلب راكضًا إلى السعادة التي غادرها وراءه، فإذا ما عاد قنع بحياته الأولى لا يهمه بقية العالم فتيلًا.
أحببت هذه البقعة الرائعة لأول مرة رأيتها، ممتلئة بمحاسن الطبيعة من مناظر بهيجة للغابات والجبال والصخور، آه! مَن لك بأن تراها أيها الصديق!
بيد أنني مع ذلك لم أقنع بما وجدت، بل تركته، وأنا كما كنت من قبل. وا حسرتاه! إن المستقبل أيها الصديق كطريق غامض لم نطرقه بعد، أمامنا ظلمات حالكة مخيفة، لا يستطيع الفكر سبر غورها، إننا نغتبط بالصور التي يدبِّجها خيالنا، فنجِدُّ وراءها بلهف وشوق، ولكن إذا حسرت الحقيقة عنها القناع، غاض ذلك السرور وتلاشى، وهكذا يتوق الغائب إلى وطنه، فيجد بين جدران كوخه، مع زوجه وأطفاله، سعادةً بيتيةً، وهناء لم يذقهما في أسفاره السحيقة.
ما ألذَّ هذه الإحساسات التي تفيض عليَّ حين أفكر في حياة البطارقة! وإنني لأقول دون فخر أو غرور إنني أحيا هذه الحياة، إنني أشعر بكل تلك السعادة البسيطة الحقيقية المتمثلة في حياة الفلاح، يرى على مائدته الكرنب الذي أنبتته يداه، وبينا هو يلذ بطعامه إذا هو يتمتع بذكرى ذلك الصباح الجميل الذي زرعه فيه، والمساء الذي فيه رواه ورضاه في الأيام المتوالية، وهو يراه يزكو وينتعش.