الرسالة الحادية والثلاثون

١٢ أغسطس
ليس في العالَم شخص ألطفُ من ألبرت، كان حديثنا أمس مفيدًا متفردًا في موضوعه، وكنت زرته لأستأذنه في السفر إلى الجبال؛ إذ عزمت على قضاء بضعة أيام بها، وها أنا أكتب إليك منها الآن، فبينما كنت أتمشى في مخدعه لمحت مسدساته، فسألته إعارتي إياها في سفرتي، فأجاب: «لك ما تريد، بملء السرور، إذا تفضلت فحشوتها؛ لأنني أعلِّقها هنا لمجرد الزينة فقط.» فأخذت أتأمل أحدها. واستتبع هو حديثه فقال: «كدت ذات مرة أدفع ثمنًا غاليًا لتيقظي وحذري، ومن ذلك الحين لم أبقِ عندي سلاحًا ناريًّا محشوًّا.» فسألته بيان الحادثة، فقال: «أقمت عند صديق لي يسكن الخلاء نحو ثلاثة شهور، ولم يعكِّر صفو راحتي فيها شيء، ولو أن أسلحتي لم تكن محشوَّة، فبعد ظهر يوم ممطر لم يكن لديَّ ما أعمل، وخطرت لي فكرة أن البيت قد يُهاجم في الليل ويُسطى على ما فيه، وأن هذه الأسلحة قد تفيد، وأن وبالإجمال، فأنت تعلم ما يفعل الإنسان حين ينزل به الخمول؛ وعلى ذلك ناولتها إلى خادمي لينظفها ثم يحشوها، فأخذ هذا بلا تفكير يخيف الخادمة مداعبًا إياها، فانطلقت رصاصة من أحدها بطريقة لا يعلمها إلا الله دون أن يُرفع الضاغط، فأصابت المسكينة في يدها اليمنى وأطارت إبهامها، ويسهل عليك الآن أن تتصور تأثير تلك الحادثة، وما كلفته من نفقات الجرَّاح الذي عُهد إليه بالعلاج، ومنذ ذلك الحين لم أُبقِ في غرفتي مسدسًا محشوًّا، وفي الحقيقة أن حذر الإنسان وتيقظه تعللٌ لا فائدة منه؛ فهو لا يتنبأ بالمستقبل، ولا يمكنه اجتناب الخطر المداهم.» محبب لديَّ كل شيء في ألبرت إلا «في الحقيقة»، وعلى أية حال، فأنت تدري ألا قاعدة بدون شواذ، وهو كامل الخلق بلا مراء، وإذا ما أراد أن يدفع عن قضية عامة معروفة، أو مسألة لا تزال قابلة للريب، جاء بكل رقيق اللفظ والتعبير، تسوقه إلى ذلك صراحة في الرأي مع خشية من إساءة أحدٍ ما، حتى إذا ما قارب الختام نسي أصل قضيته وضاع. وكان في حديثنا، حَسَبَ عادته، مكبًّا على الموضوع مهتمًّا به، وعلى هذا صارت المناقشة مملةً، فحوَّلت عنها التفاتي وحصرته كله في أفكاري، وبينا كنت كذلك أمسكت بالمسدس فسددته إلى جبهتي، وما كدت أفعل حتى اختطفه ألبرت من يدي صارخًا: «ماذا أنت فاعل؟» فأجبت: «إنه ليس محشوًّا»، فاحتدم محتجًّا: «وبعد؟ ولمَ تُقدِم على هذا العمل، ولو أنه ليس محشوًّا؟ إنني لأعجب كيف ينقلب امرؤٌ ما إلى مجنون فيقتل نفسه، بل إنني لأرتعد لمجرد تصوُّر ذلك.» فأجبت: «كيف يمكن رجلًا وهو يتكلم عن عمل ما أن يجزم بجنونِ فاعله أو حزمه، باعتداله أو عدمه؟ وما معنى هذه التصريحات الطائشة؟ فهل اعتُبرتْ ودُرستِ الحوادث الخفية على هذه الأعمال؟ أنى تنشأ؟ ولمَ يستحيل الخلاص منها؟ ولو فكَّرت في ذلك ونقَّبت لما أصدرتَ حكمك بهذه السرعة.» فقال ألبرت: «ولكنا لا نستطيع أن ننكر أن بعض الأعمال — دون نظر إلى منشئها وبواعثها — تُعدُّ جرائم بطبيعتها.» فوافقته على ذلك دون اهتمام، ثم أكملتُ حديثي: «على كل حال يجب أن يكون هناك شواذ؛ فالسرقة تُعتبر جريمة، ولكن هل يستحق العقاب أم الرحمة ذلك البائس الشقي، يسوقه فقره المدقع، فيأخذ القليل من الغني المكثر؛ لينجو بنفسه وأسرته المحتضرة جوعًا؟ بل مَن يدعو الزوج الذي يذهب بنفس زوجته الخائنة وخليلها الغادر، في اللحظة الأولى تلحقه فيها الإهانة الحقة، قاتلًا راغبًا في القتل؟ مَن يدعو تلك المرأة الساذجة، أغرتها الأماني والوعود، فأسلمت نفسها لإغواء النذل المخادع، خليعةً فاجرةً؟ إن قوانيننا نفسها على ما بها من قسوة وصرامة، تتمسك بالرحمة في هذه المواقف، فتتنازل عن العقاب.» فقال ألبرت: «ولكن هذه الأمثلة لا تنطبق تمامًا على الحقيقة، إن الرجل الذي يندفع فجأة وراء العواطف الهائجة لا يستطيع أن يفكِّر في شيء، وعلى هذا وجب اعتباره سكرانًا أو مجنونًا.» فصحتُ وعلى شفتي ابتسامة استياء: «إيه! أيها الأخلاقيون، بأية سكينة، بل بأي جمود تحكمون وتتكلمون عن الاندفاع والسُّكر والجنون! ولكنكم عقلاء رصينون، تحتقرون السكران، وتتجنبون المجنون، فتنتقلون إلى الجانب الآخر كالرهبان، ثم تحمدون الله كالفريسيين١ إذ لم تكونوا مثلهم! لقد ذقت أكثر من مرة تأثير الخمر، فارتكبت في تلك الأُويقات أشدَّ الحمق وأكبره، ولست أخجل من التصريح؛ فقد كان لي في ذلك درسًا أن كل مَن يُظهِر مواهبَ عالية، أو أعمالًا تتعدى العُرف المألوف يُعدُّ سكرانًا أو مجنونًا، وأن هذه الخواطر الخاملة الهامدة لتسود حتى في حياتنا الخاصة. وماذا يقول العالَم عن شاب كبير الشجاعة واسع الكرم، إلا أنه سكران أو معتوه؟ ألا فاخسئوا أيها الفلاسفة، أيها الأخلاقيون! واخجلوا، اخجلوا!» فقال ألبرت: «هذا مَثَل من خواطرك الروائية، إنك أبدًا تخرج عن الحد، وإنك لشاطٌّ كثيرًا عن موضوعنا الآن؛ إذ تشبِّه الانتحار بأعمال البطولة، ذلك الضَّعف البين؛ لأن الموت رغم ما به من أهوال أهونُ بكثير من الحياة المنكودة التاعسة، نلقى فيها المصائب بجَلَد وصبر جميل.»

وكدت هنا أترك الموضوع لأنه لا يفرغ صبري شيء أكثر من هذه الآراء التافهة العادية الخالية من المعنى، تحشر دون حاجة؛ لمناضلة العواطف المتدفقة من الفؤاد، ولكنني كظمت استيائي حالًا؛ فقد تعودت كثيرًا في الأيام الأخيرة هذه القياسات الفاسدة، حتى كادت تصبح ضئيلة التأثير أو عديمته عليَّ، على أنني استتبعت ببعض الحدة «على أية حال أنت تسمي الانتحار ضعفًا، ولكنني أحذِّرك وأرجوك، فلا تندفع وراء الأصوات الفارغة، هبْ أَمَة قد أرهقها نِيرُ الظلم والاستبداد، فقام قائمها، وثارت تفك قيودها، فهل تدعو ذلك التمردَ ضعفًا؟ وشخصًا يبذل قواه إبان حريق ليخلِّص بيته من داهم النيران، فيجد الأحمال التي كان ينوء بها فلا يزحزحها، سهلةَ الحمل الآن، ورجلًا يحمل في ساعة استياءٍ حقٍّ على الفئة من الأعداء، فيهزمهم ويولون الأدبار، فهل تتَّهم هؤلاء بالضعف؟ وإذا كانت المقاومة يا سيدي العزيز دليلًا على الجَلَد والصبر، فلمَ تدعون تلك المقاومة السامية ضعفًا؟»

فسكت هنيهة ثم أجاب: «كل هذه الأمثلة — وأرجوك عفوًا — لا تزال، كما أرى، خارجةً عن الموضوع.» فأجبته: «هذا جائز، فطالما لُوحظ أن في طريقة جمعي للأشياء ضربًا من الإسراف، فلنحاول إذًا أن نفكِّر في المسألة من طريق آخر، لنتساءلْ عن مركز ذلك الرجل الذي يصمِّم على إلقاء حمل الحياة من على كاهله، ذلك الحمل المحبوب عامة، ولننسل إلى أعماق مشاعره؛ فإننا بغير هذا يستحيل علينا درس الموضوع.»

ثم استمررت قائلًا: «إن الطبيعة البشرية ذات حدود مخصوصة؛ فهي تحتمل درجة محدودة من السرور والحزن والألم، فإذا زادت الحال عن تلك الدرجة وهنت الطبيعة. لسنا نبحث عن بأس الإنسان أو ضعفه، ولكن عن مقدرته على احتمال تلك المصائب العقلية أو الجسمية التي تنزل به. ومن رأيي أنه إذا كان من السخف أن ندعو فريسةَ الحمَّى القتالة جبانًا، فمنه أيضًا أن نتهم الرجل الذي يضع حدًّا لوجوده بهذه التهمة.» فقاطعني ألبرت قائلًا: «تناقض! تناقض بيِّن!» فقلت: «ليس بالقدر الذي تظن. يجب أن تعترف أن الداء قتَّال إذا ما انقض على الطبيعة بعنف، فأوهن قواها، حتى صارت البقية الباقية منها عاجزةً عن حفظ الحياة، وإدارة حركتها العادية، فلنطبِّق الآن هذا على العقل، ولنفحص قوة التأثيرات والدورة التي تأخذها الأفكار به، حتى تتسلط هناك عاطفة شديدة، وتتملك عليه كل التملك، فتُخضِع قواه ثم تلاشيها، وعبثًا يتأمل امرؤ سريع الإدراك، حادُّ الذكاء رزين الطباع، ذلك المركزَ المنحوس يقع فيه شقي قد جُرِّد من قواه، بل أية فائدة من النصيحة يزجيها إليه، وهو كالرجل الصحيح يجلس بجانب فراش صديقه الراحل، عاجزًا عن مدِّه بالنَّزر اليسير من صحته وقواه.»

وكان هذا النوع من التعليل مطلقًا شائعًا في عُرف ألبرت، فضربتُ له مثلًا بحديثٍ سمعه من قبلُ عن فتاة انتحرت غرقًا، وأردت أن أعيد القصة الآن: «فتاة طاهرة الذيل، اعتادت الانزواء في دارها والرضى بعملها الأسبوعي الذي تُؤجر عليه، فكان هناؤها كله في جولة بالحقول على قدميها يوم أحد، ورقصة أو اثنتين أيام العطلة، قاطعةً بقية أوقات فراغها بالحديث مع جيرانها عن شئون القرية واضطراباتها الصغيرة، وبدأ قلبها أخيرًا يشتعل بآمالٍ فتية، يذكيها تملُّق الإنسان ومداهنته، حتى فقدت طعم مسراتها السالفة تدريجًا. والتقت صدفة بفتًى ارتبطت معه دون أن تدري برباط القلوب، فانحصرت فيه آمالها، ولم ترَ من العالم غيره؛ إذ هو قِبلة عنايتها وأفكارها، وأرادت وهي ساذجة القلب، تجهل الملذات المهلكة ربيبة الخيلاء الباطلة، أن تكون له. فأخذت تحلُم أنها زوجته، ورغبت شَغِفة في تحقيق تلك الأحلام المغرية الخلابة، وعززت أمانيها وعوده الجمة وأقسامه الحارة، وزاد من افتتانها به شغفه الظاهر، فملأتها السعادة المنتظَرة جذلًا واغتباطًا، ولم تعرف لعواطفها حدًّا. ثم فتحت ذراعيها لتضم تمثال حبها العزيز. ولكن يا للغواية القاتلة! لقد كذب حبيبها فهجرها ومضى!

وجمدت ضائعة الرشد، مسلوبة الحس أمام هوة الشقاء التي تجتذبها إليها: كل ما حواليها مظلم حالك، وليس ثَمَّةَ شعاع من الأمل؛ فقد مضى خلفها إلى الأبد، وهو الذي من أجله عاشت؛ فالعالم أمامها الآن قَفرٌ فارغ، تشعر بوحدتها وهجرانها الأبدي وحولها من المعجبين بها الألوف! وهكذا عميت وساقها الحزن الممزِّق لفؤادها، فألقت بنفسها في قبر من الماء … هذا يا ألبرت تاريخُ كثيرٍ من الناس. أفلا تَعُدَّه بربك مماثلًا لحالة المرض؟ لم تجد الطبيعة طريقًا آخر للنجاة وقد أنهكت قواها، وعجزت عن مناضلة الداء المتفاقم، فكانت النتيجة الموت. فليخسأ ذلك الرجل الذي يسمع هذه القصة المؤثرة، ثم يصيح: «يا للضعيفة! لمَ لم تصبر حتى يذهب الزمن بهذا التأثير؟ لقد كان من الممكن أن يتوارى ذلك اليأس تدريجًا. ثم تجد محبًّا آخر يجعلها سعيدة هانئة.» كما يقول: «يا للأبله! يموت من الحمَّى؟ لمَ لم يصبر حتى يبرد دمه ويسترد قواه، فيصبح كلُّ شيء حسنًا، وينقلب هو حيًّا؟»»

ولم يقتنع ألبرت بصحة هذه المقارنة، فاعترض اعتراضاتٍ جمة، فقال إنني ضربت مثلًا بفتاة غرة طائشة، وأنه لا يتصور كيف يقترف جريمةَ الانتحار امرؤ عاقل مهذَّب بعيد النظر، يستطيع به أن يجد وسائل عدة للسلوى والعزاء، فأجبته: «يا سيدي العزيز، مهما يكن من تهذيب الإنسان وعقله، فهو «إنسان»، وإن ما له من عقل وحزم لا يجدي نفعًا أو يفعل قليلًا متى اندفعت عواطفه تطلب مخرجًا، أو ببيان أجلى، متى أطبقت عليه حدود الطبيعة البشرية، وزيادة على ذلك، ولكن حسبنا هذا الآن، فلنا عودة إلى الموضوع.» واستأذنت مسرعًا. وا حسرتاه! لقد كان قلبي مفعمًا، وافترقنا دون أن يفهم كلٌّ منَّا أخاه، وما أقل التفاهمَ بين بني الإنسان!

١  Pharisee طائفة من الإسرائيليين تحافظ جهدها على الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤