الرسالة الثانية والستون

الوقت وقت الحصاد، والطبيعة زاهية، ولكن كل ما فيَّ معتم كالشتاء، ومتى اصفرت أوراق الأشجار، وسقطت في الخريف، فسيبيض شعر رأسي، ويتساقط ملء اليد. بصري آخذ في الضعف، وكدت أفقد سمعي وكل حواسي، إلا «الشعور»؛ فهو باقٍ متضاعف الحدَّة.

ذكرت لك في رسالة١ سابقة شابًّا قرويًّا لَقِيته صدفة في أول مجيئي إلى هنا، وقد علمت بسؤالي عنه أنه عُزل من عمله، ولم أتمكَّن من معرفة أكثر من ذلك عنه، واتفق أمس أن لقيته في الطريق المؤدي إلى القرية المجاورة، فحييته بسرور وشوق، حتى أخذ حالًا يحدثني بقصته المحزنة، محزنة حقًّا كما سيرى صديقي حين يقرؤها، ولكن لمَ أُقلِق صديقي بكل حادث يؤلمني؟ لمَ أُولمه؟ لمَ أجلب شفقته واستياءه؟ ولكن قُدِّر لي أن أجُرَّ الشقاء لكل مَن يعرفني.

وكان في بادئ الأمر متكتمًا، ولكن صراحته العادية عاودته كما لو تذكَّرني فجأة، فأخذ بملء الصدق يعترف بخطيئاته ويسرد مصائبه، وإنني لَأودُّ لو أنقل إليك كلماته بنغماتها، والكيفية التي نُطقت بها، بالانفعال الثائر، والحب الهائج الحار الذي منعه من الزاد والشراب والرقاد، والذي جعله عاجزًا عن العمل، فإذا أراد عمل شيء نسيه حالًا، وقد يأتي ضده تمامًا، وكانت عشيقته تعذله أبدًا وتلومه، ولكنه تخيَّل ذلك الصوت الذي يعنِّفه عذبًا فكان سعيدًا. وحدثني أن روحًا شيطانية قد أخذت بتلابيبه، وأغرته أخيرًا على إتيان ما كان من الواجب عليه تجنُّبه؛ ففي ذات يوم تبع، أو بالأحرى دُفع ليتبع عشيقته إلى مخدعها، ولما رفضت رجاءه واستعطافه أُغوي — بطريقة لا يعلمها — أن ينال رضاها بالقوة اللينة، وقد أقسم لي أن أغراضه كانت دائمًا شريفة، وأن الزواج كان ما أمَلَ، وأن في هذا الأمل قد انحصرت كل أمانيه في السعادة، واعترف بعد بعض التردد بما منحته له من الامتيازات، ثم خاف أن يكون قد صرَّح بالكثير، فأخذ يدافع عن سلوكها قائلًا إن حبَّه كان جائرًا ملتهبًا، وكانت حالته مؤثرة جدًّا حتى لتعجز الكلمات عن تصويرها، ولو أن خياله لا يزال ماثلًا أمام عيني، ولو رأيته لأشفقت عليه وغفرت له ذنبه، وإنني لأرى نفسي مهتمًّا بأمره، ولكن لمَ أثير رحمتك به وأنت تعرف شخصًا يشبهه في جده؟

أعدت الرسالة فرأيت أنني قد أغفلت خاتمة قصة ذلك الشاب:

وفي أثناء نضال السيدة دخل أخوها الذي طالما دفعه مقته الشديد للمحب إلى الرغبة في طرده من خدمة أخته؛ فقد كان يخاف أن تتزوج ثانية وقد تُرزق أطفالًا؛ وعلى ذلك يُحرم أولاده من وراثة ثروتها. فانتهز الأخ هذه الفرصة لطرده، وانتشر الخبر بالأمر كله، فلم يكن في وسْع السيدة قبولُه ثانية دون التزوج به أو تلطيخ سمعتها. وأخبرني الشاب المسكين أنها قد أدخلت شابًّا آخر في خدمتها، وأن ذلك قد زاد في قلق أخيها؛ فقد أُشيع أنها تريد الزواج منه، ويقول الشاب إنه لو صح هذا لأصبحت حياته حملًا عليه.

إن هذه العاطفة المسيطرة — هذا الحب — ليس ابتداعًا شعريًّا؛ فقد يُوجَد حتى بين الطبقة الأمية والوضيعة بكل نقائه الأصلي. اقرأ هذه القصة أيها الصديق باهتمامٍ خاص. لقد هدأت قليلًا منذ بدأت الكتابة إليك، وأنت سترى من رسالتي الطويلة خلافًا للعادة أنني لست عَجُولًا؛ فأنا أستحلفك أن تقرأها بعناية، وانظر أنك فيها تقرأ قصة فرتر المنحوس، بلى إنها لكذلك، وستكون أبدًا كذلك، بيد أنه يحزنني القول إن ذلك الشاب المحب يفوقني في جَلَده حتى لأستحي عند مقارنة نفسي به.

١  الرسالة العاشرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤