الفصل العاشر

أول وصول إلى أرض النار – خليج جود ساكسيس – عن الفوجيين الذين كانوا على متن السفينة – مقابلة مع الهمج – مشاهد الغابات – رأس هورن – خليج ويجوام – الظروف المعيشية البائسة للهمج – مجاعات – آكلو لحوم البشر – قتل الأم – أحاسيس دينية – عاصفة عظيمة – قناة بيجل – مضيق بونسونبي – بناء أكواخ الوجم وتوطين الفوجيين بها – تفرُّع قناة البيجل – أنهار جليدية – العودة إلى السفينة – زيارة ثانية بالسفينة إلى المستوطنة – تكافؤ الظروف بين السكان الأصليين.

***

أرض النار

figure
يورك منستر، مضيق بيرينج، ٦٦ درجة شرقًا.
«١٧ ديسمبر، ١٨٣٢»، بعد انتهاء جولتنا في باتاجونيا وجزر الفوكلاند، سأصف وصولنا لأول مرة إلى أرخبيل أرض النار. بعد الظهر بقليل انعطفنا عند رأس سان دييجو ودخلنا مضيق لومير الشهير. ظللنا بالقرب من ساحل أرض النار، لكن الحد الخارجي للأرض الوعرة الموحشة لجزيرة ستاتن كان واضحًا وسط السحب. بعد الظهيرة رسونا في خليج جود ساكسيس. أثناء دخولنا حُيينا بأسلوب يليق بسكان هذه الأرض الموحشة. كان هناك مجموعة من الهنود الفوجيين، كانت الغابة المتشابكة تخفيهم جزئيًّا، كانوا جاثمين في مكان مقفر يطل على البحر؛ وأثناء مرورنا بهم، إذا بهم يقفزون من مربضهم سريعًا ويلوحون بعباءاتهم الرثة ويصدرون صيحة عالية جهورية. تتبع الهمج السفينة وقبل حلول الظلام مباشرة، رأينا نيرانهم وسمعنا صيحاتهم العاتية مرة أخرى. كان المرفأ يتكون من رقعة رائعة من المياه محاطة جزئيًّا بجبال دائرية منخفضة الارتفاع من الأردواز الطيني مغطاة حتى حافة المياه بغابة كثيفة موحشة المنظر. نظرة خاطفة للمشهد الطبيعي كانت كافية لأدرك مدى اختلافه الشديد عن أي شيء رأيته من قبل. هبت عاصفة ريح ليلًا واجتاحتنا زوابع آتية من الجبال. كنا نمر بوقت عصيب في البحر، وربما يجدر بنا، وبالآخرين كذلك، تسمية هذه المنطقة خليج جود ساكسيس.

في الصباح بعث الكابتن مجموعة للتواصل مع الفوجيين. عندما اقتربنا بما يكفي منهم، تقدم واحد من الهنود الأصليين الأربعة الذين كانوا موجودين لاستقبالنا وبدأ في الصياح بعنف شديد رغبة منه في توجيهنا إلى المكان الذي يمكننا الرسو فيه. عندما كنا على الساحل بدت المجموعة منزعجة إلى حد ما، لكنهم استمروا في الحديث وإصدار إيماءات بسرعة كبيرة. كان هذا بلا استثناء أكثر المشاهد التي رأيتها إثارة للاهتمام والفضول في حياتي؛ فلم أستطع أن أصدق مدى ضخامة الفجوة بين الإنسان الهمجي والمتمدن، فهي أكبر من مثيلتها بين الحيوان البري والمستأنس؛ بالنظر إلى أن الإنسان لديه قدرة أكبر على التطور. كان المتحدث الرئيسي بلسان المجموعة عجوزًا، وكان يبدو أنه كبير العائلة، بينما كان الثلاثة الآخرون شبانًا أقوياء يصل طول الواحد منهم إلى ست أقدام. أبعد الأطفال والنساء بعيدًا. كان هؤلاء الفوجيون عرقًا مختلفًا تمامًا عن أولئك البؤساء التعساء الواهنين الذين يسكنون بعيدًا في الغرب، ويبدون على صلة قرابة وثيقة مع الباتاجونيين الذائعي الصيت الساكني مضيق ماجلان. كان ملبسهم الوحيد يتكون من عباءة مصنوعة من جلد الجوناق المغطى بالصوف وكانوا يضعون هذا الرداء فوق أكتافهم فقط تاركين باقي أجسادهم مكشوفة بقدر ما هي مغطاة. وكان لون بشرتهم أحمرَ نحاسيًّا داكنًا.

كان العجوز يرتدي حول رأسه عصابة من الريش الأبيض كانت تخفي جزءًا من شعره الأسود الخشن المتشابك. كان على وجهه خطان عريضان مستعرضان، أحدهما بلون أحمر زاهٍ ويمتد من الأذن إلى الأذن ويغطي الشفة العليا، بينما كان الثاني باللون الأبيض الطبشوري ويمتد فوق الأول ويوازيه مما جعل جفنيه ملونين. كان الرجلان الآخران مزينين بخطوط من مسحوق أسود مصنوع من الفحم. كان أفراد المجموعة معًا يشبهون الشياطين التي تظهر على المسرح في مسرحيات مثل مسرحية «دير فريشوتز» (أو الرامي).

كان سلوكهم خنوعًا ذليلًا بينما كانت تعلو محياهم سيماء الريبة والدهشة والإجفال. بعد أن أهديناهم بعض القماش القرمزي اللون الذي سرعان ما ربطوه حول رقابهم، أصبحنا أصدقاء جيدين. ظهر هذا من خلال تربيت الزعيم على صدورنا وإصداره صوتًا يشبه الضحك المكتوم مثلما يفعل الناس عندما يطعمون الدجاج. مشيت بصحبة العجوز وكرر تعبيره عن الصداقة عدة مرات واختتمه بثلاث لطمات قوية على صدري وظهري في نفس الوقت. ثم عرَّى صدره من أجل أن أرد له التحية وبدا مسرورًا للغاية عندما فعلت. طبقًا لمفاهيمنا، فإن لغة هؤلاء الناس بالكاد تستحق أن توصف بأنها ملفوظة. فقد شبهها الكابتن كوك برجل يتنحنح، لكن بالتأكيد لم يقم أوروبي من قبل بالتنحنح بهذا الكم الضخم من الأصوات الخشنة الحلقية التي تشبه الطقطقة.

إنهم مَهَرةٌ في المحاكاة؛ فكلما كنا نسعل أو نتثاءب أو يصدر منا أي حركة غريبة، كانوا يقلدوننا على الفور. بدأ بعض أفراد مجموعتنا في النظر شَزْرًا وإمالة رءوسهم، لكن أحد شباب الفوجيين (وكان وجهه مدهونًا بالأسود بالكامل عدا شريط أبيض يمتد عبر عينيه) نجح في ليِّ قسمات وجهه على نحو أبشع بكثير. كانوا قادرين على تكرار كل كلمة في أي جملة نوجهها إليهم بدقة شديدة وكانوا يتذكرون هذه الكلمات لبعض الوقت، لكننا نحن الأوروبيين جميعًا نعرف مدى صعوبة التمييز بين أصوات أي لغة أجنبية. من منا، على سبيل المثال، يمكنه إدراك ما يقوله هندي في جملة تزيد عن ثلاث كلمات؟ يبدو أن كل الهمج يملكون، لدرجة استثنائية، هذه القدرة على المحاكاة. وقد أخبرني أحدهم، بالكلمات نفسها تقريبًا، بوجود نفس هذه العادة بين السود، والأستراليون كذلك مشهورون بقدرتهم على التقليد ووصف مشية أي شخص حتى يمكن التعرف عليه. كيف يمكن تفسير امتلاك هذه القدرة؟ هل هي نتيجة لعادات الملاحظة الأكثر ممارسة والحواس الأكثر حدة التي تشيع بين كل البشر ممن يعيشون في حالة من الهمجية مقارنة بمن اعتنقوا المدنية منذ وقت طويل؟

عندما بدأت مجموعتنا في الغناء، ظننت أن الفوجيين سيخرون أرضًا من الدهشة. وبالقدر نفسه من الدهشة راحوا يشاهدون رقصنا، لكن أحد الهنود الشباب لم يكن لديه مانع من ممارسة الرقص قليلًا عندما دُعي لهذا. ورغم عدم اعتيادهم على الأوروبيين كثيرًا كما كان واضحًا، كانوا يعرفون أسلحتنا جيدًا ويخافونها ولا يوجد شيء من شأنه أن يغريهم بالإمساك بمسدس بين أيديهم. توسلوا إلينا من أجل إعطائهم سكاكين، وكانوا يطلبونها باللفظ الإسباني cuchilla. كما كانوا يشرحون لنا حاجتهم للسكين بالتظاهر بوجود قطعة من الدهن في أفواههم، ثم يتظاهرون بتقطيعها بدلًا من تمزيقها.

لم أكن قد لاحظت بعدُ الفوجيين الذين كانوا معنا على متن سفينتنا؛ فخلال الرحلة السابقة لسفينتي أدفنتشر والبيجل بين عامي ١٨٢٦ و١٨٣٠، أسر الكابتن فيتزروي مجموعة من السكان الأصليين كرهائن بسبب ضياع قارب كان قد سُرِق؛ مما عرَّض مجموعة تقوم بالمسح لخطر شديد، وكان قد اصطحب بعض هؤلاء السكان الأصليين، إلى جانب طفل اشتراه مقابل زر من اللؤلؤ، معه إلى إنجلترا، عازمًا على تعليمهم وتثقيفهم في الدين على نفقته الخاصة. وكان توطين هؤلاء السكان الأصليين في بلادهم أحد الدوافع الأساسية للكابتن فيتزروي للقيام برحلتنا الحالية، وقبل أن تقرر الأميرالية البحرية القيام بالرحلة كان فيتزروي قد تكرم باستئجار سفينة وعاد بهم بنفسه. كان هناك مبشِّر يصاحب السكان الأصليين يُدعى آر. ماثيوز والذي نشر فيتزروي عنه وعن السكان الأصليين تقريرًا مفصلًا وممتازًا. اصطُحِب في البداية رجلان، مات أحدهما في إنجلترا بسبب الجدري، وصبي وفتاة صغيرة، والآن لدينا على متن السفينة، يورك مينستر وبتون (الذي يعبر اسمه عما دُفِع لشرائه؛ إذ يعني زرًّا من اللؤلؤ) وفوجيا باسكت. كان يورك مينستر رجلًا بالغًا قويًّا قصيرًا عريض الجسم وكان متحفظًا كتومًا متجهمًا، وعندما يُستَثار ينفعل بشدة؛ كانت عواطفه قوية جدًّا تجاه بعض الأصدقاء على متن السفينة، كما كان فكره جيدًا. أما جيمي بتون فكان مفضلًا لدى الجميع، لكنه كان متقد العاطفة أيضًا وكانت سيماء وجهه تظهر طبعه اللطيف بمجرد النظر إليه. كان مرحًا ويضحك في أغلب الأوقات وكان متعاطفًا على نحو لافت للنظر مع أي شخص يشعر بأي ألم. عندما تكون المياه عنيفة، كنتُ غالبًا ما أصاب بدوار البحر قليلًا؛ وقد اعتاد أن يأتي إليَّ ويقول بصوت حزين: «أيها المسكين!» لكن فكرة أن يصاب رجل بدوار البحر كانت تبدو له سخيفة بعد حياته التي أمضاها في البحر، وكان يضطر عادة إلى أن يشيح بوجهه جانبًا حتى يخفي ابتسامة أو ضحكة ثم يعيد جملته مرة أخرى: «أيها المسكين!» كانت لديه نزعة وطنية وكان يحب الإشادة بقبيلته وبلده الذي قال عنه عن حق إنه يمتلك «الكثير من الأشجار» وكان يذم القبائل الأخرى، وأعلن بحزم وجرأة أن الشيطان لا وجود له في أرضه. كان جيمي قصيرًا وعريضًا وسمينًا، لكنه كان مختالًا بمظهره الشخصي واعتاد ارتداء القفازات دومًا وكان شعره مقصوصًا بعناية ويبتئس إذا اتسخ حذاؤه الملمع بعناية. كان مغرمًا بالنظر لنفسه بإعجاب في المرآة، وكان هناك صبي هندي صغير من ريو نيجرو كان معنا على متن السفينة لشهور سرعان ما أدرك هذا واعتاد السخرية منه؛ ولم يكن جيمي، الذي كان يشعر دومًا بالغيرة نوعًا ما من الاهتمام الموجه لهذا الصبي الصغير، مسرورًا بهذا مطلقًا واعتاد أن يقول وهو يدير رأسه على نحو يوحي بالازدراء: «هذا عبث زائد عن الحد.» ولكن كان الأمر المدهش الذي يبدو لي، عندما أفكر في كل صفاته العديدة الطيبة، كيف أنه كان من العرق نفسه، وبلا شك يشترك في نفس الطباع مع الهمج البؤساء المُنحطِّين الذين قابلناهم عندما جئنا هنا أول مرة. وأخيرًا نأتي إلى فوجيا باسكيت، وهي صبية يافعة لطيفة خجولة متحفظة، يعلو وجهها تعبير لطيف نوعًا ما يتحول إلى التجهم في بعض الأحيان، وكانت سريعة للغاية في تعلُّم أي شيء وخاصة اللغات. وقد أظهرت هذا في حفظها بعض كلمات البرتغالية والإسبانية عندما تُرِكت على الساحل لفترة قصيرة في ريو دي جانيرو ومونتفيديو، وكذلك في معرفتها بالإنجليزية. كان يورك مينستر غيورًا جدًّا من أي انتباه يُكرَّس لها؛ إذ كان من الواضح أنه عازم على الزواج منها بمجرد أن يستقرَّا على الشاطئ.

رغم أن ثلاثتهم كانوا قادرين على فهم قدر لا بأس به من الإنجليزية والتحدث بها أيضًا، كان من الصعوبة بمكان استخلاص الكثير من المعلومات منهم فيما يتعلق بعادات بني وطنهم، وهو ما يرجع جزئيًّا للصعوبة الواضحة لديهم في فهم أبسط بديل. كل من اعتاد التعامل مع الأطفال الصغار السن يعرف جيدًا كيف أنه من النادر أن يتمكن من الحصول على إجابة حتى على سؤال بسيط عن شيء ما إذا كان أبيض أم أسود؛ فيبدو أن فكرة الأبيض والأسود تملأ عقولهم بالتناوب. وهكذا كان الحال مع هؤلاء الفوجيين؛ ومِن ثَمَّ كان من المستحيل عادة، عن طريق الاستنطاق، اكتشاف إذا ما كان المرء قد فهم أي شيء أكدوا عليه على نحو صحيح. كان نظرهم حادًّا على نحو لافت للنظر؛ وكان من المعروف أن البحارة، عن طريق الممارسة الطويلة، يمكنهم إدراك جسم بعيد على نحو أفضل بكثير ممن يعيشون على البر، لكن يورك وجيمي كانا يتفوقان بكثير على أي بحار على متن السفينة؛ ففي العديد من المرات كانا يعلنان عن ماهية جسم بعيد، ورغم شك الجميع، كان يتضح صحة تكهناتهم عند التأكد بواسطة المنظار المقرب. وقد كانا مدركَيْنِ تمامًا لهذه القدرة، حتى إن جيمي عند حدوث أي نزاعٍ تافهٍ مع ضابط نوبة المراقبة، كان يقول: «إن رأيتُ سفينة، فلن أبلغ بها.»

كان من المثير مشاهدة سلوك الهمج تجاه جيمي بوتون عندما رسونا؛ فقد أدركوا على الفور الفارق بينهم وبينه ودار بينهم أحاديث كثيرة في هذا الشأن. ووجَّه العجوز خطبة مطولة إلى جيمي كانت فيما يبدو لدعوته إلى البقاء معهم، لكن جيمي لم يفهم من لغتهم إلا النَّزْر اليسير، وعلاوة على ذلك، كان يشعر بالخزي التام من بني جلدته. عندما هبط يورك مينستر بعد ذلك إلى الشاطئ، تفحصوه بنفس الأسلوب وقالوا له إنه يجب أن يحلق لحيته، رغم أنه لم يكن يمتلك ما يتجاوز العشرين شُعيرة على وجهه بينما كانوا جميعًا لديهم لحًى طويلة تغطي وجوههم. فحصوا لون بشرته وقارنوها ببشرتهم، وأبدوا أقصى دهشة وإعجاب من بياض ذراع أحدنا بنفس الطريقة التي نظرت بها إلى إنسان الغاب في حدائق الحيوان. كنا نعتقد أنهم أدركوا خطأً أن اثنين أو ثلاثة ضباط من السفينة هم مرافقونا من النساء رغم لحاهم الكثيفة، بسبب أنهم كانوا أقصر وأكثر بياضًا. كان الأكثر طولًا بين الفوجيين سعيدًا جدًّا على نحو واضح بملاحظتنا لطوله. فعند وقوفه بجانب أطول شخص من طاقم السفينة، بذل أقصى جهده لكي يقف فوق أرض أعلى على أطراف أصابعه. فتح فمه ليظهر أسنانه وأدار وجهه لإظهارها من الجانب، وفعل كل هذا بقدر كبير من الخفة والرشاقة حتى إن بإمكاني القول إنه كان يظن نفسه أكثر الرجال وسامة في أنحاء أرخبيل أرض النار. بعد زوال شعورنا الأولي بالدهشة الشديدة، لم يكن هناك ما هو أغرب من مزيج الدهشة والمحاكاة الذي كان يظهره هؤلاء الهمج في كل لحظة.

في اليوم التالي حاولت شق طريقي إلى داخل أرض الأرخبيل. يعود وصفها بأرض النار إلى أنها أرضٌ وعرةٌ مغمورةٌ جزئيًّا في البحر؛ حتى إن الخُلْجان والألسنة البحرية تحتل أماكن الوديان. وفيما عدا الجوانب المكشوفة على الساحل الغربي، كانت جوانب الجبال مغطاة من حافة المياه إلى أعلى بغابة كبيرة. يصل ارتفاع الأشجار إلى ما بين ١٠٠٠ و١٥٠٠ قدم ويليها نطاق من الخُث به نباتات ألبيَّة بالغة الصغر، يتبعه مجددًا خط من الثلج الدائم ينحدر في مضيق ماجلان إلى مسافة بين ٣٠٠٠ و٤٠٠٠ قدم، بحسب الكابتن كينج. من النادر جدًّا العثور على فدان من الأرض المستوية في أي جزء من هذه المنطقة. أتذكر وجود قطعة أرض مسطحة واحدة فقط بالقرب من بورت فامين، وأخرى ذات امتداد أكبر نوعًا ما بالقرب من جوري رود. في كلا المكانين، وفي كل مكان آخر، كان السطح مغطًّى بطبقةٍ سميكةٍ من الخُث الطري. وحتى داخل الغابة، كانت الأرض مختفية تحت كتلة من مادة نباتية تتحلل ببطء وتصل لمستوى القدم بسبب انغمارها بالمياه.

اتبعت مسار مجرى مياه بين الجبال؛ إذ وجدت أن من المستحيل تقريبًا الاستمرار في شق طريقي عبر الغابة. في البداية، وبسبب الشلالات وعدد الأشجار الميتة، كنت بالكاد أتقدم، لكن سرعان ما أصبح قاع النهر أكثر انفراجًا قليلًا بسبب الفيضانات التي كسحت جوانب المجرى. استمرَرْتُ في التقدم ببطء لمدة ساعة عبر الضفاف الصخرية المتكسرة وكوفئت بسخاء بفخامة وجمال المشهد الطبيعي. كان العمق المخيف للوادي الضيق المنحدر متسقًا تمامًا مع العلامات الكونية على عنف الطبيعة. فعلى كل جانب كان هناك كتل غير منتظمة من الصخور والأشجار الممزقة؛ كما كان هناك أشجار أخرى ما زالت منتصبة رغم تحللها حتى لبها واستعدادها للانهيار. ذكرتني هذه الكتلة المتداخلة من الشجر المزدهر والميت بالغابات الاستوائية لكن مع وجود فارق؛ فقد كانت هذه يحفها صمت مميت؛ كانت الروح السائدة هي روح الموت وليس الحياة. تتبعت مجرى المياه حتى وصلتُ لمكان حيث أدى انزلاق كبير لإخلاء مساحة مستوية أسفل جانب الجبل. من هذا الطريق صعدت لارتفاع كبير مما منحني رؤية جيدة للغابات المحيطة. كانت الأشجار جميعها تنتمي إلى نوع واحد وهو نوع من أشجار الزان Fagus betuloides، بينما كان عدد الأنواع الأخرى من أشجار الزان وأشجار لحاء الشتاء ضئيلًا للغاية. تحتفظ شجرة الزان هذه بأوراقها على مدى العام، لكن أوراقها لها لون غريب من الأخضر يميل للبني به مسحة من اللون الأصفر؛ لذا كان المشهد كله ملونًا بلون كئيب ممل ولا تبعث الشمس له بأشعتها لتدبَّ فيه الحياة في أغلب الأوقات.

•••

«٢٠ ديسمبر»، كان أحد جوانب المرفأ عبارة عن تل يصل ارتفاعه إلى ١٥٠٠ قدم تقريبًا وأسماه الكابتن فيتزروي على اسم السير جيه بانكس تخليدًا لذكرى الرحلة المشئومة التي مات فيها رجلان من مجموعته وكاد د. سولاندر يلقى المصير نفسه. حدثت العاصفة الثلجية التي كانت السبب في مأساتهم في منتصف يناير الموافق لشهر يوليو عندنا في مدينة دورام! كنت في أشد اللهفة للوصول إلى قمة هذا الجبل لجمع نباتات ألبيَّة؛ لأن الزهور من أي نوع كانت قليلة العدد في الأجزاء السفلية من الجبل. اتبعنا نفس المجرى المائي كما في اليوم السابق حتى تقلص تمامًا واضطررنا للتقدم ببطء على غير هدًى بين الأشجار. كانت هذه الأشجار منخفضة الارتفاع وسميكة ومقوسة من أثر الارتفاع والرياح العنيفة. بعد فترة طويلة، وصلنا إلى ما بدا من بعيد كسجادة من العشب الأخضر الناعم، لكن اتضح، وهو ما أثار ضيقنا، أنها كتلة مدمجة من أشجار الزان الصغيرة بارتفاع أربع أقدام أو خمس. كانت الأشجار معًا سميكة كصندوق في حافة حديقة واضطررنا لتحمل مشقة السير فوق سطح مستوٍ لكنه خادع وغير متوقع. وبعد مزيد من المشقة، وصلنا إلى الخُث ثم إلى صخور الأردواز العارية.
figure
رأس هورن.

كان هناك نتوء جبلي يربط هذا التل بآخر أكثر ارتفاعًا يبعد بضعة أميال؛ ولذلك كانت ترقد فوقه رقع من الثلج. ومع مضي الوقت ببطء، عزمت على السير إلى هناك وجمع النباتات عبر الطريق. كان الأمر سيكون شاقًّا للغاية لولا وجود طريق مستقيم ومعروف صنعته حيوانات الجوناق؛ فتلك الحيوانات، مثل الأغنام، دائمًا ما تتبع الخط نفسه. عندما بلغنا التل، اكتشفنا أنه الأعلى في المنطقة المجاورة مباشرة وكانت المياه تتدفق إلى البحر في اتجاهات متعارضة. اتسع مجال رؤيتنا للمنطقة المحيطة؛ فإلى الشمال تمتد أرض مستنقعية، لكن جنوبًا كان لدينا مشهد شديد العظمة يليق بأرض النار. كان ثمة قدرٌ من الروعة الغامضة في الجبال المتعاقبة حيث الوديان العميقة المتقاطعة مغطاة جميعًا بغابة واحدة سميكة لا يخترقها النور. كذلك كان الجو يبدو مظلمًا هنا أكثر من أي مكان آخر، في ظل هذا المناخ، بسبب هبوب العواصف الواحدة تلو الأخرى مع المطر والبَرَد والمطر المتجمد. في مضيق ماجلان، وبالنظر إلى الجنوب من بورت فامين، كانت الأخاديد البعيدة بين الجبال تبدو كما لو كانت تمتد إلى ما وراء حدود هذا العالم بسبب الظلام الذي يغطيها.

figure
رأس هورن (مشهد آخر).

•••

«٢١ ديسمبر»، استأنفت سفينة البيجل رحلتها، وفي اليوم التالي، وبينما كان هناك تيار من النسيم الشرقي المعتدل يهب في صالحنا على غير المعتاد، اقتربنا من جزر بارنفيلتز، وتجاوزنا رأس ديسيت بقممها الصخرية سريعًا، وفي حوالي الثالثة انعطفنا من عند رأس هورن الذي أبلته العوامل الجوية. كان المساء هادئًا وصحوًا واستمتعنا بمشهد رائع للجزر المحيطة. مع ذلك، فإن رأس هورن لم يشأ إلا أن يطالبنا بضريبة دخوله بأن أرسل عاصفة ريح ضربتنا مباشرة قبل حلول الليل. ظللنا في عرض البحر بعيدًا عن الساحل وفي اليوم التالي وصلنا إلى اليابسة مجددًا عندما رأينا من الجزء المواجه للريح من مقدمة السفينة ذلك النتوء الشهير في الشكل الملائم له؛ حيث كان يختفي وراء ستار من الضباب وكان حده الخارجي المعتم محاطًا بعاصفة من الرياح والمياه. كانت هناك سحب سوداء كبيرة تموج عبر السماء واجتاحتنا عواصف ثلجية من المطر والبَرَد بعنف شديد؛ حتى إن الكابتن قرر الدخول سريعًا إلى خليج ويجوام، وهو عبارة عن مرفأ أو شرم صغير محمي لا يبعد كثيرًا عن رأس هورن ورسونا فيه عشية عيد الميلاد في المياه الهادئة. كان الشيء الوحيد الذي يذكرنا بين الحين والآخر بالعاصفة في الخارج هو هبَّة تأتي من بين الجبال كانت تجعل السفينة تمور في مرساها.

•••

«٢٥ ديسمبر»، بالقرب من الخليج كان يوجد تل مدبب يسمى قمة كيتر يرتفع إلى ١٧٠٠ قدم. كانت الجزر المحيطة كلها تتكون من كتل مخروطية من الحجر الأخضر ترتبط في بعض الأحيان بتلال أقل انتظامًا في الشكل من صخور أردواز مجففة ومتغيرة. ربما يمكن اعتبار هذا الجزء من أرض النار طرف السلسلة المغمورة من الجبال التي أشرنا إليها بالفعل. يستمد الخليج الصغير اسمه «ويجوام» من بعض مساكن الهنود الفوجيين، لكن كل خليج في المنطقة المجاورة يمكن تسميته هكذا بنفس القدر من الملاءمة. يضطر السكان الذين يعيشون على نحو أساسي على تناول المحار، دائمًا لتغيير محل سكنهم، لكنهم يعودون على فترات لنفس الأماكن كما يتضح من أكوام المحار القديم التي لا بد أن وزنها يصل غالبًا لعدة أطنان. يمكن تمييز هذه الأكوام من مسافة بعيدة من اللون الأخضر الزاهي لبعض النباتات التي تنمو فوقها دائمًا، ونذكر منها الكرفس البري والملعقية أو حشيشة الملاعق، وهما نوعان مفيدان للغاية، ولم يكتشف السكان الأصليون للبلاد استخداماتهما.

تشبه أكواخ الويجوام الخاصة بالهنود الفوجيين في حجمها وأبعادها كومة قش مخروطية الشكل، وتتكون فقط من بضعة فروع مكسورة مغروزة في الأرض ومغطاة دون أي إتقان من أحد الجانبين ببضع حزم من الحشائش والبوص. لا يستغرق بناء الكوخ بأكمله ساعة ويستخدم فقط لبضعة أيام. في جوري رودز، رأيت مكانًا كان ينام فيه أحد هؤلاء الرجال العراة لا يوفر مطلقًا ستارًا أكثر مما يوفره جحر أرنب بري. كان من الواضح أن الرجل يعيش بمفرده وقال يورك مينستر عنه إنه «رجل سيئ جدًّا» وإنه من المحتمل أن يكون قد سرق شيئًا، لكن في الساحل الغربي تكون أكواخ الويجوام أفضل نوعًا ما؛ لأنها مغطاة بجلود الفُقْمة. علقنا هنا لعدة أيام بسبب الطقس السيئ. وكان المناخ بائسًا حقًّا؛ فقد انقضى الانقلاب الصيفي ومع ذلك ظل الثلج يتساقط كل يوم فوق التلال بينما كان المطر يتساقط في الوديان مصحوبًا بطبقات جليدية رقيقة. كان مقياس الحرارة عادة ما يقف عند درجة حرارة ٤٥، لكن في الليل كان يهبط إلى ٣٨ أو ٤٠ درجة. بسبب الحالة الرطبة والعاصفة للجو، التي لا يتخللها أي ضوء للشمس، كان المرء ليظن أن الجو أسوأ مما هو عليه في الواقع.

أثناء هبوطنا في أحد الأيام على الساحل بالقرب من جزيرة وولاستون، رسونا بجانب زورق كانو به ستة فوجيين وكانوا أكثر المخلوقات التي رأيتها على الإطلاق تعاسة وبؤسًا. كما رأينا، كان السكان الأصليون على الساحل الشرقي يملكون عباءات من جلد الجوناق بينما على الساحل الغربي يملكون جلد الفُقْمة. وفيما بين هذه القبائل المركزية كان الرجال عادة ما يملكون جلد القضاعة البحرية أو قطعة صغيرة بحجم منديل الجيب تكفي بالكاد لتغطية ظهورهم وتمتد لأسفل حتى عوراتهم. كانت مربوطة على امتداد الصدر بواسطة خيوط، وحسب اتجاه هبوب الرياح تنتقل من جانب إلى آخر، لكن الفوجيين راكبي الكانو كانوا عراة تمامًا، حتى المرأة التي كانت معهم. كانت تمطر بشدة وكانت المياه العذبة ورذاذها يتساقطان فوق جسدها. في مرفأ آخر ليس ببعيد، كان ثمة امرأة ترضع طفلًا حديث الولادة جاءت في أحد الأيام لتبقى بجانب السفينة وظلت هناك بدافع الفضول لا أكثر بينما تساقط الجليد الرقيق فوق صدرها العاري وجلد رضيعها العاري كذلك! كان هؤلاء البؤساء المساكين ينشئون مصابين بالوهن وكانت وجوههم البشعة ملطخةً بدهان أبيض، وجلودهم قذرة وزيتية الملمس، وشعورهم متشابكة، وأصواتهم نشازًا، وإيماءاتهم عنيفة. بالنظر لمثل هؤلاء الناس، من الصعب تصديق أنهم مخلوقات مشابهة لنا ويسكنون نفس العالم. من الشائع تخمين ما يمكن أن يمثل متعة في الحياة بالنسبة إلى الحيوانات الدنيا، لكن لعل الأكثر منطقية طرح السؤال نفسه بالنسبة إلى هؤلاء الهمج! ليلًا، كان خمسة أو ستة بشر عرايا، يكاد لا يحميهم أي شيء من الرياح والمطر في هذا المناخ العاصف، ينامون فوق الأرض المبتلة وقد التفوا حول أنفسهم كالحيوانات. وكلما انخفض مستوى المياه، شتاءً أو صيفًا، نهارًا أو ليلًا، كان عليهم الانتشار لالتقاط المحار من بين الصخور، بينما كانت النساء يغطسْنَ لجمع قنافذ البحر أو يجلسْنَ في صبر في زوارق الكانو حيث يدلين خيطًا رفيعًا مزودًا بطعم في المياه بدون أي خطاف ويخرجْنَ الأسماك الصغيرة. وإذا قُتِلت فُقْمة أو اكتشفت جثة حوت متحللة طافية، يكون ذلك بمثابة وليمة؛ ويؤكل بجانب هذا الطعام الحقير بعض الفطريات والثمار التي لا طعم لها.

غالبًا ما يعاني هؤلاء من مجاعات؛ فقد سمعت السيد لو، وهو خبير في صيد الفُقْمة وعلى معرفة وثيقة بالسكان الأصليين لهذه البلاد، وهو يسرد حكاية غريبة ومثيرة للفضول عن حال مجموعة من السكان الأصليين تتكون من ١٥٠ فردًا يعيشون على الساحل الغربي، حيث كانوا في غاية النحول وفي عوز شديد. حال تتابع العواصف دون حصول النساء على المحار من الصخور، ولم يستطعن الخروج في زوارق الكانو لصيد الفُقْمة. في صباح أحد الأيام انطلقت مجموعة صغيرة من الرجال، وأوضح له الهنود الآخرون أنهم ذاهبون في رحلة لأربعة أيام للبحث عن الطعام؛ وعند عودتهم خرج لو للقائهم ووجدهم مرهقين تمامًا وكان كل رجل يحمل قطعة مربعة كبيرة من دهن الحوت المتعفن بها فتحة في الوسط يمرر رأسه من خلالها مثلما يخرج الجاوتشو رءوسهم عبر معاطفهم أو عباءاتهم. بمجرد إدخال الدهن إلى أحد أكواخ الويجوام، قام رجل عجوز بتقطيعه إلى شرائح رفيعة وتمتم عليها ثم قام بشيها لدقيقة ووزعها على المجموعة التي كانت تتضور جوعًا والذين التزموا صمتًا تامًّا أثناء قيامه بهذا. يعتقد السيد لو أنه كلما انجرف حوت على الساحل، قام السكان الأصليون بدفن أجزاء كبيرة منه في الرمال كمورد للغذاء في أوقات المجاعات، وهذا ما أدى إلى عثور صبي من السكان الأصليين، كان قد اصطحبه على متن السفينة، ذات مرة على مخزون مدفون. تتحول القبائل المختلفة لمجموعة من أَكَلَة لحوم البشر وقت الحرب. فعندما يعتصرهم الجوع في الشتاء، يقتلون ويلتهمون نساءهم العجائز قبل الكلاب، وهذا أمر حقيقي لا شك فيه مثلما يتبين من الأدلة المتزامنة، والمستقلة تمامًا، المتمثلة في الصبي الذي اصطحبه السيد لو، وجيمي بتون؛ وعندما سأل السيد لو الصبي لماذا يقومون بهذا؟ قال له: «الكلاب تصيد القضاعات، أما النسوة العجائز فلا.» وصف هذا الصبي الطريقة التي يُقتَلْنَ بها؛ حيث يُمسَك بهن فوق الدخان حتى يختنقْنَ، وقلد صرخاتهن كنوعٍ من المزاح ووصف الأجزاء التي تعتبر الأفضل في أكلها من أجسادهن. ورغم بشاعة هذه الميتة بأيدي الأهل والأصدقاء، فإن مخاوف النساء العجائز عندما يعتصر الجوع أقوامهن أكثر إيلامًا عند التفكير فيها؛ فقد أخبرنا أنهن غالبًا ما يهربْنَ إلى الجبال لكن الرجال يطاردونهن ويعودون بهن لذبحهن عند مواقدهن!

لم يتسنَّ للكابتن فيتزروي قط التأكد من امتلاك الفوجيين لأي اعتقاد واضح في حياة أخرى. فأحيانًا ما يدفنون موتاهم في الكهوف وأحيانًا في الغابات الجبلية؛ ولا نعرف أي طقوس جنائزية يقيمونها. لم يشأ جيمي بتون أن يأكل طيور اليابسة؛ لأنها تأكل «موتى البشر»؛ ولم يكن لديهم حتى الرغبة في ذكر أصدقائهم الراحلين. لا يوجد لدينا أي سبب للاعتقاد بأنهم يؤدون أي نوع من العبادات الدينية، لكن ربما يكون ما تمتم به الرجل العجوز قبل توزيعه دهن الحوت المتعفن على الجوعى من مجموعته له طبيعة دينية. كان لكل عائلة أو قبيلة ساحر أو طبيب مشعوذ لم يتسنَّ لنا التأكد بوضوح من وظيفته. كان جيمي يؤمن بالأحلام لكنه لم يكن يؤمن كما قلت بوجود الشيطان؛ ولا أظن أن الفوجيين الذين كانوا بصحبتنا أكثر إيمانًا بالخرافات بكثير من بعض البحَّارة؛ فقد كان هناك ضابط عجوز مسئول عن الإمدادات يؤمن بشدة بأن العواصف الشديدة المتتالية التي واجهناها في رأس هورن كان سببها وجود الهنود على متن السفينة. كان أقرب نهج إلى شعور ديني سمعت به هو ما أظهره يورك مينستر عندما اصطاد السيد باينو بعض البط الصغير للغاية كعينات؛ إذ قال بأسلوب مهيب ووقور للغاية: «أوه سيد باينو، سيهب الكثير من المطر والثلج.» كان من الواضح أن هذا عقاب بسبب إهدار الطعام. كذلك حكى بأسلوب انفعالي أن شقيقه في أحد الأيام أثناء عودته لإحضار بعض الطيور الميتة التي كان قد تركها على الشاطئ لاحظ أن بعض الريش طيرته الرياح. فحدث شقيقه (قلد يورك مينستر أسلوبه) نفسه قائلًا: «ما هذا؟» ثم تقدم زاحفًا وتلصص من فوق الجُرْف ورأى «رجلًا همجيًّا» يلتقط طيوره؛ فاقترب قليلًا ببطء ثم رماه بحجر ضخم وقتله. قال يورك إنه بعد الحادث ثارت العواصف وهطل الكثير من المطر والثلج لوقت طويل. كان يبدو، حسبما فهمنا، أنه يعتبر الطقس نفسه هو أداة الانتقام؛ ومن الواضح في هذه الحالة، كم أنه طبيعي في عرق لم يحقق الكثير من التقدم الثقافي أن يضفي على الطقس صفات البشرية. طالما بدت ماهية «الرجال السيئين الوحشيين» غامضة أشد الغموض بالنسبة إليَّ، ومما قاله يورك عندما عثر على المكان الذي يشبه جحر الأرنب، حيث كان ينام رجل بمفرده الليلة الماضية، كان يجب أن أظن أنهم كانوا لصوصًا أُبعِدوا عن قبائلهم، لكن أحاديث أخرى غامضة جعلتني أشكك في هذا؛ حتى إنني تخيلت في بعض الأحيان أن التفسير الأكثر احتمالًا هو أنهم كانوا مصابين بالجنون.

ليس لدى القبائل المختلفة رؤساء أو حكومات، لكن كل قبيلة محاطة بقبائل أخرى عدائية تتحدث بلهجات مختلفة ولا يفصل بعضها عن بعض سوى حد صحراوي أو أرض محايدة، وكان السبب في الحروب بينهم فيما يبدو هو موارد المعيشة؛ فبلادهم عبارة عن كتلة متكسرة من الصخور الجرداء والتلال المرتفعة والغابات العديمة الجدوى، والتي تظهر عبر الضباب والعواصف التي لا تتوقف. وكانت الأرض الصالحة للسكنى تتقلص لتصبح الأحجار الموجودة على الشاطئ، وبحثًا عن الطعام يضطرون للتجول بلا توقف من مكان إلى مكان، وكان الساحل شديد الانحدار؛ حتى إنهم لا يستطيعون التحرك إلا في زوارق الكانو البائسة. وهم لا يعرفون معنى امتلاك بيت، ولا معنى المودة الأسرية؛ فالزوج بالنسبة إلى زوجته كالسيد القاسي لعبد كادح. هل من فعل أفظع مما رآه بايرون على الساحل الغربي حين رأى امرأة تعسة ترفع طفلها المُحتضَر من الأرض وهو ينزف بعد أن قذفه زوجها بلا رحمة على الصخور لإسقاطه سلة من قنافذ البحر! ألهذا الحد لا يمكن إعمال القوى الأسمى للعقل؛ ماذا بقي للخيال لتصوره، وماذا بقي للمنطق لمقارنته، وماذا بقي للتمييز للحكم بناء عليه؟ إن التقاط محارة من الصخور لا يتطلب حتى المكر، الذي هو أدنى قدرات العقل البشري. ربما يمكن مقارنة مهاراتهم في بعض الأمور بغرائز الحيوان؛ إذ إنها لا تتطور بالخبرة والتجربة؛ حتى زورق الكانو، أكثر ابتكاراتهم براعة، رغم بدائيته، ظل كما هو على مدى المائتين والخمسين سنة الماضية كما أخبرنا دريك.

أثناء مشاهدة هؤلاء الهمج، ثمة سؤال يطرح نفسه: من أين أتوا؟ ما الذي دفع، أو ما هو التغيير الذي أجبر قبيلة من البشر لترك المناطق الصالحة للعيش في الشمال والنزوح جنوبًا نحو الجبال، أو العمود الفقري لأمريكا، وابتكار وبناء زوارق الكانو التي لا تستخدمها قبائل تشيلي وبيرو والبرازيل، ثم دخول أحد أكثر البلاد وعورة داخل حدود الأرض؟ ورغم أن مثل هذه الأفكار لا بد أن تسيطر في البداية على العقل، ربما نشعر يقينًا أنها خاطئة بعض الشيء. فلا يوجد سببٌ للاعتقاد بأن أعداد الفوجيين تتناقص؛ لذا يجب أن نفترض أنهم يتمتعون بقدرٍ كافٍ من السعادة، أيًّا كان نوعها، يجعل الحياة تستحق العيش؛ فقد هيأت الطبيعة الفوجيين للتكيف مع المناخ ومنتجات هذه المنطقة البائسة بجعل العادة أمرًا كلي النفوذ، وآثارها وراثية.

figure
طقس سيئ، مضيق ماجلان.

بعد أن احتجزنا في خليج ويجوام لستة أيام بسبب سوء الطقس الشديد، ركبنا البحر يوم ٣٠ ديسمبر. كان الكابتن فيتزروي يرغب في الاتجاه غربًا لإنزال يورك وفوجيا في بلدهم. وبينما كنا ماضين في عرض البحر، واجهنا عواصف متتالية وكان التيار ضدنا وانجرفنا حتى دائرة عرض ٥٧ درجة و٢٣ دقيقة جنوبًا. في الحادي عشر من يناير عام ١٨٣٣، وبرفع أكبر عدد من الأشرعة يمكن للسفينة استيعابه، أصبحنا على بعد أميال قليلة من الجبل العظيم الوعر المسمى يورك مينستر (كان الكابتن كوك هو من أسماه بهذا الاسم، وهو أصل اسم الهندي الفوجي الأكبر سنًّا على متن السفينة) عندما أجبرتنا عاصفة ثلجية عاتية على إنزال الأشرعة والابتعاد عن الساحل إلى عرض البحر. كانت الأمواج تتكسر على نحو مخيف على الشاطئ وكان الرذاذ يرتفع فوق جُرْف يصل ارتفاعه إلى ٢٠٠ قدم. في يوم الثاني عشر كانت العاصفة قوية للغاية ولم نعرف أين نحن بالضبط؛ كان أبغض ما يمكن أن تسمعه هو ذلك الذي يكرر بانتظام عبارة «راقبوا اتجاه الريح جيدًا.» في يوم الثالث عشر، ثارت العاصفة بأقصى ضراوة وكان الأفق غير ظاهر أمامنا بفعل الرذاذ الذي تحمله الرياح. كان البحر يبدو منذرًا بسوء مثل سهل متموج كئيب رُقِّع من الثلج المجروف؛ وبينما كانت السفينة تمخر البحر بتثاقل وصعوبة، كانت طيور القطرس تنزلق بأجنحتها المفرودة في اتجاه الريح. في الظهيرة انكسرت موجة عظيمة علينا وملأت المياه أحد القوارب وكان لزامًا علينا التخلص منه فورًا. انتفضت البيجل المسكينة من أثر الصدمة ولبضع دقائق لم تطع مسئول الدفة، لكن بعد قليل، ولكونها سفينة جيدة مطيعة، صححت مسارها وسارت مع الريح مجددًا. لو أن موجة أخرى تبعت الأولى، لكان مصيرنا قد تحدد سريعًا وللأبد. كان قد مر الآن علينا ٢٤ يومًا ونحن نحاول عبثًا الاتجاه غربًا وتمكن التعب والإرهاق من الرجال وظلوا أيامًا وليالي لا يملكون أي ملابس جافة لارتدائها. استسلم الكابتن فيتزروي وتخلى عن محاولة الاتجاه غربًا للساحل الخارجي. في المساء، احتمينا في رأس هورن المزيفة وألقينا المِرْساة لعمق ٤٧ قامة وكانت النار تومض من رافعة المرساة بينما كانت السلسلة تهبط من حولها بسرعة. كم كان مبهجًا أن نجد أن الوقت ما زال ليلًا بعد أن ظللنا عالقين طويلًا وسط جلبة وضجيج الطقس العاصف العنيف!

figure
سلة وأسلحة عظمية خاصة بالفوجيين.

•••

«١٥ يناير، ١٨٣٣»، رست البيجل في جوري رودز. بعد أن قرر الكابتن فيتزروي توطين الهنود بناء على رغبتهم في خليج بونسونبي، كان هناك أربعة قوارب معدة لنقلهم إلى هناك عبر قناة البيجل. تعتبر هذه القناة التي اكتشفها الكابتن فيتزروي خلال رحلته البحرية الأخيرة سمة استثنائية تمامًا في جغرافية هذه المنطقة أو أي منطقة أخرى في الواقع؛ يمكن مقارنتها بوادي لوخ نِس في اسكتلندا بما يحتويه من بحيرات وألسنة بحرية. يبلغ طول القناة ١٢٠ ميلًا ومتوسط عرضها، الذي لا يخضع لأي تغيير كبير للدرجة، نحو ميلين، والجزء الأكبر منها مستقيم تمامًا حتى إن الرؤية، المحاطة من كلا الجانبين بخط من الجبال، تصبح غير واضحة تدريجيًّا على المدى البعيد. تقطع القناة الجزء الجنوبي من أرض النار في خط يمتد إلى الشرق وإلى الغرب وتتصل في المنتصف بقناة غير منتظمة بزوايا قائمة على الجانب الجنوبي سميت مضيق بونسونبي. كان هذا موطن قبيلة وعائلة جيمي بتون.

•••

«١٩ يناير، ١٨٣٣»، أبحرت ثلاثة قوارب بمجاديف وقارب شراعي تحمل مجموعة من ٢٨ فردًا تحت قيادة الكابتن فيتزروي. بعد الظهيرة، دخلنا الفم الشرقي للقناة وبعد ذلك بقليل وجدنا شرمًا صغيرًا محميًّا تخفيه بعض الجُزَيِّرات المحيطة به. قمنا بنصب خيامنا وإشعال النار في هذا المكان. لا يمكن أن يكون هناك منظر أكثر راحة للأعصاب من هذا. كانت مياه المرفأ الصغير الشفافة مع فروع الأشجار المتدلية فوق الشاطئ الصخري والقوارب في المرساة والخيام التي تدعمها المجاديف المتقاطعة وألسنة الدخان المموجة المتصاعدة في الوادي المغطى بالغابة تجسد صورة للعزلة الهادئة. في اليوم التالي (العشرين من يناير)، تقدمنا بسلاسة فوق صفحة المياه في أسطولنا الصغير ووصلنا إلى منطقة أكثر سكنى بالبشر. قليل من الهنود، إن وجد، هم من تسنَّى لهم رؤية رجل أبيض من قبل؛ بالتأكيد لا يمكن لشيء أن يفوق دهشتهم لدى رؤيتهم لشبح أربعة قوارب. أُضرِمت النيران في كل مكان (ومن هنا جاء اسم أرض النار) لجذب انتباهنا ونشر الخبر في كل مكان. ركض بعض الرجال لأميال عبر الساحل. لن أنسى كم بدت مجموعة منهم وحشية وهمجية؛ إذ ظهر فجأة أربعة رجال أو خمسة على حافة جُرْف معلق وكانوا عراة تمامًا وكان شعرهم الطويل ينساب على وجوههم وكانوا يمسكون بهِرَاوات غليظة ويتقافزون فوق الأرض ويلوحون بأذرعهم حول رءوسهم ويطلقون أشنع الصرخات.

وقت العشاء هبطنا على اليابسة وسط مجموعة من الهنود الفوجيين. في البداية لم يميلوا للتعامل بود، واحتفظوا بمقاليعهم في أيديهم حتى أوقف الكابتن فيتزروي قاربه قبل القوارب الأخرى، لكن ما لبثنا أن أدخلنا عليهم السرور بهدايا تافهة أعطيناها لهم، مثل ربط شريط أحمر حول رءوسهم. أعجبهم البسكويت الخاص بنا، لكن أحدهم لمس بإصبعه بعض اللحم المحفوظ في علب من القصدير الذي كنت آكله وشعر بملمسه البارد الطري وأظهر تقززه الشديد منه كما كان يجب أن أفعل أنا مع دهن الحوت المتعفن. كان جيمي يشعر بالخزي التام من بني وطنه وأعلن أن قبيلته تختلف تمامًا، وهو ما كان مخطئًا تمامًا بشأنه. كان من السهل إدخال السرور على هؤلاء الهمج بقدر ما كان من الصعب إرضاؤهم. فلم يتوقفوا، كبيرًا وصغيرًا، رجالًا وأطفالًا، عن ترديد كلمة «أعطني». بعد الإشارة إلى كل شيء تقريبًا، واحد تلو الآخر، وحتى الأزرار في معاطفنا، وتكرار كلمتهم المفضلة بكل الطبقات الصوتية الممكنة، أخذوا يستخدمونها صيغة حيادية بلا تحديد وترديدها بلا هدف. بعد طلبهم لكل الأشياء بلهفة، كانوا يشيرون للأطفال أو الشابات بخدعةٍ بسيطةٍ كما لو كانوا يقولون: «إذا لم تعطه لي، فبالتأكيد ستعطيه لمثل هؤلاء.»

ليلًا حاولنا عبثًا العثور على شرم غير مسكون وفي النهاية اضطررنا للتخييم في مكان ليس ببعيد عن مجموعة من السكان الأصليين. كانوا مسالمين للغاية طالما كانت أعدادهم قليلة، لكن في الصباح (يوم الحادي والعشرين) عندما انضم لهم آخرون، بدءوا في إظهار أمارات العدائية وظننا أن الأمر سيئول إلى اشتباك. يتعرض الأوروبي لأضرار جسيمة عند التعامل مع همج مثل هؤلاء الذين لا يملكون أدنى فكرة عن قوة الأسلحة النارية. فعند مجرد تصويبه للبندقية، يبدو للهمجي أنه في مكانة أقل بكثير بالنسبة إلى رجل مسلح بقوس وسهم أو رمح أو حتى مقلاع. كما أنه ليس من السهل تعليمهم تفوقنا عليهم إلا بتوجيه ضربة مميتة. ومثل الحيوانات المتوحشة، لا يبدو أنهم ينتبهون للفرق في الأعداد؛ فعند تعرض أحدهم للهجوم، بدلًا من التراجع والانسحاب، سيجاهد لتحطيم رأسك بحجر مثلما سيحاول نمر في نفس الظروف تمزيقك إربًا بلا ريب. في إحدى المرات كان الكابتن فيتزروي في غاية القلق لرغبته في تخويف مجموعة صغيرة منهم لإبعادهم، وكان له أسبابه الوجيهة في ذلك، فأشهر في البداية سيف بحارة بالقرب منهم لكنهم سخروا منه؛ فأخرج مسدسه وأطلق طلقتين بالقرب من أحد السكان الأصليين. بدا الرجل مذهولًا في كلتا المرتين، وحك رأسه بحرص لكنه سرعان ما حدق فيه لبعض الوقت وتحدث إلى رفقائه بكلام غير مفهوم لكن لم يبدُ عليه أنه فكر قط في الفرار. يمكننا بالكاد تصور أنفسنا مكان هؤلاء الهمج وفهم أفعالهم. في حالة هذا الهندي، لم يكن من الممكن أن يَرِدَ بذهنه احتمالية أن مثل هذا الصوت يشير إلى وجود مسدس بالقرب من أذنه. ربما لم يدرك لثانية ما إذا كان هذا صوتًا أم ضربة؛ لذا حك رأسه بطبيعة الحال. على نحو مماثل، عندما يرى همجي علامة صنعتها رصاصة، ربما يمر وقت قبل أن يفهم كيف صُنعت؛ لأن فكرة أن جسمًا يسير بسرعة كبيرة لدرجة تجعله غير مرئي لا يمكن تصورها تمامًا. علاوة على ذلك، فإن القوة الشديدة للرصاصة التي تخترق بها مادة صلبة دون تمزيقها ربما تقنع الهمجي بأنها لا تملك أي قوة من الأساس. أعتقد بكل تأكيد أن العديد من الهمج من أدنى المستويات، مثل هنود أرض النار، رأَوْا أجسامًا تُضرَب وحتى حيوانات تُقتَل برصاص البنادق دون أدنى إدراك كم هي مميتة هذه الأداة.

•••

«٢٢ يناير، ١٨٣٣»، بعد مرور ليلة بدون أي مضايقات، فيما بدا كمنطقة محايدة بين قبيلة جيمي ومن رأيناهم أمس، أبحرنا بسلاسة. لا أعرف أي شيء من شأنه أن يوضِّح الحالة العدائية للقبائل المختلفة أكثر من هذه الأراضي المحايدة أو الحدود الشاسعة. ورغم أن جيمي بتون كان يعلم جيدًا مدى قوة مجموعتنا، لم يشأ في البداية أن يهبط وسط القبيلة العدائية الأقرب لقبيلته. كان كثيرًا ما يخبرنا كيف أن رجال الأوين الهمج قد عبروا الجبال من الساحل الشرقي لأرض النار «في الخريف» وشنوا غارات على السكان الأصليين لهذا الجزء من البلاد. كانت مشاهدته وهو يتحدث بهذا الأسلوب وعيناه تلمعان وقد اتخذ وجهه بالكامل تعبيرًا جديدًا ووحشيًّا أمرًا مثيرًا جدًّا للفضول. بينما نحن ماضون عبر قناة البيجل، اتخذت المناظر الطبيعية شكلًا مميزًا ورائعًا للغاية لكن هذا الأثر قلَّ كثيرًا بسبب انخفاض زاوية الرؤية في القارب وبسبب النظر عبر الوادي ومِن ثَمَّ ضياع كل جمال المرتفعات المتعاقبة. كانت الجبال هنا يصل ارتفاعها إلى حوالي ٣٠٠٠ قدم وتنتهي بقمم حادة ومحززة. وكانت ترتفع في امتداد متصل من حافة المياه ومغطاة بالغابة ذات الألوان القاتمة حتى ارتفاع ١٤٠٠ أو ١٥٠٠ قدم. كان من المثير للغاية ملاحظة كم كان الخط على جانب الجبال مستويًا وأفقيًّا تمامًا على امتداد البصر حيث توقفت الأشجار عن النمو؛ كان يشبه بالضبط علامة ذروة المد التي تتمثل في ظهور طحالب البحر التي تجرفها المياه على الشاطئ.

عند حلول الليل، نمنا بالقرب من نقطة اتصال مضيق بونسونبي مع قناة البيجل. كانت هناك عائلة صغيرة من الفوجيين تعيش في الخليج الصغير وكانوا هادئين ومسالمين وسرعان ما انضموا لمجموعتنا حول النار المشتعلة. كنا جميعنا نرتدي ملابسنا ورغم جلوسنا بالقرب من النار، كنا أبعد ما يكون عن الشعور بالدفء؛ إلا أنه لوحظ أن هؤلاء الهمج، برغم بعدهم عنها، يتصببون عرقًا جراء التعرض لمثل هذه الحرارة الشديدة ما أثار الكثير من الدهشة لدينا. غير أنهم بدوا سعداء للغاية، وشاركوا جميعًا في غناء أغاني البحارة لكن تأخرهم دائمًا عنا في الغناء، وإن كان بشكل محدود، كان مضحكًا جدًّا.

خلال الليل انتشرت الأخبار، وفي وقت مبكر من الصباح (يوم الثالث والعشرين) وصلت مجموعة جديدة تنتمي لقبيلة جيمي، تيكينيكا. كان العديد منهم يركضون بسرعة حتى إن أنوفهم كانت تنزف وكان الزبد يتناثر من أفواههم بسبب سرعة حديثهم وكانت أجسادهم العارية المدهونة بالأسود والأبيض١ والأحمر تجعلهم يبدون كمن بهم مس شيطاني ويتصارعون معًا. مضينا بعد ذلك (وكان بصحبتنا ١٢ زورق كانو يحمل كل واحد منها أربعة أشخاص أو خمسة) في خليج بونسونبي إلى المكان الذي كان يتوقع جيمي المسكين أن يجد فيه أمه وأقاربه. وكان قد سمع أن والده قد توفي بالفعل؛ ولكن نظرًا لأن «حلمًا في عقله» قد راوده بهذا المعنى، بدا غير عابئ كثيرًا بالأمر، وعزَّى نفسه مرارًا بفكرة طبيعية تمامًا وهي «لا حيلة لي في ذلك.» لم يستطع معرفة أي تفاصيل عن ملابسات موت والده؛ إذ لم يكن أقاربه يتحدثون في هذا الشأن.

كان جيمي الآن في منطقة يعرفها جيدًا وأرشد القوارب إلى خليج صغير جميل للغاية يسمى «ووليا» تحيط به الجُزَيِّرات كان لكلٍّ منها، ولكل مكان فيها، اسمها الأصلي. وجدنا هنا عائلة من قبيلة جيمي لكنهم لم يكونوا من أقاربه وصادقناهم، وفي المساء بعثوا زورقًا ليعلموا والدة وأشقاء جيمي بمجيئه. يحد الخليج الصغير بضعة أفدنة من الأراضي المنحدرة الجيدة وغير المغطاة — كما هو الحال في كل مكان آخر — سواء بأشجار الغابات أو الخُث. كان الكابتن فيتزروي ينوي في الأساس، كما أشرت من قبل، أن يصحب يورك مينستر وفوجيا إلى قبيلتهما على الساحل الغربي، لكن عندما أظهرا رغبة في البقاء هنا، وبما أن المكان كان ملائمًا على نحو فريد، قرر الكابتن فيتزروي أن يوطِّن المجموعة كلها هنا بما فيها ماثيوز المبشِّر. استغرق الأمر خمسة أيام لبناء ثلاثة أكواخ ويجوام كبيرة وإنزال المتاع وحفر حديقتين وبذر الحبوب.

في صباح اليوم التالي (الرابع والعشرين) بعد وصولنا، بدأ الفوجيون في التدفق على المكان ووصلت والدة جيمي وأشقاؤه. تعرَّف جيمي الصوتَ الجهوري لأحد أشقائه من مسافة كبيرة جدًّا. كان اللقاء أقل حرارة من لقاء حصان بصاحبه القديم عندما يراه في الحقل. لم يكن هناك أي إظهار للعواطف؛ بل أخذ أحدهم يحدق إلى الآخر لمدة قصيرة، ثم ذهبت الأم سريعًا للاعتناء بزورقها، لكننا سمعنا من خلال يورك أن الأم كانت تشعر بحزن شديد لفقدان جيمي وبحثت عنه في كل مكان ظنًّا منها أنه ربما يكون قد تُرِك بعد أن أُخذ في القارب. انتبهت النساء إلى فوجيا كثيرًا وكنَّ في غاية اللطف معها. أدركنا بالفعل أن جيمي قد نسي لغته الأصلية تقريبًا. أعتقد أنه قلما وجد إنسان آخر بهذا المخزون الهزيل جدًّا من اللغة؛ إذ كانت إنجليزيته سيئة جدًّا. كان من المضحك، والمثير للشفقة في الوقت نفسه، سماعه وهو يتحدث إلى أخيه الهمجي بالإنجليزية ثم يسأله بالإسبانية ما إذا كان فهم ما يقول أم لا.

مر كل شيء على ما يرام خلال الأيام الثلاثة التالية بينما كانت الحدائق تُحفَر والأكواخ تُبنَى. قدرنا عدد السكان الأصليين بحوالي ١٢٠ فردًا. كانت النساء يبذلن جهدًا شاقًّا في العمل، بينما كان الرجال يستلقون طيلة اليوم ويشاهدوننا. كانوا يسألون عن كل ما يرونه، ويسرقون ما يستطيعون سرقته. كانوا مسرورين برقصنا وغنائنا وكانوا مهتمين اهتمامًا خاصًّا بمشاهدتنا ونحن نستحم في غدير مجاور ولم ينتبهوا كثيرًا لأي شيء آخر ولا حتى قواربنا. من كل ما شاهده يورك خلال غيابه عن بلاده، لم يثر دهشته أكثر من نعامة رآها بالقرب من مالدونادو؛ إذ جاء راكضًا منقطع الأنفاس من الدهشة إلى السيد باينو الذي كان يتمشى بصحبته قائلًا: «سيد باينو! لقد رأيتُ طيرًا يشبه الحصان تمامًا!» بقدر ما أدهشت بشرتنا البيضاء الهنود، أثار الطباخ الأسود في إحدى سفن صيد الفُقْمة دهشتهم على نحو أكبر، حسبما روى السيد لو، وتعرض المسكين للتجمهر حوله والصياح في وجهه حتى إنه امتنع عن النزول إلى الساحل مرة أخرى. مر كل شيءٍ بهدوءٍ حتى إنني وبعض الضباط قمنا بجولات طويلة في الغابات والتلال المحيطة، ولكن فجأة وفي يوم السابع والعشرين اختفت النساء والأطفال جميعًا. شعرنا جميعًا بالقلق إزاء هذا؛ إذ لم يستطع جيمي ولا يورك معرفة السبب. ظن البعض أن السبب وراء هذا هو فزعهم من تنظيف بنادقنا وإطلاقها في مساء اليوم السابق، بينما اعتقد آخرون أن الأمر يرجع لغضب واستياء همجي عجوز بصق في وجه خفير الحراسة بكل برود عندما أخبره الأخير بأن يبقى بعيدًا ثم بإيماءات صنعها على جسد هندي نائم، أوضح، كما قيل، أنه يود أن يذبح الحارس ويأكله. ولتجنب فرصة حدوث مواجهة، كانت ستؤدي لهلاك الكثير من الفوجيين، ارتأى الكابتن فيتزروي أنه من الأفضل المبيت في خليج صغير يبعد بضعة أميال. عزم ماثيوز، بشجاعته الصامتة المعتادة (وهو أمر غريب وغير عادي بالنسبة إلى رجل لا يملك ظاهريًّا سوى القليل من الهمة)، على البقاء مع الفوجيين الذين لم يُبدوا هم أنفسهم أي انزعاج؛ لذا تركناهم ليقضوا ليلتهم المروِّعة الأولى.

أثناء عودتنا في الصباح (في يوم الثامن والعشرين) سعدنا عندما وجدنا كل شيء هادئًا والرجال مشغولين في زوارقهم يصيدون السمك برماحهم. قرر الكابتن فيتزروي إعادة القارب الشراعي وأحد القوارب ذات المجاديف مرة أخرى إلى السفينة والاستمرار بقاربين أحدهما تحت قيادته (والذي تَفضَّل بالسماح لي بمرافقته على متنه)، وآخر تحت قيادة السيد هاموند لمسح الأجزاء الغربية من قناة البيجل والعودة بعد ذلك لزيارة المستعمرة. لدهشتنا كان اليوم حارًّا على نحو لا يُطاق حتى إن جلودنا سفعت من شدة الحرارة؛ وفي ظل هذا الطقس الجميل، كان المشهد من منتصف قناة البيجل غاية في الروعة. بالنظر في كلا الجانبين، لم يكن ثمة أي شيء يعترض المواضع المتلاشية من هذه القناة الطويلة بين الجبال. وصارت حقيقة أنها لسان بحري واضحة للغاية من خلال بضعة حيتان ضخمة٢ كانت تنفث الماء في كل اتجاه. في إحدى المرات رأيت اثنين من هذه الوحوش، ربما كانا ذكرًا وأنثى، يسبحان ببطء واحدًا تلو الآخر على بعد أقل من مرمى حجر من الشاطئ الذي امتدت عبره أفرع شجرة زان.

ظللنا نبحر حتى حل الظلام، ثم نصبنا الخيام في جدول هادئ. كانت أقصى رفاهية يمكننا الحصول عليها هي العثور لأسرَّتنا على شاطئ مغطى بالحصى؛ لأن الحصى يكون جافًّا ومريحًا للجسم. كانت التربة المكونة من الخث رطبة وكانت الصخور صلبة وغير مستوية وكانت الرمال تتسرب إلى داخل اللحم عندما يُطبَخ ويؤكَل بطريقة السفن، لكن عند الاضطجاع في حقائب النوم على سرير من الحصى الناعم، كنا نقضي أكثر الليالي راحة.

كانت نوبة حراستي تمتد حتى الواحدة. كان ثمة شيءٌ مهيبٌ للغاية فيما يتعلَّق بهذه المشاهد. فلا يحدث أن يكون الوعي حاضرًا بهذه القوة في ركن ناءٍ من العالم تقف فيه كالذي كنت واقفًا فيه آنذاك. وكان كل شيء يساعد على ذلك؛ فكان سكون الليل لا يقطعه إلا أنفاس البحارة الثقيلة تحت الخيام وأحيانًا صياح طائر ليلي. وكان نباح كلب بين الحين والآخر يُسمَع من بعيد ليذكِّر المرء بأنه في أرض لم تصلها المدنيَّة.

•••

«٢٩ يناير»، في وقت مبكر من الصباح وصلنا إلى النقطة التي تنقسم فيها قناة البيجل لفرعين ودخلنا الفرع الشمالي. هنا تصبح المناظر الطبيعية أكثر روعة وعظمة من كل ما مررنا به من قبل؛ فالجبال المرتفعة على الجانب الأول تشكل المحور الجرانيتي، أو ما يمكن اعتباره العمود الفقري للبلاد ويصل ارتفاعها لما بين ٣٠٠٠ و٤٠٠٠ قدم وتزيد إحدى قممها على ٦٠٠٠ قدم. يغطي هذه الجبال غطاء شاسع من الثلج الدائم التساقط والعديد من الشلالات التي تصب مياهها عبر الغابات داخل القناة الضيقة بالأسفل. في العديد من الأجزاء تمتد الأنهار الجليدية الرائعة المنظر من جانب الجبل حتى حافة المياه. من الصعب تصوُّر أي شيء أجمل من اللون الأزرق المشوب بالأخضر الزبرجدي المميز لهذه الأنهار الجليدية، وخاصة عندما يحدث تباين بينه وبين البياض الشديد للغطاء الثلجي الذي يعلوها. كانت الشظايا التي تتساقط من النهر الجليدي في المياه تطفو بعيدًا وبدت القناة بجبالها الجليدية لمسافة ميل كمجسم مصغر للمحيط القطبي الشمالي. كانت القوارب تُسحَب إلى الشاطئ في وقت تناول العشاء وكنا ننظر بإعجاب من مسافة نصف ميل إلى جُرْف ثلجي عمودي ونأمل في تساقط المزيد من الشظايا. في النهاية سقطت كتلة محدثة صوتًا هادرًا ورأينا على الفور الحدود الخارجية الناعمة لموجة تتجه ناحيتنا. ركض الرجال بأسرع ما يمكن نحو القوارب؛ لأن احتمال تحطمها إلى قطع صغيرة كان واضحًا. كان أحد البحارة قد أمسك لتوه بمقدمة القارب عندما أدركته الموجة المتكسرة، وجعل ينقلب عدة مرات لكنه لم يصب بأي أذى، كما لم تتعرض القوارب لأي ضرر رغم أنها ارتفعت عاليًا ثم سقطت ثلاث مرات. وكان هذا من حسن حظنا تمامًا؛ لأننا كنا على بعد مئات الأميال من السفينة وكنا سنُترَك حتمًا دون أسلحة أو مؤن. كنت قد لاحظت سابقًا أن بعض الشظايا الضخمة من الصخور على الشاطئ تَغيَّر مكانها مؤخرًا لكني لم أعرف سببًا لهذا حتى رأيت هذه الموجة. كان أحد جانبي الجدول مكوَّنًا من نتوء صخري من الأردواز الميكائي، وكان رأس الجدول يتكون من جُرْف ثلجي بارتفاع حوالي ٤٠ قدمًا والجانب الآخر مكونًا من نتوء يرتفع لخمسين قدمًا مكونًا من شظايا ضخمة دائرية من الجرانيت والأردواز الميكائي كانت تنمو منه أشجار قديمة. من الواضح أن هذا النتوء كان ركامًا تكون في فترة كان فيها النهر الجليدي له أبعاد أكبر.

عندما وصلنا للفم الغربي لهذا الفرع الشمالي من قناة البيجل، أبحرنا بين الكثير من الجزر المهجورة المجهولة وكان الطقس سيئًا جدًّا. لم نقابل أي سكان أصليين. وكان الساحل منحدرًا جدًّا في كل مكان تقريبًا؛ حتى إننا اضطررنا للمشي عدة أميال قبل أن نجد مساحة كافية لنصب خيامنا؛ وفي إحدى الليالي نمنا على جلاميد ضخمة دائرية بينها أعشاب بحرية متعفنة، وعندما ارتفع المد، اضطررنا للنهوض ونقل حقائب النوم الخاصة بنا. كانت أبعد نقطة غربًا وصلنا إليها هي جزيرة ستيوارت وكانت تبعد مسافة ١٥٠ ميلًا عن سفينتنا. عدنا إلى قناة البيجل عبر الفرع الجنوبي، ومن هناك واصلنا مسيرتنا عائدين إلى بونسونبي دون أي مغامرات.

•••

«٦ فبراير»، وصلنا إلى ووليا. أخذ ماثيوز يذكر سلوك الفوجيين بمنتهى السوء حتى الكابتن فيتزروي قرر إعادته إلى السفينة وتُرِك في النهاية في نيوزيلندا حيث كان شقيقه يعمل مبشِّرًا. منذ رحيلنا، بدأت عمليات نهب وسرقة ممنهجة؛ إذ ظلت تَفِد مجموعاتٌ جديدة من السكان الأصليين وفقد يورك وجيمي الكثير من الأشياء وفقد ماثيوز تقريبًا كل شيء لم يكن مخبأً تحت الأرض. كان يبدو أن كل شيء تعرض للتمزيق والتقسيم بينهم. وصف ماثيوز نوبة حراسته التي كان ملزمًا دومًا بتوليها بأنها كانت مزعجة إلى أقصى حد؛ فقد كان محاطًا ليل نهار بالسكان الأصليين الذين كانوا يحاولون إنهاك قواه بإصدار ضوضاء مستمرة بالقرب من رأسه. ففي أحد الأيام عاد رجل عجوز، كان ماثيوز قد طالبه أن يبرح كوخه، بحجر ضخم في يده؛ وفي يوم آخر جاءت مجموعة كاملة مسلحة بالحجارة والأوتاد وكان بعض الشباب وشقيق جيمي يصيحون وقابلهم ماثيوز بالهدايا. مجموعة أخرى أظهرت من خلال الإشارات أنهم يريدون تجريده من ملابسه كلها ونزع شعر جسده ووجهه بالكامل. أعتقد أننا وصلنا في الوقت المناسب لإنقاذ حياته. كان أقارب جيمي في غاية الحمق والغرور؛ حتى إنهم عرضوا على الغرباء ما نهبوه وأوضحوا لهم أسلوبهم في الحصول عليه. كان ترك الهنود الثلاثة مع بني وطنهم الهمج أمرًا باعثًا على الأسى الشديد، لكن ما كان يبعث على الارتياح إلى حد كبير عدم وجود مخاوف شخصية لديهم. كان من المؤكد إلى حد كبير أن يورك، الذي كان رجلًا قويًّا حازمًا، سينسجم جيدًا هو وزوجته فوجيا. أما جيمي المسكين فقد بدا مغمومًا نوعًا ما ولست أشك كثيرًا في أنه كان سيسعد بالعودة معنا؛ فقد سرق شقيقه العديد من الأشياء منه وبينما كان يقول: «بمَ تسمي المدنية هذا؟» أساء لبني وطنه بسوء ووصفهم بأنهم: «كلهم سيئون، لا يعرفون شيئا.» ورغم أني لم أسمعه من قبل يسبُّ أحدًا، وجدته يقول عنهم: «مغفلون ملاعين.» لديَّ يقين بأن أصدقاءنا الهنود الثلاثة كانوا سيسعدون بالاحتفاظ بعاداتهم الجديدة رغم أنهم لم يبقوا برفقة البشر المتمدنين إلا لثلاث سنوات فقط، لكن من الواضح أن هذا كان مستحيلًا. أخشى أن يكون في حكم المؤكد أن زيارتهم لن تسديهم أي نفع.

في المساء، وكان ماثيوز معنا، أبحرنا عائدين إلى السفينة لكن ليس عبر قناة البيجل بل عبر الساحل الجنوبي. كانت القوارب محملة بشدة وكان البحر مضطربًا وقمنا برحلة خطرة. بحلول مساء السابع من فبراير كنا على متن البيجل بعد غياب عشرين يومًا قطعنا خلالها ٣٠٠ ميل في القوارب المفتوحة. في يوم الحادي عشر زار الكابتن فيتزروي الفوجيين ووجدهم على ما يرام ولم يفقدوا أشياء أخرى كثيرة.

•••

في اليوم الأخير من فبراير في العام التالي (١٨٣٤) رست البيجل في خليج صغير جميل في المدخل الشرقي لقناة البيجل. وعزم الكابتن فيتزروي على خوض محاولة جريئة، أثبتت نجاحها، للإبحار في مواجهة الرياح الغربية عبر نفس الطريق الذي سلكناه في القوارب وصولًا للمستعمرة في ووليا. لم نرَ الكثير من السكان الأصليين حتى اقتربنا من مضيق بونسونبي حيث تبعنا عشرة زوارق أو اثنا عشر زورقًا. لم يفهم السكان الأصليون مطلقًا السبب وراء تغيير وجهتنا وبدلًا من ملاقاتنا عند كل منعطف، حاولوا بلا جدوى اتباعنا في مسارنا المتعرج. سررت عندما رأيت الفارق الذي صنعه التفوق الشديد في القوة في نظرتي لهؤلاء الهمج. فأثناء وجودنا في القوارب كرهت حتى أصواتهم والمتاعب الكثيرة التي جلبوها علينا. كانت الكلمة الوحيدة التي يرددونها هي «أعطني». عند دخولنا خليجًا صغيرًا هادئًا، نظرنا حولنا وفكرنا في قضاء ليلة هادئة، لكن الكلمة البغيضة انبعثت بصوت حاد من مكان منعزل مظلم ثم انطلقت إشارة الدخان الصغيرة تتلوى في الهواء لنشر الخبر في كل مكان. بعد تركنا لمكان ما، قلنا لبعضنا البعض: «حمدًا للرب، لقد تركنا أخيرًا هؤلاء البؤساء!» وفي تلك اللحظة نما لأسماعنا صيحة أخرى أكثر خفوتًا صادرة من صوت جبار تُسمَع من مسافة بعيدة جدًّا، واستطعنا بكل وضوح تمييز كلمة «أعطني». أما الآن فكلما زاد عدد الفوجيين، أصبح الأمر أكثر مرحًا إلى حد كبير. كانت كل مجموعة تضحك وتندهش وتحدق في الأخرى، وكنا نرثى لحالهم حين يعطوننا الأسماك والسلطعون الشهي مقابل قطع القماش وما إلى ذلك. كانوا يتحينون الفرصة للعثور على أشخاص مغفلين بما يكفي لاستبدال مثل هذه الأشياء الفاخرة مقابل عشاء جيد. كان من الأمور الباعثة على السرور الشديد رؤية ابتسامة الرضا الواضحة التي ارتسمت على وجه شابة وجهها مدهون بالأسود وهي تربط عدة خرق من القماش القرمزي حول رأسها في لهفة. كان زوجها، الذي كان يتمتع بميزة امتلاك زوجتين، وهي الميزة السائدة جدًّا في هذه المنطقة، قد اعترته مشاعر الغيرة من الاهتمام الموجه لزوجته الشابة، وبعد نقاش مع جميلتيه العاريتين، اصطحبتاه بعيدًا في الزورق.

أظهر بعض الفوجيين بوضوح أنهم يمتلكون فكرة جيدة عن المقايضة؛ فقد أعطيت رجلًا مسمارًا كبيرًا — وكان هدية قيِّمة للغاية — بدون أي إشارة تدل على رغبتي في مقابل له، لكن الرجل سرعان ما التقط سمكتين وأعطاهما لي على سن رمحه. وإذا كانت هناك هدية معطاة خِصِّيصى لزورق كانو بعينه وسقطت بالقرب من آخر، كانت دائمًا ما تُرد للمالك الحقيقي. أوضح الصبي الهندي الذي كان يصحبه السيد لو على متن السفينة، وهو ما كان واضحًا من انفعاله الشديد، أنه كان يفهم تمامًا معنى أن يُنعَت بالكاذب وهو ما كان حقيقة بالفعل. كنا مندهشين جدًّا هذه المرة، كما هو الحال في كل المرات السابقة، من ضعف ملاحظتهم، أو بالأحرى غيابها، للعديد من الأشياء التي يفترض أن استخدامها واضح بالنسبة إلى السكان الأصليين؛ فقد كانت أشياء بسيطة — مثل جمال القماش القرمزي أو الخرز الأزرق وعدم وجود النساء معنا واهتمامنا بالاغتسال — تثير إعجابهم أكثر من أي شيء ضخم أو معقد كسفينتنا. لقد كان بوجينفيل دقيقًا في ملاحظته بشأن هؤلاء القوم في أنهم ينظرون إلى «روائع الصناعة البشرية كما ينظرون لقوانين الطبيعة وظواهرها.»

في الخامس من مارس رسونا في خليج صغير في ووليا لكن لم نرَ مخلوقًا هناك. وقد أثار هذا قلقنا؛ لأن السكان الأصليين في مضيق بونسونبي أوضحوا بالإشارات أنه كان هناك قتال دائر، وسمعنا لاحقًا أن رجال الأوينز المخيفين نزلوا المكان. بعد قليل شوهد زورق كانو به علمٌ صغير يخفق يقترب، وكان أحد الرجال على متنه يزيل الدهان من وجهه. كان هذا الرجل هو جيمي المسكين الذي أصبح الآن همجيًّا نحيلًا هزيلًا بشعر طويل أشعث وكان عاريًا إلا من دثار حول خصره. لم نتعرف عليه حتى اقترب منا؛ لأنه كان خجلًا من نفسه وأدار ظهره للسفينة. فقد تركناه ممتلئ الجسد نظيفًا مهندم الملبس. لم أرَ من قبل تغييرًا شاملًا ومؤلمًا كهذا، لكن بمجرد أن ارتدى ملابسه وانتهت الضجة الأولية، أصبحت الأمور على ما يرام. تناول عشاءه مع الكابتن فيتزروي وكان يأكل بأسلوب مهذب أنيق كما كان يفعل من قبل. أخبرنا أنه أكل «أكثر من اللازم» (أي ما يكفي) وأنه لا يشعر بالبرد وأن معارفه أناس جيدون جدًّا ولا يود العودة إلى إنجلترا. عرفنا في المساء سبب هذا التغيُّر الكبير في مشاعر جيمي عندما وصلت زوجته الشابة الجميلة. بمشاعره الطيبة المعتادة، أهدى قطعتين من جلد القضاعة البحرية لاثنين من أقرب أصدقائه وبعض رءوس الرماح والسهام التي صنعها بيديه للكابتن. قال إنه بنى زورق كانو لنفسه وتباهى بأنه يستطيع التحدث قليلًا بلغته! لكن أكثر الحقائق غرابة هي أنه علَّم قبيلته بأسرها بعض الإنجليزية؛ فقد وجدنا رجلًا عجوزًا يعلن بالإنجليزية بشكل تلقائي قائلًا: «زوجة جيمي بتون.» كان جيمي قد خسر كل ممتلكاته. أخبرنا بأن يورك مينستر بنى زورق كانو كبيرًا، وأنه رحل بصحبة زوجته فوجيا منذ شهور إلى بلده وودَّعه بفعل غاية في الخسة؛ إذ أقنع جيمي ووالدته بمرافقته وفي الطريق تركهما ليلًا بعدما سرق كل ما يملكانه.٣

ذهب جيمي للمبيت على الساحل وعاد في الصباح وظل على متن السفينة حتى تحركت وهو ما أثار خوف زوجته التي ظلت تصرخ بشدة حتى امتطى زورقه. وقد عاد محملًا بأشياء قيمة. وكان كل مَن على متن السفينة يشعرون بحزن شديد من القلب لوداعه ومصافحته للمرة الأخيرة. ليس لديَّ شك الآن في أنه كان سيصبح سعيدًا، أو ربما أسعد، لو لم يكن قد ترك بلده قط. لا بد أن الجميع يتمنون بصدق أن يتحقق الأمل النبيل للكابتن فيتزروي بأن يكافأ على تضحياته الكثيرة التي بذلها لهؤلاء الفوجيين بأن تقدم سلالة جيمي وقبيلته يومًا ما الحماية لبحَّار تحطمت سفينته! عندما وصل جيمي إلى الساحل، أشعل نارًا للإشارة وكان الدخان يتلوى صاعدًا لأعلى مودِّعًا إيانا وداعًا طويلًا وأخيرًا بينما اتخذت السفينة مسارها في عرض البحر.

•••

لا بد أن المساواة المثالية بين الأفراد الذين يشكلون قبائل الفوجيين قد أعاقت تحضرهم لوقت طويل. وكما رأينا أن تلك الحيوانات التي تجبرها غريزتها على العيش في مجتمع وإطاعة زعيم، هي الأقدر على التطور، وكذلك الحال مع الأعراق البشرية. وسواء كان هذا سببًا أو نتيجة، فإن الأكثر تمدنًا دائمًا ما يملكون الحكومات الأكثر حداثة. على سبيل المثال، نجد سكان تاهيتي، الذين كانوا يخضعون لحكم الملوك بالوراثة عند اكتشافها لأول مرة، قد وصلوا لمستوى أعلى بكثير من فرع آخر من نفس الشعب وهم سكان نيوزلندا، الذين رغم استفادتهم من إرغامهم على التحول إلى الزراعة كانوا جمهوريين بمعنى الكلمة. وفي أرض النار، وإلى أن يتولى السلطة زعيم يملك القدرة الكافية على الحصول على أي ميزات مكتسبة، مثل الحيوانات المستأنسة، يبدو من شبه المستحيل أن تتحسن الحالة السياسية للبلاد. أما في الوقت الحاضر، فإن حتى قطعة القماش التي تُهدَى لأي شخص تُقطع إلى شرائط وتوزَّع على الجميع ولا يملك شخصٌ أكثر من الآخر. من الصعب، على الجانب الآخر، فَهْم كيف يمكن لزعيم أن يعتلي السلطة حتى يكون لديه ملكية من نوع ما يظهر بها تفوقه ويزيد بها من سلطته.

أعتقد أنه في هذا الجزء المتطرف من أمريكا الجنوبية يعيش الإنسان في حالة أدنى من التطور أكثر من أي جزء آخر في العالم. فسكان جزر البحر الجنوبي، والذين يتكوَّنون من عرقين يسكنان المحيط الهادي، متحضرون نسبيًّا. كما يتمتع الإسكيمو في كوخه الواقع تحت الأرض ببعض رفاهيات الحياة ويظهر الكثير من المهارة عندما يركب زورقه ويحمل كامل معداته. كانت بعض قبائل جنوب أفريقيا التي تجوب خلسة بحثًا عن الجذور، وتعيش متخفية في السهول البرية المقفرة، بائسة بما يكفي. ويعد الأسترالي هو الأقرب إلى الفوجيين فيما يتعلق ببساطة أساليب الحياة، لكن يمكنه التفاخر بالبومرنج ورمحه وعصا الرمي وطريقته في تسلق الأشجار وتتبع الحيوانات والصيد. ورغم أن الأسترالي ربما يكون متفوقًا فيما يتعلق بالقدرات المكتسبة، فإن هذا لا يعني بأي حال أنه متفوق في القدرات العقلية؛ فالواقع، ومن خلال ما رأيت من الفوجيين على متن السفينة ومما قرأته عن الأستراليين أعتقد أن العكس تمامًا هو الصحيح.

figure
الرأس الكاذب، رأس هورن.

هوامش

(١) هذه المادة، عندما تكون جافة، تكون مضغوطة على نحو مقبول وذات ثقل نوعي محدود. وقد فحصها البروفيسور إيرينبرج (الأكاديمية الملكية للعلوم، برلين، فبراير ١٨٤٥) ويقول إنها مكونة من النقاعيات، بما فيها ١٤ من عديدات البطون (بوليجاستريكا) وأربعة من الفايتوليثاريا. يقول إنها جميعًا تعيش في المياه العذبة، وهذا مثال جيد على النتائج التي يمكن الحصول عليها من خلال أبحاث البروفيسور إيرينبرج الميكروسكوبية؛ إذ أخبرني جيمي بتون أنها دائمًا ما تُجمَع من قيعان الأغادير الجبلية. علاوة على ذلك، من الحقائق المدهشة المتعلقة بالتوزيع الجغرافي للنقاعيات، المعروفة بوجودها في نطاقات واسعة للغاية، أن كل الأنواع من هذه المادة هي أشكال قديمة معروفة من الكائنات الحية رغم أنها جُلبت من أقصى نقطة في جنوب أرخبيل أرض النار.
(٢) في أحد الأيام رأينا على الساحل الشرقي من أرض النار مشهدًا مهيبًا لعدة حيتان من حيتان العنبر تقفز في وضع عمودي لتغادر أجسامها بالكامل المياه فيما عدا زعنفة الذيل. وبينما كانت تهبط على جانبها، تناثرت المياه لأعلى وتردد الصوت كهجوم قادم بعيد.
(٣) سمع كابتن سوليفان، الذي كان منذ رحلته على متن البيجل يعمل في مسح جزر الفوكلاند، من أحد صيادي الفُقْمة — عام ١٨٤٢؟ — أنه عندما كان في الجزء الغربي من مضيق ماجلان، صُعِقَ عندما وجد امرأة من السكان الأصليين على متن السفينة يمكنها تحدث بعض الإنجليزية. كانت هذه بلا شك فوجيا باسكت. فقد عاشت بضعة أيام على السفينة (وأخشى أن هذا قد يحتمل تأويلين).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤