الفصل الثامن

رحلة إلى كولونيا ديل ساكرامنتو – قيمة مزرعة ماشية – كيفية عد الماشية – سلالة استثنائية من الثيران – حصى مثقوب – كلاب الراعي – ترويض الخيول وركوب الجاوتشو لها – سمات السكان – نهر لابلاتا – أسراب من الفراشات – عناكب طائرة – الوميض البحري – ميناء بورت ديزاير – الجوناق – ميناء سان جوليان – طبقات الأرض في باتاجونيا – حفريات حيوان عملاق – أنواع المنظمات – التغير الدائم في الحياة الحيوانية في أمريكا – أسباب الانقراض.

***

باندا الشرقية وباتاجونيا

figure
الفوجيون وأكواخ الوجم.

بعد التعطل في المدينة لنحو أسبوعين، فرحت بالهروب على متن سفينة لنقل الركاب والسلع متجهة إلى مونتفيديو. دائمًا ما تكون أي بلدة في حالة حصار مكانًا بغيضًا للسكنى بلا شك؛ وفضلًا عن ذلك كان في هذه البلدة تخوفات دائمة من اللصوص داخلها. أما الخفراء فكانوا هم الأسوأ؛ إذ كانوا يستخدمون سلطتهم، بما يمتلكون من منصب وأسلحة متوفرة بين أيديهم، في السرقة بشكل لا يقدر غيرهم من الرجال على محاكاته.

كانت رحلتنا طويلة جدًّا ومرهقة. كان نهر لابلاتا يبدو على الخريطة كمصب عظيم، لكنه في الحقيقة كان شيئًا محبطًا؛ فقد كان عبارة عن رقعة متسعة من المياه الطينية تخلو من أي جمال أو عظمة. وفي وقت ما من اليوم، كان الشاطئان، اللذان كانا منخفضين للغاية، لا يمكن تمييزهما إلا من سطح السفينة. عند وصولنا إلى مونتفيديو، وجدت أن سفينة البيجل لن تبحر لفترة؛ لذا استعددت للقيام برحلة قصيرة إلى هذا الجزء من باندا الشرقية. كان كل ما قلته عن الريف بالقرب من مالدونادو ينطبق على مونتفيديو، لكن فيما عدا الجبل الأخضر الذي يصل ارتفاعه إلى ٤٥٠ قدمًا وتستمد المدينة اسمها منه، كانت الأرض أكثر استواءً بكثير. كان جزء صغير جدًّا من السهل العشبي المتموج محاطًا بالأسوار، لكن بالقرب من البلدة يوجد بضع ضفاف مسورة مغطاة بالأجاف والصبار والشمار.

•••

«١٤ نوفمبر»، غادرنا مونتفيديو بعد الظهيرة. كنت أنوي التوجه إلى مدينة كولونيا ديل ساكرامنتو الواقعة على الضفة الشمالية لنهر لابلاتا وقبالة بيونس أيرس، والتوجه من تلك النقطة، باتباع نهر الأوروجواي، إلى قرية مرسيدس على نهر نيجرو (أحد الأنهار العديدة في أمريكا الجنوبية التي تحمل الاسم نفسه) ثم العودة من هناك مباشرة إلى مونتفيديو. بتنا ليلتنا في منزل دليلي في كانلونيس. نهضنا مبكرًا في الصباح على أمل أن نستطيع قطع مسافة جيدة، لكنها كانت محاولة فاشلة؛ لأن كل الأنهار كانت في حالة فيضان. عبرنا الجداول المائية بكانيلونيز وسان لوسيا وسان خوسيه بالقوارب ومِن ثَمَّ أضعنا الكثير من الوقت. في رحلة سابقة عبرت نهر لوسيا بالقرب من المصب وفوجئت حين لاحظت مدى السهولة التي وجدتها خيولنا، رغم عدم اعتيادها على السباحة، في المرور عبر نهر عرضه ٦٠٠ ياردة على الأقل. لدى الحديث عن هذا في مونتفيديو، قيل لي إن سفينة تحوي بعض المشعوذين وخيولهم تحطمت في نهر لابلاتا وسبح أحد الخيول لمسافة سبعة أميال حتى الشاطئ. على مدى اليوم استمتعت ببراعة أحد أفراد الجاوتشو التي أجبر بها جوادًا حرونًا على السباحة في النهر؛ فقد نزع ملابسه وقفز على ظهر الحصان وخاض به في المياه حتى وصل لأقصى عمق لها ثم انزلق من فوق كَفَلِه وأمسك بالذيل وكلما كان الحصان يلتفت حوله أخافه الرجل برشِّ الماء في وجهه. بمجرد أن لمس الحصان الأرض تحت المياه في الجانب الآخر، قفز الرجل على صهوة الحصان وجلس برسوخ ممسكًا اللجام في يده قبل أن يبلغ الحصان الضفة. إن وجود رجل عارٍ فوق حصان عارٍ مشهد جذاب وجدير بالمشاهدة؛ لم يكن لديَّ فكرة عن مدى ملاءمة الاثنين بعضهما لبعض. إن ذيل الحصان زائدة مفيدة جدًّا؛ ذات مرة عبرتُ نهرًا في قارب يُقِل أربعة أشخاص كان يُبحَر به عبر النهر بنفس طريقة الجاوتشو. إذا كان لزامًا على شخص وحصان عبور نهر، فإن أفضل طريقة هي أن يمسك الرجل بالجزء الأمامي المقوس من السرج أو بعرف الفرس ويساعد نفسه بالذراع الأخرى.

نمنا ومكثنا اليوم التالي في نُزُل كوفري. في المساء وصل ساعي البريد الذي كان متأخرًا يومًا كاملًا عن موعده بسبب فيضان نهر روزاريو. غير أنه لم يكن لذلك تبعات كبيرة؛ لأنه على الرغم من أنه مر ببعض البلدات الرئيسة في باندا الشرقية، كان كل ما يحمله رسالتين! كان المشهد من المنزل ممتعًا؛ إذ كان عبارة عن سطح أخضر متموج ويبدو منه من بعيد لمحات من نهر لابلاتا. وجدتني أنظر إلى هذا الإقليم نظرة مختلفة تمامًا عن نظرتي له عندما وصلت لأول مرة. أذكر أنني حينها ظننت أن الأرض هنا مستوية على نحو فريد؛ أما الآن وبعد العدو بالحصان فوق السهول المعشوشبة، فإن المفاجأة الوحيدة بالنسبة لي هي: ما الذي يمكن أن يكون قد دفعني للظن بأنها مستوية من الأساس؟ كانت المنطقة عبارة عن سلسلة من التموُّجات التي ربما لم تكن ضخمة في حد ذاتها، لكن مقارنة بسهول سانتا في كانت جبالًا حقيقية. وبسبب هذه التباينات، توجد وفرة في الجداول الصغيرة بينما الأرض العشبية خضراء ووافرة النماء.

•••

«١٧ نوفمبر»، عبرنا نهر روزاريو الذي كان يتسم بالعمق وسرعة التيار، وبعد عبور قرية كوللا وصلنا إلى كولونيا ديل ساكرامنتو في منتصف اليوم. كانت المسافة عشرين فرسخًا تمر عبر منطقة مغطاة بالحشائش الناعمة لكنها فقيرة سواء في أعداد الماشية أو البشر. دعيت للمبيت في كولونيا ومصاحبة أحد السادة إلى مزرعة الماشية الخاصة به في اليوم التالي، حيث توجد بعض الصخور الكلسية. كانت البلدة مشيدة على صخرة بارزة حجرية مثلما هو الحال مع مونتفيديو، وهي محصنة جيدًا، لكن الحصون والبلدة نفسها عانت أشد المعاناة في الحرب البرازيلية. إنها بلدة قديمة جدًّا ومنحها عدم انتظام الشوارع وبساتين البرتقال والدُّرَّاق القديمة المحيطة بها مظهرًا بديعًا. أما الكنيسة فهي عبارة عن أطلال غريبة؛ فقد كانت تُستخدَم مستودعًا للبارود وضربها البرق في عاصفة من ضمن عشرة آلاف عاصفة رعدية ضربت نهر لابلاتا. كان ثلثا المبنى قد أطيح به حتى الأساس بينما يقف الباقي من المبنى كتذكار محطم ولافت للأنظار لاتحاد القوى بين البرق والبارود. في المساء تجولت حول الحوائط نصف المتهدمة للبلدة. كانت المركز الأساسي للحرب البرازيلية وهي حرب أضرت بهذا البلد أشد الضرر، ولم يكن الضرر في آثارها المباشرة بقدر ما كان في كونها المصدر الأساسي لظهور العديد من الجنرالات والضباط من جميع الرتب الأخرى؛ فقد كان الجنرالات في أقاليم لابلاتا المتحدة يتفوقون في العدد (دون الأجر) على الجنرالات في مملكة بريطانيا العظمى المتحدة. تعلَّم هؤلاء الرجال حب السلطة ولا يمانعون في القليل من المناوشات؛ لذا يوجد كثيرون منهم على استعداد دائم لخلق الاضطرابات والإطاحة بحكومة لم تستقر بعد على أي أساس راسخ. غير أنني لاحظت هنا، وفي أماكن أخرى أيضًا، اهتمامًا شائعًا جدًّا بالانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو ما يبدو دلالة جيدة على ازدهار هذا البلد الصغير. لا يشترط المواطنون حصول النواب الممثلين لهم على قسط كبير من التعليم؛ وقد سمعت بعض الرجال يناقشون مزايا هؤلاء النواب الممثلين لكولونيا؛ إذ قيل إنه «بالرغم من أنهم لم يكونوا تجارًا، فإنهم جميعًا يستطيعون كتابة أسمائهم.» كان يبدو أنهم يظنون أنه من المفترض أن يكون هذا مُرضيًا لكل ذي عقل.

•••

«١٨ نوفمبر»، ذهبت مع مضيفي إلى مزرعة الماشية خاصته في أرويو دي سان خوان. في المساء أخذنا جولة حول ضيعته والتي كانت على مساحة فرسخين مربعين ونصف الفرسخ، وتقع فيما يسمى بالمعتزل؛ أي يواجهها من ناحية نهر لابلاتا بينما يحرس الناحيتين الأخريين جداول مائية لا يمكن اجتيازها. كان ثمة ميناء ممتاز لرسو السفن الصغيرة وكمية وفيرة من قطع الخشب الصغيرة القيمة التي تفيد في إمداد بيونس أيرس بالوقود. انتابني الفضول لمعرفة قيمة مزرعة متكاملة مثل هذه. كان يوجد من الماشية ٣٠٠٠ رأس ويمكن للمزرعة إيواء ثلاثة أو أربعة أمثال هذا العدد؛ كذلك كانت تضم ٨٠٠ مهرة و١٥٠ حصانًا مستأنسًا و٦٠٠ خروف. كان هناك الكثير من المياه والحجر الجيري، إلى جانب منزل بدائي وزرائب ممتازة وبستان دراق. عُرِض عليَّ شراء كل هذا مقابل ٢٠٠٠ جنيه، وكان يريد ٥٠٠ إضافية فقط، وربما كان ليبيعها بمقابل أقل. المشكلة الرئيسية التي تواجه أي مزرعة هي اصطحاب الماشية مرتين في الأسبوع إلى بقعة مركزية لترويضها وعدها. وهذه العملية الأخيرة تعتبر شاقة؛ حيث يوجد عشرة أو خمسة عشر ألف رأس من الماشية معًا. تُدار هذه العملية بمبدأ أن الماشية تقوم دائمًا بتقسيم نفسها إلى مجموعات صغيرة تضم الواحدة منها من أربعين إلى مائة رأس. تُميَّز كل مجموعة ببضعة حيوانات ذات علامات مميزة ويكون عددها معروفًا؛ حتى لو ضاع واحد من بين عشرة آلاف، يُعرَف هذا بسبب غيابه من إحدى المجموعات الصغيرة. في ليلة عاصفة كانت كل الماشية مجتمعة معًا لكن في صباح اليوم التالي تتفرق المجموعات كما سبق حتى يعرف كل حيوان رفاقه من بين عشرة آلاف آخرين.
قابلت في هذا الإقليم مرتين بعض الثيران من سلالة فريدة للغاية تسمى ناتا أو نياتا. تبدو هذه السلالة من الخارج كما لو كانت تحمل نفس صلة قرابة مع الماشية الأخرى مثلما تحمل كلاب البلدوج أو الباك صلة قرابة بالكلاب الأخرى؛ فهي ذات جباه قصيرة جدًّا وعريضة وأنف مرفوع لأعلى والشفة العليا متهدلة لأسفل إلى حد كبير، بينما الفك السفلي يبرز خلف الفك العلوي وذو انحناءة مماثلة لأعلى مما يكشف أسنانها دائمًا. تقع فتحات مناخرها في موضع مرتفع وهي مفتوحة على اتساعها. عندما تمشي تحني رءوسها لأسفل فوق عنق قصير، بينما تكون سيقانها الخلفية أطول من المعتاد نوعًا ما مقارنة بالأمامية. كانت أسنانها المكشوفة ورءوسها القصيرة وفتحات الأنف المتجهة لأعلى تمنحها مظهرًا مضحكًا وراء الخيال من التحدي الممتزج بالثقة بالنفس. منذ عودتي، حصلت على رأس هيكل عظمي بفضل صديقي الكابتن سوليفان من البحرية الملكية البريطانية مودعة الآن في كلية الجراحين.١ كان الدون إف مونيز من لوكسان قد تفضَّل بجمع كل المعلومات التي أمكنه جمعها فيما يتعلق بهذه السلالة. ومن خلال وصفه يبدو أنه منذ حوالي ثمانين أو تسعين عامًا مضى كانت هذه السلالة نادرة ويُحتَفَظ بها كتحف لافتة للنظر في بيونس أيرس. كان الاعتقاد السائد أن هذه السلالة نشأت وسط الهنود جنوب لابلاتا، وأنها كانت أكثر أنواع الحيوانات شيوعًا لديهم. وحتى يومنا هذا، تُظهر تلك الحيوانات التي ترعرعت في الأقاليم الواقعة بالقرب من لابلاتا أصلها الأقل تحضرًا؛ إذ تكون أكثر شراسة من الماشية الشائعة، كما أن البقرة تتخلى بسهولة عن صغيرها الأول إذا كثر التوافد عليها أو تعرضت للمضايقة. من الحقائق الغريبة أن تكوينًا غريبًا شبه مماثل للتكوين غير الطبيعي لسلالة النياتا،٢ حسبما يخبرني د. فالكونر، يميز وحش شيفا، وهي سلالة منقرضة من الحيوانات المجترة الضخمة في الهند. إن سلالة النياتا «حقيقية» فعلًا وينتج ذكر وأنثى النياتا صغارًا على نحو دائم.

عند تزاوج ذكر النياتا مع بقرة شائعة، أو العكس، يسفر عن ذلك نسل ذي سمات وسيطة مشتركة، لكن صفات النياتا تظهر على نحو قوي؛ وطبقًا للسيد مونيز، ثمة دليل واضح للغاية، يناقض الاعتقاد الشائع لدى المزارعين في حالات مماثلة، أنه عند تهجين أنثى النياتا مع الثور الشائع، فإنها تنقل سماتها الفريدة على نحو أقوى مما يحدث عند تهجين ذكر النياتا مع أنثى البقر الشائع. عندما يكون عشب المروج طويلًا بشكل مناسب، تتغذى النياتا باستخدام اللسان وأعلى باطن الفم وكذلك البقر الشائع، لكن في فترات الجفاف الكبرى، عندما ينفق عدد ضخم من الحيوانات، تكون النياتا عرضة لضرر كبير ويمكن أن تلقى حتفها إذا لم يُعتَنَ بها؛ أما الماشية الشائعة، كالخيول، فهي قادرة على البقاء حية بالاقتيات على الأغصان الصغيرة للأشجار والبوص باستخدام شفاهها؛ وهو ما لا تستطيع النياتا القيام به على نحو جيد؛ إذ إن شفاهها لا تلتقي ومِن ثَمَّ وُجِد أنها تَنفُق قبل الماشية الشائعة. هذا في رأيي مثال توضيحي جيد يبين مدى ضآلة قدرتنا على الحكم، من خلال السلوكيات المعتادة في الحياة، على طبيعة الظروف، التي تحدث على فترات متباعدة فقط، التي قد يتحدد على أساسها انقراض أو ندرة نوع معين من الحيوانات.

•••

«١٩ نوفمبر»، بعد عبور وادي لاس فاكاس، بتنا في منزل رجل شمال أمريكي كان يعمل في فرن للجير في أرويو دي لاس فيفوراس. في الصباح توجهنا إلى رأس أو لسان أرضي بارز على ضفاف النهر يسمى بونتا جوردا. حاولنا في طريقنا العثور على نمر أمريكي. كان هناك الكثير من الآثار الحديثة ومررنا بالأشجار التي يُقال إنها تشحذ مخالبها بخدشها لكننا لم ننجح في إزعاج أيٍّ منها. من ذلك المكان ظهر جزء ضخم من مياه نهر الأوروجواي. ونظرًا لنقاء وسرعة التيار، كان يبدو أكثر عظمة من جاره نهر البارانا. على الساحل المقابل، كان هناك العديد من النهيرات النابعة من البارانا قد دخلت نهر الأوروجواي. ومع شروق الشمس، كان اللونان المميزان للمياه يمكن رؤيتهما بوضوح شديد.

في المساء واصلنا طريقنا تجاه مرسيدس على نهر نيجرو. وعند حلول الليل طلبنا الإذن للمبيت في مزرعة تصادف أن وصلنا إليها. كانت ضيعة كبيرة للغاية؛ إذ بلغت مساحتها عشرة فراسخ مربعة، وكان مالكها أحد أكبر ملاك الأراضي في البلاد. كان ابن شقيقه هو من يتولى مسئولية المزرعة ويساعده في هذا قائد في الجيش فر منذ أيام من بيونس أيرس. كانت محادثتهما مسلية بالنظر لمنزلتهما الاجتماعية. وكالمعتاد عبَّرا عن تعجبهما اللامحدود بشأن كروية الأرض، وكان يمكنهما بالكاد تصديق أن حفرة ما، لو كانت بالعمق الكافي، من شأنها أن تؤدي إلى الجانب الآخر، لكنهما سمعا عن بلد يدوم فيها كل من الليل والنهار ستة أشهر بينما سكانها يتسمون بالطول والنحالة الشديدَيْن! كانا مهتمين بمعرفة سعر وحالة الخيول والماشية في إنجلترا. وبعدما عرفا أننا لم نصطد حيواناتنا بالوهق صاحا قائلين: «أنتم إذن لا تستخدمون سوى البولاس.» كانت فكرة وجود بلد حبيس داخل اليابسة بلا سواحل شيئًا جديدًا تمامًا بالنسبة إليهم. في النهاية قال القائد إن لديه سؤالًا يريد أن يسألني إياه وسيكون ممتنًّا للغاية إذا أجبته بالحقيقة. انتابتني قشعريرة عندما فكرت في أنه سيكون سؤالًا علميًّا عميقًا، لكنه سألني «ما إذا كانت نساء بيونس أيرس لَسْن الأجمل في العالم». اندفعت مجيبًا بسرعة: «ليس هناك مثيل لسحرهن.» فأضاف قائلًا: «لديَّ سؤال آخر: هل تلبس النساء في أي مكان في العالم مثل هذه الأمشاط الكبيرة؟» أكدت له بجدية أنْ لا، ما جعلهما في غاية السرور. فهتف القائد قائلًا: «انظر! ها هو رجل رأى نصف العالم يقول إن هذا حقيقي فعلًا. دائمًا ما كنا نظن هذا، لكننا تأكدنا الآن.» منحني حكمي الممتاز على الأمشاط والجمال استقبالًا غلبت عليه أقصى درجات الحفاوة وأصر القائد على أن أنام في سريره وينام هو فوق سرج حصانه.

•••

«٢١ نوفمبر»، انطلقنا مع شروق الشمس ومشينا ببطء على مدى النهار بأكمله. كانت الطبيعة الجيولوجية لهذا الجزء من الإقليم مختلفة عن باقي الأجزاء، وتشبه إلى حد كبير طبيعة البامبا. ونتيجة لذلك كان هناك أحواض شاسعة من النباتات الشائكة وكذلك الخرشوف السكوليمي؛ يمكن بالفعل اعتبار هذه المنطقة بأكملها حوضًا كبيرًا من هذه النباتات. ينمو هذان النوعان من النباتات منفصلين وكل نبتة في صحبة النباتات من جنسها نفسه. كانت نباتات الخرشوف السكوليمي بارتفاع يجعلها تصل لظهر حصان لكن النباتات الشائكة في البامبا غالبًا ما تفوق في ارتفاعها أعلى رأس الراكب. كان الحيد عن الطريق لياردة واحدة أمرًا مستحيلًا، وكان الطريق نفسه مغلقًا جزئيًّا وفي بعض الأحيان يكون مغلقًا كليًّا. بالطبع لا يوجد أي مروج لترعى فيها الماشية، وإذا تصادف أن دخلت الماشية أو الخيول إلى المنطقة، كانت تضل طريقها تمامًا خلال وجودها بها؛ لذا فإن قيادة الماشية في هذا الوقت من العام أمر غاية في الخطورة؛ لأنها عندما تكون منهكة بما يكفي على نحو يصعب عليها مواجهة النباتات الشائكة، فإنها تندفع بينها ولا يظهر لها أثر مجددًا. في هذه المقاطعات يوجد القليل جدًّا من مزارع الماشية، وتقع بجوار وديان رطبة حيث لا يمكن لأي نوع من هذه النباتات التي تجتاح الأراضي أن توجد لحسن الحظ. نظرًا لحلول الليل قبل أن نصل لوجهة رحلتنا النهائية، نمنا في كوخ صغير بائس يسكنه زوج وزوجة من أفقر ما يكون. ومع وضع ظروفهما المعيشية الصعبة في الاعتبار، كان الاحتفاء الشديد والرسمي في الوقت نفسه من جانب مضيفينا مبهجًا إلى حد كبير.

•••

«٢٢ نوفمبر»، وصلنا إلى مزرعة تقع على نهر بيركيلو يملكها رجل إنجليزي مضياف للغاية، كنت أحمل له خطاب تعريف من صديقي السيد لام. مكثت هناك ثلاثة أيام. وفي صباح أحد الأيام ذهبت بصحبة مضيفي إلى سلسلة جبال بيدرو فلاكو الواقعة على بعد حوالي ٢٠ ميلًا أعلى نهر نيجرو. كانت المنطقة بأكملها تقريبًا مغطاة بحشائش جيدة، ولكنها خشنة ترتفع حتى بطون الخيل؛ مع ذلك كان ثمة أجزاء لا تحوي أي ماشية. إن من شأن إقليم باندا الشرقية، عند توافر النباتات، إعاشة عدد مذهل من الحيوانات، كما يصل حجم التصدير السنوي لجلود الحيوانات من مونتفيديو إلى ٣٠٠ ألف، والاستهلاك المنزلي، بالنظر إلى النفايات، ضخم جدًّا. أخبرني مدير إحدى المزارع أنه غالبًا ما يضطر لإرسال قطعان كبيرة من الماشية في رحلات طويلة إلى منشأة تمليح وأن الحيوانات المُنهكة كثيرًا ما نضطر إلى ذبحها وسلخها، لكنه لم ينجح في إقناع الجاوتشو بالأكل منها وكان كل مساء يُذبح حيوان جديد من أجل عشائهم! كان منظر نهر نيجرو من الجبال أكثر جمالًا من أي مشهد آخر رأيته في هذا الإقليم. فقد كان النهر عريضًا وعميقًا وسريع التيار، وينقطع عند سفح جُرْف صخري شديد التحدُّر؛ ويمتد بمحاذاة مساره شريط من الأشجار بينما كان الأفق ينتهي عند التموُّجات البعيدة للسهل المعشوشب.

عندما كنت في هذه المنطقة المجاورة، سمعت عدة مرات بجبال لاس كوينتاس، وهي تلة تبعد عدة أميال شمالًا. كان الاسم يعني تل الخرز. وقد تأكد لي أنه يوجد هناك أعداد هائلة من حجارة صغيرة دائرية الشكل بألوان متعددة تحوي كل منها ثقبًا أسطوانيًّا صغيرًا. وكان الهنود فيما سبق يجمعونها من أجل صنع القلادات والأساور وهو شغف شائع، حسبما يتراءى لي، في كل الأمم غير المتمدنة وكذلك أكثرها تمدنًا. لم أعلم ما يجب فهمه من هذه القصة، لكن عند ذكرها في رأس الرجاء الصالح للدكتور أندرو سميث، أخبرني أنه يتذكر العثور على بعض بلورات الكوارتز على الساحل الجنوبي الشرقي لأفريقيا على بعد حوالي مائة ميل شرق نهر سان جون، وقد صارت حوافها كليلة بفعل التآكل، واختلطت بالحصى على شاطئ البحر. كان قطر كل بلورة خمسة خيوط ويبلغ طولها من بوصة إلى بوصة ونصف. كان العديد من هذه البلورات يحوي قناة صغيرة تمتد من طرف إلى آخر ذات شكل أسطواني تمامًا وذات حجم يصلح لإدخال خيط خشن أو وتر ناعم مصنوع من أمعاء الحيوانات. كانت البلورات حمراء أو بيضاء معتمة. كان السكان الأصليون على دراية بهذا التركيب للبلورات. لقد ذكرت هذا؛ لأنه على الرغم من عدم وجود أي جسم بلوري معروف حاليًّا له هذا التركيب، ربما يقود هذا أحد الرحالة في المستقبل للبحث في الطبيعة الحقيقية لمثل هذه الأحجار.

•••

أثناء إقامتنا في هذه المزرعة، كنت سعيدًا بما رأيته وسمعته عن كلاب الرعاة في هذه المنطقة.٣ من الشائع أثناء التجول بالخيل رؤية قطيع كبير من الخراف يحرسه كلب أو اثنان على بعد بضعة أميال من أي منزل أو إنسان. كثيرًا ما كنت أتساءل كيف يمكن أن تنشأ صداقة بهذه المتانة بين الخراف والكلاب. تتضمن طريقة تدريب الكلاب فصل الجرو، في سن صغيرة للغاية، عن أمه وتعويده على رفاقه المستقبليين. يُمسَك بالنعجة لإرضاع الصغير ثلاث مرات أو أربعًا، ويصنع له عش من الصوف في حظيرة الخراف، ولا يُسمح له أبدًا في أي وقت بالاختلاط بالكلاب الأخرى أو بأطفال العائلة. علاوة على ذلك، يُخصى الجرو، يُخصَى عادة حتى عندما يكبر لا يكون لديه مشاعر مشتركة مع بقية بني جنسه. وبسبب هذه التربية لا يكون لديه أي رغبة في ترك القطيع ومثلما يدافع أي كلب آخر عن سيده، أي الإنسان، ستدافع هذه الكلاب عن الخراف كذلك. من الممتع عند الاقتراب من قطيع من الخراف ملاحظة كيف يبدأ الكلب النباح في الحال بينما تتجمع الخراف خلفه كما لو كانت تتجمع حول الكبش الأكبر سنًّا. من السهل كذلك تعليم هذه الكلاب إرجاع القطعان إلى المنزل في ساعة محددة من المساء. أما أكثر عيوب هذه الكلاب إزعاجًا وهي صغيرة، فهي رغبتها في اللعب مع الخراف؛ لأنها أثناء هذا أحيانًا ما تجعل تابعيها المساكين يركضون بلا رحمة.

يأتي كلب الراعي إلى المنزل كل يوم من أجل الحصول على بعض اللحم، وبمجرد إعطائه إياه يتسلل مبتعدًا كما لو كان خجلان من نفسه. في هذه الأحيان تكون الكلاب المنزلية استبدادية للغاية، ويقوم أصغرها بمهاجمة ومطاردة الغريب. مع ذلك، وبمجرد أن يصل الأخير إلى القطيع، يلتف ويبدأ في النباح، مما يجعل الكلاب المنزلية تنكص على أعقابها بأقصى سرعة. على نحو مشابه، نادرًا ما يجرؤ قطيع كامل من الكلاب البرية الجائعة (وأخبرني البعض أنه لا يحدث مطلقًا) على مهاجمة قطيع يحرسه ولو واحدًا من هذه الكلاب الراعية الوفية. تبدو لي القصة بأكملها مثالًا مثيرًا للفضول للمرونة التي تتسم بها عواطف الكلاب؛ ومع ذلك، سواء كان بريًّا أو مُدرَّبًا؛ فهو يكنُّ شعورًا بالاحترام أو الخوف تجاه من يتبعون غريزة الارتباط بالجماعة. فلا يمكننا فهم المبدأ الذي تتصرف الكلاب البرية على أساسه عندما تهرب بعيدًا بسبب كلب وحيد مع قطيعه، فيما عدا أنها تملك فكرة مشوشة أن من يملك حس الارتباط بالجماعة على هذا النحو يكتسب قوة كما لو كان في صحبة عدد من بني جنسه. وقد لاحظ إف كوفييه أن كل الحيوانات التي تُستأنس بسهولة تعتبر الإنسان فردًا من مجتمعها؛ ومِن ثَمَّ تتبع غريزة الجماعة الخاصة بها. في الحالة أعلاه، ينظر كلب الراعي للخراف باعتبارهم إخوة له؛ ومِن ثَمَّ يكتسب الثقة، وتتقبل الكلاب البرية هذا المشهد، وإن كان تقبلًا جزئيًّا، عندما ترى الخراف في قطيعٍ يقوده كلب الراعي رغم أنها تعلم أن الخراف الفردية ليست كلابًا، بل فرائس مستساغة.

في إحدى الأمسيات جاء مروض خيول بغرض ترويض بعض المهور. سأصف الخطوات الإعدادية للقيام بهذا؛ لاعتقادي أنه لم تُذكَر من قِبَل أي رحالة آخر. تُساق مجموعة من الخيول البرية الصغيرة إلى الحظيرة أو مكان مغلق أكبر مصنوع من الأعمدة ويُغلَق الباب. سنفترض أن رجلًا بمفرده عليه الإمساك بحصان لم يعرف من قبل السرج أو اللجام واعتلاء ظهره. أتخيل أن عملًا مثل هذا سيكون مستحيلًا تمامًا على أي أحد باستثناء الجاوتشو. ينتقي الجاوتشو مهرًا مكتمل النمو؛ وبينما يركض الحصان حول المكان، يلقي الجاوتشو الوهق للإمساك بالساقين الأماميتين. وفي الحال يقع الحصان ويتدحرج محدثًا ارتطامًا شديدًا بالأرض، وبينما يقاوم وهو على الأرض، يصنع الجاوتشو دائرة بالوهق الذي يمسك به بإحكام ليمسك بإحدى الساقين الخلفيتين تحت دابرة الحصان مباشرة ويقترب بها نحو الساقين الأماميتين ثم يعقد حبل الوهق حتى تصبح السيقان الثلاث مربوطة معًا. بعد ذلك يجلس فوق رقبة الحصان ويثبِّت لجامًا قويًّا بدون شكيمة إلى الفك السفلي وذلك بتمرير سير جلدي رفيع عبر الفتحات في نهاية اللجام ولفه عدة مرات حول كل من الفك واللسان. وبذلك تصبح الساقان الأماميتان مقيدتين معًا بقوة بسير جلدي قوي مثبت بعقدة متحركة. يُرخَى اللازو (الحبل ذو الأنشوطة) الذي يربط السيقان الثلاث معًا وينهض الحصان بصعوبة. الآن يمسك الجاوتشو اللجام المثبت بالفك السفلي بإحكام، ويسوق الحصان خارج الحظيرة. إذا كان ثمة رجل آخر حاضرًا (وإلا فسيكون المجهود أكبر بكثير)، يمسك هذا الرجل برأس الحيوان بينما يضع الأول السرج والأغطية الخاصة بالحصان ويربط الجميع معًا. خلال هذه العملية يظل الحصان يلقي نفسه أرضًا مرارًا وتكرارًا بسبب خوفه ودهشته من كونه مربوطًا على هذا النحو من حول الخصر حتى تنهك قواه ولا يقدر على النهوض. في النهاية، عندما تنتهي عملية التسريج، يكون الحيوان المسكين قادرًا بالكاد على التنفُّس وقد ابيضَّ من الزبد والعرق. يستعد الجاوتشو الآن لامتطاء الحصان بالضغط بقوة فوق رِكاب السرج حتى لا يفقد الحصان توازنه، وفي اللحظة التي يرمي فيها قدمه فوق ظهر الحصان، يشد العقدة المتحركة التي تربط الساقين الأماميتين معًا ويتحرر الحصان. بعض مروضي الخيول يشدون العقدة بينما الحيوان راقدًا أرضًا ويقفون فوق السرج للسماح له بالوقوف من تحتهم. يصدر عن الحصان، الذي يجتاحه الخوف، بضع قفزات من أعنف ما يكون ثم يبدأ العدو بأقصى سرعة، وعندما ينهك تمامًا يقوم الجاوتشو بصبر بإعادته إلى الحظيرة حيث يُفَك قيد الحيوان المسكين الذي بالكاد يكون حيًّا وتنبعث منه الحرارة. تلك الخيول التي لا تهرب بل تلقي نفسها أرضًا بعناد وقسوة هي الأكثر إرهاقًا وإزعاجًا. وتكون العملية شاقة جدًّا في هذه الحالة، لكن بعد محاولتين أو ثلاث يصبح الحصان مروضًا ومستأنسًا. مع ذلك، يظل الحصان يُمتطى لأسابيع باستخدام الشكيمة الحديدية وحلقة مُحكَمة؛ إذ يجب عليه تعلم طاعة إرادة راكبه عن طريق الشعور بقوة اللجام، قبل أن يكون لأي لجام مهما بلغت قوته أي فائدة.

تتوافر الحيوانات بكثرة في هذه البلاد لدرجة يغيب معها أي اتحاد وثيق بين الإنسانية والمصلحة الشخصية؛ لذا أخشى أن الأولى نادرًا ما تكون معروفة هنا. في أحد الأيام، كنت ممتطيًا حصاني في سهول البامبا بصحبة صاحب مزرعة ذي هيبة ووقار شديدين، وكان حصاني متخلفًا عني بسبب الإرهاق. كان الرجل غالبًا ما يصيح بي لأَنخُسه. عندما اعترضت على هذا بدافع الشفقة؛ لأن الحصان كان مرهقًا للغاية، صاح قائلًا: «ولمَ لا؟ لا تشغل بالك. انخُسْه؛ فهو حصاني.» بعدها وجدت صعوبة في إفهامه أنني لم أستخدم المِهْمَاز من أجل الحصان وليس من أجله. فصاح وعلى وجهه نظرة اندهاش جم: «دون كارلوس! يا للعجب!» كان من الواضح أن مثل هذه الفكرة لم ترد على باله من قبل.

من المعروف أن الجاوتشو فرسان مهرة للغاية. لم يكن لديهم اقتناع بفكرة ركوب الحصان وجعله يفعل ما يريد؛ فقد كان معيار الفارس الجيد عندهم هو ذلك الرجل الذي يستطيع السيطرة على مهر جموح، أو من ينزل على قدميه إذا وقع حصانه، أو من يمكنه القيام بأفعال بطولية أخرى من هذا النوع؛ فقد سمعت عن رجل يراهن أنه يمكنه إسقاط حصانه أرضًا عشرين مرة دون أن يقع هو أكثر من مرة واحدة. أذكر أني رأيت جاوتشو يمتطي حصانًا عنيدًا جدًّا ارتفع عاليًا جدًّا ثلاث مرات متتالية حتى إنه كان يسقط للخلف بعنف شديد. كان الرجل يحدد بهدوء غير معهود الوقت المناسب الذي سيقفز فيه دون لحظة واحدة قبله أو بعده، وبمجرد أن ينهض الحصان، كان الرجل يقفز فوق ظهره وفي النهاية يبدآن العدو. لا يبدو أن الجاوتشو يبذلون قط أي مجهود عضلي. فقد كنت في أحد الأيام أراقب فارسًا ماهرًا؛ إذ كنا نعدو معًا بسرعة وقلت لنفسي: «بالتأكيد إذا بدأ الحصان العدو، وبدوت لا مباليًا في مقعدك، فستسقط بالتأكيد.» في هذه اللحظة، اندفع ذكر نعام من عشه ومر تحت أنف الحصان مباشرة مما جعل المهر الصغير يقفز على جانب واحد مثل الظبي؛ أما الرجل، فكل ما يمكن أن يقال إنه أجفل وانتابه الخوف مثل الحصان.

في تشيلي وبيرو، يُبذَل مجهود أكبر مع فم الحصان أكثر مما يُبذل في لابلاتا، وهذا يعتبر بوضوح نتيجة للطبيعة الأكثر تعقيدًا للبلاد؛ ففي تشيلي لا يعتبر الحصان مروَّضًا تمامًا حتى يمكن إجباره على الوقوف في منتصف عدوه بأقصى سرعة في أي بقعة؛ على سبيل المثال على عباءة ملقاة على الأرض، أو، مجددًا، سينطلق ناحية جدار ويشب عاليًا ويخدش سطحه بحوافره. لقد رأيت حصانًا يعدو بكل حماس، لكن راكبه كان يسيطر عليه بإصبعي السبابة والإبهام فقط ويعدو به بأقصى سرعة عبر فناء ثم يُجبَر على الاستدارة حول عمود شرفة بسرعة هائلة لكن على مسافة ثابتة؛ حتى إن الراكب كان يستطيع، من خلال مد ذراعه، حك العمود بإصبع واحد في الوقت نفسه.

بعد ذلك، يصنع نصف قفزة في الهواء بينما الذراع الأخرى ممدودة بالطريقة نفسها، ويستدير بقوة مدهشة في الاتجاه المعاكس.

إن مثل هذا الحصان مروض جيدًا، ورغم أن هذا الحصان قد يبدو في البداية لا فائدة منه، فإن الأمر عكس ذلك تمامًا؛ كل ما في الأمر أنه يتعلم ما يعد واجبًا يوميًّا أساسيًّا حتى الوصول إلى الإتقان الكامل. عندما يتم السيطرة على ثور والإمساك به بالوهق، فإنه أحيانًا ما يدور بأقصى سرعة في دوائر مرارًا، وإذا لم يكن الحصان، الذي ينزعج من قوة الشد الهائلة للثور، مروضًا جيدًا، فلن يكون مستعدًّا للدوران كمحور عجلة. ونتيجة لهذا قُتِل العديد من الرجال؛ لأنه إذا التف اللازو حول جسد راكب الحصان، فإنه يقصمه فورًا إلى نصفين بسبب قوة شد الحيوانين المتقابلين. بالمبدأ نفسه تُدار السباقات؛ حيث يكون طول المضمار مائتي ياردة أو ٣٠٠ فقط، والمطلوب هو خيول يمكنها الانطلاق بسرعة. ولا تكون خيول السباق مدربة فقط على الوقوف بحوافرها على خط البداية، بل كذلك على إطلاق السيقان الأربع معًا لتوظيف الحركة الكاملة للأطراف الخلفية للحصان. في تشيلي، رُويت لي قصة أُومِن بصحتها وتشكِّل مثالًا توضيحيًّا جيدًا لاستخدام حيوان مروض جيدًا. ذات يوم، قابل رجل ذو مكانة يمتطي حصانًا رجلين آخرين، كان أحدهما يركب حصانًا عرف الرجل أنه قد سُرِق منه. فتحداهما واستجابا له بإشهار سيفيهما ومطاردته. ظل الرجل متقدمًا عليهما بفضل حصانه السريع البارع، وبينما كان يمر بأجمة كثيفة دار حولها وأوقف حصانه تمامًا. اضطر المطاردان إلى توجيه ضرباتهما على جانب واحد وللأمام. ثم بانطلاقه في إثرهما، رشق سكينه في ظهر أحدهما وأصاب الآخر واستعاد حصانه من السارق المُحتضَر وعاد للمنزل. إن القيام بهذه الأعمال البطولية في الفروسية يتطلب أمرين ضروريين: شكيمة قوية جدًّا كالتي يستخدمها المماليك، والتي يعرف الحصان قوتها جيدًا رغم أنها نادرًا ما تُستَخدم؛ بالإضافة إلى مهاميز كبيرة ثلمة يمكن استخدامها إما بلمسة بسيطة أو كوسيلة لإحداث ألم شديد. أعتقد أنه مع المهاميز الإنجليزية التي تخترق الجلد بأقل لمسة، سيكون من المستحيل ترويض حصان بالطريقة الجنوب أمريكية.

في إحدى المزارع بالقرب من لاس فاكاس يُذبَح أسبوعيًّا عدد كبير من أفراس الخيل من أجل جلودها، رغم أن القطعة الواحدة تساوي خمسة دولارات أو ما يعادل حوالي شلنين ونصف فقط. في البداية يبدو غريبًا أن تُقتَل الأفراس من أجل هذا المبلغ الزهيد، لكن بما أن الاعتقاد السائد في هذه البلاد أن ترويض أو ركوب أفراس الخيل ضربٌ من السخف، فإنه لا فائدة منها إلا التوالد. كان الشيء الوحيد الذي كانت تستخدم فيه الأفراس هو إخراج حبوب القمح من السنابل؛ وفي سبيل ذلك كانت تساق حول سياج دائري تُنثَر فيه سنابل القمح على الأرض. كان الرجل الموكل بذبح الأفراس تصادف أن كان مشتهرًا ببراعته في استخدام اللازو. فكان يقف على مسافة اثنتي عشرة ياردة من باب الحظيرة وعقد رهانًا أنه يمكنه الإمساك بجميع الحيوانات من السيقان بدون أن يفلت منه أي حيوان بينما تندفع مارة به. كان ثمة رجل آخر قال إنه سيدخل الحظيرة ماشيًا وسيمسك بفرس ويربط ساقيها الأماميتين ويسوقها خارج الحظيرة ويسقطها أرضًا ويقتلها ويسلخ جلدها ثم يعلقه ليجف (وتلك الأخيرة مهمة مرهقة)، وقال إنه سيقوم بهذه العملية كاملة مع واحد وعشرين حيوانًا في يوم واحد، أو أنه سيقتل ويسلخ خمسين في الوقت نفسه. كانت هذه ستكون مهمة إعجازية؛ لأن قتل وسلخ جلود خمسة عشر أو ستة عشر حيوانًا يعتبر يوم عمل جيد.

•••

«٢٦ نوفمبر»، أثناء عودتي سلكتُ طريقًا مستقيمًا حتى مونتفيديو. وعندما سمعت عن وجود عظام عملاقة في منزل ريفي مجاور على ضفة سارانديس، وهو مجرى مائي صغير يصب في نهر ريو نيجرو، ذهبت بحصاني إلى هناك يصحبني مضيفي واشتريت بما قيمته ثمانية عشر بنسًا رأس توكسودون.٤ كان الرأس كاملًا إلى حد كبير عندما عُثِر عليه، لكن الصبية كانوا قد حطموا بعض الأسنان برميها بالأحجار ثم نصبوا الرأس كهدف للتصويب. وبمحض صدفة حسنة للغاية وجدت سنًّا سليمة، كانت ملائمة تمامًا لأحد الفراغات في تلك الجمجمة المطمرة بمفردها على ضفاف نهر تيرسيرو على مسافة ١٨٠ ميلًا من هذا المكان. وجدت بقايا هذا الحيوان العجيب في مكانين آخرين؛ لذا لا بد أنه كان شائعًا فيما مضى. كذلك وجدت هنا أجزاء كبيرة من درع حيوان عملاق يشبه المدرع وجزءًا من رأس كبير للميلودون. كانت عظام هذا الرأس حديثة جدًّا؛ حتى إنها كانت تحوي طبقًا لتحليل السيد تي ريكس سبعة بالمائة من المادة الحيوانية، وعندما توضع في مصباح كحولي تحترق محدثة شعلة صغيرة.

لا بد أن عدد البقايا المدفونة في راسب المصب الكبير الذي يُكوِّن سهول البامبا ويغطي الصخور الجرانيتية في باندا الشرقية ضخم على نحو غير عادي. أعتقد أنه لو رُسِم خط مستقيم في أي اتجاه عبر سهول البامبا؛ فإنه سيخترق هيكلًا عظميًّا أو بعض العظام. بالإضافة إلى العظام التي وجدتها خلال رحلاتي القصيرة، سمعت عن وجود العديد منها، وبها يصبح أصل مسميات مثل «نهر الحيوانات» و«تل العمالقة» واضحًا. في مرات أخرى سمعت عن الخاصية المذهلة لبعض الأنهار، والتي تملك القدرة على تحويل العظام الصغيرة إلى كبيرة، أو كما ادعى البعض، فإن العظام نفسها تزداد حجمًا. على حد علمي لم يهلك أحد من هذه الحيوانات كما افتُرِض مسبقًا في الأراضي السبخة أو القيعان الطينية للأنهار في اليابسة الحالية، بل انكشفت عظامها بواسطة المجاري المائية التي تقطع الراسب الواقع تحت الماء الذي كانت مدفونة به في الأساس. ومن خلال ذلك يمكننا أن نستنتج أن منطقة سهول البامبا بالكامل هي بمنزلة مقبرة كبيرة لهذه الحيوانات العملاقة الرباعية الأقدام المنقرضة.

بحلول منتصف اليوم، الثامن والعشرين، وصلنا إلى مونتفيديو بعد مسيرة استمرت يومين ونصف. كانت المنطقة على طول الطريق ذات طابع موحد إلى حد بعيد؛ إذ كانت بعض الأجزاء صخريةً ووعرةً أكثر من الأجزاء القريبة من لابلاتا. على مسافة ليست ببعيدة عن مونتفيديو مررنا عبر قرية لاس بيتراس، والمسماة كذلك بسبب وجود كتل كبيرة دائرية من حجر السيانيت. كان مظهرها جميلًا إلى حد ما. في هذه القرية كان يجب دائمًا وصف أي مشهد لبضع أشجار من التين تحيط بمجموعة من البيوت وموقع مرتفع بضع مئات من الأقدام فوق المستوى السائد بأنه مشهد خلاب.

•••

خلال الأشهر الستة الأخيرة أتيحت لي فرصة رؤية القليل من سمات سكان هذه الأقاليم. كان الجاوتشو أو الريفيون أرفع مقامًا بكثير ممن يسكنون المدن. كان الجاوتشو دائمًا كرماء ومضيافين ودمثين لأقصى درجة، ولم أرَ منهم أي لمحة من وقاحة أو استقبالًا بلا حفاوة في أي وقت. يتميز الجاوتشو بالتواضع وهو يحترم كلًّا من ذاته وبلاده، لكن في الوقت نفسه يتسم بالنشاط والجرأة. على الجانب الآخر، ثمة الكثير من السرقات ترتكب، وهناك الكثير من سفك الدماء وتعد عادة حمل السكين على نحو دائم هي السبب في حدوث الأخير. من المحزن معرفة عدد الضحايا الذين يفقدون أرواحهم بسبب خلافات تافهة. في أثناء القتال يحاول كل طرف ترك علامة على وجه خصمه بقطع أنفه أو عينيه وهو ما يُوثَّق عادة بندبات عميقة وبشعة المنظر. تأتي السرقات كنتيجة طبيعية لانتشار المقامرة والإسراف في معاقرة الخمور والبطالة الشديدة. في مرسيدس، سألت رجلين لماذا لا يعملان، فقال الأول بجدية إن النهار طويل جدًّا، بينما قال الثاني إنه فقير جدًّا. كان عدد الخيول ووفرة الغذاء هما سبب دمار أي صناعة. علاوة على ذلك، يوجد الكثير جدًّا من الأعياد، ومرة أخرى لا يمكن النجاح في إنجاز أي شيء بدون أن يبدأ والقمر في طور الهلال المتزايد؛ ومِن ثَمَّ يضيع نصف الشهر لهذين السببين.

كانت الشرطة والعدالة غير فعَّالين مطلقًا. فإذا ارتكب رجل فقير جريمة قتل، يُقبَض عليه ويُسجَن وربما يُعدَم بالرصاص؛ بينما إذا قام بهذا رجل غني وله أصدقاء ذوو نفوذ، يمكنه الاعتماد على ذلك في ألا تلحق به أي عواقب خطرة. من الغريب أن أكثر سكان البلاد تمتعًا بالاحترام دائمًا ما يساعدون قاتلًا في الهروب من العدالة؛ يبدو أنهم يظنون أن الخطايا الفردية موجهة ضد الحكومة وليس ضد الناس. لا يملك المسافر أي شيء يحميه سوى أسلحته، وتعد عادة حملها دائمًا هي الرادع الرئيس لوقوع المزيد من السرقات.

تشترك صفات الطبقات الأعلى والأكثر تعليمًا وثقافة من سكان المدن، وإن كان بدرجة أقل، مع الصفات الجيدة للجاوتشو، لكني أخشى أنها ملوثة بالعديد من النقائص والرذائل التي يخلو منها الجاوتشو. فالفسوق والسخرية من كل الأديان وأسوأ أنواع الفساد تعتبر أمورًا شائعة. فمن الممكن رشوة أي موظف حكومي تقريبًا. وكان رئيس مكتب البريد يبيع عملات حكومية مزورة. وأما المحافظ ورئيس الوزراء، فقد تحالفا معًا علنًا لنهب الدولة. أما تطبيق العدالة، حيث يكون للذهب دور فعال، فكان نادرًا ما يتوقع أحد حدوثه. كنت أعرف رجلًا إنجليزيًّا ذهب لكبير القضاة (أخبرني أنه آنذاك لم يكن يدرك الطريقة التي تسير بها الأمور في المكان حيث كان يرتعش عند دخوله إليه) وقال له: «سيدي، لقد أتيتُ لأعرض عليك مائتي دولار ورقية (ما يساوي خمسة جنيهات إسترلينية) إذا ألقيت القبض على رجل خدعني قبل حلول وقت محدد. أدرك أن هذا مخالف للقانون، لكن المحامي الخاص بي (وذكر اسمه) نصحني باتخاذ هذه الخطوة.» ابتسم القاضي في قبولٍ وشكرَهُ، وكان الرجل المطلوب في السجن قبل حلول الليل. في ظل هذا العوز التام للمبادئ لدى العديد من قادة القرية، وامتلائها بالضباط المشاغبين المرتشين، لا يزال الناس يأملون أن تتمكن حكومة ديمقراطية من تحقيق النجاح!

عند الدخول في مجتمعات هذه البلاد، يلفت نظرَ المرء صفتانِ أو ثلاث مثيرة للانتباه على نحو خاص. فالخلق الدمث والجليل يتخلَّل كل طبقات المجتمع، بالإضافة إلى الذوق المتميز لدى النساء في ثيابهن والمساواة بين جميع الطبقات. في ريو كولورادو، اعتاد بعض الرجال من أصحاب أكثر المتاجر تواضعًا تناول الطعام مع الجنرال روساس. كان هناك ابنٌ لضابط في باهيا بلانكا كان يكسب عيشه من صنع السيجار الورقي، وكان يتمنى مرافقتي إلى بيونس أيرس كمرشد أو خادم، لكن والده رفض بسبب الخطر فقط. كان هناك العديد من الضباط في الجيش لا يجيدون القراءة أو الكتابة، إلا أن الجميع يلتقون في المجتمع سواسية. في إنتري ريوس، كان مجلس النواب يتكوَّن من ستة نواب فقط، وكان أحدهم يملك متجرًا عاديًّا، لكن من الواضح أن هذا لم ينقص من قدره لدى الحكومة. كل هذا متوقعًا حدوثُه في دولة حديثة؛ مع ذلك، فإن عدم اعتماد المكانة الاجتماعية على الوظائف المرموقة يبدو أمرًا غريبًا لشخص إنجليزي.

عند الحديث عن هذه الدول، يجب دائمًا الوضع في الاعتبار الطريقة التي تأسَّست بها بواسطة الأب غير الشرعي لها، وهو إسبانيا. لعل من الواجب عمومًا الإشادة بما نُفذ أكثر من إلقاء اللوم فيما قد يكون معيبًا. من المستحيل الشك في أن التحرر الشديد في هذه البلاد لا بد أن يقود في النهاية لنتائج جيدة. فكل من زاروا دول أمريكا الجنوبية التي تتحدث الإسبانية ينبغي أن يتذكروا بكل امتنانٍ وعرفانٍ التسامحَ العام الشديد مع الأديان الأجنبية، والاهتمام الموجه لوسائل التعليم وحرية الصحافة والتسهيلات المتاحة للأجانب على نحو خاص، كما يجب أن أضيف، لأي شخص يعمل بشيء له أي علاقة ولو بعيدة بالعلوم.

•••

«٦ ديسمبر»، أبحرت البيجل من نهر لابلاتا ولم تدخل مجراه الطيني مرة أخرى قط. كان مسارنا متجهًا نحو ميناء بورت ديزاير على ساحل باتاجونيا. قبل أن أمضي في حديثي، سوف أسرد هنا بعض الملاحظات التي دوَّنتها في البحر.
في العديد من المرات التي كانت السفينة تبعد فيها بضعة أميال عن مصب لابلاتا، وفي مرات أخرى حين كانت في اتجاه سواحل باتاجونيا الشمالية، أحاطت بنا الحشرات؛ ففي مساء أحد الأيام، ونحن على بعد نحو عشرة أميال من خليج سان بلاس كانت هناك أعداد ضخمة من الفراشات تتجمع في جماعات أو أسراب لا تعد ولا تُحصى تمتد على مرمى البصر. وحتى باستخدام التليسكوب لم يكن من الممكن رؤية مكان خالٍ من الفراشات. صاح البحارة قائلين: «إنها تمطر فراشات!» وكان هذا هو ما يعبر عن المنظر بالفعل. كان هناك أكثر من نوع موجود، لكن الجزء الأساسي كان من نوع مشابه جدًّا لفراشة البكورية الطبية الإنجليزية الشائعة، ولكنه لا يطابقها. كان هناك بعض العُثَث وغِمْديات الأجنحة تصاحب الفراشات، وكانت هناك خُنْفَساء أرضية جميلة من نوع الكالوسوما تطير على متن السفينة. ثمة مرات أخرى مسجلة وجدت فيها هذه الخُنْفَساء في عرض البحر، وهذا أمرٌ أجدر بالملاحظة؛ إذ إن الخنافس الأرضية نادرًا ما تطير أو لا تطير مطلقًا. كان اليوم صحوًا وهادئًا وكان اليوم السابق مشابهًا له كذلك بضوء ساطع ورياح متغيرة. من هنا لا يمكننا أن نفترض أن تلك الحشرات قد أتَتْ من اليابسة بفعل الرياح؛ لكن يجب أن نستنتج أنها طارت طواعية. كانت الجماعات الضخمة من فراشة الصفراء أو الخطافية تبدو في البداية أنها تقدم حالة مشابهة لتلك الحالات التي سُجلت عن نزوح نوع آخر من الفراشات وهي بشورة الحَرْشَف (أو أبو دقيق الخبازي)،٥ لكن وجود حشرات أخرى يجعل هذه الحالة مختلفة، بل أكثر غموضًا. قبل الغروب، هب نسيم قوي من الشمال، ولا بد أن هذا أدى لهلاك عشرات الآلاف من الفراشات والحشرات الأخرى.
في مناسبة أخرى، ونحن على مسافة سبعة عشر ميلًا من كيب كورينتس، كان بحوزتي شبكةٌ على متن السفينة لاصطياد الحيوانات البحرية. أثناء سحبي للشبكة دهشت حين وجدت أنها تحوي الكثير من الخنافس، ورغم أننا كنا في عرض البحر لم يبدُ أنها متضررة كثيرًا من المياه المالحة. فقدت بعضًا من هذه العينة من الخنافس، لكن ما حفظته منها كان ينتمي لأجناس مثل خنافس المنطقة القطبية الشمالية Colymbetes، وخنافس الماء Hydroporus، وخنافس المنطقة القطبية الجنوبية Hydrobius (نوعان)، والنوتافوس Notaphus، وسينوكوس Cynucus، وأديمونيا Adimonia، والجعل Scarabaeus. في البداية ظننتُ أن هذه الحشرات أبعدتْها الرياح عن الشاطئ، لكن بعد التفكير في أن أربعة من بين هذه الأجناس الثمانية لخنافس مائية واثنين آخرين يألفان الماء إلى حد ما، بدا لي أن الاحتمال الأغلب أنها دخلت البحر عبر مجرى مائي صغير يُصرِّف مياه بحيرة بالقرب من كيب كورينتس. على أي حال فإنه من المثير العثور على حشرات حية تسبح في عرض البحر على بعد سبعة عشر ميلًا عن أقرب نقطة لليابسة. ثمة العديد من الروايات عن حشرات جرفتها الرياح إلى سواحل باتاجونيا. وقد لاحظ هذا الكابتن كوك، ولاحظه كذلك منذ عهد أقرب الكابتن كينج قبطان سفينة «أدفنتشر». ربما كان السبب هو الحاجة إلى ملجأ، يتمثل في كل من الأشجار والتلال؛ لذا فإن أي حشرة تطير مع نسيم قادم من الشاطئ ستكون عرضة إلى حد كبير لأن تنجرف إلى البحر. أبرز مثال عرفته لحشرة اصطيدت بعيدًا عن اليابسة كان لجُنْدب كبير (Acrydium) طار ليستقر على متن السفينة عندما كانت البيجل تواجه الرياح عند جزر الرأس الأخضر، وكذلك عندما كانت أقرب نقطة لليابسة، وهي الرأس الأبيض على ساحل أفريقيا، لا تواجه الرياح التجارية مباشرة، تبعد ٣٧٠ ميلًا.٦
خلال عدة مناسبات، عندما كانت البيجل داخل حيز مصب لابلاتا، كانت حبال الأشرعة والصواري مغطاة بنسيج عنكبوت الجوسمر Gossamer Spider. وفي يوم ما (الأول من نوفمبر من عام ١٨٣٢)، أوليت انتباهًا خاصًّا لهذا الأمر. كان الجو صحوًا وصافيًا، وفي الصباح كان الهواء مليئًا بكتل من نسيج العناكب الملبد الذي يشبه ندف الصوف كما يحدث في يوم خريفي في إنجلترا. كانت السفينة تبعد عن اليابس ستين ميلًا في اتجاه يقابل نسيمًا خفيفًا لكنه مستديم. كان ثمة أعداد ضخمة من عنكبوت صغير يصل طول الواحد منها إلى عُشر البوصة، وذات لون أحمر داكن ملتصقة بالأنسجة. لا بد أن عددها على متن السفينة كان يصل، كما أفترض، لبضعة آلاف. كان العنكبوت الصغير عندما يحتك بحبال الأشرعة والصواري لأول مرة، دائمًا ما يجلس على خيط مفرد وليس على كتل النسيج الملبدة الناعمة. هذه الأخيرة تبدو كما لو نتجت بكل بساطة عن طريق تشابك الخيوط المفردة. كانت العناكب جميعها من نوع واحد لكن من الجنسين بالإضافة إلى الصغار. كانت هذه الأخيرة يميزها صغر حجمها ولونها الأكثر قتامة. لن أصف هذا العنكبوت، لكن سأكتفي فقط بالقول إنه لم يبدُ لي أنه ينتمي لأي من الأجناس التي ذكرها لاتريل. بمجرد أن حطَّ الملاح الصغير على السفينة دب فيه نشاط شديد، فأخذ يجري هنا وهناك وأحيانًا ما كان يترك نفسه يسقط ثم يعيد تسلق نفس الخيط، وأحيانًا ما ينشغل بصنع شبكة صغيرة وغير منتظمة الشكل للغاية في الزوايا بين الحبال. كما كان يمكنه الركض فوق سطح المياه بسهولة. وعندما تعرض للإزعاج، رفع أرجله الأمامية في وضع الاستعداد. عند وصوله لأول مرة بدا هذا العنكبوت في شدة الظمأ، واستخدم فكه العلوي البارز في شرب بعض قطرات الماء بنهم وهو نفس ما لاحظه ستراك؛ ألا يمكن أن يكون هذا نتيجة طيران هذه الحشرة الصغيرة عبر جو جاف ومخلخل؟ كان يبدو أن مخزونها من النسيج لا ينضب. وفي أثناء مراقبة بعض العناكب المتدلية من حبل مفرد، لاحظت عدة مرات أن أدنى نفخة من الهواء كانت تحملها بعيدًا عن مرمى البصر في خط أفقي. وفي مرة أخرى (يوم الخامس والعشرين) وفي ظروف مشابهة، لاحظت مرارًا أن النوع نفسه من العنكبوت الصغير سواء عندما يوضع أو يزحف على مكان مرتفع قليلًا، يرفع بطنه ويرسل خيطًا ثم يتحرك أفقيًّا ولكن بسرعة غير مبررة تمامًا. أظن أنني قد استطعت إدراك أن العنكبوت قبل قيامه بالخطوات الاستعدادية المذكورة آنفًا، كان يربط سيقانه معًا بخيوط رقيقة للغاية لكني غير متأكد إن كانت هذه الملاحظة صحيحة.
في أحد الأيام في سانتا في، واتتني فرصة أفضل لملاحظة بعض الحقائق المماثلة. كان العنكبوت الذي كان طوله حوالي ثلاثة أعشار البوصة ويشبه في مظهره العام العنكبوت الذئبي السريع Citigrade (لذلك فهو يختلف إلى حد كبير عن عنكبوت الجوسمر) يطلق أثناء الوقوف على قمة عمود أربعة خيوط أو خمسة من مغازله. يمكن مقارنة هذه الخيوط التي تلمع في ضوء الشمس بأشعة الضوء المتشعبة؛ غير أنها لم تكن مستقيمة بل متموجة مثل شرائط رقيقة من الحرير عصفت بها الرياح. كان طولها يزيد على ياردة، وتتشعب من فتحات جسم العنكبوت في اتجاه صاعد. فجأة أرخى العنكبوت قبضته عن العمود وسرعان ما حمله الهواء بعيدًا عن الأنظار. كان اليوم حارًّا وهادئًا تمامًا كما بدا، لكن في مثل هذه الظروف، لا يمكن أن يكون الجو هامدًا لدرجة عدم التأثير في شيء رقيق للغاية كخيط نسيج العنكبوت. إذا نظرنا أثناء يوم دافئ إلى ظل أي شيء فوق ضفة ما أو فوق سهل مستوٍ في مكان بعيد، فإن أثر تيار تصاعدي من الهواء الساخن دائمًا ما يكون واضحًا؛ ومثل هذه التيارات التصاعدية، كما لوحظ، تظهر كذلك من خلال تصاعد فقاعات الصابون التي لن ترتفع في غرفة مغلقة؛ لذا أظن أنه لا توجد صعوبة كبيرة في فهم صعود الخيوط الرقيقة التي تخرج من مغازل العنكبوت ومن العنكبوت نفسه بعد ذلك؛ وقد كانت ثمة محاولات لتفسير تشعب خيوط العنكبوت من جانب السيد موراي على ما أعتقد، عن طريق حالاتها الكهربائية المتشابهة. إن وجود عناكب من نفس النوع، ولكن من أجناس وأعمار مختلفة في مناسبات عدة على مسافة عدة فراسخ من اليابسة، حيث تكون ملتصقة بالخيوط بأعداد كبيرة، يجعل من المحتمل أن عادة الطيران في الجو تميز هذه العائلة من العناكب، مثلما يميز الغوص العناكب المائية. قد نرفض حينها فرضية لاتريل، التي تذهب إلى أن نسيج العنكبوت يعود أصله إلى صغار العناكب من عدة أجناس، رغم أن صغار العناكب الأخرى، كما رأينا، تملك القدرة على القيام برحلات جوية فوق المسطحات المائية.٧

خلال رحلاتنا المختلفة في جنوب لابلاتا، كثيرًا ما كنت أربط شبكة مصنوعة من قماش الرايات الملون إلى مؤخرة السفينة، وهو ما ساعدني في اصطياد الكثير من الحيوانات الغريبة. من القِشْريَّات كان هناك العديد من الأنواع الغريبة والمجهولة. كان أحدها، والذي يرتبط بصلة قرابة بفصيلة رجليات الظهر (أو تلك السلطعونات التي تكون سيقانها الخلفية فوق ظهورها تقريبًا بغرض الالتصاق بالجوانب السفلية من الصخور)، لافتًا للنظر كثيرًا بسبب بنية الساقين الخلفيتين. ينتهي المفصل قبل الأخير بثلاث زوائد تشبه الشعر القصير الخشن ذات أطوال متفاوتة حيث يصل طول أطولها إلى طول الساق كاملة، بدلًا من أن ينتهي بمخلب بسيط. تتميز هذه المخالب بكونها نحيفة للغاية ومسننة بأقوى الأسنان المتجهة للخلف كما أن أطرافها المقوسة مفلطحة، وفوق هذا الجزء يوجد هناك خمسة أجزاء بالغة الصغر تشبه الأقداح، يبدو أنها تعمل بالطريقة نفسها التي تعمل بها المِمَصَّات على أذرع الحبَّار. ولما كان الحيوان يعيش في عرض البحر، وربما يريد مكانًا للراحة، أعتقد أن هذه البنية الجميلة والشاذة للغاية مهيأة للإمساك بالكائنات البحرية الطافية.

في المياه العميقة، بعيدًا عن اليابسة، يكون عدد الكائنات الحية محدودًا إلى أقصى حد؛ فلم أنجح في اصطياد أي شيء جنوب دائرة عرض ٣٥ درجة بخلاف بعض المشطيات الهلامية وبضعة أنواع من القِشْرِيَّات الرخوة الدقيقة للغاية. أما المياه الأقل عمقًا، على مسافة بضعة أميال من الساحل، فتحوي الكثير والكثير من أنواع القِشْرِيَّات والكثير من الحيوانات الأخرى، لكن خلال الليل فقط. وُضِعَت الشبكة عدة مرات في مؤخرة السفينة بين دائرتي عرض ٥٦ و٥٧ درجة جنوب رأس هورن؛ ومع ذلك لم تصطد الشبكة أي شيء سوى القليل من نوعين بالغي الدقة من القِشْرِيَّات من طائفة القِشْرِيَّات الرخوة أو لينات الصدف، لكن الحيتان والفُقْمة وطيور القطرس والنوء متوفرة بغزارة عبر هذا الجزء من المحيط. دائمًا ما كانت قدرة طائر القطرس الذي يعيش بعيدًا عن الساحل على البقاء حيًّا تمثل لغزًا بالنسبة إليَّ. أعتقد أنه يشبه نسر الكوندور في قدرته على الصوم لأوقات طويلة، وتناول وجبة جيدة من جثة متحللة لحوت يكفيه لمدة طويلة. تزخر الأجزاء المركزية وبين المدارية من المحيط الأطلسي بجناحيات الأرجل والقِشْريَّات وشعاعيات التماثل ومفترسيها من السمك الطيار، ومفترسي السمك الطيار من سمك البينيث (أو البونيتو) والتونة البيضاء. أظن أن الحيوانات البحرية العديدة الأدنى مرتبة تتغذى على النقاعيات التي تُعرف الآن، من خلال أبحاث إيرينبرج، بتوافرها في عرض المحيط، ولكن علامَ تتغذى تلك النقاعيات في المياه الزرقاء الصافية؟

أثناء الإبحار إلى جنوب لابلاتا قليلًا في ليلة حالكة الظلام كان مشهد البحر من أجمل ما يكون. كان هناك نسيم منعش وكان كل جزء من السطح الذي يظهر نهارًا كرغوة، يلمع الآن بضوء خافت. كانت السفينة تسوق أمام مقدمتها موجتين من الفوسفور السائل، بينما تركت وراءها أثرًا من زبد البحر أبيض كالحليب. على امتداد البصر، كانت قمة كل موجة لامعة ولم تكن السماء فوق الأفق مظلمة تمامًا مثلما تكون فوق قوس السماء، من أثر الوهج المنعكس لتلك الألسنة المضيئة.

مع توغلنا أكثر في اتجاه الجنوب قلما كان البحر مضيئًا، ومن رأس هورن لا أتذكر أني رأيت الوهج أكثر من مرة وحتى آنذاك كان أبعد ما يكون عن التألُّق. ربما يرتبط هذا الأمر ارتباطًا وثيقًا بندرة الكائنات العضوية في ذلك الجزء من المحيط. بعد صدور بحث إيرينبرج الدقيق٨ عن التوهج الفوسفوري في البحار، فإنه من غير المجدي تقريبًا من جانبي إبداء أي ملاحظات حول هذا الموضوع. غير أنني قد أضيف أن نفس الجزيئات الممزقة وغير المنتظمة من المادة الهلامية، التي وصفها إيرينبرج، تبدو السبب الشائع لهذه الظاهرة في نصفي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي؛ فقد كانت الجسيمات دقيقة للغاية لدرجة تُمكِّنها من المرور عبر قطعة من الشاش الرقيق، ومع ذلك كان الكثير منها يُرى بوضوح بالعين المجردة. كانت شرارات تنبعث من المياه عندما توضع في كأس وتُغلَى، لكن إذا وُضِع قدر صغير في زجاج مراقبة فكان نادرًا ما يصدر أي وميض. يقول إيرينبرج إن هذه الجسيمات جميعًا تحتفظ بدرجة معينة من القابلية للتهيج. أما ملاحظاتي، والتي كان بعضها قد سُجِّل بعد الحصول على المياه مباشرة، فقد أفضت إلى نتيجة مختلفة. يمكنني كذلك أن أذكر أنه بعد استخدامي الشبكة خلال ليلة واحدة، تركتها لكي تصبح جافة جزئيًّا، وبعد الانتظار لمدة اثنتي عشرة ساعة قبل استخدامها مرة أخرى، وجدت أن سطحها بالكامل يلمع لمعانًا مبهرًا مثلما أُخرجت من المياه لأول مرة. لا يبدو مرجحًا في حالتنا هذه أن الجسيمات قد استطاعت البقاء على قيد الحياة لهذه المدة الطويلة؛ ففي إحدى المرات التي احتفظت فيها بقنديل بحر من نوع ديانايا Dianaea حتى نفق، أصبحت المياه التي وضع فيها متوهجة. عندما تتألق الموجات بشرارات خضراء زاهية، أعتقد أن هذا يرجع عمومًا للقِشْرِيَّات الدقيقة، لكن لا يمكن أن يكون ثمة شك في أن العديد والعديد من الحيوانات البحرية الأخرى تصدر وميضًا فوسفوريًّا عندما تكون حية.

خلال مرتين، لاحظت أن البحر متوهج على أعماق كبيرة تحت السطح. فبالقرب من مصب نهر لابلاتا، كان هناك مساحات دائرية وبيضاوية يتراوح قطرها بين ياردتين وأربع ياردات بحدود واضحة تتوهج بضوء باهت مستمر؛ بينما كانت المياه المحيطة بها تشع ببضع شرارات قليلة. كان المنظر يشبه انعكاس القمر أو جسمًا مشعًّا ما؛ لأن الحواف الخارجية كانت متموجة بسبب تموجات سطح المياه. مرت السفينة التي تزيح ١٣ قدمًا من المياه، بدون أن تعكِّر هذه المساحات؛ لذا يجب أن نفترض أن بعض الحيوانات كانت مجتمعة معًا على عمق أكبر من عمق قاع السفينة.

بالقرب من فرناندو نورونيا، أصدر البحر ضوءًا في شكل ومضات. كان المشهد مشابهًا للغاية لما يمكن أن يُتوَقَّع من سمكة كبيرة تتحرك بسرعة عبر سائل مضيء. وقد أرجع البحارة هذا المشهد لهذا السبب؛ غير أنه في ذلك الوقت، راودتني بعض الشكوك بسبب تكرار وسرعة الومضات. كنت بالفعل قد لاحظت أن هذه الظاهرة أكثر شيوعًا بكثير في البلاد الدافئة منها في البلاد الباردة، وأحيانًا ما كنت أتخيل أن الاضطراب الكهربائي في الجو هو أفضل الظروف المواتية لإنتاجه. لا شك أنني أظن أن البحر يكون في قمة التوهج بعد مرور بضعة أيام من هدوء أكثر من المعتاد في الطقس، وهو الوقت الذي يزخر فيه البحر بالعديد من الحيوانات. بالنظر إلى أن احتواء المياه لجسيمات هلامية يجعلها في حالة عكرة، وأن المظهر المتوهج في كل الحالات الشائعة ينتج عن استثارة المياه الملامسة للغلاف الجوي، فإنني أميل لاعتبار أن التوهج الفوسفوري هو نتيجة لتحلل الجسيمات العضوية وهي العملية (ثمة إغراء لاعتبارها نوعًا من التنفُّس) التي تُنقَّى بها المحيطات.

•••

«٢٣ ديسمبر»، وصلنا إلى ميناء بورت ديزاير الواقع عند دائرة عرض ٤٧ درجة على ساحل باتاجونيا. كان الخليج الصغير يمتد لمسافة حوالي عشرين ميلًا داخل اليابسة وكان عرضه متفاوتًا. رست سفينة البيجل داخل مدخل الميناء ببضعة أميال أمام أطلال مستعمرة إسبانية قديمة.

في مساء اليوم نفسه ذهبت إلى الساحل. دائمًا ما يكون الهبوط الأول في أي بلد جديد مثيرًا للغاية، لا سيما عندما يكون المشهد، كما في هذه الحالة، يحمل طابعًا فرديًّا واضحًا. على ارتفاع يتراوح بين ٢٠٠ و٣٠٠ قدم فوق بعض كتل من الصخر السماقي يمتد سهل واسع يحمل سمات باتاجونيا بحق. فالسطح مستوٍ تمامًا، ويتكون من حصى دائري مختلط بتراب مائل للبياض. وتتناثر هنا وهناك رقع من حشائش بنية تشبه الأسلاك؛ وهناك أجمات قصيرة من الأشواك وإن كانت أكثر ندرة. يتميز الطقس بأنه جافٌّ ولطيف، ونادرًا ما تغطي الغيوم السماء الزرقاء الصافية. عند الوقوف في وسط أحد هذه السهول الصحراوية والنظر نحو الداخل، عادة ما يكون المشهد مُتاخمًا بمنحدر سهل آخر أعلى إلى حد ما لكنه مستوٍ ومقفر مثله؛ وفي كل اتجاه آخر يكون الأفق غير واضح بسبب السراب المهتز الذي يبدو أنه ينبعث من السطح الساخن.

في مثل هذا البلد، لم يمر وقت طويل قبل أن يتقرر مصير المستعمرة الإسبانية؛ فجفاف المناخ خلال الجزء الأكبر من العام والهجمات العدائية بين الحين والآخر من قِبَل الهنود المتجولين، كل ذلك أرغم المستعمرين على هجر بناياتهم نصف المكتملة. غير أن الأسلوب الذي بدأت به يظهر قوة وتحرر إسبانيا في الزمن القديم. وقد باءت كل المحاولات لاحتلال هذا الجزء من أمريكا جنوب دائرة عرض ٤١ درجة بالفشل. يدل اسم بورت فامين (مجاعة) على المعاناة الشديدة والدائمة لعدة مئات من البائسين الذين نجا منهم شخصٌ واحد فقط ليحكي ما حل بهم من مآسيَ. ففي خليج سانت جوزيف، على ساحل باتاجونيا، أُنشئت مستعمرة صغيرة لكن خلال أحد أيام الأحد هاجمها الهنود وذبحوا كل من فيها، عدا رجلين ظلَّا أسيرين لعدة سنوات. في ريو نيجرو، تحدثت مع أحد هذين الرجلين والذي أصبح الآن طاعنًا في السن.

كانت الحياة الحيوانية في باتاجونيا محدودة مثل الحياة النباتية.٩ قد تُشَاهَد بضع خنافس سوداء (خنافس الظلام) تزحف ببطء في السهول المقفرة، وسحلية تنطلق من جانبٍ إلى آخر بين الفينة والأخرى. ومن الطيور يوجد ثلاثة صقور من آكلات الجيف، وفي الوديان يوجد بضعة طيور من عصفور الدوري وآكلي الحشرات. كما يشيع وجود طائر أبي منجل (أبو منجل الأسود الوجه، وهي فصيلة يقال إنها توجد في وسط أفريقيا) في الأجزاء الأكثر صحراوية ووجدت في بطونها حشرات مثل الجُنْدب والزيز وسحالي صغيرة وحتى العقارب.١٠ وفي وقت معين من السنة، تجتمع هذه الطيور في أسراب وفي مرات أخرى في أزواج، وتتميز بصيحة عالية وغريبة جدًّا مثل صهيل الجوناق.
figure
صُبَّير.

كان حيوان الجوناق أو اللاما البرية هو الحيوان الرباعي الأقدام المميز لسهول باتاجونيا؛ وهو المعادل الأمريكي الجنوبي للجمل في الشرق. إنه حيوان أنيق في حالته الطبيعية، ذو رقبة طويلة ممشوقة وسيقان جميلة. ويشيع وجوده إلى حد كبير في كل الأجزاء المعتدلة الأجواء من القارة ويمتد جنوبًا عند الجزر بالقرب من رأس هورن. يعيش الجوناق عامة في قطعان صغيرة، يتراوح عدد أفراد القطيع الواحد منها بين ستة وثلاثين رأسًا، لكن على ضفتي نهر سانت كروز رأينا قطيعًا لا بد أنه كان يحوي ٥٠٠ رأس على الأقل.

يتميز الجوناق في العادة بأنه جامح وشديد اليقظة. أخبرني السيد ستوكس أنه ذات يوم رأى من خلال منظار قطيعًا من هذه الحيوانات كان واضحًا أنها خائفة وكانت تهرب بأقصى سرعة، رغم أن المسافة كانت كبيرة جدًّا؛ حتى إنه لم يستطع تمييزها بالعين المجردة. كثيرًا ما يلتقط من يمارس رياضة الصيد أول إشعار بوجودها بسماع صهيلها الحاد المميز الذي يعبر عن شعورها بالخطر من بُعد. بعد ذلك إذا نظر بانتباه، من المحتمل أنه سوف يرى القطيع تقف في صف على جانب تل ما بعيد. ولدى الاقتراب منها، تصدر بضع صرخات حادة أخرى، ثم تتحرك في خَبَب يبدو بطيئًا لكنه في الواقع سريع بمحاذاة طريق ضيق مألوف في اتجاه تل مجاور. مع ذلك، إذا التقت مصادفة بحيوان بمفرده أو عدد منها معًا فجأة، فعادة ما ستقف بلا حَراك وتحدق فيه بتركيز؛ ثم من المحتمل أن تتقدم بضع ياردات ثم تستدير وتنظر مجددًا. ما السبب في هذا الاختلاف في سلوكها الخجول؟ هل تظن خطأً حين ترى البشر من مسافةٍ بعيدةٍ وتحسبه عدوها اللدود الأسد الجبلي؟ أم أن الفضول يتغلب على جبنها؟ من المؤكد أنها حيواناتٌ مثيرة للاهتمام؛ فإذا رقد شخص على الأرض وقام بحركات غريبة مثل رفع قدميه في الهواء، فإنها دائمًا ما ستقترب منه بدرجات معينة ما لاستطلاع أمره. وقد كانت هذه خدعة يمارسها الصيادون مرارًا بنجاح، كما أنها كانت تملك ميزة السماح بإطلاق عدة طلقات نارية والتي يظن الحيوان أنها جزء من الحركات التي يؤديها الصياد. فوق جبال أرض النار، رأيت الجوناق أكثر من مرة، وعندما كنتُ أقترب منه كان لا يَصهِل ويصيح فقط، بل كان يثب ويتقافز بشكلٍ مضحك للغاية، وكان يبدو أنه يفعل ذلك كنوع من الاستخفاف بالتحدي الذي يواجهه. تُستَأنس هذه الحيوانات بسهولة شديدة؛ وقد رأيت بعضها وقد احتُفظ به بالقرب من منازل في شمال باتاجونيا، وإن كان يخضع لشكل من أشكال القيد. فالجوناق في هذه الحالة يكون في غاية الجرأة ويهاجم البشر بلا تردد بالضرب من الخلف بكلتا ركبتيه. وثمة تأكيد على أن السبب وراء هذه الهجمات هو الغيرة على الإناث. مع ذلك فإن الجوناق البري لا يملك أي فكرة عن الدفاع عن نفسه؛ فأي كلب بمفرده يمكنه احتجاز أحد هذه الحيوانات الضخمة حتى يتمكن الصياد من القدوم. يشبه الجوناق في العديد من عاداته الغنم عندما تكون في قطعان؛ لذا عندما يرى بشرًا يقترب من اتجاهات عدة على ظهر الخيول، سرعان ما يرتبك ولا يدري في أي اتجاه يهرب. وهذا من شأنه أن يسهل لحد كبير من الطريقة الهندية في صيده؛ لأنها بذلك تُستَدرج إلى نقطة مركزية ثم تُطوَّق.

تعتاد حيوانات الجوناق المياه بسهولة؛ فقد شوهدت عدة مرات في بورت فالديس وهي تسبح من جزيرة إلى جزيرة. ويقول بايرون إنه رآها أثناء رحلته تشرب المياه المالحة، كذلك شاهد بعض ضباط سفينتنا قطيعًا تشرب فيما يبدو من المياه المالحة من بحيرة ملحية بالقرب من كيب بلانكو. أتخيل أنها في عدة أجزاء من البلاد، إذا لم تشرب المياه المالحة، فإنها لا تشرب أي شيء على الإطلاق. في منتصف اليوم كانت حيوانات الجوناق كثيرًا ما تتدحرج في التراب صانعةً تجاويف تشبه صحون الفناجين. يتصارع الذكور معًا؛ ففي أحد الأيام مر زوجٌ من الذكور على مقربة مني، وكانا يصرخان ويحاول كلٌّ منهما أن يعقر الآخر، وقد اصطيد العديد منها وكانت جلودها تحمل ندبات عميقة. في بعض الأحيان تبدو قطعان الجوناق كما لو كانت تنظم مجموعات استكشافية؛ ففي باهيا بلانكا حيث يندر وجود هذه الحيوانات في نطاق ثلاثين ميلًا من الساحل، رأيت في أحد الأيام آثار ثلاثين أو أربعين منها، جاءت في خطٍّ مستقيم إلى خليج طيني صغير من المياه المالحة. لا بد أنها بعد ذلك أدركت أنها تقترب من البحر؛ لأنها استدارت بنظام كالفرسان ورجعت في خط مستقيم كما جاءت. وللجوناق عادة غريبة لا تفسير لها لديَّ وهي أنها تترك رَوْثَها ليتكوَّم في المكان نفسه لأيام متتالية. وقد رأيت إحدى هذه الكومات وكان قطرها يبلغ نحو ثماني أقدام وكانت تتكون من كمية ضخمة من الرَّوْث. وتشيع هذه العادة، وفقًا للسيد ألسيد دوربيني، لدى كل أنواع الفصيلة وهي مفيدة جدًّا للهنود البيروفيين الذين يستخدمون هذا الرَّوْث كوقود ومِن ثَمَّ فهي بذلك توفر عليهم مشقة جمعه.

يبدو أن للجوناق أماكنَ مفضلةً ترقد بها في انتظار الموت؛ ففي أماكن بعينها على ضفتي نهر سانت كروز، والتي عادة ما تكون مليئة بالشجيرات وجميعها قريبة من النهر، كانت الأرض بيضاء بسبب امتلائها بالعظام. في أحد هذه الأماكن أحصيت ما بين عشرة وعشرين رأسًا. فحصت العظام على نحو خاص ولم تبدُ مكسورة أو متآكلة مثل بعض العظام المتناثرة التي رأيتها، كما لو كانت بعض الحيوانات المفترسة قد قامت بجرها معًا. لا بد أن أفراد الجوناق قد زحفت في معظم الحالات لترقد تحت الأجمات ووسطها قبل أن تَنْفُق. وقد أخبرني السيد باينو أنه في رحلة سابقة له لاحظ الأمر نفسه على ضفتي نهر جاليجوس. لا أفهم مطلقًا السبب وراء هذا، لكني أستطيع التنويه بأن أفراد الجوناق الجريحة كانت دائمًا تتجه نحو النهر في سانت كروز. في سانت ياجو في جزر الرأس الأخضر أتذكر رؤيتي لركن منعزل في أحد الوديان مليء بعظام الجديان وتساءلنا في ذلك الوقت إذا ما كان هذا الركن مدفنًا لكل الجِدْيان في الجزيرة. أذكر هذه التفاصيل غير ذات الأهمية؛ لأنها في بعض الأحيان ربما تفسِّر وجود عدد من العظام السليمة في كهف ما أو المدفونة تحت تراكمات طينية وربما كذلك تفسر انطمار بعض الحيوانات بعينها أكثر من غيرها في التكوينات الرسوبية.

في أحد الأيام، أُرسِل القارب الشراعي تحت قيادة السيد تشافرز حاملًا مؤنًا تكفي ثلاثة أيام لمسح الجزء الأعلى من الميناء. في الصباح بحثنا عن بعض أماكن للري مذكورة في خريطة إسبانية قديمة. وجدنا خليجًا صغيرًا واحدًا كان يوجد عند منبعه نُهير (وهو الأول من نوعه الذي نراه) من المياه المالحة يتدفق ببطء. أجبرَنا المد والجزر هنا على الانتظار لساعات عدة، وأثناء ذلك مشيت بضعة أميال إلى الداخل. كان السهل يتكون كالمعتاد من الحصى المختلط بتربة تشبه الطبشور في شكلها لكنها تختلف تمامًا عنه في طبيعتها. وبسبب نعومة هذه المواد التي تتكوَّن منها التربة، تتفتت إلى أخاديد عديدة. لم يكن هناك ولو شجرة واحدة، وباستثناء الجوناق الذي كان يقف فوق قمة التل يحرس قطيعه، لم يكن يوجد حيوانات أو طيور إلا فيما ندر. كان كل ما يحيط بنا هو السكون والقفر، ولكن كان المرور بهذه المشاهد، دون رؤية أي شيء مبهج، يثير إحساسًا قويًّا ولكنه غير مفهوم بالمتعة. تساءلت كم من دهر صمد أمامه هذا السهل على هذه الحال، وكم من الدهور قُدِّر له أن يبقى فيها هكذا.

لا يمكن لأحد أن يجيب؛ فكل شيء يبدو أبديًّا الآن.
فلغة البرية غامضة،
تعلم الشك الرهيب.١١

في المساء أبحرنا لبضعة أميال ثم نصبنا الخيام استعدادًا للمبيت. بحلول منتصف اليوم التالي كان القارب الشراعي واقفًا على اليابسة، ولم يستطع المضي قدمًا بسبب ضحالة المياه. كانت المياه عذبة إلى حد ما فأخذ السيد تشافرز قارب التجديف ثم سار لمسافة ميلين أو ثلاثة حيث لمس القارب اليابسة كذلك لكن في نهر عذب. كانت المياه عكرة ورغم أن حجم المجرى كان ضئيلًا للغاية، كان من الصعب تحديد أي منبع له خلاف الجليد المنصهر فوق الجبال. في البقعة التي عسكرنا فيها، كنا محاطين بجروف صخرية شديدة التحدُّر وقمم منحدرة من الصخر السماقي. لا أظن أني رأيت من قبل بقعة بدت أكثر انعزالًا عن بقية العالم الخارجي من هذا الشق الصخري في السهل الرحيب.

في اليوم التالي لعودتنا إلى المرسى ذهبت مع مجموعة من الضباط لنبش قبر قديم يخص أحد الهنود وجدته على قمة تل مجاور. كان هناك حجران كبيران يزن الواحد منهما على الأرجح بضعة أطنان على الأقل، وُضِعا أمام نتوء صخري يصل ارتفاعه إلى نحو ست أقدام. في قاع القبر فوق الصخر القاسي كان ثمة طبقة من التراب يصل عمقها إلى نحو قدم، لا بد أنها جُلبت من السهل بالأسفل. وكان فوقها أرضية مرصوفة من أحجار مفلطحة تكدس فوقها أحجار لملء المساحة بين النتوء والحجرين الكبيرين. لإكمال بناء القبر، فكر الهنود في فصل شظية ضخمة من النتوء ووضعها فوق الكومة حتى تستقر فوق الحجرين. فتحنا القبر من الناحيتين لكننا لم نجد أي آثار قديمة أو حتى عظام. ربما تكون الأخيرة قد تحللت منذ وقت طويل (وفي هذه الحالة لا بد أن القبرَ بالغُ القدم)؛ لأني وجدت في مكان آخر أكوامًا أصغر حجمًا كان تحتها شظايا عظمية مفتتة قليلة جدًّا، ولكن ما زال بالإمكان تمييزها بأنها لرجل. يقول فالكونر إن الهندي يُدفَن حيثما يموت، لكن بعد ذلك تُؤخَذ عظامه بحرص وتُنقَل لتُدفن بالقرب من ساحل البحر حتى لو كانت المسافة كبيرة جدًّا. أظن أن مرجع هذه العادة أن هؤلاء الهنود لا بد أنهم كانوا يعيشون، قبل دخول الخيول، الحياة نفسها التي يحياها الفوجيون الآن؛ ولذا كانوا يسكنون عمومًا في جوار البحار. كانت العادة الشائعة في دفن الهنود حيث دفن أسلافهم تجعل الهنود الجوالة الآن يحضرون الجزء الأقل عرضة للتحلل من جثث موتاهم إلى مدافنهم القديمة على ساحل البحر.

•••

«٩ يناير»، قبل حلول الظلام رست البيجل في ميناء سان جوليان الفسيح الرائع الواقع على مسافة ١١٠ أميال جنوب بورت ديزاير. بقينا هناك ثمانية أيام. كانت المنطقة مشابهة إلى حد كبير لبورت ديزاير، لكنها قد تكون أكثر جَدْبًا نوعًا ما. في أحد الأيام رافقت إحدى المجموعات الكابتن فيتزروي في نزهة طويلة سيرًا على الأقدام حول رأس الميناء. بقينا إحدى عشرة ساعة دون قطرة ماء وكان بعض أفراد المجموعة منهكين تمامًا. من قمة أحد التلال (يسمى ثيرستي هيل، وهو اسم على مسمى) لمحنا بحيرة جميلة وتوجه اثنان من المجموعة بإشارات متفق عليها لتبين إذا ما كانت المياه عذبة. وكم كانت خيبة أملنا عندما اكتشفنا أنها رقعة واسعة من الملح الأبيض المتبلور في شكل مكعبات ضخمة! عزونا عطشنا الشديد إلى جفاف الجو، لكن أيًّا كان السبب، فقد غمرتنا سعادة بالغة في وقت متأخر من المساء عندما عدنا إلى القوارب. ورغم أننا لم نستطع أن نجد في أي مكان ولو قطرة من المياه العذبة على مدى رحلتنا بالكامل، لكن لا بد أن هناك بعضًا منها؛ فبمحض مصادفة غريبة، وجدت خُنْفَساء كوليمبتس Colymbetes لم تكن ميتة تمامًا فوق سطح المياه المالحة بالقرب من رأس الخليج، ولا بد أنها كانت تعيش في بركة ليست ببعيدة. تكتمل قائمة الحشرات التي وجدتها بثلاث حشرات أخرى (وهي خُنْفَساء النمر الشائعة أو السينسندبلا، وتشبه خُنْفَساء النمر الشمالية، واثنان من فصيلة الخنافس الأرضية هما سيميندس Cymindis وهيربالوس Harpalus، والتي تعيش جميعًا في مسطحات طينية تغمرها مياه البحر بين الحين والآخر) وأخرى وُجِدَت ميتة على السهل. كانت ثمة ذبابة حجمها كبير بعض الشيء (تسمى النعرة أو ذبابة الفرس) وكانت متوفرة بغزارة وآلمتنا بعضاتها المؤلمة. وتنتمي ذبابة الفرس الشائعة، التي تعتبر من الحشرات المزعجة للغاية في ممرات وأزقة إنجلترا الظليلة، تنتمي للجنس نفسه. ونحن هنا أمام اللغز الذي كثيرًا ما يظهر في حالة البعوض: على دم مَن مِن الحيوانات تتغذى هذه الحشرات عادة؟ يعتبر الجوناق هو الحيوان الرباعي الأقدام الوحيد تقريبًا من ذوات الدم الحار، وهو موجود بأعداد محدودة جدًّا مقارنة بأعداد الذباب المهولة.

•••

تتميز باتاجونيا بجيولوجيا مثيرة للاهتمام. فعلى عكس أوروبا، حيث يبدو أن التكوينات من العصر الثلاثي قد تراكمت في الخُلْجان، يوجد هنا في باتاجونيا راسب واحد كبير يمتد لمئات الأميال على ساحل البحر يضم العديد من القواقع المنتمية للعصر الثلاثي انقرضت جميعًا على ما يبدو. أما أكثر أنواع القواقع شيوعًا فهو نوع من المحار العملاق؛ حتى إن قطره يبلغ قدمًا في بعض الأحيان. تغطى هذه المسطحات بمسطحات أخرى من حجر أبيض أملس ذي شكل مميز يحوي الكثير من الجبس ويشبه الطبشور، لكنه في الواقع ذو طبيعة تشبه الحجر الخفاف. ويُلاحظ إلى حد كبير من خلال تركيبه أنه يتكون على الأقل بنسبة العُشر من النقاعيات. وقد أكد البروفيسور إيرينبرج بالفعل أنه يحوي ثلاثين شكلًا محيطيًّا. يمتد هذا المسطح لمسافة ٥٠٠ ميل بمحاذاة الساحل وربما لمسافة أكبر بكثير من ذلك. أما في سان جوليان، فيصل سمك المسطح إلى أكثر من ٨٠٠ قدم! تغطَّى هذه المسطحات البيضاء في كل مكان بكتلة من الحصى، ما قد يجعلها تشكل أحد أكبر مسطحات الحصى في العالم؛ إذ من المؤكد أنه يمتد بالقرب من نهر كولورادو ويتجه جنوبًا لمسافة تتراوح بين ٦٠٠ و٧٠٠ ميل بحري، ومن عند نهر سانتا كروز (وهو نهر يقع إلى الجنوب قليلًا من سان جوليان) يمتد إلى سفح سلسلة الجبال؛ وبالاتجاه نصف المسافة عكس تيار النهر، يتجاوز سمكه مائتي قدم؛ وربما يمتد في كل مكان إلى هذه السلسلة العظيمة من حيث استمدت حصى السماقي الدائري. يمكننا اعتبار متوسط عرضه مائتي ميل ومتوسط سمكه نحو ٥٠ قدمًا. إذا تحول هذا المسطح العظيم من الحصى، بدون حساب الطين الناتج بالضرورة عن الاحتكاك، إلى كومة، فإن من شأنه أن يُكون سلسلة جبلية عظيمة! عندما نأخذ في الاعتبار أن كل هذا الحصى، الذي لا يعد ولا يحصى كحُبيبات الرمال في الصحراء، قد نشأ عن السقوط البطيء للكتل الصخرية على الخطوط الساحلية القديمة وضفاف الأنهار، وأن هذه الشظايا تفتتت لقطع أصغر حجمًا وأن كل واحدة منها تحول ببطء منذ ذلك الوقت إلى شكل دائري ملفوف وانتقلت لمسافات بعيدة، قد يذهل العقل من التفكير في عدد السنين الطويلة، الضرورية بلا ريب، التي استغرقها ذلك. غير أن كل هذا الحصى انتقل، وربما اتخذ شكله المستدير؛ ومِن ثَمَّ تحول إلى رواسب المسطحات البيضاء؛ ومِن ثَمَّ بعد فترةٍ طويلةٍ إلى المسطحات التحتية التي تحوي القواقع المنتمية للعصر الثالث.

تأثر كل شيء في هذه القارة الجنوبية على مستوى ضخم: فالأرض من نهر لابلاتا إلى أرض النار، وهي مسافة تصل إلى ١٢٠٠ ميل، ارتفعت لتصبح على هيئة كتلة (وفي باتاجونيا وصل ارتفاعها إلى ما بين ٣٠٠ و٤٠٠ قدم) خلال الحقبة التي تكونت خلالها القواقع البحرية الموجودة حاليًّا. ما زالت القواقع القديمة والبالية المتبقية فوق سطح السهل المرتفع محتفظة بألوانها جزئيًّا. وقد تعطَّلت حركة الارتفاع هذه بفعل ثمانية حقب طويلة على الأقل من السكون والتوقف، التهم فيها البحر اليابسة بشدة مما أدى — على مستويات متعاقبة — إلى تكوين الخطوط الطويلة من المنحدرات، أو الأجراف، التي تفصل بين السهول المختلفة بينما ترتفع كدرجات سلم الواحدة تلو الأخرى. كانت حركة الارتفاع وقوة التهام البحر لليابسة خلال فترات التوقف والسكون متساويتين على طول خطوط طويلة من الساحل؛ فقد دُهشت عندما وجدت سهولًا تشبه درجات السلم تصل إلى ارتفاعات متماثلة في نقاط بعيدة. كان أقل السهول انخفاضًا يصل ارتفاعه إلى ٩٠ قدمًا بينما كان أعلاها، والذي صعدته بالقرب من الساحل، يصل ارتفاعه إلى ٩٥٠ قدمًا، ولم يتبقَّ منه إلا أطلال قديمة على شكل تلال مسطحة مغطاة بالحصى. يبلغ ارتفاع السهل العلوي لسانتا كروز ٣٠٠٠ قدم عند سفح سلسلة الجبال. وقلت من قبل إنه خلال الحقبة التي تكونت فيها القواقع البحرية الحالية، ارتفعت باتاجونيا إلى ما بين ٣٠٠ و٤٠٠ قدم، ويمكن أن أضيف أنه خلال الحقبة التي نقلت فيها الجبال الجليدية الجلاميد الصخرية لتستقر فوق السهل العلوي لسانتا كروز، كان الارتفاع يصل إلى ١٥٠٠ قدم على الأقل. ولم تتأثر باتاجونيا فقط بالحركات التصاعدية؛ فالقواقع المنقرضة من العصر الثلاثي من ميناء سان جوليان وسانتا كروز لم يكن من الممكن أن تعيش، بحسب البروفيسور إي فوربس، في مياه عمقها أكثر من ٤٠ إلى ٢٥٠ قدمًا، لكنها الآن كذلك مغطاة بطبقات ترسبت من البحار يتراوح سمكها بين ٨٠٠ و١٠٠٠ قدم؛ ومِن ثَمَّ فإن قاع البحر الذي عاشت عليه تلك القواقع فيما مضى لا بد أنه انخفض بضع مئات من الأقدام لأسفل للسماح بتراكم الطبقات فوقه. يا له من تاريخ من التغيرات الجيولوجية ذلك الذي يكشفه ساحل باتاجونيا ذو التكوين البسيط!

في ميناء سان جوليان،١٢ عثرت وسط قدر من الطين الأحمر الذي يغطي الحصى على السهل يرتفع إلى ٩٠ قدمًا، على نصف هيكل عظمي لحيوان ماكروتشينيا باتاكونيكا، وهو حيوان رباعي الأقدام مثير للاهتمام يعادل حجمه حجم الجمل عند اكتمال نموه. ينتمي هذا الحيوان لنفس شعبة الجسئيات أو سميكات الجلد مع الكركدن والتابير والبالاثوريوم، لكن في تركيب عظام رقبته الطويلة يظهر قرابة واضحة بالجمل، أو بالأحرى الجوناق واللاما. من خلال وجود قواقع بحرية حديثة فوق سهلين عاليين تشكَّلا على شكل درجات، واللذان لا بد أنهما تشكَّلا وارتفعا قبل ترسب الطين الذي دُفِن به حيوان الماكروتشينيا، يبدو من المؤكد أن هذا الحيوان الرباعي الأقدام الغريب عاش لمدة طويلة بعد أن أصبح البحر مأهولًا بالقواقع الحالية. في البداية كنت مندهشًا للغاية كيف أن حيوانًا ضخمًا من رباعيات الأقدام بقي على قيد الحياة لزمن متأخر في دائرة عرض ٤٩ درجة و١٥ دقيقة على هذه السهول الحصوية المجدبة ذات النباتات الشحيحة، لكن الصلة بينه وبين الجوناق، الذي يسكن الآن أكثر الأجزاء جَدْبًا، تقدم تفسيرًا جزئيًّا لهذه الصعوبة.
figure
شواطئ مرتفعة، باتاجونيا.

إن الصلة بين الجوناق والماكروتشينيا، وبين التوكسودون والكابيبارا، رغم أنها بعيدة؛ والصلة الأكثر قربًا بين العديد من عديمات الأسنان المنقرضة وحيوانات الكسلان وآكل النمل والمدرع الحية، والتي تعتبر حاليًّا مميزة للحياة الحيوانية في أمريكا الجنوبية إلى حد كبير؛ والصلة التي ما زالت أقرب بين الحفريات والأنواع الحية من التوكو توكو والكابيبارا لهي حقائق مثيرة لأقصى حد. وتتضح هذه العلاقة على نحو رائع — مثلما تتضح بنفس الروعة بين الحفريات والحيوانات الجرابية المنقرضة في أستراليا — من خلال المجموعة الكبيرة التي جاءت إلى أوروبا مؤخرًا من كهوف البرازيل بواسطة السيدَيْنِ لاند وكلاوسن. من ضمن هذه المجموعة توجد أنواع منقرضة من الاثنتين وثلاثين فصيلة جميعها، فيما عدا أربعة من رباعيات الأقدام البرية التي تسكن الآن الأقاليم التي توجد فيها الكهوف، كما أن الأنواع المنقرضة أكثر بكثير من تلك التي على قيد الحياة الآن؛ إذ توجد حفريات لآكلات النمل والمدرع والتابير والجوناق وخنزير البيكاري والأبوسوم والعديد من قوارض وقرود أمريكا الجنوبية وحيوانات أخرى. إن هذه العلاقة الرائعة القائمة في القارة نفسها بين الحيوانات الحية والميتة ستسلط المزيد من الضوء، ولا أشك في هذا، فيما بعد على ظهور كائنات عضوية على أرضنا واختفائها منها أكثر من أي طائفة أخرى من الحقائق.

من المستحيل التفكير في الحالة المتغيرة للقارة الأمريكية دون الشعور بالاندهاش الشديد؛ فقد كانت فيما مضى تعج بالوحوش الضخمة بلا شك؛ أما الآن فلا نجد سوى سلالات مشابهة متقزمة مقارنة بأسلافها. لو أن بوفون كان يعلم بوجود الحيوانات العملاقة التي تشبه الكسلان والمدرع، والحيوانات السميكة الجلد المنقرضة، لربما قال إن قوة الخلق في أمريكا فقدت قوتها لا أنها لا تمتلك أي قوة كبيرة مطلقًا، وكان قوله سيصيب قدرًا أكبر من الحقيقة؛ فالعدد الأكبر من رباعيات الأقدام المنقرضة هذه، إن لم يكن كلها، عاش في حقبة متأخرة، وعاصرت معظم القواقع البحرية الموجودة حاليًّا. ومنذ أن كانت حية، لم يكن من الممكن أن يحدث تغير كبير للدرجة في شكل الأرض. ما الذي حدث إذن وقضى على كل هذا العدد من الأنواع إلى جانب أجناس كاملة؟ للوهلة الأولى لا يستطيع العقل مقاومة المسارعة إلى الاعتقاد بحدوث كارثة عظمى، لكن القضاء على حيوانات كبيرة وصغيرة على حدٍّ سواء في جنوب باتاجونيا وفي البرازيل وسلسلة جبال بيرو وفي أمريكا الشمالية صعودًا إلى مضيق بيرينج على هذا النحو، يستلزم أن ندمر هيكل العالم بالكامل. علاوة على ذلك، فإن فحص جيولوجيا لابلاتا وباتاجونيا من شأنه أن يقودنا إلى الاعتقاد بأن كل ملامح وسمات الأرض تنشأ عن تغييراتٍ بطيئة وتدريجية. والظاهر من طبيعة الحفريات في أوروبا وآسيا وأستراليا والأمريكيتين الشمالية والجنوبية أن تلك الظروف التي ترجح كفة رباعيات الأقدام «الأكبر حجمًا» كانت في حقبةٍ متأخرة تمتد لتشمل العالم، لكن لم يستطع أحدٌ حتى تخمين هذه الظروف بعد. من الصعب أن يكون ذلك تغيرًا في درجة الحرارة، ذلك التغير الذي قضى في نفس الوقت تقريبًا على سكان دوائر العرض الاستوائية والمعتدلة والقطبية في كِلَا جانبي الكوكب. في أمريكا الشمالية، نعلم علم اليقين من السيد لايل أن رباعيات الأقدام الكبيرة عاشت بعد هذه الحقبة عندما ظهرت الجلاميد في دوائر عرض لا تصل إليها الجبال الجليدية الآن أبدًا؛ ربما نشعر يقينًا من خلال أسباب قاطعة لكنها غير مباشرة أن الماكروتشينيا أيضًا عاش في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية لفترةٍ طويلةٍ بعد حقبة نقل الجليد للجلاميد الصخرية. هل قضى الإنسان، كما يُقَال، بعد غزوه الأول لأمريكا الجنوبية على البهضم الثقيل والحيوانات الأخرى من عديمات الأسنان؟ يجب على الأقل أن نبحث عن سببٍ آخر لفناء التوكو توكو الصغير في باهيا بلانكا والكثير من فئران الحفريات ورباعيات الأقدام الصغرى الأخرى في البرازيل. فلن يتخيل أحد أن موجة جفاف، حتى لو كانت أشد بكثيرٍ من تلك التي سببت مثل تلك الخسائر في أقاليم منطقة لابلاتا، يمكنها تدمير كل فردٍ من كل نوعٍ حيوي من جنوب باتاجونيا وحتى مضيق بيرينج. بمَ سنفسر انقراض الحصان إذن؟ هل اختفَت المراعي في تلك السهول التي اجتاحتها منذ ذلك الحين الآلاف من مئات الآلاف من نسل الماشية التي أدخلها الإسبان؟ هل استهلكت الأنواع التي أُدِخلت لاحقًا غذاء الأجناس الضخمة السابقة؟ هل يمكن أن نصدق أن الكابيبارا قد استولى على طعام التوكسودون، والأمر نفسه فعله الجوناق مع الماكروتشينيا، وعديمات الأسنان الصغيرة الحالية مع أسلافها الكثيرين الضخام؟ بالتأكيد ما من حقيقة في تاريخ العالم الطويل أكثر ترويعًا من الفناء الواسع النطاق والمتكرر لسكانه.

مع ذلك، إذا نظرنا للموضوع من وجهة نظر أخرى، فسيبدو أقل إرباكًا. نحن لا نضع في اعتبارنا دائمًا مدى جهلنا الشديد بظروف وجود كل حيوان على قيد الحياة، ولا نتذكر دائمًا أن بعض الكبح دائمًا ما يمنع الزيادة البالغة السرعة لكل كائن حي تُرك ليبقى في حالة طبيعية. فإمداد الطعام يبقى ثابتًا في المتوسط، لكن الزيادة التي تحدث في أعداد كل حيوان بالتوالُد تخضع لمتوالية هندسية وآثارها المفاجئة لم تتبين على نحوٍ مثيرٍ للدهشة في أي مكان مثلما حدث في حالة الحيوانات الأوروبية التي كانت تعيش منطلقة في القرون القليلة الأخيرة في أمريكا. فكل حيوان يعيش في حالة طبيعية يتكاثر على نحو منتظم، ولكن حين يتعلق الأمر بحيوان موجود منذ زمن طويل، فإن أي زيادة «كبيرة» في أعداده تكون مستحيلة بالطبع ويجب كبحها بوسيلة أو بأخرى. مع ذلك نحن نادرًا ما نستطيع أن نحدد يقينًا في أي نوع، أو في أي حقبة زمنية، أو في أي وقت من العام يجري هذا الكبح، أو إذا ما كان يحدث فقط على فتراتٍ طويلةٍ أو، مجددًا، ما هي طبيعة هذا الكبح تحديدًا؛ لذا من المحتمل أن يكون هذا هو سبب شعورنا بالقليل من الاندهاش إذا وجدنا نوعين متقاربين إلى حد كبير في السلوك والعادات، أحدهما نادر الوجود والآخر متوفر بأعداد كبيرة في المنطقة نفسها، أو أن يكون أحدهما متوافرًا في منطقةٍ ما، والآخر، الذي يشغل نفس المكان في النظام الطبيعي، يفترض أن يكون متوافرًا في منطقة مجاورة تختلف اختلافًا طفيفًا في ظروفها. إذا سُئل أحدهم كيف يكون هذا، تكون الإجابة على الفور أن هذا يتحدد وفق اختلاف ما طفيف في المناخ أو الغذاء أو عدد الأعداء؛ مع ذلك، قلما أمكننا، إن تسنى لنا من الأساس، تحديد الطبيعة والسبب المحدد لإجراء هذا الكبح؛ لذا نجد أنفسنا منساقين نحو استنتاج أن ثمة أسبابًا غير مدركة لنا تمامًا تحدد إذا ما كان هناك نوع محدد سيكون متوافرًا أو شحيحًا في العدد.

figure
أمشاط السيدات، باندا الشرقية.
أما في الحالات التي يتسنى لنا فيها تتبع انقراض حيوان ما بواسطة الإنسان، سواء على نحو شامل أو في منطقة محددة، فنحن ندرك أنه يصبح أندر فأندر ثم يختفي؛ وهكذا سيكون من الصعب الإشارة إلى أي تمييز دقيق١٣ بين نوع قُضي عليه بسبب الإنسان أو بفعل زيادة أعدائه الطبيعيين. ويصبح الدليل القائل إن الندرة تسبق الانقراض أكثر إثارة للدهشة عند ملاحظته في طبقات الأرض المتعاقبة من العصر الثلاثي كما لاحظه العديد من الملاحظين الأَكْفاء؛ فقد وُجِد في كثير من الأوقات أن نوعًا من القواقع كان شائعًا للغاية في إحدى طبقات الأرض في العصر الثلاثي أصبح شديد الندرة في الوقت الحالي؛ حتى إنه اعتُقد لوقتٍ طويلٍ أنه انقرض. إذن؛ إذا أصبح النوع، كما يبدو محتملًا، نادر الوجود في البداية قبل الانقراض — وإذا كانت الزيادة الشديدة التسارع لكل نوع، حتى الأكثر تفضيلًا، تتعرض للكبح بانتظام، كما يجب أن نعترف، رغم أنه من الصعب معرفة كيف ومتى — وإذا أدركنا بدون أي قدر من المفاجأة، ورغم عدم قدرتنا على تحديد سبب معين، أن ثمة نوعًا متوافرًا وآخر وثيق الصلة به نادر الوجود في المكان نفسه — فلماذا نشعر بمثل هذا القدر من الدهشة من أن الندرة تعتبر خطوة أقرب إلى الانقراض؟ إن أي فعل يدور في كل مكان حولنا ورغم ذلك نلاحظه بالكاد، يمكن أن يتطور ويخطو خطوة أبعد قليلًا بدون إثارة انتباهنا. من سيشعر بأي اندهاش عندما يسمع أن الميجالونيكس كان فيما مضى نادرًا مقارنة بالبهضم، أو أن أحد القرود الأحفورية كان قليل العدد مقارنة بأحد القردة الموجودة حاليًّا؟ مع ذلك وفي ظل هذه الندرة النسبية، يجب أن يكون لدينا أوضح الأدلة على وجود ظروف أقل ملاءمة لبقائهم أحياء. إن الاعتراف بأن الأنواع عمومًا تصبح نادرة قبل أن تنقرض، وعدم الشعور بأي دهشة تجاه الندرة النسبية بين نوع وآخر، وفي الوقت نفسه، استدعاء عامل استثنائي والاندهاش بشكل كبير عند انقراض أحد الأنواع، يبدو لي أشبه بالاعتراف بأن المرض لدى الفرد يسبق الموت — وعدم الشعور بالاندهاش من المرض — وفي الوقت نفسه الاستغراب عندما يموت المريض والاعتقاد بأنه مات بسبب العنف.

هوامش

(١) أعد السيد ووترهاوس وصفًا مفصلًا لهذا الرأس أتمنى أن ينشره في إحدى الدوريات.
(٢) لوحظ تكوين غير طبيعي شبه مماثل، لا أدري إن كان وراثيًّا، في سمك الشبوط وكذلك في تمساح نهر الجانج. «تاريخ الحالات المعيبة»، السيد إيزيدور جوفروا سانتيلير، المجلد الأول، صفحة ٢٤٤.
(٣) قدَّم السيد إيه دوربيني وصفًا شبه مماثل لهذه الكلاب، المجلد الأول، صفحة ١٧٥.
(٤) يجب أن أعبر عن امتناني للسيد كين الذي كنت أقيم في منزله عندما كنت في بيركيلو وللسيد لامب في بيونس أيرس؛ فلولا مساعدتهما، لما وصلت هذه البقايا القيمة أبدًا إلى إنجلترا.
(٥) «مبادئ الجيولوجيا»، للايل، المجلد الثالث، صفحة ٦٣.
(٦) الذباب الذي كثيرًا ما يصاحب سفينة لبضعة أيام أثناء انتقالها من ميناء إلى ميناء، ومع شروده عن السفينة، سرعان ما يضل ثم يختفي جميعًا تمامًا.
(٧) للسيد بلاكويل العديد من الملاحظات الممتازة فيما يتعلق بسلوكيات العناكب في كتابه «أبحاث في علم الحيوان».
(٨) وردت نبذة مختصرة عنها في العدد رقم ٤ من مجلة «زولوجي أند بوتاني».
(٩) وجدت هنا نوعًا من الصبَّار أسماه البروفيسور هينسلو الصبَّير الدارويني (مجلة «زولوجي أند بوتاني»، المجلد الأول، صفحة ٤٦٦)، والذي كان لافتًا للنظر بسبب قابلية الأسدية للتهيج عندما أدخلت جزءًا من عصًا أو طرف إصبعي في الزهرة. كانت أجزاء غلاف الزهرة كذلك تنغلق حول المدقة لكن بشكل أبطأ من الأسدية. توجد النباتات من هذه العائلة، التي تعتبر في العموم نباتات استوائية، في أمريكا الشمالية («أسفار لويس وكلارك»، صفحة ٢٢١) في نفس دائرة العرض المرتفعة كما هو هنا، تحديدًا عند دائرة عرض ٤٧ درجة في كلتا الحالتين.
(١٠) لم تكن هذه الحشرات غير شائعة تحت الأحجار، وقد وجدت عقربًا تلتهم أخرى في هدوء.
(١١) تشيلي، «خطوط على جبل مون بلان».
(١٢) مؤخرًا سمعت أن الكابتن سوليفان من البحرية الملكية البريطانية وجد العديد من العظام الأحفورية مطمرة في طبقات منتظمة على ضفتي نهر جاليجوس في دائرة عرض ٥١ درجة و٤ دقائق. بعض هذه العظام كبيرة والأخرى صغيرة، ويبدو أنها كانت تنتمي لحيوان المدرع. هذا اكتشاف غاية في الأهمية والإثارة.
(١٣) انظر الملاحظات الممتازة للسيد لايل حول هذا الموضوع في كتاب «مبادئ الجيولوجيا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤