إلى القارئ

يعلم النَّاس ما أقصُّه في هذا الكتاب من تاريخ بني قومي ما رجع البحث التاريخي الخالص في سيرة يسوع إلى القرن الثامن عشر، الذي هو عصر النقد العقلي.

ومن الصعب وصفُ رجلٍ كيسوع لا نكاد نعلم شيئًا عن حياته وأوصافه وسريرته قبل بلوغه الثلاثين من عمره، وليس لدينا غير معارف متناقضة عن عامَيْ سِنِّه الأخيرين؛ فالأناجيل الأربعة التي هي كل ما لدينا متباينة، ويدحضها ما هو غير نصراني من المصادر القليلة. ونحن إذا حذفنا الأقوال المُكرَّرة لم يبقَ لدينا من ذلك كله سوى خمسين صفحة تحتاج إلى تمحيص جديد.

أضف إلى ذلك ما تراه في تاريخ حوادث يسوع من خلْطٍ أثار أسف الباحثين في كل قرن. وأول تلك الحوادث وآخرها؛ أي العِمَاد وَالحُكْم، فقط هما ما صح مكانه منها، وأما أخبار ما بين هذين الحادثين فبادية التخليط.

قال لوثر: «الأناجيل غير منظَّمة، وليس في هذا كبير أهمية، فإذا ما بُحِثَ في نصوص الكتاب المقدس ولم يمكن التوفيق بينها وجب العدول عن البحث.»

فعدم انتظام هذه النُّصُوص هو سبب تناقضها تقريبًا، ويصبح كل شيء منطقيًّا فيها عند الرجوع إلى ما يقول به علم النفس من الترتيب. وبهذا وحده يمكن تَفَهُّم دَوْرَيْ حياة يسوع: دور الخُشُوع والهدوء والتعليم، ودور الرسالة. والباحث حين يفترض تتابُع هذين الدورين يرى تواري ما في سجية يسوع من التناقض، ويطَّلع على تطور حياته تطورًا طبيعيًّا.

ولا نُلِم بعلم اللاهوت الذي وُضع بعد يسوع بطويل زمنٍ إلا قليلًا، فلا نَعُدُّ يسوع في هذا الكتاب إلا إنسانًا، لا مُخَلِّصًا. ولا نقصُّ من أنباء يسوع إلا ما هو مجردٌ مما أضيف إليها بعد زمن مما لم يعرفه يسوع ولم يُرِدْه، فترى هذا الكتاب خاليًا مما ذهبت إليه تفاسير الأناجيل من تأييدٍ لنبوءات سابقة، أو دعمٍ لكنيسة حادثة.

ولا يجد القارئ في هذا الكتاب ما نقضه العلم من شتى الأمور. والقارئ إذا لم يعثر في هذا الكتاب على نصٍّ مألوف لديه منذ صباه؛ فليذكر أن هنالك كتبًا كثيرة أُلِّفَتْ لدحض مثل هذا النص، فأكثر النَّاس لا يعرفون حياة يسوع من الأناجيل كما يعرفونها من الأقاصيص اللاحقة. فغابت عنهم تفاصيل غير قليلة لهذا السبب، فلم يلاحظوا مثلًا أن متَّى ومرقص لم يُدْخِلا يسوع الطفلَ إلى المعبد، كما أن ثلاثة من الأناجيل الأربعة أماتت يسوع في غياب مريم ويُوحَنَّا.

وهنا أقول: إنني فسرتُ ما أشرت إليه من معجزات يسوع تفسيرًا طبيعيًّا، ما قصدتُ كتابة تاريخ رجلٍ، وما أردتُ بيان أخلاق إنسان؛ فليس مما يزيد يسوع عظمةً أو يحطُّ من قدره عزوُ مائة معجزة جديدة إليه، أو إنكار أية معجزةٍ له، فتراني قد مزجت مختلف الروايات مزجًا تبدو به الحقائق، فلم أعتمد إلا قليلًا على إنجيل يُوحَنَّا، الذي وُجِّهَ إليه من الانتقاد في الوقت الحاضر ما يُوَجَّه إلى غيره، مستندًا إلى إنجيل مرقص وإنجيل متَّى على الخصوص.

ولم أُضِفْ إلى هذا الكتاب ما هو جديد، فكان ما ترى من صغر حجمه، فليس القصص التاريخي الذي هو مسخٌ للقصة والتاريخ معًا — كما قال غوته — بجائز عند قلة المصادر، وإن أُحِلَّ عند كثرتها؛ فيجب على مَن يرغب في وضع أقوال على لسان يسوع للدلالة على مقاصده أن يكون شبيهًا له في بصيرته ووجدانه.

من أجل ذلك، تجد لِمَا هو مسطور في هذا الكتاب من قولٍ ليسوع أو عملٍ له أصلًا في الأناجيل. ولم نَرَ إتمام ذلك إلا بما تصورناه له من نَظَرَاتٍ وأوضاعٍ وأوجُه تعبيرٍ، ووصلٍ بين الفكر والكلام، وبيانٍ للأسباب، وتسلسلٍ للمشاعر.

ولم نَسِرْ في هذا الكتاب على طراز الأناجيل ما أدى ذلك إلى ابتعاد المعاصرين عن مطالعته. وما دمنا على علمٍ باعتراك الأهواء، واصطدام الأغراض، وضروب المحرِّضات، واختلاف الأحكام، وما إلى ذلك من الأمور الملازمة لضمائر النَّاس.

ونحن إذ اجتنبنا في كتابة هذه القصة تزويق الكلام؛ لِمَا يَجُرُّ إليه من الخيال، لم يبقَ لدينا غير ما هو مماثل لِحَفْر الخشب.

وليس من مقاصد هذا الكتاب زعزعةُ إيمان مَن يُؤَلِّهُون يسوع؛ وإنما نُثبت فيه للذين يرونه من صنع الخيال أنه بشرٌ حقيقيٌّ، قال روسو: «لو لم يظهر يسوع حقًّا لكان واضعو الأناجيل عظماء مثله.»

ولم أَعْرِض في هذا الكتاب مذهبًا معروفًا، بل أوضحتُ فيه باطن حياة ذلك النبي الذي فاق جميع معاصريه، وإن لم يكن لديه من السلاح ما يغلبهم به، ولم أُبالِ بما نُسِبَ إليه من عمل لاحقٍ ما دام ذلك من فعل الآخرين، لا من فعله، بل حاولتُ أن أوضح فيه تاريخ قلبه، وإن شئتَ فَقُلْ تاريخَ شعوره ومقاصده، وعوامل قيادته للناس، وميوله وأحلامه، وتبدُّد أوهامه، وما قام في نفسه من صراع بين الإقدام والإحجام، وبين البأس واليأس، وبين الدعوة والسعادة.

وإذ إن غايتي هي كما ذكرتُ لم أكن جازمًا فيما شرحتُ وفسرتُ، فكان ما تراه من البساطة، وعدم التصنع، وملاءمة روح الزمن الحاضر.

وقد صَدَّرْتُ كتابي بمقدمةٍ رسمتُ فيها البيئة السياسية الفكرية التي ظهر فيها نبيٌّ من ذلك الطراز، وَأَبَنْتُ فيها كيف نَضِجَتْ فيه الأفكار السائدة لذلك العصر، وكيف بَشَّر بها. وفي هذا ما يكفي لإثبات عظيم عبقريته.

وهذا إلى أنَّ سِرَّ عمله العجيب في قلبه الإنساني، لا في عبقريته.

إميل لودفيغ
موشيا ١٩٢٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤