الفصل الأول

النداء

فتًى مضطجعٌ على العشب فوق الجبل، ناظرٌ إلى السماء، فتلقي الشمس أشعتها المائلة عليه وقت الصباح؛ فيظن أنه راعٍ ما مَرَّت قِطَاع الضأن قريبةً منه.

يبدو كل شيء هادئًا، وتنحدر الجبال برفق إلى الوادي، فلا تسمع للإنسان رِكْزًا، فيستطيع ذلك الفتي أن ينام، فإذا ما ذهب عنه الكرى وجد شياهه كاملة.

ليس ذلك الفَتَى بنائم، وليس للغنم بصاحب، وقد حُبِّب إليه أن يتسلل في صباح كل سبت ما كان السَّبْت يوم راحة، وما هجر العامل فيه المصنع، فلا احتياج إلى ذلك الفَتَى في ذلك اليوم إذن، ويكون طليقًا ساعةً بين صلاة الصبح وقصد المعبد، وله مُتْعَةٌ في تأمل الزرقاء١ وحيدًا فوق الطُّور.٢

فعلى الطور وفيما وراء السحب يقيم أبوه الأعظم …

أجل لا تدرك الأب أبصار فتًى وإن رآه موسى ذات مرة، وتجلَّى لقدماء الأنبياء أحيانًا، غير أنه قريبٌ مع بعده، والريح حين تهب من البَحْر فيسجد شجر الزيتون، فَتَئِنُّ سوقه، والماء حين ينزل من السماء فَيَخُرُّ٣ في السواقي بين ثُغَاءِ الشاءِ، والغمام حين يتراكم على جبل حرمون فيحجب ذروته يُسْمَعُ صوت الرب المحب للجبال لا السهل.

ذلك الفَتَى بين الجبال، فيُبصر من هنالك جميع الجبال، فيرى عن شماله جبل تابور المدور، ويرى عن يمينه جبال السامرة، ويرى في آخر السلسلة جبل الكرمل الحادَّ المُهَدد بِغَرَقِه في البَحْر.

ويصعد الفَتَى جبل تابور فلا يبصر شواطئ البحيرة المستترة خلفه، جاهلًا أمر ذهابه يومًا إلى مينائها، ولا شيء يجذبه إلى ذلك، والنَّاس يكثرون على مسمعٍ منه من الحديث حول المُدُن والسفن، وحول الأمم التي تملك هذا أو ذلك، أو التي انتزعت هذا أو ذلك، فلا تجد أقوالهم إلى قلبه سبيلًا واضحًا كما يبدو.

هنا المكان حسنٌ؛ فهو ذو أُشْنَة٤ ناعمة، وهو ذو شجر تينٍ ظليلٍ، فلا يؤذي وهج الشمس عيني مَن يجلس تحته، وهو ذو دَغَلٍ يسهل اجتناب شوكه، وهو ذو قنابر تدنو من الإنسان من غير أن تنفر ما راعاها الرعاة إذا ما كانوا فيه، وما رَعَتْ أنعامهم كلأه هادئةً صامتة. ولا ريب في أن الرب الأب ينظر إلى هذه الأنعام بِحُنُوٍّ وإن عجزت عن الدعاء إليه، ولا ريب في أن الرب الأب الموجود في كل مكان يرى شجرة التين، ويرى الفَتَى يَتَفَيَّؤها.

ويذهب الفَتَى إلى الناصرة المدينة الصغيرة ذات البيوت البيض؛ حيث يتكلم القوم عن الرب وبيت الرب، وعن استيلاء المشركين على بلد المؤمنين، وعن سلطان الكافرين على الشَّعْب المختار، ويخوض الأغنياء والكتبة في ذلك أكثر من الفقراء، فيدخلون دورهم ليروا هل يصلون كما يجب، وَيَصِلُ فَرِّيسِيٌّ إلى النَّجَّار أبي الفَتَى، فينظر إليه هذا الأب من مَنجَرِه مغمومًا؛ فهو يعلم أن الفريسي هذا سيبحث مدققًا في آنيته وجُدُرِه ليعرف مقدار نظافتها، ودرجة قيام صاحبها بما يأمر به الشرع، فَيُضيع عليه ساعةً من نهار فلا يُنْجِز عمله.

يا لَرَوْعة التوراة! تلا أبو الفَتَى سِفْرَ دانيال ليلة أمس على حين كانت أَخَوَاته نائماتٍ، وكانت أمُّه جالسةً في ركنٍ من البيت صامتةً مُنْصِتَةً، ويفكِّر الفَتَى في إخوته وأخواته الأحدث منه سنًّا، وفي لغة أبويه الجافية، وفي عجزه عن النظر إلى الله بعين بصيرته في حضرة هؤلاء جميعهم.

بلغ الفَتَى البيت فوجد آله متأهبين للذهاب إلى الكنيس نظيفي الثياب بعد أن غسلتها أمه أمس، ويجمع الأب الأمتعة في بيته الحقير المُؤلَّف من غرفة واحدة يأكل آله فيها وينامون، فيذهب وتذهب معه الأم حاملة أصغر أولادها، وتبدو مائدة النَّجَّار أمام البيت خالية، ويظل باب البيت مفتوحًا، وَمَن يجرؤ على السرقة يوم السَّبْت؟ وَمَن يأتي ليسرق هنا؟

ويمر أولئك بجانب الحوض المُقَبَّب حيث تملأ أمُّ الفَتَى جَرَّتها في كل صباح، فتحملها على كتفها، ثم يسيرون من حدائق كثيرة يملكها الأغنياء حول بيوتهم، فيدخلون في أفيائها، وما أنضر ما في ذلك الوادي المرتفع ذي المياه الوافرة! يكثر فيه ارتفاع أشجار السَّروِ ذوات الرءوس المنحنية قليلًا، ويكاد النخيل فيه يعدل تلك الأشجار عُلُوًّا، وتُورِق الكروم، وَتُخْرِج أَشْطَاءَها،٥ وتبرز أزهار الرمان الحُمْر بين أوراقه الخُضر، وتحيط بتلك الحدائق أشجارٌ شائكةٌ لمنع النَّاس من دخولها، وتسترها طبقةٌ من الغبار، فَيَخْفَى أمرُها على الصبيان فَتَخْمِشُهُمْ وتبكيهم.
ويلاحظ الفَتَى نظرَ فريق من النَّاس إلى البيوت المزخرفة وأعمدتها شَزْرًا ما فُطِر على الدقة والنفوذ إلى ما يخالج الأفئدة، ولم يأكل قلبَه الحسدُ من ذلك ما بعُد من ذهنه أن يعيش كأولئك الأغنياء، أَفَلَمْ يَكْفِه لبنُ المواعز وَإقْطُ٦ الضوائن والتين؟ أفيكون النَّجَّار أقل قيمة من المتعلم عند الله؟ أَفَلَمْ يسمع أن فَرِّيسيين كثيرين كانوا صنَّاعًا؟ هو حين يدخل الكنيس، يفضل أن يدفن تحت الأَرْض على أن يجلس في الصف الأول حيث يكون الأغنياء.

ولم يَسْطِعْ آل الفَتَى أن يذهبوا إلى أورشليم حُجَّاجًا منذ طويل زمن لفقرهم، فيثير ذلك في نفوسهم أشد الآلام. ومدة السفر إلى أورشليم ثلاثة أيام، ونفقة السفر إلى أورشليم تُكَلِّف غاليًا. وفي العام الماضي، زار جارٌ للفتى أورشليم فحدَّثه عن كل ما رآه، وعن زُخْرُفِ هيكل هِيرُودُس، وعن كثرة القرابين في المذبح، وعن حُلَّةِ رئيس الكهنة الزاهية، وعن الضوضاء في الأسواق.

ولكن يسوع لم يتمنَّ السفر إليها ولم يشتق إلى الهيكل فيها.

•••

دَرَجٌ تؤدي إلى الكنيس البارد الطويل، فيصعد فيها الأب وأولاده الكبار فيدخلونه، وتدخل الأم المكان المفصول الخاص بالنساء، فتعلو أصوات الرجال ويحتدم جدلهم، فيدعوهم إلى السكوت كاهن القداس الجالس على كرسي عالٍ في صدر المحل، فيقفون لتلاوة دعاء، ثم يسأل عن أيِّهم يرغب اليوم في قراءة ما تيسر من التوراة، فينهض من الصف الأول رجل بادن ذو لحية بيضاء، لابسٌ رداءً من حرير، وشالًا موشَّى بكريم الحجارة، فيفسح الجميع له في المجال، فيرتقي المنبر، ويرتل ما يقرأ. وهذا الرجل من أغنى أبناء بلده، وهو كثير العلم، وهو لا يُبَارَى في إيتاء الصدقات، وهو لا يعطيها إلا جهرًا، وهو أول الداخلين لبيت الله، وآخر الخارجين منه، فيقضي أوقاته فيه بالصلوات، وهو يتقن الصوم، ويحسن تربية أولاده الكثيرين خشية الله، وهو يعطي المعبد والفقراء أكثر من عُشْرِ دَخْلِه، وهو أسوةٌ حسنة للقوم، والقوم لا يحبونه مع ذلك؛ لأنه لا يحب أحدًا.

بدا فاترًا مغمومًا ذلك الفَتَى البائس الواقف على أطراف أصابعه ليُبصِر من بين الجمع الكرسي العالي الموضوع في صدر القاعة، ولم يَرُقه ما ينطق به ذلك السمين الأمين، ثم لام نفسه على هذا ما نزَّه ذلك الرجل من إيذاء أي إنسان، وما امتدح أبوه كرَمه الذي تجلى حينما دفع إليه أكثر مما اتفق عليه ثمنًا لبابٍ صنعه له، وما الذي يُباعِد بين الفَتَى وبينه إذن؟ وإن النِّقَاشَ ليشتدُّ بين أولئك غير موافقين على تفسير ما قرأ، وإن النقاش ليشتدُّ بين أولئك حول دلالة كلمة «المسيح» على معنى «ابن الله» أو «ابن داود»، فيستند كل واحدٍ منهم إلى آية من التوراة دعمًا لرأيه؛ إذ يترجح ذلك الفَتَى بين الاحمرار والاصفرار ضنينًا بما في نفسه من الكنوز الخفية، فيودُّ لو يفرُّ بها من الكنيس الضيق الخانق إلى ذلك الجبل؛ حيث تدنو القنابر فيه، وحيث يألف جدول الماء، وحيث يظلل الغمام رأسه، وحيث يتيه نظره من خلال السحب في ملكوت السماوات.

ويقصد الصبيان الكنيس البارد بعد الظهر فيتألف من جلوس بعضهم بجانب بعض حلقة، ويمسك كل واحد منهم قرطاسًا ذا كتابات فيرددون ما يتلوه المعلم الجالس في وسط الحلقة، مشيرين بأصابعهم إلى ما في قراطيسهم مما يقرؤه حرفًا حرفًا، ولا تلبث الحروف أن تتحول إلى كلمات، والكلمات إلى جُمَل فيُرتِّلها الطلاب.

تلك هي مدرستهم الوحيدة، فإذا ما كدَّر أحدهم صفو الدرس ضربه المعلم، ومن الإنصاف أن يقال: إن عمل المعلم شاقٌّ ما اختلفت اللغة التي يتكلمون بها عن اللغة التي يقرءون بها، فلبلادهم الجبلية لهجةٌ مختلطةٌ يضحك من نبراتها الآرامية جميع إسرائيل، فإذا ما تم الدرس انصرفوا إلى حيث أرادوا.

وفي الشارع أشياء كثيرة تستوقف النظر؛ فمن هذا الشارع الناصري، الذي هو شارع أمم بالحقيقة، يمر مَن ينزلون إلى مرفأ بتولمايس، مع ما لديهم من السلع وغيرها، قاصدين الداخل وطبرية والمناطق الشمالية ودمشق، ويشاهد الصبيان في هذا الشارع تتابُعَ الجمال والخيل والحمير والمركبات والجنود والتجار ونساء هؤلاء وعبيدهم، فيتعلمون بضع عبارات إغريقية، وتَبْعُدُ صفوري ثلاث ساعات من هنالك، ويزيد في صفوري عدد المشركين عن اليهود.

ويأتي من الشرق إلى ذلك الشارع تجَّار فنيقيون وعلماء عرب، ويأتي إليه أيضًا أفاقون من الأجانب ليعودوا إلى أوطانهم بحرًا، وإذا ما اهتزت الأَرْض وعلا الضجيج كان مصدر ذلك جنودٌ حاملون سيوفًا قصيرة، مدرعون، جمعهم قيصر رومة من جميع البلدان، فترى بينهم السُّمر، وترى بينهم الشُّقر، وتُبصر بينهم الممشوقين، وتبصر بينهم المتوحشين، ويولِّي جميع اليهود الرايات الرومانية ذوات الصور الوثنية ظهورهم لكيلا يُلزموا بتحيتها، ويشير صبيانهم إليها بأصابعهم كَمَن يريد أن يتبين في صورها المحرمة مكان اللعنة والشر.

واليهود حين يرون تدفق أولئك المشركين من كل صوب وحدب يستحوذ عليهم ذعر مع ثبات إيمان، فيثير ذلك بينهم من الأحاديث ما لا حدَّ له، وذلك الفَتَى الصامت، حين يجلس مساء على عتبة المنزل بالقرب من أبيه فيسمع تحسُّره مع جاره من بؤس الزمن، يرى في ذلك إيضاحًا لما شاهده في الشارع، فينقش في ذاكرته أن جميع المنطقة التي يراها من أعلى جبل تابور، وجميع الأراضي التي تحيط بها إلى مسافة مئات الأميال كانت ملك اليهود، فنزعها الرومان منهم، فضلًا عما يطالبونهم به من الضرائب والمكوس. والرومان هؤلاء استولوا منذ بضع سنوات على الهيكل بالنار والحديد، فَوَلَجُوا قُدْسَ الأقداس كما قيل، فظهر سمعان الجميلُ عبدُ الملك هِيرُودُس فحرق قصر الملك بأريحا، وظهر عِمْلَاقٌ قويُّ الشَّكيمة كموسى، فوضع التاج على رأسه وحارب الرومان.

بَيْدَ أن هؤلاء جميعهم غُلِبُوا.

•••

اشتعلت الفتنة بغتةً في الناصرة وسائر بلاد الجليل التي ارتجفت أيام نشوب الثورة في مناطق الحدود؛ ففي جمالا، البعيدة بضع ساعات من الناصرة، التفَّ حول يهوذا الجليليِّ رجالٌ أشداء لتحرير الوطن، ولدى يهوذا هذا ما يحفزه إلى الثورة؛ فقد قَتَلَ صنيعةُ الرومان هِيرُودُس أباه، فأصبح لِزَامًا عليه أن يثأر به، فبدا ساعد حزب المتطرفين الجديد الذي يرأسه صادوق، فكان من برنامجه عدم الخضوع للرومان، ومن أقوال رجاله: نحن أحرار فلا نشعر بواجبٍ نحو أحدٍ غير الله، أتريدون حمل الأهالي على دفع الضرائب؟ ألا تعلمون أن الأنبياء هددوا الملك داود عندما ود إحصاء بني إسرائيل؟ أنتم راغبون في جمع إتاوة من أقل سنبلة نُنْبتها، وأصغر زجاجة زيت نصدرها! أنتم تجاوزون حدود الطمع بهذا! أنتم تقصدون إذلال شعب الله المختار على مرأى من المشركين! وَالفَرِّيسيون إذا صبروا على ذلك فلجهلهم سرَّ ما جاء به قدماء الأنبياء، وأما نحن فإننا — بما عليه من عدم الاحتمال، وشدة السخط، وزيادة الحركة — نوجب ظهور المسيح المُخَلِّصِ.

رفع يهوذا الجليلي وصحبه راية العصيان فباغتوا مستودع الأسلحة بصفوري، فأخذوا ما فيه من عُدَدِ الرومان ونقودهم، فدعا لهم الكهنة بالنصر والتوفيق، فانطلقوا إلى طرد الأجانب من فلسطين، ولم يفتأ جيشهم يعظم حتى ضاق ما وراء جبال الجليل بهم ذرعًا، وعلم القائد الروماني فاروس ذلك فأسرع في الحضور من سورية، وحضر معه جنودٌ يزيد عددهم على عدد أولئك العصاة خمس مرات، وانضمت إليه كتائب الأمراء المجاورين، فألقى الرعب في أورشليم بعد إنقاذ، وَقَمَعَ الثورة وقتل أَلْفَيْ ثائر على الصلبان، وَفَرَّ يهوذا.

يقص آباء الفتيان وأساتذتهم عليهم أنباء انتصار شبان الجليل وانكسارهم، فيرتجفون، فتتجاذبهم عوامل الحقد والأمل، فيتمثل لهم يهوذا بطلًا مختبئًا في كهوف لبنان مفكرًا في وضع خطة جديدة للثأر، ولكنهم لم يلبثوا أن علموا أن الرومان اعتقلوه وصلبوه، فطأطئوا رءوسهم. ولسُرْعَان ما رُفع ذكر يهوذا فَعُدَّ شهيد الأمة! فَنُظمت القصائد تكريمًا لذكراه، فقيل فيها: إنه قتل في سبيل حرية بلاده، والثأر بأبيه وأجداده، وأضحى القوم ينظرون إلى الصليب المُصْلَتِ على أبواب أورشليم رمزًا للمجد والشرف، وصاروا يَتَحَرَّقون انتظارًا لعمل شيء جديد بعد غيظٍ، وَغَدَوْا يعتقدون أن ظهور المسيح المنتظر موقوفٌ على رفع نِير الرومان عنهم.

ويظل ذلك الفَتَى المفكر وحده هادئًا في الكنيس متعطشًا إلى المعرفة، مستمعًا إلى أحاديث الكبار راجيًا أن يكتشف ما يدور في أفئدتهم، وإذا ما مَرَّ يهوديٌّ إسكندريٌّ اتفاقًا من الناصرة، فتكلم عن مكتبة الإسكندرية العظيمة وحكمائها المعاصرين، أنصت له وعلق بذهنه ما في كلامه من طريف المعاني. ومن المحتمل أن سمِع يونانيًّا يُحَدِّثُ عن نبيٍّ وثنيٍّ كان يعظ القوم في الشارع أيام ازدهار أثينة وعظمتها، فيضع الصانعَ السوقيَّ فوق المعبد والمدرسة فيقول: «مَن يَجِدُّ في معرفة نفسه يعمل الصالحات على الدوام فيصبح سعيدًا.» فأمورٌ مثل هذه تَقْرَعُ ذهن ذلك الفَتَى؛ فيستنبطُ منها أغربَ النتائج.

بدا ذلك الفَتَى ثابتًا رابط الجأش حينما قيل بمقت المشركين، وازدراء الرومان، ورأى غليان شعور الغرور في بني قومه، فجالت في خاطره الأسئلة الآتية: أيعني حب الله لنا كرهه للآخرين؟ أنحن مُبرَّءون من العيوب حتى نضع أنفسنا فوق الآخرين؟ وما أهمية مُلْكِ الفنيقيين لجبل الكرمل ومُلْكِ فيليبس بن هِيرُودُس لشمال بحيرة طبرية؟ وما احتياجنا إلى المُدُن والجبال ما كنا شعب الله المختار؟ ألا يكفينا التصرف في الهيكل؟ وما ضرر فرض الرومان علينا ضرائب ومكوسًا؟ وما ضرر نقص ثروات الأغنياء ما وجد النَّاس ما يأكلونه في نهاية الأمر؟ وما هي علاقة مملكة إسرائيل بملكوت الله؟ وما اضطرار صادوق ويهوذا إلى أسلحة المشركين في مستودع صفوري ما ابتغيا ملكوت الرب؟

•••

لم يخب أُوارَ الفتنة عدَّة سنين، وستدوم عشرات السنوات، فالصواب في سَلْوها والتفكير في غيرها.

وترعرع يسوع فغدا شابًّا، وَيَفْرِقُ شعره الأسود على الطراز الناصري، وسيكون ذا لحية عمَّا قليل، وهو ضليعٌ جيدُ الصحة ما جال في الجبال، وليس الهواء في مَنجَر أبيه حارًّا كما في أسفل الوادي، ويُسمع للرياح هزيزًا بين التلال، ويُرى اخضرار سفوح الجبال بفعل المياه، ويُروى أنه فقد أباه يوسف حين كان في السنة التاسعة عشرة من عمره، فكفل هو وأمه إخوته الصغار.

ولم يفكر يسوع في الزواج مع أن الشريعة تحرض عليه مباركةً للأب الكثير الأولاد، ويُكِنُّ يسوع محبةً للنساء والصبيان فيحبونه. ومن المحتمل أن كان يبدو شاذًّا ما ظهر هادئًا كريمًا رءوفًا رحيمًا بالنَّاس، مجتنبًا للخصام، أنيسًا، مصغيًا أكثر منه متكلمًا، وكان جامعًا لمقادير البشر في صدره، مدققًا في عواطفهم وآلامهم، كاشفًا لعوامل السير فيهم كما لو كان قابضًا على عصًا سحرية، وأظهر ما يكشفه على الخصوص هو الضعف الخفي خلف الظواهر الصاخبة التقليدية، ويسوع إذ عرف كل شأن كان يلتمس المعاذير لكل إنسان، ويسوع إذ ابتعد عن الظهور حكمًا قاضيًا كان موضع ثقة لكل إنسان.

ومن المحتمل أيضًا أن كان القوم يعطفون على يسوع ما رأوا تجرده من الحرص، وابتسامه عند غضب الآخرين، ويدعوه الأغنياء إلى بيوتهم لاطلاعه على التوراة وعدم اندفاعه إلى الأمام، ويجلس حول موائدهم، ويشرب خمرًا من التي تستخرج من عنب تلال البلاد، وما كان ليهرب من الأعياد ولا من مجالس النساء، وما كان ليُقَصِّر في مداعبة المدعوين.

ويُفَضِّل يسوع مجالسة أقرانه الفقراء على حافة الطريق أو على درج الكنيس، فيصغي إلى شكاواهم، ويصاحب يسوع المشردين مع تجنب الأتقياء العابدين إياهم، وما كان ليخشى البغايا، وما كان ليبتعد عن الجلوس حول موائد العَشَّارين مع ازدراء العالمين إياهم، وما كان اليهود بالحقيقة ليعفُوا عن أي واحد منهم يجمع الضرائب والمكوس التي يفرضها الأمير، فيدفعها الأمير جزية إلى رومة، فما يبقى للعَشَّارين من الثروات حريٌّ بالاحتقار لذلك، والمال العامُّ مالٌ مسروق لذلك، وليس على اليهوديِّ التقيِّ أن يدفع شيئًا إلى غير الهيكل لذلك.

وما الذي يدفع ذلك النَّجَّار الفَتَى إلى محادثة تلك الطُّغْمَة؟ يعلم كلُّ واحدٍ في الناصرة أنه لا مَغْنَمَ له من وراء ذلك، فعليه أن يَعْرِفَ أن مصاحبة العَشَّارين والآثمين مما يشِينُه، والقوم لم يَنْشَبُوا، مع ذلك، أن أدركوا أن بحث هؤلاء الضُّلَّال عنه هو لعدم شتمه لهم، ولاستماعه إليهم عندما يَقُصُّون عليه سبب سلوكهم سبيل المال والغرام، وكيف أنهم لم يتركوا بابًا إلا طرقوه قبل ذلك، ويظهر أن في الفَتَى استعدادًا عجيبًا لاكتشاف بقية الشرف في أرذل الآثمين، من غير أن يُدْرِك هؤلاء ذلك، فإذا ما حَضَرَ فَتَحَ المَرَدَةُ أفئدتَهم، وَلَانَتْ قلوبُ الأشرار القاسية.

وأبناءُ الجليل أولئك مُتَقَلِّبُو المزاج، فطورًا تراهم من الشجعان المخلصين المتحمسين لمثلٍ عالٍ، وطورًا تراهم من المنحطين النادبين القانطين لغير سبب، وليس من صفاتهم الاعتماد على النفس. ومما زادهم عدمَ ثباتٍ اتصالهم بالمشركين من جيرانهم بصلة النسب، بعد أن انتحل هؤلاء ديانة اليهود، ولا بَلَدَ كالجليل يشتمل على ذوي الحماقة وَالخَبَل، وليس يسوع ممَّن يخاف الممسوسين؛ فهو يرى الشيطانَ الذي يَتَخَبَّطُهم فلم يُحْجِم عن زيارتهم مع ابتعاد الآخرين عنهم مذعورين.

وإذا وُجِدَ مَن يمقتهم يسوع، أحيانًا، فهم الكهنة وَالفَرِّيسيون الذين يجهرون بالزهد، ويُبْدُون الطُّهْرَ على ملأٍ من النَّاس، وكلما تَبَحَّرَ يسوع في التوراة وجد خلافًا بين النصِّ والروح، والمثل الفَرِّيسِيُّ يقول: «إذا اجتمع اثنان من غير أن يتباحثا في الشريعة؛ كان مجلسُهما مجلسَ تجديفٍ وإلحاد.» ومن أقوال الفَرِّيسيين: «ويلٌ لِمَن يسير مفكرًا في الشريعة فَيَقِفُ ليقول: ما أجمل هذه الشجرة! ما أحسن هذا الحقل الذي أُثِيرَ حديثًا! فهو بهذا يُعَرِّضُ حياته للهلاك، وويلٌ لِمَن يفسر الشريعةَ بما يخالف ما نصَّ عليه الكهنة! فهو بهذا يخسر نصيبَه في الحياة الآخرة!» ماذا؟ بهذا يُحْظَرُ علينا الإعجاب بنخلةٍ إذَنْ؟ ماذا؟ بهذا يُحَرَّم علينا أن ننعم النظر في الأَرْض حينما نفكر في الرب إذَنْ؟ ماذا؟ بهذا يفرض علينا أن نستعين بالكتبة حينما نرغب في الاطلاع على معنى الزبور إذن؟

ويسوع لا يَقِلُّ عن الكهنة علمًا بالعادات والوصايا وحقوقِ الكَهَنُوتِ، وأحكامِ النكاح والشريعة والصدقات وتاريخِ إسرائيل والأنبياء، ويسوع في قَرَارَةِ نفسه كاهنٌ أيضًا مع زهده عن الاشتهار بذلك، وَلِمَ يَمْشِي أولئك في الأسواق وَيَبُثُّون الأرصاد والعيون ليراقبوا نظافة الفقراء، وهم إذا ما سُئلوا عن فكِّ رقاب عبيدهم عند انقضاء سبع سنوات قالوا: «سننتظر حلول السنة الخامسة!» والأغنياء يَمْتَصُّون الفقراءَ غير تاركين لهم ما يسدُّ الرَّمَقَ خلافًا لِمَا تأمر به الشريعة؟ وهم حين يطالبون الفقراء ببواكير الفواكه السبع في سبيل الهيكل يأخذون منهم صوفًا وحطبًا وغنمًا ضريبةً للهيكل أيضًا، فيزيدونهم فقرًا، ولا يزيدونهم تقوى.

ويرى يسوع أن الأحرى بالفقير أن يجلس على طرف الطريق منتظرًا مَن يستأجره ليومه، فالربُّ لا يَدَعُه يموت جوعًا، فَلِمَ يفكِّر في غده إذن؟ ومن المناسب أن تذهب أمه وإخوته معه إلى الجبل للاغتذاء باللبن والتين ما اشتغل أهل المدينة هنا بأنفسهم، وما أحبوا أن يرى النَّاسُ ما يصنعون من خيرٍ، وما التمعت عيونهم؛ حينما يقرءون التوراة أكثر من التماعها حينما ينظرون إلى نجوم السماء.

بمثل هذا يُحَدِّثُ يسوع صاحبين أو ثلاثة أصحاب له فَيُنْصِتُون له، فينقلون ما سمعوه إلى أناسٍ آخرين، ويأتي إليه بعض النَّاس في مساء الغد فَيُذَكِّرونه بذلك الحديث، وهو إذ يجلس على عتبة البيت الصغير؛ حيث تقوم أمه بشئون المنزل، يستمع إلى نداء ضميره، ويسهلُ عليه اتخاذُ التوراةِ نقطةَ ارتكازٍ بعد أن عَرَفَ ما في قَدِيم الكتب وحديثها. ومن المحتمل أن تَكَلَّمَ يسوع في ذلك المساء عن الحَبْر الفاضل هِلِّل الذي مات أيام كان يسوع صبيًّا، فذكر قوله: «لا تعامل غيرك بما لا تحبُّ أن يعاملوك به.» وذكر أن هذا مما ورد في كتاب طوبيا مع ذلك، واليوم أُلقيت مقاليدُ مجمع السنهدريم القضائي بِأُورشليم إلى تلاميذ شَمْعي العابسين الزاهدين القائلين: «أحرى بالإنسان ألا يكون قد وُلِدَ.» أفلا ترى الحنث٧ في هذا ما أُنْعِمَ علينا بِمَا نتأمل به الشمسَ والجبال وَالحُمْلَانَ والأولادَ والأزهار؟

وفي الغد ينضمُّ مستمعان إلى الآخرين، فيجلس هؤلاء جميعهم حوله فَيُنْصِتُون له، كما كانوا يُنْصِتُون لرجل من الشَّعْب، فيلتهب حماسةً التهاب الأنبياء، فيختار من كلامهم ما يلائم أفكاره، فيذكر قول إشَعْيَاء على لسان الربِّ: «لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ … اتَّخَمْتُ من محرقات كِبَاش وشحم مُسَمَّنَاتٍ … البخور هو مكرَهَةٌ لي … أيديكم مملوءةٌ دمًا … تَعَلَّمُوا فعلَ الخير، اطلبوا الحقَّ!» ثم يردِّدُ يسوع قول الربِّ في سفر هُوشَع: «إني أريد رحمةً لا ذبيحة.» فيشعر بأن هذا شِعَارُه.

وفي مساء اليوم الرابع، لم يَجِدْه مستمعوه؛ فقد قصد الجبل وحدَه؛ لِيُلْقِيَ السكينة إلى قلبه ما تأَجَّجَ ضدَّ الكهنة، وما خَشِيَ أن يزيد سعيرًا، ففي الجبل ما يهدأُ به فؤاده، وفي غاب الجبل يسمع عزيفًا، وفي المساء ينشر الزنبقُ البريُّ رائحةً ذكية، وفي البُعْدِ ترى مدينة شكيم «نابلس» حيث مقر الأنبياء فيما مضى.

هنالك ترى يسوع مستلقيًا فوق الكلأ، وتراه ناظرًا إلى النجوم، وترى قلبه مفعمًا بحب الأب.

•••

عَلِمَ ذلك النَّجَّار الشاب المشترع قيامَ مذهبٍ بلا ضوضاء بين الأحزاب المتناجزة في جميع البلاد، ولم يكن من مقاصد أَتْبَاعِ هذا المذهب المعروف بالطريقة الآزية السعي في إصلاح البلد، أو الكَنيس، أو إقناع إنسان، بل العيشُ الهانئُ فيما بينهم فقراء أطهارًا. ويبلغ عددُ هؤلاء الآزيين أربعةَ آلاف رجلٍ وامرأة، وظاهرتُهم أنهم من الشيوعيين الأتقياء فلا يكافحون الغنى وَالفَرِّيسيين، ولا يُغْضِبُون إنسانًا؛ وإنما يعملون بمبادئ محبة الأقربين وشيوع الأموال التي بَشَّر بها الأنبياء، وهم ليسوا من الكهنة مع ذلك؛ وإنما هم من العمال والفلاحين والرُّعَاة والنَّحَّالين، وما كانوا لِيُحَرِّمُوا على أنفسهم غير المهن الرَّجِسَة، فلا يكون أحدهم تاجرًا أو ملاحًا أو حدادًا.

figure
يسوع يَشْفِي.

وعلى مَن يصبح آزيًّا أن يجعل ما عنده من عُرُوضٍ ونقودٍ مِلْكَ زُمْرَتِه، وعلى مَن يكسب أكثر مما يحتاج إليه أن يسلم الزيادة إلى هذه الزمرة، فينال كل واحد من أفرادها ما يعوزه مبادلةً من حيث النتيجة. ولكل واحد من هؤلاء أن يتصرف فيما يملك كما يشاء في سبيل الفقراء، لا في سبيل الأقرباء، ولتلك الزمرة وحدها أن تُقَرِّرَ كيفية استعمال المال المشترك، والكلمة الأخيرة في مباحثاتها للسنِّ والأكثرية، وهي التي تقوم على مبدأ «إن ما أَمْلِكُ وما تَمْلِكُ هما لَكَ».

قامت تلك الزمر في حدود الصحراء، ثم اقتربت خطوةً خطوةً من المراكز الزاخرة بالسكان، وهي تعيش في الأرياف أو في المُدُن الصغيرة تبعًا لِمَا تقتضيه الأعمال اليومية المباحة، فإذا ما ساح أناسٌ منها في أية ناحية من بلاد إسرائيل وجدوا إخوانًا من أبناء طريقتهم يقومون بقضاء احتياجاتهم، ما ابتعدوا عن مسائل السياسة والدولة والهيكل التي تُفَرِّقُ بين بني إسرائيل وما بَدَوْا يهودَ.

أولئك من المؤمنين وإن كانوا يأتون غير أمر لا تقول به الشريعة، فهم يقيمون، بعد أن يصبحوا، صلاة روحية مقدار ساعة، ثم يُقَدِّسُون لمصدر النور الشمس عند طلوعها، وهم لا يذكرون منبع الحكمة الربَّ في الظَّلام ما تَجَلَّى في النهار، وهم يغتسلون وقت الظهر ويلبسون ثيابًا بيضًا، ثم يأكلون معًا، فلا يُؤْذن لاثنين منهم في الكلام في وقت واحد، وهم لا يتناولون لحمًا ولا خمرًا، مغتذين بالخبز والبقول واللبن والعسل والفواكه، وهم يبالون بالطهارة والوضوء أكثر من مبالاتهم بالمظاهر، وهم لا يقربون القرابين ولا يحلفون أيمانًا، وهم يصومون كثيرًا ويراعون يوم السَّبْت فلا يمسون فيه آنية مَنزِلِيَّة، ولا يسُدُّون فيه خَلَّةً، وهم يدرسون أمور النَّبَات والحجارة بحسب ما ورد في قَدِيم النُّصُوص، فيستعينون بها على السِّحْر وقراءة العَزَائِم، وتفسير الأحلام، وكشف المُسْتَقْبَل، ويتمتع أولئك بثقة الشَّعْب، والشَّعْب يستشيرهم في كثير من المَسَائِل لِتَجَنُّبِهِم جَرَّ المغانم، وَتَجَرُّدِهم من المطامع.

وليس النكاح حرامًا عليهم، والكثيرون منهم عُزْبٌ مع ذلك، فيقومون بتهذيب أبناء الآخرين، وَتُقَسَّمُ زمرتهم إلى أربع طبقات، ولا يبوحون إلى إخوانهم وأخواتهم بأسرار الطريقة إلا بالتدريج، مُحلِّفين إياهم بيمينهم الوحيدة المباحة على كتم أسرار مذهبهم، وكتم أسماء إخوانهم، فَمَن يحنث منهم أو ينقض عهدًا؛ يُطرد من الزمرة ويُشرَّد، فيهلك مُعَذَّب الضمير، وهو لا يُسمَح له بالعودة إلى إخوانه إلا في آخر عمره رحمةً به، ويسمو أتباع تلك الطريقة فوق المادة بابتعادهم عن الحرب والغضب والعنف والتملك، وتحليهم بحب أعدائهم، وبتواضعهم، ورأفتهم، وقلة طقوسهم، والروح عندهم لا تموت، والروح عندهم تحلِّق في النور بعد حياة مثالية، والروح عندهم تستقر تحت الأَرْض بعالم من العَذَاب والظَّلام بعد حياة شَرٍّ وأذًى.

ظهرت تلك الطريقة في شواطئ البَحْر الميت، وانتشرت في بلاد الجليل بهدوء ومن غير مبشرين، فاستوقف أمرها نظر يسوع لمشابهتها أفكاره في مجموعها. أجل، إن يسوع لم ينتسب إليها، ومن الجميل حقًّا أن يصلي أتباعها للشمس وإن خالفوا أحكام الشريعة، وكان عملهم ذلك من الشرك، ومن الجميل حقًّا أن زهدوا في المال والسلاح، ومن الجميل حقًّا أن قالوا بعدم تقديم القرابين، ولكن لماذا يصومون أكثر مما تأمر به الشريعة؟ ولماذا يمتنعون من تناول الخمر وَيُحَرِّمون الوَلائِم وَالغِنَاء؟ ولماذا يعتزلون ويبتعدون أسرارًا جديدة؟ ولماذا يجتنبون النَّاس إذا كانوا يحبونهم؟ من أجل ذلك لن يكون يسوع آزيًّا وإن كانت آراؤه الخاصة قريبةً من آراء أولئك.

ولم يُعَتِّم النَّاس أن شاع بينهم خبر وجود رجلٍ في جوار الصحراء وعلى ضفاف نهر الأُرْدُن يأمر بالتوبة، ويستبدل بالختان العماد بالماء تطهيرًا للروح والبدن كما يصنع الآزيون، وذلك الرجل ذو شعر أشعث، ولحية طويلة، وثوب وبريٍّ، ونطاق جلدي، وقد نهكته الصَّلَاة، وألهبه الإيمان، فينذر القوم بصوتٍ مرهوب، وقد قيل: إنه إيليا الذي سكن كهفًا في جبل الكرمل، فكان يخرج منه بين حين وحين لِيَنْصِبَ ملوكًا ويخلع آخرين، والذي لم يمت فلا بد من ظهوره ذات يوم لينقذ إسرائيل، كما أنبأ به الأنبياء، فكان هذا الذي هو آية الهول والانتقام.

اسم ذلك الرجل يُوحَنَّا، ويُوحَنَّا رَبَّاه أبواه تربيةَ زهدٍ وَنُسْكٍ منذ نعومة أظفاره إيفاءً بِنَذْرٍ أوجباه على نفسيهما، ويُوحَنَّا تعوَّد عيش البرية التي ولد في جوارها، وَتُبْصِرُ سلسلة الجبال الجُرْدِ في تلك البُقْعَة متاخمةً للأرياف المَرْوِيَّة الخُضرِ، وَتُبْصِر النهر في تلك البُقْعَة قريبًا من البرية ساعةً واحدةً في الغالب، وخطوةً واحدةً في بعض الأحيان، والبريَّة هنالك هي غرفة نائية من بيت كبير كما وصفها بعضهم. وفي أورشليم حُمِلَ يُوحَنَّا على تَعَلُّمِ الشريعة ليكون كاهنًا كأبيه، ثم فَرَّ من المدرسة لِمَا رآه من كثرة ما يجب عليه أن يتعلمه أو قِلَّتِه، فهجر تلك المدينة وَكُهَّانَها وسكانَها عائذًا بالبَرِّيَّة معتزلًا فيها.

ومن المحتمل أن كان يُوحَنَّا ذا صلة بالآزيين، وإن لم ينتسب إلى طريقتهم؛ فقد قضى سنوات لا ريب في الصيام والفقر، ولكنه لم يشاطرهم عملًا، ولم يتبع لهم نظامًا، وقد انقضت سنوات قبل أن يعرف يُوحَنَّا نفسه ويعلم رسالته، وما في المَسَائِل التي تساور يُوحَنَّا من عنفٍ، أو ما فيه من شوق إلى الحياة الروحية كان يحفزه إلى الزهد، وما فيه من حرارة التوبة، وحب دعوة النَّاس والتأثير فيهم كان يدفعه إلى الخروج من العزلة. وهنالك؛ حيث خُسف قسم من البرية في البَحْر الميت على حدود جزيرة العرب، وحيث تبحث الضواري عن الفرائس عبثًا، وحيث اضطر الشجاع الثائر يُوحَنَّا إلى طلب الملجأ بين الصخور وفي المغاور، كان طعام يُوحَنَّا هذا من الجراد المُحَمَّس في النار على الطريقة الشَّرْقِيَّة، ومن قليل عسل يجتنيه النحل البري من نادر الأزهار وآخرها، وهنالك عاش يُوحَنَّا عاطلًا من سلاح الصيد، راغبًا عن الصيد، مجردًا من وسائل الدفاع، مفتقرًا إلى الطعام، مفكرًا في غضب الرب وعذابه، أفلم تزدهر سدوم في تلك البُقْعَة فخرَّبها الربُّ، فصرت لا ترى فيها غير قليل نبات؟ أفلا يصيب أريحا، البعيدة بضع ساعات من هنا، مثل ما أصاب سدوم؟

لقد بَرَّحَ الصوم والتقشف بيُوحَنَّا فدعا ربه أن ينير له السبيل الذي يسلكه، فلم يسمع نداءً مثل نداء الربِّ: «قم أيها النبي ودع الشَّعْب يرى وجهك!» ولكنه سمع صوتًا في أعماق نفسه يدعوه إلى تبليغ الآخرين دُنُوَّ أمرٍ جَلَلٍ، محذرًا إياهم من الحياة الدنيا التي هي متاع الغرور، آلآخرون؟ وَمَن هم هؤلاء الآخرون؟ أجميع شعبه؟ وَمَن يعلم؟ وَمَن يدري أن إيليا قد بُعِثَ في شخصه؟ تقهقر يُوحَنَّا مذعورًا مما استحوذ عليه، ثم تجلد حينما تذكر قول إشعياء: «صوتُ صارخٍ في البرية! أَعِدُّوا طريق الرَّبِّ! قَوِّمُوا في القَفْرِ سبيلًا لإلهنا!»

قضى يُوحَنَّا زمنًا مضطرب النفس مذبذبًا بين الشك واليقين، وبرز معلنًا سبب هجره لأورشليم واعتزاله النَّاس، وعاد إلى الأُرْدُن حيث تهيمن الجبال الجُرْدُ على البَحْر الميت، وحيث النهر المنهوك يجمع قواه الأخيرة، فيجيش ويدور ويتلوَّى، وحيث اختفى داود من شاول والتجأ الملك صِدْقِيَّا فِرَارًا من البابليين، وحيث السهول الرملية التي تُنبت ما يُقيت قليلًا من القِطاع، ويتوجه يُوحَنَّا إلى أول ما يصادفه في طريقه من البيوت، وهل يُوَلِّي الرعاة فرارًا من هذا المخلوق الوحشي أو يطرحونه ليقيدوه بالسلاسل؟ كلا، فأمورٌ مثل هذه لا تقع في بلاد اليهودية التي يظهر فيها كل سنة قدِّيسون غريبو الأطوار، والتي لم تفتأ ترى أناسًا ينتحلون صفات الأنبياء بأزيائهم وأوضاعهم، والتي من طبيعتها التمرد على كل نظامٍ وَقَيْدٍ، والتي يبدو كل عجيبٍ أمرًا محتملًا فيها.

وبضعة رعاة هم أول من وجَّه يُوحَنَّا دعوته إليهم، ثم أخذوه إلى أقرب واحةٍ لينظر إليه جميع مَن في القرية ويستمعوا له، ولسُرْعان ما التف حول هذا الغريب الشبه العاري أكثر من مائة رجل ليسمعوا قوله: «توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات!» فيمتثلوا أمره فَيَتَعَمَّدُوا بماء الأُرْدُن.

لا تبعد أورشليم من هنالك أكثر من عشرة أميال، وأورشليم يقظةٌ ساخطةٌ منتظرةٌ حدوث أمرٍ عظيم على الدوام، أفيكون ذلك الرجل الذي ذاع خبره فيها دَجَّالًا، وهنالك ما يحمل على الظن بأنه إيليا؟ يقال: إنه يشابه إيليا بِقَدِّه المتوعد، وصوته المحرِّض، وبحفائه وثوبه المصنوع من وبر الجمل، وأخبر الكهنة وَالفَرِّيسيون منذ عدة سنوات بقرب الزمن الذي يظهر فيه المنقذ المنتظر، أفيكون ذلك الرجل ككل آزِيٍّ يرى محو الذنوب بماء المعمودية والحالة ما ترى؟ ألا إن قلب أورشليم أخذ يخفق أملًا عندما ذاع فيها نبأ وصول يُوحَنَّا إلى الأُرْدُن …

غادر أورشليم بضعة أناسٍ ليروا النبي الجديد، ولم يلبث عدد قاصديه أن زاد فيتوجه إليه الأغنياء من هؤلاء؛ حبًّا للاستطلاع، ويتوجه إليه الفقراء منهم بدافع الرجاء، ولم يلبث ذكر ذلك الذي عُرِفَ بِالمَعْمَدَان أن عَمَّ البلاد، فيتقاطر النَّاس إلى مصبِّ الأُرْدُن عن شكٍّ ويقينٍ، وعن يأسٍ وأملٍ لِيَرَوْه.

وهكذا يظهر في بلاد إسرائيل نبيٌّ بعد فترة مائة سنة.

•••

يخالج قلب يسوع النَّجَّار عدة مسائل؛ فقد شاعت أنباء المَعْمَدَان في عَقْرِ الناصرة، فعلم يسوع الكثير منها، وبيان الأمر: أن أصحابًا له ذهبوا إلى عبر الأُرْدُن فعادوا حاملين لأغرب الأخبار، فسألهم بشوقٍ عن أوصاف المَعْمَدَان، وعن صوته وكلامه، وعن أثر رسالته، فأخبروه أنهم سألوا المَعْمَدَان عما يفعلون، فكان جوابه: «مَن له ثوبان فَلْيُعْطِ مَن ليس له، وَمَن له طعامٌ فليفعل هكذا.» وأن المَعْمَدَان لا يرد عَشَّارًا يأتي لِيَتَعَمَّدَ، وأن العَشَّارين سألوه عما يعملون فقال لهم: «لا تستوفوا أكثر مما فُرِضَ لكم.» وأنه قال للجنود حينما سألوه عما يصنعون: «لا تظلموا أحدًا، ولا تَشُوا بأحدٍ، واكتفوا بعلائفكم.»

وكلما استمع يسوع لهم خفق فؤاده فيقول: أآزِيٌّ فواعظٌ؟ أمعتزلٌ فرسولٌ؟ أصامتٌ فمتكلمٌ؟ أليست هذه هي المرة الأولى التي يسمع يسوع فيها خبر ظهور رجل يجهر بمثل ما في قَرَارَة نفسه، فلم يَبُحْ به إلا إلى أصحابه القليلين فقط؟ أليست هذه هي المرة الأولى التي يهاجم بها رجلٌ علنًا رِئَاءَ الفَرِّيسيين، وتقَدِيم القرابين والطقوس وَالغِنَى، داعيًا إلى تقسيم الأموال بين الجميع؟ أليست هذه هي آراء يسوع التي يتعهدها النبيُّ الجديد بالماء على ضفاف الأُرْدُن؟ يا له من رسولٍ هجر البادية والعزلة ليعود إلى مَن يفكر في سعادتهم من النَّاس! يا له من مصلح جاوز دور التأمل وعدل عن صوم الآزيين وحياتهم الضيقة ليكون لسان الخلق الناطق! قَلَّبَ يسوع الأمورَ فسأل في نفسه: «لِمَ لا تنهض؟ لِمَ لا تجهر أمام الملأ بأفكارك في الإيمان الصحيح وفي الورع الكاذب؟» فإذا كان يُوحَنَّا قد هجر البرية ليدعو القوم إلى الحق؛ فلماذا يلتزم يسوع جانب الصمت أكثر مما صنع إذن؟

نَبَّهَ مثالُ المَعمَدان من يسوع غافلًا، وأيقظ فيه روحَ المسئولية. ومن المحتمل أن يكون قد أثار حرصَه فذهب مع قافلة الحجاج التالية إلى الأُرْدُن.

انتهى يسوع بعد سفرٍ دام ثلاثة أيام إلى أَخْلاطٍ من الرجال والنساء منتظرةٍ التعميد في الوادي الضيق بين جبالٍ مهيمنةٍ على الضفة ذات العَوْسَجِ٨ والقصب والبَرْديِّ، وتمتد حول ذلك الوادي أخاقيق٩ جُردٌ، ومرتفعات مُلْس، وتأتي ريح الجنوب إلى ذلك المكان بهواء البَحْر الميت المالح، فيبدو موحشًا قاسيًا، فإليه يُهرع مئات النَّاس بخيولهم وحميرهم ومواعزهم ذوات الألبان الصالحة لتغذية أطفالهم، وجميع أولئك من الفقراء تقريبًا، وبعضهم من الهَرْمَى، والكثيرون منهم مَرْضَى، ولا يُقْرَأُ على وجه أي واحد منهم معنى السعادة، ولا يُرَى فيهم سوى الحنين، ومنهم القاعدون، ومنهم الواقفون، وكلهم مُصَلُّون، ويبصر يسوع يُوحَنَّا المَعْمَدَانَ فوق شفير النهر.

برز رجل لابس ثوبًا مَزَّقَه شَوْكُ العَوْسَج، طويلٌ، هزيلٌ، أشعثُ، لِحْيَانِيٌّ، غضوب، مُشابه لإشَعياء إذا ما تكلم، فيختم كل موعظة بقوله: «توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات!» والجميع قريبون منه، ويحف به بعضهم فيلوح أنهم تلاميذه، وهو بعد أن يفرغ من كل موعظة يَجْبِذُ واحدًا من الحضور لبضع خطواتٍ، فيدخل معه مكانًا من النهر قريب القعر، فيصب عليه بِدَلْوٍ قَدِيم ماءً أسمرَ أصفرَ من الأُرْدُن.

وإن الأمر لكذلك إذ يُسمع للجمع ضوضاء، فتتوجه أبصار الجميع إلى الشرق لمشاهدة أناس ينزلون إلى الوادي من طريق أورشليم، وكان يسوع أول مَن عَرَف أمر أعدائه الخفيين، هؤلاء الذين لم يزد عددهم عن العشرة إلا قليلًا، هؤلاء الذين هم من الكهنة واللاويين وَالفَرِّيسيين، فجاءوا للبحث في شأن ذلك الرجل الذي يأتي بالمعجزات، ويبدو التناقض بينهم وبين أولئك الفقراء؛ لثيابهم الحسنة وأوضاعهم مع تركهم أردية الأعياد في منازلهم بأورشليم، ويبدون فاترين؛ لأنهم لم يأتوا إلا ليروا ماذا يحدث في ذلك المكان الذي يبعد من أورشليم يومًا واحدًا، وفي أورشليم عُقِدَ مجلس، وَعُيِّنَت لَجْنَةٌ لترى وتسمع وتسأل ما قضت المصلحة بألا تقع تلك التجمعات طليقة، ومما ورد في التقارير أن المَعْمَدَان يحرِّض على نظام التملُّك، ومما وقع أن بيلاطُسَ نفسه عَلِمَ ذلك.

فَسَّحَ الجمع للقادمين المجال احترامًا أو اتباعًا للعادة، فصار القادمون أمام يُوحَنَّا المَعْمَدَان، فتقابلت عيونهم الفاترة وعيناه الملتهبتان، وكان في كلامه ما يستفزهم، ما انطوى كل جواب منه على معنى التحدي، وما انقلب الوضع إلى ظهوره بمظهر المتهم، وظهورهم بمظهر المتهمين، وظهور الحجيج بمظهر الحضور.

سألوه: «مَن أنت؟»

فأجاب معترفًا: «لست أنا المسيح.»

– «إذن ماذا؟ إيليا أنت؟»

– «لستُ أنا.»

– «آلنَّبيُّ أنتَ؟»

– «لا.»

– «مَن أنت لنعطي جوابًا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟»

كان صمتٌ وتوترٌ مع انتظار، وكان شعورٌ من يسوع بأن المَعْمَدَان سينطق بكلامٍ كالصاعقة، وكان جوابُ المَعْمَدَان الشديد: «أنا صوتُ صارخٍ في البرية، قُوِّمُوا طريقَ الرَّبِّ كما قال إشَعْيَاء النبيُّ.»

فسألوه: «فما بالك تُعَمِّدُ إن كنتَ لستَ المسيحَ ولا إيليا ولا النبيَّ؟»

فأجابهم: «أنا أُعَمِّدُكم بماءٍ، ولكن يأتي مَن هو أقوى مني، مَن لستُ أهلًا لأن أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائه، هو سَيُعَمِّدُكم بالنار.»

ارتعش الحاضرون وتنفسوا الصُّعَدَاء؛ لأن يُوحَنَّا تفلت من الشَّرَك الذي نصبه الكهنة له بأسئلتهم، وساور القلق قلوب الحاضرين مع ذلك؛ لأنه تكلم عن المسيح وأعلن أنه ليس بالمسيح، وتبادل الفَرِّيسيون النظرات مضطربين، ورأوا أنهم لا يَنْقُضُون دفاعه بمثل ذلك، فسأله أحدهم عن السبب في عدم ذهابه إلى السامريين أو غيرهم من عبدة الأصنام ما احتاج هؤلاء إلى التوبة، فقال لهم بغلظة: «يا أولادَ الأفاعي! مَن أراكم أن تَهْرُبُوا من الغضب الآتي؟ فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة، ولا تبتدئوا بالقول في أنفسكم: لنا إبراهيم أبًا؛ لأني أقول لكم: إن الله قادرٌ أن يُقِيمَ من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم. والآن قد وُضِعَت الفأس على أصلِ الشجرة، فكلُّ شجرةٍ لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى في النار.»

قال بعض اللاويين والكهنة لبعضٍ: لقد علمنا ما فيه الكفاية. ثم عادوا، ومن المحتمل أن ساور الخوف غير واحدٍ من هؤلاء فَتَدَبَّر وهو في الطريق قول إشَعْيَاء: «من أجْل ذلك حَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ على شعبه، ومد يده عليه وضربه حتى ارتعدت الجبال.» ويسود الصمت ذلك الجمع عبر النهر، ولم يَسْطِع الجمع أن يهتف كما يودُّ ابتهاجًا بيُوحَنَّا المَعْمَدان، الذي أنذر مهددًا أولئك الأقوياء والأغنياء، وأحاط به من غير أن يَبْدُر منه صوت.

ويسوع وحده هو الذي ظل واقفًا بعيدًا من الجمع، ويسوع لم يسمع اللعنة الأخيرة التي صَبَّها المَعْمَدَان، فلم يزل قول المَعْمَدَان: «يأتي مَن هو أقوى مني» يَرِنُّ في أذنيه ويخالج فؤاده، فكان مثل يسوع وقتئذٍ كمثل النائم الذي يواثبه الفكر فيتلاشى ليعود إليه وليتلاشى مرةً أخرى، فكان كلام المَعْمَدان يصعد في قلب يسوع ويهبط ليزول منه عند صَحْوِه من غَفْوِه!

وفي الغد جاءت نَوْبَةُ يسوع لِيُعَمَّد، ومما لا ريب فيه أنْ ذَكَرَ يسوع ليُوحَنَّا اسمَه وبلدَه وحِرْفته وما إلى ذلك، ومما لا ريب فيه أنه لم يَدُرْ في خَلَدِ يسوع شيءٌ يعترف به حينما جاء دور الاعتراف؛ فهو وإن كان يستغفر ويدعو الربَّ كبقية النَّاس؛ حبًّا للربِّ وشعورًا بالذنب، لم يكن لديه إثمٌ معينٌ يذكره، وهو لو عَدَّ حقده على الكهنة ذنبًا فاعترف به ليُوحَنَّا؛ لتضمن ذلك عَدَّ يُوحَنَّا نفسه مذنبًا أيضًا. من أجل هذا آثر يسوع السكوت على الكلام ما استطاع، مدققًا عن كثب في يُوحَنَّا المتعصب الشديد الذي يبدو عليه جلال النبوة من غير أن ينتحل لقب النبي، والذي يدعو إلى الثورة على المال والسُّلْطَان من غير أن يغادر البرية، فهذا هو الوضع الذي كان عليه يسوع تِجَاه المَعْمَدَان.

ولم يكن تدقيق يُوحَنَّا القوي الفِرَاسَة في يسوع حينما طلب منه هذا باتِّزَانٍ أن يُعَمِّدَه أقلَّ من ذلك، فلاحظ يُوحَنَّا في يسوع مع فقره وهدوئه من أوضاع الملوك ما لم يجد له تفسيرًا، فرآه ذا نظر ثاقبٍ، وصوتٍ عذبٍ، وطراز تحيةٍ بعيدة من الذل، ورأى فيه عظيم قيمة مع محاولته إخفاءها؛ فمن أين اتفق لهذا النَّجَّار ذلك؟ أفيعرف هذا الناصريُّ حقيقة أمره؟ أخفى كلٌّ منهما عن صاحبه ما دار في خَلَدِه ودخلا النهر.

وقف كل من الصاحبين العاريين بجانب الآخر في الأُرْدُن، ويترجح عمر كل واحدٍ منهما بين الثلاثين والأربعين سنة، ويغمرهما الماء الفاتر الثقيل الأصفر إلى سُرَّتَيْهما، ويبدو سيد البرية يُوحَنَّا طويلًا ذاويًا، بادي العظام، أشعث الشعر واللحية، ناسكًا متعصبًا، ويبدو صديق الحدائق يسوع أهيف متناسبًا مُزَرْفَنَ١٠ الشعر شاعرًا خياليًّا، أفليس من طبيعة الأمور أن يَحْنِيَ ألطف الرجلين رأسَه، وأن يضع أخشنُهما يده عليه ليصبَّ الماء على بدنه؟ ويفكر يُوحَنَّا في عمله، ويفكر يسوع في أبيه.

ويخرج يسوع من الماء مُطَهَّرًا من ذنوبٍ لم يقترفها منقبض الصدر أكثر من قبل؛ لِمَا يراه من عدم انطباق سبب العِمَاد عليه، حائرًا أكثر منه مغَاثًا، مرتبكًا من تعاقب صور الماء وَالمَعْمَدَان والجمهور في ذهنه، فيتنحى قليلًا ليجمع حواسه، فيتكئ على العَوْسَجِ وَيُغْمِضُ عينيه، وفيما هو كذلك إذ يسطع نورٌ أمامه فيرى رؤيا ويسمع صوتًا: يرى أبواب السماء فُتِحَتْ، وحمامةً منها نزلت، ويسمعُ من السماء صوتًا قائلًا: «أنت ابني الحبيبُ الذي به سُرِرْتُ.»

هنالك ارتعد يسوع وألقى السمع فقال: هذا هو صوت أبي، ويسوع كان قد سمع هذا الصوت غير مرة في خرير السواقي، ونور الكواكب، وكلام الأولاد، فلم يعد ذلك، آنئذٍ، حد الشعور والهمس بغير نطق، وأما الآن فيسمعه برفقٍ ووضوحٍ مخاطبًا إياه بلغته، وداعيًا إياه بابنه.

ذُعِرَ يسوع فَفَرَّ من الجمهور ومن المَعْمَدَان إلى البرية.

•••

يخرج يسوع من ذهوله بعد يوم من دخوله البرية، فيتذكر بالتدريج ما حدث مع دوام دهشه، وتزيد نفس يسوع اضطرابًا في تلك العزلة القاسية التي اختارها لنفسه، وهو الذي لم يَرَ البرية فيما مضى، فأخذ يَضْغَنُ عليها الآن. والبرية عاطلةٌ مما تعود أن يرى فيه، منذ طفولته، وجهَ الرب، من المياه والأزهار والحيوان والإنسان وضروب الأعمال، والبرية مشتملةٌ على الحصى والرمال المتفتتة المتموجة تلالًا، فلا يقدر على الصَّلَاة فيها.

ناداه الرب، فهل كان ذلك بالأمس فقط؟ دَوَّى في أعماق قلبه صوتٌ غريبٌ بعيدٌ داعيًا إياه بالابن، وحدث هذا حينما غادر ماء العِمَاد منقبضَ الصدر، وحدث هذا حينما رأى في المنام حمامةً تنزل من السماء فتطير إليه، والآن في البرية يسأل نفسه عن معنى ذلك، فلم يجد فيما حوله حَلًّا لذلك وبلدته وحرفته بعيدتان من هنالك، والآن يخرج من طور حياته الواضحة الهادئة التي تعودها معتزلًا ليناضل الروح التي نادته عازمًا، على أَلَّا يغادر البرية قبل ظهور فجر الحقيقة.

وهل كان ذلك نداء أبيه الرباني؟ أما كان ذلك النداء يبدو أوضح مما حدث لو صدر عن الرب مثل ما اتفق للعظماء من قدماء الأنبياء؟ وإذا كان ذلك النداء قد أتى من السماء لشد عزيمته، فما هو سر مطابقته لأفكاره الخفية؟ هو قد قابل في أثناء وجوده عبر الأُرْدُن بين نفسه وبين الذي عمده وعمد الآخرين، فسأل: هل يُرْضِي الربَّ منظرُ المَعْمَدان وصوته؟ وهو قد وضع نفسه في مكان يُوحَنَّا المَعْمَدَان، فسأل: كيف يقضي شعائر المعمودية بذاته على وجه آخر؟ ألم يساوره شيءٌ من الغيرة حينما رأى الجمهور ملتفًّا حول ذلك الغيور الهزيل الذي لا يفوقه فِقْهًا بالإيمان، ألم يظهر هَلُوعًا١١ حين خروجه من النهر فيسأل: لماذا سلم أمره طوعًا إلى آخر لأول مرة في حياته؟ ألم يسمعه الربُّ العَالِمُ بِمَا يُخْفِي صدره؟ فلماذا اختار الربُّ ذلك الوقت الذي بدا فيه أضعف مما في أي زمن، لِيُثَبِّتَ قدميه، مع أنه لم يسبق أن كلَّمه بغير واسطة؟

كلا، لا بد من وجود معنًى لذلك أسمى من ذلك، لا بد من أن ينطوي ذلك النداء على معنى الرسالة، أفيعمل كما عَمِلَ المَعْمَدان؟ أفيدعو النَّاس إلى التوبة وَيَسِيحُ وَيُعَلِّم؟ أفيهجر حرفته وبلدته وهناءته وقرابته وقصيدته ليدخل دور العمل والحركة؟ أفيقتدي بيُوحَنَّا المَعْمَدَان، وبيُوحَنَّا المَعْمَدَان وحده في كل شيء؟ أفلم يُحِلَّ يُوحَنَّا المَعْمَدَان طريقةً جديدة محل طريقةٍ قَدِيمةٍ؟ ولِمَ الزهد والبرية والصيام وإماتة النفس؟ ألا تَقْرُبُ هذه الأمور من الضحايا التي ردَّها المَعْمَدَان؟ وَلِمَ الحديث عن العَذَاب والبلايا بدلًا من الحديث عن حلم الأب الرب؟ وما نفع الوعيد في تخويف النَّاس وحملهم على الركوع؟ أَمنْ شأن الوعيد أن يُقَوِّيَ اليقين؟ ألا يُرْضِي الربَّ إنهاضُ الخلق عبر النهر أكثر من خفضهم؟ أليس الأفضلُ أن يُقْصَدَ النَّاس في ديارهم وأماكن أعمالهم، وأن يُجمعوا في روضة أو على سفح جبلٍ بالقرب من قُرَاهم فَيُخَاطَبُوا بالقول اللين عن مشاعر أبينا الرب ورغائبه؟

ومع ذلك: ما أعظم يُوحَنَّا! ما أشبه عينيه بالبرق عند نظره إلى الكهنة! ما أروع سخريته بهم حينما ذكر أولاد إبراهيم قاصدًا أن مؤمنًا بعد شِرْكٍ قد يكون خيرًا منهم! لم يحرض يُوحَنَّا على قتال الرومان ولم يَدْعُ إلى الثورة، بل كان يوصي بالشيوع والفقر والتواضع، وما كان يُوحَنَّا ليرضى بأن يُدْعَى نبيًّا.

قال يُوحَنَّا: «يأتي مَن هو أقوى مني!» أهذا هو يسوع؟ أمن أجل ذلك سمع يسوع نداء أبيه آنئذٍ؟ ماذا؟ أيكون يسوع خليفة يُوحَنَّا؟ أَيَحِلُّ محلَّه؟ حاول يسوع أن يَرُدَّ بشدةٍ هذا الوسواس الحافز إلى خيانة يُوحَنَّا الذي وضع يديه الكريمتين على رأسه منذ هُنَيْهَة.

وإن يسوع لفي هذا الغمِّ إذ رأى أن يصوم كما صنع يُوحَنَّا قبله في البرية، وبذلك يكون يسوع قد أمات نفسه أكثر من يومٍ للمرة الأولى في حياته ما بَعُدتْ روحه من الاضطراب، وما كان في غنًى عن التجربة والابتلاء، وما عطل من الدافع إليهما فيما مضى، وكلما مضى يومٌ على يسوع النَّاسك الجائع بعد ذلك راقَ قلبه، ودقَّ عصبه، ورقَّ فكره.

ويترجَّح يسوع بين الحماسة والهزال، وتتعاقب عليه صور الحياة التي لم يعرفها فيتأملها قبل، ويضعف الجوع جسمه فتتجاذبه التجارب فتكاد تفتنه.

ورأي يسوع في أنه الصفيُّ المختار كان يحُثُّه على مطالبة نفسه بما لا عهد له به، فينمو بذلك شعوره بقدر نفسه، فيسمع في باطنه صوتًا يسأله عن السبب في عدم تحويله الحجارة إلى خبز كما بَشَّرَ به يُوحَنَّا، وينتبه يسوع فيُحْجِم عن التجربة عند سماعه: «ليس بالخبز وحده يحيا الإِنسَان، بل بكل كلمةٍ تخرج من الله.» ويصحو يسوع من غفوته، فيعلم أن ذلك المُجَرِّب هو إبليس الهائج في المجانين؛ فَيُحَصِّنُ يسوع نفسه من جديد.

ويرى يسوع في المنام أنه نُقِلَ إلى جناح الهيكل فوق جميع الشَّعْب، فيسمع صوتًا كالذي أخذ بمجامع قلبه، حينما كان في حضرة المَعْمَدان يقول له: «إن كنتَ ابنَ الله فاطْرَحْ نَفْسَك إلى أسفل؛ لأنه مكتوبٌ أنه يوصِي ملائكتَه بك، فعلى أياديهم يحملونك لكيلا تَصْدِم بحجرٍ رِجْلَك.» ويلمع السطح الذهبي تحت قدميه، وتسطع أورشليم التي لم يَرَها بعدُ، فيتمنى أن يكون نبيًّا فيها، ولو طرفة عين، ولكنه يرى المخرج بصوت قلبه القائل: «مكتوبٌ أيضًا: لا تُجَرِّبِ الرَّبَّ إلهك!»

تزاحمت على يسوع التجارب، فغدا في حالة يُرْثَى لها، فَأَنَّ فَحَنَّ شوقًا إلى وطنه، فأين راحة البال التي كان يتمتع بها أيام عيشه في كنف أبيه؛ حيث لا جحود ولا طمع، وهل يكافح؟ عاودته حُمَّى الخيال، وهو الذي امْتُحِنَ غير مرة في البرية؛ حيث اعتزل وجاع وارتجف؛ فقد رأى في المنام في هذه المرة أنَّه نُقِلَ إلى ذروة جبلٍ عالٍ فرأى ممالك العالم، فقال له إبليس: «أعطيك هذه جميعها إن خَرَرْتَ وسجدتَ لي.» فرده بعنفٍ صارخًا: «اذهب يا شيطان؛ لأنه مكتوب: للربِّ إلهك تَسْجُد، وإيَّاه وحده تَعْبُدُ!»

اتبع يسوع دويَّ صوته في أذنيه فهرب من منطقة الهول الصحراوية؛ حيث كدَّرَت الرؤى صفوه بأشد مما فرَّ به إليها مغتمًّا قانطًا، فأراد أن يعود إلى بلده، إلى كوخه، إلى منْجَرِه، إلى قريته الصغيرة الواقعة على سفح الجبل، إلى عالم السلام؛ حيث ينْبُتُ العشب.

دنا يسوع من النهر، فرأى أن يدور اجتنابًا لمنطقة المَعْمَدَان، وفيما هو كذلك إذ وقفه جمع كبير فارٌّ، فرأى في مكان بعيد جنودًا متوجهين إلى الشرق، فاستوقف الأمر نظره، فاقترب من الهاربين سائلًا عن النبأ، فعلم أن أمير تلك الإيالة هِيرُودُس أنتيباس قد أرسل جنوده المرتزقة فقبضوا على يُوحَنَّا المَعْمَدَان، فساقوه مُقَرَّنًا في الأصفاد إلى سجنٍ لا يقدر أحد على إطلاقه منه.

بُهِتَ يسوع؛ فقد وجد في ذلك تأويلًا لِمَا رأى، فما كذَب فؤادُه، فالرب هو الذي أمره، فاطمأنت نفسه؛ فقد أُذِنَ له في العمل، فليعمل إذن! من أجل ذلك كان نداء الرب! من أجل ذلك جربه الشيطان! كان ذلك لشد عزيمته فيَخلُف المَعْمَدَان القائل: «يأتي مَن هو أقوى مني.» توترت ملامح يسوع بعد حِلْمٍ فنظر إليه أولئك مذعورين، فلو كان بينهم مَن عرفه اتفاقًا لعاد غير راضٍ؛ لِمَا رُئي من تَشَنُّجه الدالِّ على الصَّلَفِ والكبرياء.

ويسوع، بعد أن تخلص من دَهَشِه، توجَّه إلى بلده مفكرًا على طرازٍ آخر، فأخذ يرسم الخطط على خلاف عادته، ويسأل في نفسه: كيف يبدأ؟ وأين يبدأ؟ وهل يُصَدِّقُهُ بعض أصدقائه؟ ويقابل يسوع، في أثناء توجهه إلى الشمال وحيدًا، بين ما صنعه المَعْمَدَان وما يصنعه فيقول: هل أصاب يُوحَنَّا في مناهضته للفَرِّيسيين؟ أما كان ينتهي إلى ما هو أفضل مما تَمَّ لو تذرَّع بالحلم والقول اللين، فلم يستفِزَّ السلطة الزمنية؟ ثم يسأل عن قدرة إخوته على القيام بشئون الحرفة لو تُرِكوا وحدهم، وَمَن يقوم منهم مقامه في إمساك المطرقة ودقِّ المسامير؟

وصل يسوع إلى الناصرة، فعلم أن أمه وإخوته ذهبوا إلى قانا البعيدة ساعتين لحضور عرسٍ، فهل يذهب إليها أيضًا؟ تمثلت له الثياب الفاخرة والأصوات الجميلة، وله في عادات بلده الطيبة فتنةٌ، وفيه ميلٌ إلى اللهو والراحة مع ما حدث.

ذهب إلى قانا، وفي قانا وجد الفرح بالغًا غايته، فرأى الفلاحين يرقصون أمام البيت على صوت الصُّنوج١٢ والمزامير كما لو كانوا جاهلين لأمر اليوم الآخر، فراقبهم عن كثبٍ قصيرَ وقتٍ، فأبصرهم سُكارَى من غير أن يراهم يشربون، فهل الخمر قليلة؟ وهل استنفد العُرْس في ثلاثة أيام جميع ما يمكن أولئك الفقراء أن يأخذوه من قَبْوِهِم؟ وهل هؤلاء الراقصات غير أخواته حقًّا؟ وهل ذلك الذي يَخْبِطُ الوِرْكَ ضاحكًا غير شقيقه حقًّا؟ هنالك الصراع بين ما في ذهنه من جديد الأفكار وقَدِيم الخواطر …

ولم يَسُد السكون إلا حينما دنا يسوع منهم فعرَفوه؛ فقد شعروا بأنه أخذ يراقبهم غير عاطف، فليست أوضاعه بالتي تلائم الأعراس، فكان لهم بها ما يكدِّرُ صفْوَهم، وسأله بعضهم ضاحكًا على ما يحتمل عن عودته من الأُرْدُن، وعن رأيه في العِمَاد، وَوَكَزَ آخر ثالثًا بِكوعه مشيرًا إلى تَرَصُّد يسوع الطارئ للمائدة، وقال له رابع: إن الخمر نَفِدَتْ، فهل لديه وسيلة للحصول عليها؟ بيد أن يسوع ظلَّ واقفًا صامتًا مراقبًا.

ثم التفتت إليه أمه الجالسة حول المائدة قاصدةً إنقاذه من خياله، فقالت له برفق: «ليس لهم خَمْر.»

ويسوع إذ سمع صوت أمه وفهم معناه امتعض، فلم يَنْشَبْ أن شعر بانفصاله عن كل ما يحيط به، وقد أقصته الرؤى والنداءات عن عوامل الفرح والسرور فتنكَّر، فألقى على أمه التي وضعته نظرةً فاترةً وقال لها: «ما لي ولك يا امرأة؟»

ذعر الضيوف النَّشَاوَى وامتُقعت أمُّه، فصحا الجميع فطفقوا يُحدِّقون إلى النَّجَّار الناصري يسوع الذي ما انفكوا يَعُدُّونه ابنًا طيبًا وصاحبًا كريمًا مع غرابته، فما دَهَاهُ؟ أَجُنَّ؟ وإلا فما الذي ينظر إليه شاخصَ البصر؟

figure
بنت يايرس.

وأما يسوع فيظهر أن روحه تَقَوَّت، فكانت تلك هي المرة الأولى التي يشعر فيها بقدرةٍ على التأثير في الآخرين وتوجيههم وقيادتهم، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يشعر فيها بأنه نبيٌّ، والآيات منقادةٌ ليسوع، وفقدان الخمر هو الآية المُلِحَّة، أفيعجز يسوع عن تحويل الماء إلى خمرٍ وقد اختِيرَ ليَخلُف يُوحَنَّا المَعْمَدَان؟ فإذا كان عاطلًا من مثل هذه القدرة، فكيف يستطيع أن يهدي الشَّعْب؟ أحسَّ يسوع حلول الوقت الذي يجرب فيه قدرته التي لا يعلمها أحد، وقد أفزع الضيوف حينما كَلَّمَ أُمَّهُ منذ هُنَيْهَة!

أمر يسوع الخدم بأن يأتوه بالأجران الستة الموضوعة هنا، وبأن يملئوها ماءً، وبأن يأخذوا نموذجًا منها إلى الطاهي الذي لا علمَ له بما حدَث، ويصنع يسوع ذلك والحضور ينظرون إليه وإلى الذي دخل من الباب حائرًا قائلًا للعريس: «كلُّ إنسان يضع الخمرَ الجيدةَ أوَّلًا، فمتى سَكِرُوا وَضَعَ الدُّونَ، وأما أنت فقد أبقيت الخمرَ الجيدةَ إلى الآن!»

هنالك حَدَّقوا مرةً ثانيةً إلى يسوع الذي اتفق له من القدرة ما استطاع به أن يُلَقِّنَ الطاهي من خلال الجدار ما أراده له من الإيمان فقالوا: يا له من ساحر!

ثم كانت عَرْبَدَةٌ؛ فقد دارت الخمرُ في رءوس الحضور، ولم يَسْلَم منها سوى واحد، فصار ينظر إليهم مدققًا متسامحًا ما كان صَفِيًّا، فذلك أمر أولئك القوم الذين أُرْسِلَ إليهم هاديًا، فهل يتَّبِعُونه ولم يأتهم بغير الفِكَر؟ استوعبت يسوع تأملاتُه فترك العُرْسَ.

تلك هي الآية الأولى التي أتى بها ذلك النبيُّ الناصريُّ.

١  الزرقاء: السماء.
٢  الطور: الجبل.
٣  خرَّ الماء يخُرُّ خريرًا: أسْمَعَ صوتَه.
٤  الأشنة: شيء نباتي يكون على الشجر والصخور.
٥  الأشطاء: جمع الشَّطْء؛ وهو من الشجر ما خرج حول أصوله.
٦  الإقط: الجبن.
٧  الحنث: الذنب والإثم.
٨  العوسج: من شجر الشوك.
٩  الأخاقيق: جمع الأخقوق والإخفيق؛ وهو الشق في الأرض.
١٠  زرفن شعره: جعله كالزرافين؛ وهي الحلق الصغيرة واحدها: زرفين.
١١  الهلوع: الجزوع.
١٢  الصنوج: جمع الصنج، وهو صحيفة مدورة من النحاس الأصفر تضرب على أخرى مثلها للطرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤