الفصل الأول

شخصيات الدراما

  • آدم: شاب في الثلاثين طويل أنيق وسيم تبدو عليه علامات الذكاء والتوهج.
  • نارة: فتاة في العشرين، عصرية تمامًا، شعرها قصير وشخصيتها حادة ساخرة ومن النوع الصادق المندفع.
  • عشماوي: في الخامسة والخمسين، سمين جدًّا، أسمر، صوته مخالف تمامًا لما يجب أن يكون عليه من ضخامة، يخرج على هيئة فحيح كأنما من بطنه يتكلم.
  • العالم: في الخمسين: فيه كل ما في الخمسين من جمال، بذقنِه المقفلة بالبياض وشاربه المهندم وملابسه البيضاء البالغة النظافة.
  • هيلدا: امرأة عارمة الأنوثة، طاغية الشخصية، ذهبية الشعر الناعم كالحرير، أناقتها من نوع غريب وكأنها تَرتدي أزياء المستقبل.
  • الكائن: الكلب الخروف.

    ٧ سيدات أشجار.

    ٧ شجرات رجال.

    رجال وسيدات وأطفال من مختلف الأعمار.

الزمن

الوقت الحاضر.

المنظر الأول

(المكان: ميدان العتبة، بالتقريب المنظر هو الدائرة التي تحتل مركز الميدان، فيُعَد المسرح بحيث يُحاط بصورة فوتوغرافية تُكوِّن الأضلاع الثلاثة للميدان؛ بحيث نُحس أننا في سُرة الميدان، في وسط السُّرة «دكة» رخامية.)

(قبل رفع الستار ومع نهاية موسيقى الافتتاح تبدأ الساعة تدق السابعة، عند الدقة السابعة بالضبط ترفع الستار.)

(وأيضًا ومع قرب نهاية الموسيقى وبداية دق الساعة نبدأ نسمع ضجة ميدان العتبة المعتادة، إما منقولة مباشرة من الطبيعة بميكروفون من الميدان إلى داخل المسرح وإما مسجلة بالطريقة التقليدية.)

(الميدان وإن كان يزخر بالناس في محيطه ووسطه إلا أنه عند السرة، المارة الذين يعبرونها قليلون نلمحهم بين الحين والحين يعبرون المسرح من جانب إلى جانب، أناس من مختلف الأعمار والأنماط وإن كان معظمها من أنصاف الفقراء.)

(نلمح آدم لا يزال مرتديًا البالطو الأبيض فوق القميص والبنطلون وقد تهدل البالطو واتسخ كثيرًا. حركته تختلف عن حركة المارة فهو يدور حول سرة الميدان في دائرة واسعة بعض الشيء مركزها الدكة الرخامية، ومع مضي الأحداث تضيق الدائرة التي يتحرك فيها بحيث ينتهي بالوقوف عند الدكة. نلمحه يقوم بحركات عصبية وكأنه يعاني من تشنجات داخلية تتفجَّر على ملامحه وتنتهي بأن يُكلِّم نفسه.)

آدم : أديني في العتبة أهه، بقالي يومين وأنا في العتبة، وعندك ميعاد في العتبة، وادِّيني في العتبة، الميعاد فين ومع مين معرفشي، آدي العتبة وآدي الناس وآدي أنا.

(فجأة يَقترب من أبٍ معه طفلان، ويندفع ناحيته قائلًا):

تسمح من فضلك.

(الرجل وأطفاله يَمضون وكأنهم ما سمعوه أو رأوه.)

(يعضُّ آدم على شفتيه غيظًا ويندفع ناحية سيدة بلدي ترتدي الملاية اللف وتَحمل فوق رأسها بقجة.)

يا ست، إنتي يا ست.

(يضع فمه فوق أذنها.)

إنتي يا خالة.

(المرأة تمضي وكأنها لم تلحَظ شيئًا.)

الله، إيه الحكاية، كانوا بيسمعوني الأول ويكلموني، إيه اللي حصل؟
(يلمح بائع السميط مقتربًا) يا بتاع السميط … يا بتاع السميط

(بائع السميط وقد اقترب منه بدلًا من أن يرد عليه يجلس على الأرض ويضع السبَتَ بجواره وينفضُ حذاءه. آدم أثناء دورته التالية تكون الدائرة قد ضاقت بحيث يُصبح بائع السميط خارجها، يحاول الاتجاه إليه فلا يستطيع ولا يبقى أمامه إلا أن يُكمل الدائرة، تنتاب آدم حالة هياج ويرفع صوته.)

يا ناس، يا بني آدمين، ياخينا، يا ست، يا ابني، يا عم، يا خلق.

(فجأة يقبل أفندي رفيع جدًّا ونحيل في عكس اتجاه سير آدم مندفعًا ناحيته في ترحاب فاتحًا ذراعيه وعلى وجهه ابتسامة واسعة. آدم يتوقَّف عن هياجه ويبتسم ويفتح ذراعَيه ويهمُّ بالاندفاع تجاهه.)

آدم : إنت فين م الصبح يا سيدنا؟

(ولكن الرجل يَتجاوزه بحركة مفاجئة ويخبط رجلًا سمينًا آخر على كتفه قائلًا):

الرفيع : قفشْتَك يا برغوت.
السمين : خضِّيتني الله يجازيك.
آدم (بصراخ) : أعمل إيه؟ أضحك؟ ألطم؟ الكون اختل، بالتأكيد الكون اختل، دا أنا عالم وإيماني بالعلم زي إيماني بالله، تحصل معايا الخزعبلات دي؟! ما هو حاجة من اتنين؛ يا إما وباء جنوني اجتاحني أنا والناس من غير ما نعرف، يا إما أنا أمام ظاهرة خارقة بتكسر كل قوانين العلم ونظرياته، أنا ابتديت أخاف، أنا لأول مرة في حياتي أرجع طفل ميت م الرعب.

(يفطن إلى أن دوراته بدأت تضيق وكلما حاول توسيعها تضيق أكثر.)

هزار ده ولا إيه؟ كمان شوية أتسمَّر في مكاني (فعلًا يثبت في مكانه أمام طرف الدكة) دي حاجة مُمتعة جدًّا (يُحاول التملُّص وبكل ما يملك من قوة يُحاول تحريك ساقه بلا فائدة، يَنهار تعبًا وإعياءً فوق طرف الدكة) أنا انتهيت، أنا جَعان، أنا جعان قوي، يومين بليلتين وأنا على اللضى، أنا ميت م العطش، أنا على الفجر ح اموت.

(يظهر شخص غريبة تركيبة جسمه، سمين أسمر يرتدي رداء السائقين الرسمي؛ بالطو أبيض ذو ياقة ملوَّنة وعلى رأسه كاب أنيق، ويَرتدي قفازات بيضاء، يبدأ يدخل المشهد من ناحيته اليسرى ويدور دورة واسعة حول سرة الميدان، طريقة مشيه طريقة خاصة تبعث على الضحك.)

آدم : يكونشي لما تحدِّيتهم زعلوا؟ أصلي صممت لما نزلت من المعمل إني مش حا اروح ناحية العتبة خالص، ركبت الأوتوبيس اللي رايح الجيزة، حتى وانا باقطع التذكرة سألت الكمساري: جيزة؟ أيوة جيزة، بعد محطة أبص م الشباك ألاقي الأوتوبيس في شارع عبد العزيز وأن المحطة الجاية هي العتبة، صرخت في الكمساري: إنت مش قلت لي الجيزة، بص لي كإني مجنون وقال: أنا مش قدامكم قايل له ميت مرة العتبة؟ نزلت رحت ناطط في الترماي اللي جاي م العتبة رايح السيدة، على بال ما قطعت التذكرة بصيت لقيت الترماي كأنه نقل ع الشريط التاني وراجع العتبة، الراجل ده فات من هنا مرة ودي التانية.

(يُتابعه بعينيه ويدور معه برأسه إلى أن يمر للمرة الثالثة من أمامه وقد أصبح أقرب.)

أما راجل غريب قوي (يهمس وهو ينظر ناحية الرجل) دي كانت بداية المهزلة، لما لقيت نفسي غصب عني في العتبة حاولت أجري واهرَب من أي شارع طالع منه، كنت أوصل لغاية أول الشارع ورجلي تتسمر في الأرض ما تتحركشي ولا سَنتي وأدركت إني خلاص اتسجنت في الميدان، إيه اللي يجيب واحد زي ده في نص الليل ويقعد القعدة دي (الرجل كان قد وصل إلى الدكة وثبت أمام طرفها الآخر دون أن يعير آدم أي اهتمام ثم لا يلبث أن يجلس موليًا آدم ظهره).
والمصيبة معرفشي أنا ح انتهي بعد يومين من اللف والدوران إني أبقى سجين الدكة دي. (فجأة يتنهَّد بعمق ويغير لهجته مخاطبًا الرجل) والله ما دام جيت برجلك لحاطط همي فيك ومتسلي عليك لغاية لما نشوف آخرتها إيه، إنت قطاع عام ولا خاص يا عم؟ لازم عام، بقى معقول واحد في تُخنك ما يتأممش، اسمع يا سيد … يا سيد قشطة، إنت يا لوح (تنتابه حالة هيستيرية) يا تلح، يا بجم، يا كركدن.

(يلتفت الرجل فجأة مسدِّدًا عيونًا مُلتهبة إلى آدم.)

(مواصلًا كلامه) يَحمُّوك في كنكة.
الرجل : إنت قليل الأدب، وحظك كويس إني تعبان، دا أنا عمري ما حد شتمني يقوم حلاق زيك يهزأني، صبرك عليَّ بس اما استريح.
آدم (بفرح وخجل وعصبية) : دا سمع! إنت سمعتني يا ريس؟
الرجل : ليه؟ فاكرني أطرش؟ دلوقتي أوريك.
آدم : أنا ح اتجنن أكيد، قول لي وحياة والدك إنت سمعتني وبتكلمني أنا؟
الرجل : ح تستهبل عليَّ؟ صبرك عليَّ بس، والله ما انت فالت من إيدي.
آدم (بتضرُّع حقيقي) : أنا في عرضك قول لي انت شايفني زي ما أنا شايفك وسامعني زي ما أنا سامعك؟
الرجل (بمشروع ضحكة مضحكة) : لا مؤاخذة انت باينك «وَش» شوية.

(بائع السميط يمر من أمامهما.)

آدم : أبدًا والله، دلقوتي تشوف.
الرجل : أشوف إيه؟
آدم : يا بتاع السميط (لا يلتفت البائع فيصرخ بأعلى صوته) يا بتاع السميط!
الرجل (لبائع السميط) : ما بتردش ليه يا أخينا (البائع لا يلتفت إليه) الله، إنت يا جدع انت.

(البائع وكأنه لم يَسمع يتوجه إلى وسط الدكة وكأنها فارغة تمامًا وينام عليها واضعًا ساقَيه فوق فخذَي الرجل.)

الرجل (بغضب يمدُّ يدَيه ليرفع قدمَي البائع ولكن يديه لا تتحركان) : الله، الله، الله!
آدم : شفت بقى.
الرجل (يحاول الوقوف أو الحركة بلا فائدة) : يا ام هاشم، إيه ده؟! اللهم اجعله خير، إوعى يا رب يكون شلل.
آدم : يا ريته شلل كنا عرفنا سببه.
الرجل : هو انت راخر كدة؟
آدم : بقى لي ٧٢ ساعة وانا كدة.
الرجل : الله الله الله، دي حكاية إيه بقى؟ دا شغل جن، لازم الراجل ده «قدمه» وحش، دي حتى ريحتها تقرف بلد، اشمعنى أنا وانت يعني؟
آدم : مش عارف، من ساعة هوووه وانا مش عارف حاجة.
الرجل : بتقول ساعة هوووه، هو انت راخر؟
آدم : أيوة أنا راخر، هما قالولك إيه؟
الرجل : ألبس سواق قال، وآخد العربية البويك اللي ح القاها قدام باب محطة مصر عشان عندك …
آدم والرجل : ميعاد في العتبة.

(صمت)

آدم : يعني ميعادي بقى لازم وياك.
الرجل : علمي علمك.
آدم : ما قالولكشي حاجة تانية؟
الرجل : ولا كلمة زيادة عن اللي قلتهولك.
آدم : يبقى لازم سايبين الباقي لذكاءنا، نتصرف احنا بقى، إنت أصلًا سواق مش كدة؟
الرجل : ولا عمري سقت عربية.
آدم : الله، أمال جبت العربية من باب الحديد لهنا ازاي؟
الرجل : علمي علمك.
آدم : ما تعرفشي صاحبها مين؟
الرجل : الله أعلم، دي حتى مكتوب عليها موديل ٧٥ واحنا لسة في سنة ٧٠.
آدم : أمال انت بتشتغل إيه؟
الرجل : أنا موظف في مصلحة السجون.
آدم : سجان يعني؟
الرجل : أصلًا سجان إنما منتدب.
آدم : منتدب إيه؟
الرجل : انا اسمي عشماوي، ما تسمعشي على عشماوي؟
آدم : عشماوي اللي بيشنق الناس؟
الرجل : أعمل أيه دي حاجة بالوراثة.
آدم (لنفسه) : بقى ميعادي مع عشماوي، أما حتة ميعاد!
الرجل : لا مؤاخذة بتقول إيه؟!
آدم : بقول خير إن شاء الله، معرفة خير!
الرجل : إن شاء الله … كله خير!

(بائع السميط يكون قد أخذ في عدِّ ما تبقَّى في «السبَت» من سميط تفلت منه سميطة في اتجاه فم آدم فيقضم منها قضمة كبيرة، البائع يمدُّ يده دون أن ينظر خلفه ليتناولها فيكتشف القضمة، ينتابه الانزعاج ويَعتدِل فيرى وكأن لا أحد هناك فينتابه الرُّعب.)

بائع السميط : بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان، أعوذ بالله من الشيطان!

(ينطلق جاريًا مختطفًا سبَتَه ناسيًا حذاءه فوق ساقي عشماوي.)

عشماوي : وحضرتك بقى حلاق ستات ولَّا رجالة؟!
آدم : لا والله للأسف لا كدة ولا كدة، لسوء الحظ أنا عالم!
عشماوي : عالم بإيه بقى إن شاء الله؟!
آدم : زي ما تقول باحاول أعادل اللي أنت بتعمله، أنت بتموت وأنا با أحيي!
عشماوي : بتحيي المشنوق؟ إنت عايز تكفر؟!
آدم : لا سمح الله … با أحيي حاجات على قدي!

(الساعة تدق معلنة سابعة، بعد الدقة السابعة مباشرة يكف عشماوي عن تطلعه إلى آدم ويلتفت أمامه فجأة وقد أغمض عينيه.)

عشماوي : هوووه! … حاضر … من غير ما أدوس عليه … نطلع كيلو لفوق بالعربية … مفهوم، اللي يختاره، دقيقة واحدة ما فيش غيرها … هوووه (ويبدو وكأنما يفيق).
آدم (بترقب مُرعب) : خير؟
عشماوي : ياللا بينا.
آدم : على فين؟
عشماوي : نركب العربية.
آدم : ونروح فين؟
عشماوي : كيلو لفوق.
آدم : ونركبها ازاي واحنا متسمرين في مطارحنا؟
عشماوي (واقفًا بسهولة) : ياللا بينا.
آدم (يحاول القيام فيقف) : الله، دا أنا وقفت.
عشماوي (متحركًا خطوة) : ياللا بينا.
آدم : ياللا إيه؟ هو الأمر جالك إنك تشنقني؟
عشماوي : ما عنديش أوامر بالشنق.
آدم : وإذا قلت لك مش جاي، حاتعمل إيه؟
عشماوي : ولا حاجة، الأوامر اللي عندي أسيبك بحريتك، عايز تيجي تيجي، مش عايز انت حر.
آدم : يعني أنا حر أقدر أتحرك (بخوف شديد يمد ساقه فإذا بها تتحرك يجرِّب المشي فيمشي، يحاول القفز فيقفز) دا أنا بقيت حر صحيح: دا أنا أقدر أجري، أنا حا اجري، سلام عليكو.
عشماوي : أنا حا استناك دقيقة واحدة، ماجتشي، حا امشي.
آدم : وإذا قلت لك مش جاي، حاتعمل إيه؟ ما تتعبشي نفسك، امشي من دلوقتي (ينطلق جاريًا وصوته يتباعد) أنا حر، الكابوس راح، أنا حر أقول لأ، لأ … لأ … لأ …

(بينما صيحات آدم الفَرِحة تأتي من بعيد متلاشية شيئًا فشيئًا، يقلب عشماوي شفتيه ويَنظُر في ساعة الميدان.)

عشماوي : … باقي ثواني وتخلَص الدقيقة.

(يستدير متحرِّكًا بخطى ثابتة في اتجاه العربة.)

(من بعيد يأتي صوت آدم وقد عاد يقترب.)

صوت آدم : … استنى … استناني … أنا جاي معاك … استنى.

(يدخل المسرح كالسهم وفي وثبتَين يُصبح بجوار عشماوي.)

عشماوي (يتأمله بمشروع ضحكة) : غيرت رأيك ليه؟
آدم : لما بقيت حر إني أختار، اخترت آجي.
عشماوي : ما انتاش خايف؟
آدم : ما اكدبشي عليك خايف، إنما أنا هويت العلم لأن العلم مغامرة لاكتشاف أي مجهول، حتى لو ضاعت حياتي وأنا باكتشف المجهول أحسن مليون مرة ما تضيع يوم ورا يوم وأنا عايش في المعلوم، أنا لازم أعرف إيه الحكاية.
عشماوي : بس اعمل حسابك … الأوامر إنك ما دمت جيت من نفسك فبعد كدة خلاص ما فيش رجوع.
آدم : أنا جاي وعارف كويس قوي إن ما فيش رجوع.

(يستديران ويتجهان صوب العربة.)

(ستار)

المنظر الثاني

(المشهد صحراء جرداء قاحلة صفراء، مسافة واسعة جدًّا من الأرض الغليظة غير المستوية.)

(الوقت هو الظهر تمامًا والضوء شديد والشمس في منتصف السماء.)

(صوت عربة قادمة، يعلو حتى نحسَّ أنه أصبح داخل كواليس المسرح … صوت فرامل، تتوقف العربة بينما الموتور لا يزال يعمل.)

صوت عشماوي : انزل.
صوت آدم : احنا فين؟
صوت عشماوي : على علو كيلو والرحلة انتهت. انزل.
صوت آدم : مش نازل.
صوت عشماوي : احنا اتفقنا ما فيش خيرة، انزل.
صوت آدم : أنزل ازاي بس؟
صوت عشماوي : كدهه.

(يسمع صوت باب العربة يفتح، ثم يغلق، ثم يجأر موتور العربة وكأنما تمر بطريقة غير مرئية عبر المسرح من اليمين إلى اليسار، آدم يدخل جاريًا وكأنما خلف العربة، وأيضًا يعبر المسرح في اتجاه اليسار.)

آدم : استنى، سايبني ورايح فين؟ استَنى يا وغد استنى.

(ثم ييأس وينفض يده من الجري، ويقف ويبدأ يتطلع حوله، فيزداد هلعًا.)

احنا فين؟ أنا متأكِّد إن احنا ما مشيناش كتير، أنا فاكر كويس والعربية رايحة ناحية ترب الإمام الشافعي، ومتأكد إننا مشينا في سكة المقطم وبدينا نطلع، طريق غريب مش هو الطريق، كان باين إنه بيتعمل قدامنا على طول وبعد ما نمر عليه بينطوي ورانا طي، أنا حاسس إن القاهرة مش بعيد، أقدر أرجعلها ماشي، إنما في أي اتجاه أمشي؟ أي غلطة ممكن تودِّيني الصحراء الشرقية يعني الموت، الموت عطش، أعمل إيه؟ مش ممكن أفضل هنا، المرة دي لازم أتمرَّد، أنا جاي لمغامرة ومخاطر مش جاي أتفرج ع الشمس واتسجن في الصحراء، الشمس نار، الأرض نار، ومن أول امبارح وأنا عطشان.

(فجأة يُمسك رأسه بيديه.)

اثبت يا آدم، اعقل واثبت، وفر جهدك، حتى الكلام بطَّله، ميت مرة يثبت لك إن ما فيش فايدة م التمرد ما دام بينتهي بالخضوع، إنت بتواجه قوى أكبر منك ومن علمك، اخضع، امتثل واخضع، خلي هدفك الانتظار، مش ممكن دي تكون نهاية الأشياء.

(يتكوم في منتصف المسرح واضعًا رأسه بين كوعيه.)

(تُشرق الشمس من ناحية اليسار، تتوسط السماء، تنحدر ناحية اليمين ويحمرُّ ضوءها وتغيب، ظلام … ثم تُشرق من اليسار وتتوسط السماء ثم الشفق والمغيب والظلام وتعود تُشرق وحين تتوسط السماء يرفع رأسه ناحيتها ويظل يحدق، وحين يتعب يُحاول أن يعيد رأسه إلى وضعها فلا يَستطيع تحويل بصره عن قرص الشمس.)

آدم : الله، مش قادر أحول عينيه عن الشمس، نورها بيخترق مخِّي عمال بيسحب وعيي، عقلي بيسخن، بيتحلَّل، مخي بيسيح وبيدوب وبيغلي وبيتبخر، ومش قادر أسحب نظري منها، أنا بقيت عَبَّاد شمس (يسكت، وكعباد الشمس يظل يتبع الشمس بعينين جاحظتين وهي ببطء تَنحدِر إلى اليمين ويبدأ ضوءها يَحمر، وحين تغيب تمامًا وراء الأفق يَكتشف أنه قد استرد قدرته على تحريك رأسه فيلتفت إلى الناحية الأخرى «أي إلى اليسار»، ويُفاجأ حين يرى بابًا هائل الضخامة يمتد من ناحيتيه سور عليه زرع أخضر، الباب من الحديد القديم الذي تراكم فوقه الصدأ طبقات فوق طبقات، من خلال حديد الباب نرى شبح مدينة كاملة كمدينة الأحلام مضاءة في الليل بنور غريب كأنه مصنوع من مزيج من ضوء الشمس والقمر، لدى الْتِفاته يشهق في هلع وينتصب واقفًا، ثم يهمس لنفسه بصوت كالفحيح):
آدم : دا كله جه منين؟ الضُّهر ما كانشي فيه حاجة، إزاي اتوجد ده كله في ساعات؟ دا الباب ده عمره مئات السنين، والزرع ده قطعًا اتزرع قبل أنا ما اتولد، وإيه اللي جوه السور؟ دا مدينة زي مدن الأحلام، يتعمل دا كله ازاي في نص يوم؟

(يمسك رأسه بيديه.)

اركز، اثبت، الدهشة الشديدة ممكن تطيَّر عقلك، زي ما اتعودت الخضوع، تعود التسليم (مغيرًا لهجته) بس عطشان عايز اشرب، ولازم اخش، إيه القوة اللي تفتح باب زي ده؟ افتح يا سمسم، جعان وعطشان وعايز أنام، عايز أنام.

(يرتكن على السور المجاور لفتحة الباب وينام.)

(موسيقى تنتهي بصوتها يقول):

صوت هي : … هوووه.

(يقفز برأسه من غفوته.)

آدم : هوووه.
صوت هي : ادخل.

(ومع الكلمة تَنفتح ضلفتا الباب الهائلتان وكأنما من تلقاء نفسيهما، ويبدو خلف الباب ممر تقف على أوله بضع شجرات قد تطوَّر شكلها عن الأشجار التي نعرفها حتى اقترب من صورة شبه آدمية بعضها ممشوق الجذع، وبعضها به انبعاجات وبعضها عجوز تقوس ظهره، رءوسها بما فيها من فروع وأوراق تشبه في شكلها العام بعض تسريحات الشعر المنتشرة هذه الأيام.)

الشجرات (في صوت واحد) : اتفضل خش.

(آدم يقف مبهورًا يتطلَّع هنا وهناك ليعرف مصدر الصوت.)

شجرة جميز : ما تخافش … احنا اللي بنكلمك.
آدم : إنتو مين؟
الشجرة الزعيمة : احنا الشجر اللي قدامك.

(بقية الشجرات يَهمس بعضها لبعض.)

شجرة التمر حنة : والنبي شكله حلو.
شجرة التوت : نفسي يحك دقنه الطويلة دي في جذعي.
شجرة السنط : أنا النوع ده ما يعجبنيش.
النخلة : بس باين عليه طيب.
شجرة التمر حنة : اسمعوا، إنتو تسيبوهولي كدة من غير مطرود.
آدم : هو الشجر هنا بيتكلم؟
شجرة التمر حنة : وبيغني كمان ولو حبيت يرقص.
شجرة الجميز الزعيمة : ما تخافش … خش …

(بعد تردد يدخل.)

(تحيط به الشجرات، بينما تَلتصق بجانبه شجرة التمر حنة.)

شجرة الجميز : اعتبرنا زي اخواتك تمام، احنا مش أغراب، أنا جميزة، ودي جوافة، ودي توتة، ودي نخلة، وطنط سنطة، والموزة، واللي جنبك دي …
التمر حنة (مكملة) : التمر حنة.
آدم : تشرفنا، وحاتخدوني على فين إن شاء الله؟
الجميزة : كل اللي أقدر أقول هولك إن «هي» عايزاك.
آدم : «هي» مين؟ … مين «هي» دي؟
الجميزة : احنا نفسينا عايزين نعرف هي مين.
(إظلام أو ستار)

المنظر الثالث

(مع عودة الإضاءة — أو رفع الستار — يكون السور قد اختفى ويكون المنظر قد أصبح داخل حديقة مليئة بالأشجار البرية كثيفة كالغابة، وتحسُّ أن الموكب قد قطع شوطًا كبيرًا، هناك على البُعد من عمق المسرح الأيمن تبدو انعكاسات أشعة كما لو كانت تدل على وجود مدينة هناك.)

الجميزة : أظنك تعبت، نعسكر هنا ونبات.
آدم : أنا بس جعان، بقالي سنين ماكلتش، وعطشان، بقالي سنين ماشربتش.
الجميزة : ما عندناش يتاكل إلا جوافة … تاكل جوافة؟
آدم : زي بعضه، أي حاجة.
الجميزة : يا جوافة … هزِّي وسطك شويه ونزلي له كام حباية مستوية. وانتي يا نخلة، مدي جدورك وهاتي له من تحت الأرض مية.
جوافة : بس انتي عارفة يا ريسة إن جذعي ما بتحركوش إلا المزيكة.
الجميزة : خلاص، رقصوها رقصة سقوط الجوافة.

(على نقرة غريبة وتصفيق خشبي كأنه صادر عن شجر الغابة كله ترقص شجرة الجوافة، آدم يتابعها وكلما سقطت منها ثمرة يلتهمها.)

الجميزة : شبعت؟
آدم : عايز اشرب.
النخلة : الميه حضرت، بس لازم عشان تشرب تاخدها من بقي.
آدم : بقك؟ هو فين بقك ده؟ أبوسك يعني؟
الجميزة : لازم تمص المية من قلب «جمارها».

(يتردد آدم ولكنه ينطلق ناحيتها كما لو كان يتسلَّقها، ثم يُزيح «الجريد» ويُطبق بفمه على قلب «الجمار» الذي يُشبه الفم.)

الجميزة : ميعاد النوم جه.

(آدم يتمدَّد متعبًا وينام في الحال، الأشجار تقصر جذوعها وتتكوم في ناحية أخرى، السنطة وحدها واقفة بجواره.)

الموزة : أنا عارفة فيه إيه يستاهل إنها تعمل كل ده عشانه؟
النخلة : باين فيه سر خفي ما نعرفوش.
الجوافة : ولا باين فيه سر ولا حاجة، دي ما اتخلقش البني آدم اللي يستاهلها، دا أنا مرة شفتها في الحلم قمت من النوم ح اتهبل عليها.
السنطة (تقترب منهن وكأنها تُشارك في الحديث) : دا من الكلام اللي بيحكوه عنها الواحدة بتحِس إنها جنبها لازم تبقى راجل.
التوتة : دا بيقولوا إنها مرة استحمت في بحيرة فما استحملتش وراحت مقلوبة بحر.
الجوافة : أنا سمعت إنها تقدر تحب كل ليلة ألف راجل وتخلي كل راجل فيهم يحس إنه اتمتع لوحده بألف ست.
الموزة : وكل ده يبقى علشانه لوحده؟
التمر حنة : مش خسارة فيه، هو راخر باين عليه إنه يقدر يسعد كل ليلة ألف ست.
الموزة : بتقولي إيه يا عبيطة انتي؟
التمر حنة : هي إيه غير شوية كلام عمالين تقولوه عليها، كلام في كلام، لا حد شافها ولا حد يعرفها، إنما على الأقل ده حقيقي قدامنا أهه.
الجميزة : تمر حنة … الزمي حدك، لاحِظي إنها «هي» وكفاية إنها «هي»، «هي» أجمل وأحلى وأعظم وأرق وأمتع وأروع ما في الكون كله، ده إيه جنبها غير حتة جلف؟
التمر حنة : أهي المصايب ما بتجيش …
الجميزة (مقاطعة) : خلاص … انتهينا … مين اللي حياخد نبطشية الحراسة الأولانية؟ خديها انتي يا سنطة.
التمر حنة (هامسة لسنطة وغامزة إياها) : سيبيهالي وحياتك، أنا في عرضك.
السنطة (بتململ) : بس أنا تعبانة يا ريسة، ممكن تمر حنة تاخد الأولانية، وأنا اللي بعديها على طول.
الجميزة : إذا كانت توافق. توافقي يا تمر حنة؟
التمر حنة : أمري لله ولو إني تعبانة قوي، إنما عشان خاطر خالتي سنطة.
الجميزة : بس خدي بالك يا تمر حنة، أنا شايفاكي ميالة له شوية، وانتي عارفة … ده «هي» عايزاه، وما دام «هي» عايزاه … إوعي حتى تتمنيه ولو بينك وبين نفسك، مفهوم؟
التمر حنة : حاضر يا ريسة، حاضر.

(تقوم التمر حنة آخذة مكان الديدبان وتأوي السنطة إلى النوم مع بقية زميلاتها ثم يحلُّ الصمت، وكأن الجميزة هي المايسترو، تبدأ الشجرات خلفها يُصدرن صوت تنفُّس، غير بشري، عميق، علامة النوم، التمر حنة، ببطء، تقترب شيئًا فشيئًا، من آدم الراقد يشخر، وحين تُجاوره تبدأ تسقط عليه زهورها، يتململ، ويعود للنوم، ثم يتململ، يُغمغم.)

آدم : الله! … ريحة حلوة … دي باين روح التمر حنة.
التمر حنة : يعني عاجباك؟
آدم : دا لو ميِّت شمها تصحيه. (يلف يده حول جذعها) إنتي تردي الروح، أشكرك ازاي؟
التمر حنة : بلاش تلمِسني أرجوك.
آدم : كتير عليَّ إني ألمسك؟
التمر حنة : كتير عليَّ أنا، مش ح اقدر أستحمل.
آدم : الله، إنتي بتتكلمي كدة كأنك … كأنك ست.
التمر حنة : أنا حاسة بك أكتر من ست، شاعرة برجولتك أكتر من أي بنت بنوت.
آدم : دي آخر حاجة أتصورها.
التمر حنة : ليه؟ … هل الأنوثة اسم ولَّا إحساس؟!
آدم : بس انتي شجرة وأنا راجل، إنتي نوع وأنا نوع.
التمر حنة : وهو يحس النوع إلا نوع تاني، ولا يقدَّر الجمال إلا جمال تاني؟
آدم : يعني انتي حاسة بيَّه؟
التمر حنة : أنا كل ورقة فيَّ قشعرت لما لمسْت جذعي، جدوري نفسها سابت مني، أنا متأكدة إنك لو حضنتني شوية كل النبات اللي فيَّ ح ينقلب دم ولحم.
آدم : يا ريت، يا ريتك تتقلِبي كلك دم ولحم (يحتضنها).
التمر حنة : لا لا لا لا، أرجوك، أنا عايزاك قوي، أنا عايزاك بطريقة عمر ما أنثى عازت بيها ذكر، بس ابعد عني أرجوك.
آدم : وأبعد ليه ما دام عايزاني؟
التمر حنة : لأن مش ضامنة نفسي، ولو سبتها ح اضيع، ح انتهي.
آدم : ياه، دا انتي جِدعك سخن خالص، نار، دا انتي بين إيدي كأنك بنت سبعتاشر.

(يختل توازن شجرة التمر حنة وتبدأ تميل.)

التمر حنة : أنا خلاص … ضعت … ما فيش فايدة … احضني بالقوي بقى، بكل رجولتك وقوتك احضني.

(يحضنها وتميل ويميل معها حتى يصلا إلى الأرض.)

التمر حنة : تعرف تبوسني؟
آدم : فين؟
التمر حنة : هنا، في الحتة اللي جذعي فيها بيتفرع فرعين.

(آدم يقبلها)

التمر حنة : مش كدة، تعالى انت اما أبوسك أنا.

(يغيب رأسه بين أفرعها وأوراقها.)

تعالى خليني ادوَّقك أنوثة عمرك ما دقتها ولا داقها بشر، الأنوثة البكر، الأنوثة أول ما بدأت الأنوثة، تعالى أعيشك في الزمن النادر اللي فكرت فيه الطبيعة لأول مرة إنها لازم تبتدي تقسمنا لجنسين. (تبدأ تلهث ويلهث هو الآخر) تعالى نوصل للحظة الفاصلة اللي خلقتك جنس وخلقتني جنس، اللحظة اللي من رَوعتها انقسمنا اتنين، تعالى نرجع واحد، تعالى نعيش لحظة الوحدة العظمى، وحدة الإنسان والنبات والحيوان والشعور واللاشعور والجماد والزمان والمكان، لحظة بداية كل شيء، نهاية كل شيء، الوجود الواحد.

(يزداد لهاثها ولهاثه وتتكسَّر أغصانها وتحدث ضجة تتصاعد حتى تستيقظ الجميزة وبعض الشجرات فجأة.)

الجميزة : كدة يا تمر حنة، بقى عشان واحد زي ده ترتكبي الخطيئة الأولى في عالمنا، تبقي أول خارجة على نظامنا اللي عمر ما إنس ولا جن ولا جماد خرج عليه؟
آدم : هي مش مسئولة، أنا المسئول.
الجميزة : هي اللي مسئولة لأن هي اللي عارفة، وعملت اللي عملِته وهي عارفة العقاب إيه.
التمر حنة : أنا لسة ما عملتش حاجة، أنا مش حا اسيبه واعملوا اللي تعملوه.
الجميزة : مش كفاية إنك تكوني أول خاطئة عايزة تبقي أول متمردة كمان؟
التمر حنة : خاطئة ومتمردة ومجرمة، إعملوا اللي تعملوه، إنما أنا لأول مرة في عمري حاسة إني باحب، أنوثتي خلاص لقيت ذكورتها … عمري كله هو اللحظة دي.
الجميزة : واللحظة دي فعلًا بعمرك كله، إنتي أول من طمع على شيء مش له … الأنانية هي أكبر جريمة عندنا، وعقابها أقسى عقاب، إمسكوها (تلتف حولها بقية الشجرات ويجعلنها تَعتدل، بينما آدم يقف كالمذهول).
التمر حنة : أنا مستعدة لأي عقاب، ما دام مش ح احس به هو، ومش ح اكلمه هو، ومش هو اللي ح يشم ريحتي، اعملوا اللي تعملوه.
الجميزة : الفجر قرب واحنا ح نكمل رحلتنا، المدينة بانت.

(تلتفت إلى ناحية الشرق حيث بدأت أنوار المدينة تبدو ككرنفال من الأضواء وسط الظلام، أنوار كأنها لوحة رسام استعمل الأضواء في رسمها.)

ياللا بينا.

(الشجرات تحيط بآدم ويتركن تمر حنة واقفة في مكانها وحيدة.)

التمر حنة : مش بإيدي، دا حب يا جميزة ياللي عمرك ما دقتي الحب، وعشان كدة فضلتي جميزة.
الجميزة : احنا ع الصبح ح نوصل. (ثم ملتفتة لتمر حنة) أما انتي ف ح تفضلي هنا في مكانك وح تفقدي القدرة على الحركة والكلام والشعور والنوع وتبقي بلا جنس، لغاية ما ينظر في أمرك وتعاقبي العقاب النهائي.

(آدم فجأة يترك حارساته ويذهب إلى التمر حنة ويُطبطِب عليها.)

التمر حنة : ولا يهمك، اللحظة معاك بعمر، بس كل ما تشم ريحة تمر حنة افتكرني، حتى لو …

(تتوقف عن الكلام وقد فقدت القدرة وتتهدَّل أغصانها فوق جذعها.)

الجميزة : انتهت المهزلة، ياللا بينا.
(الستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤