مقدمة

أستاذنا الجليل سيد بن علي المرصفي أصح من عرفت بمصر فقهًا في اللغة، وأسلمهم ذوقًا في النَّقد، وأصدقهم رأيًا في الأدب، وأكثرهم رواية للشعر، ولا سيما شعر الجاهلية وصدر الإسلام.

كان يدرس الأدب في الأزهر الشريف، وبدأت أختلف إليه، ولما أعد السادسة عشرة، فلزمته أربع سنين ما أذكر أني انقطعت عن درسه، أو تخلفت عن مجلسه، ولم يقف الأمر بيني وبينه على ما يكون بين الأستاذ والتِّلميذ من الصِّلة، بل نشأ بيننا نوع من المحبة يشوبها في نفسي الإجلال والإكبار، وفي نفسه العطف والحنان، وتبعث كلينا على أن يتعصب لصاحبه، ويُناضل عنه، على نحو ما يكون بين الأبناء البررة، والآباء المشفقين.

سعدت بهذا الحب قديمًا، وسأظل سعيدًا به طول الدهر؛ لأنَّه صادف قلبي في غضارة الطفولة ونضارة الصبا، ولأنَّه حبٌّ مصدره العلم لم تُفسد عنصره المادة، ولم تُكدر جوهره مآثم هذه الحياة.

حبُّ الأستاذ ودرسه قد أثرا في نفسي تأثيرًا شديدًا؛ فصاغاها على مثاله، وكونا لها في الأدب والنقد ذوقًا على مثال ذوقه.

إيثار للبدوي الجزل على الحضري السهل، وكلف بمناحي الإعراب في فنون القول، ونُبو عن تكلف المولدين لأنواع البديع، وانتحالهم لألوان الفلسفة والمنطق، وبغض شديد لحكم الضرورة في الشعر، وللفظ السهل المهلهل يقع بين الألفاظ الجزلة الفخمة، إلى غير ذلك مما هو إلى مذهب القدماء من أئمة اللغة، ورواة الشعر أدنى منه إلى مذهب المحدثين من الأدباء والنقاد.

كل قديم في هذا المذهب جيد خليق بالإعجاب لرصانته ومتانته، وكل جديد فيه رديء سفساف لحضارته وهلهلته، فإذا كان من المحدثين من أخذ نفسه بمذاهب القدماء، فسلك مسالكهم، وتأثر خُطاهم فهو حقيق أن نقرأه وننظر فيه، وإلا فدرسه لألسنتنا فساد، ولملكاتنا كساد، وعلينا أن نلقي بيننا وبينه من الصد والإعراض حجابًا صفيقًا.

مُسلم بن الوليد، وحبيب بن أوس، وأبو الطيب المتنبي، وأبو العلاء المعري، قوم تكلفوا البديع، وأخضعوا المعنى للفظ، وتعمقوا في درس مذاهب الفلاسفة، ولم يخلُ كلامهم من يونانية تباعد بينهم وبين مذاهب العرب البادين، فدرسهم خطل، والعناية بهم حمق، والإعراض عنهم إلى الشعراء المطبوعين إصابة وتوفيق.

كنَّا نسمع ذلك من أستاذنا الجليل في كل يوم سماعًا موصولًا غير مقطوع، فلم نكتفِ بالطاعة والإذعان، بل غلونا في مقت هؤلاء الشعراء، حتى رأينا بغضهم علينا حقًّا، والنعي عليهم لأدبنا مكملًا، وحتى كنَّا نسمع البيت من الشعر لا يُعجبنا، فإذا أردنا المبالغة في ذمه وتقبيحه قلنا: ما أشبهه بشعر المتنبي! وما أظهر أسلوب أبي العلاء فيه! وإنَّا لنجهل المتنبي وأبا العلاء الجهل كله.

كان الأستاذ يُدرِّس لنا ديوان الحماسة، ويُملي علينا شرحًا له حسن التأليف والتحقيق، وكان يُعنى بنقد غيره من الشراح، ولا سيما الخطيب التبريزي.

والخطيب التبريزي ينقل أكثر شرحه عن أبي العلاء؛ لأنَّه تلميذه، وأبو العلاء كلف بالنحو والصرف والعروض، فكثرت في كتاب الخطيب مسائل الإعراب والتَّصريف، وما يُشبهها من المسائل العلمية اللغوية.

وأستاذنا الجليل مبغض لهذه المسائل لا يعنيه إلا اللغة والنقد، فكان كثيرًا ما يسخر لنا من أبي العلاء وتلميذه، ويهزأ بما تكلفاه من العلم.

وعلى الجملة وُفِّق الأستاذ توفيقًا لم يحاوله ولم يتكلفه إلى أن يُبغِّض إلينا أبا العلاء، ولست أنسى مناقشة شديدة كانت بيني وبين ناشر هذا الكتاب في بعض أسمارنا؛ يمدح أبا العلاء وأذمه، وينتصر له وأتعصب عليه.

أُنشِئ قسم الآداب في الجامعة، ودُعِي إليها جُلَّة الأساتذة من المستشرقين في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، وانتسبت لهذا القسم، وأخذت أسمع الدروس فيه، فإذا ألوان من الدروس لم أعرفها من قبل، وإذا فنون من النقد لم يكن لي بها عهد، وإذا دارس الأدب لنفسه ينبغي أن يدرس جيده ورديئه، وأن يتقن غثه وسمينه على السواء من غير تفاوت ولا تفريق، وإذا الباحث عن تاريخ الآداب ليس عليه أن يتقن علوم اللغة وآدابها فحسب، بل لا بد له أن يلم إلمامًا بعلوم الفلسفة والدين، ولا بد من أن يدرس التَّاريخ وتقويم البلدان درسًا مفصلًا، وإذا الباحث عن تاريخ الآداب لا يكفيه من درس اللغة حسن البحث عمَّا في القاموس واللسان، وما في المخصص والمحكم، وما في التكملة والعباب، بل لا بد له مع ذلك من أن يدرس أصول اللغة القديمة، ومصادرها الأولى، وإذا الباحث عن تاريخ الآداب لا بد له من أن يدرس علم النَّفس للأفراد والجماعات إذا أراد أن يُتقن الفهم لما ترك الكاتب أو الشاعر من الآثار، وإذا اللغة العربية وحدها لا تكفي لمن أراد أن يكون أديبًا ومؤرخًا للآداب حقًّا؛ إذ لا بد له من درس الآداب الحديثة في أوروبا، ودرس مناهج البحث عند الفرنج، بله ما كتب الأساتذة الأوربيون في لغاتهم المختلفة عمَّا للعرب من أدب وفلسفة، ومن حضارة ودين.

كلُّ هذه عقبات ظهرت لي حين سمعت دروس الأساتذة المستشرقين في الجامعة، ولست أزعم أنِّي وُفِّقت إلى تذليلها ورياضتها كافة، وإنَّما أقول: إنَّها قد غيرت رأيي في الأدب، ومذهبي في النقد التغيير كله، فلم يبقَ من هذه الآثار الحسان التي تركها الأستاذ المرصفي في تلك النفس الناشئة إلا دقة النقد اللفظي، والحرص على إيثار الكلام إذا امتاز بمتانة اللفظ ورصانة الأسلوب.

مذهب الأستاذ المرصفي نافع النفع كله إذا أُرِيدَ تكوين ملكة في الكتابة وتأليف الكلام، وتقوية الطالب في النقد، وحسن الفهم لآثار العرب، وليس يُريد الأستاذ أكثر من ذلك، ولكنَّ هذا المذهب وحده لا يكفي لإجادة البحث عن الآداب وتاريخها على المنهج الحديث.

والمذهب الذي أحدثته الجامعة في درس الآداب العربية بمصر نافع النَّفع كله لاستخراج نوع من العلم لم يكن لنا به عهد مع شدة الحاجة إليه، وهو تأريخ الآداب تأريخًا يُمكِّننا من فهم الأمة العربية خاصة، والأمم الإسلامية عامة، فهمًا صحيحًا، حظ الصواب فيه أكثر من حظ الخطأ، ونصيب الوضوح فيه أوفر من نصيب الغموض.

بين مذهب الأستاذ المرصفي ومذهب الجامعة المصرية في درس الآداب نشأ مذهب مُشوَّه مُختلط، ليس بالقديم ولا بالحديث، وليس بالنَّافع في تكوين الملكات الأدبية، ولا بالمفيد في تعليم مناهج البحث، وهو مذهب العامة من أساتذة الآداب في مدارس مصر، لا يتعمَّقون في درس الآداب على المذهب القديم فيصقلوا ذوق الطالب، ويُقوِّمُوا ميله إلى النقد اللغوي، ولا يذهبون مذهب العلماء من الفرنج في تحليل الآداب وردها إلى مصادرها الأولى من المؤثرات في الحياة النفسية وغير النفسية في الأفراد والجماعات، إنَّما يُسمون طائفة من الشعراء والكتاب ويؤرخون مولدهم وموتهم، ويلقنون الطلاب شيئًا من منظومهم ومنثورهم، لا يتجاوزون ذلك ولا يزيدون عليه، وهم يُسمون هذا النحو الممسوخ من الدرس تاريخ الآداب، وإنَّما مثلهم فيه ما قال الأول:

حسد القطاة فرام يمشي مشيها
فأصابه ضرب من العقال

من هنا كانت نتيجة الدرس الأدبي في مصر غير قيِّمة ولا مُجدية؛ لأنَّ الطُّلاب لا يجدون في مدارسهم، ولا فيما بين أيديهم من الكتب ما يُحبِّب إليهم أدبهم، ويُرغبهم فيه؛ فهم يؤثرون — ولهم العذر — أن يقرءوا آداب الفرنج ويهيموا بها. ومن هُنا نشأت هذه الأساليب الحديثة في الشعر والنثر، يتأذى بها رجال المدرسة القديمة في الآداب من غير أن يستطيعوا لها مردًّا.

ليس على الآداب من ذلك بأس؛ فإنَّ هذا المثال المشوَّه لا بد من أن يُكمَل يومًا إذا عُنِي النَّاس عناية صحيحة بدرس الآداب على المناهج الحديثة، ولست أزعم أنَّا لسنا في حاجة إلى درس الآداب على المنهج القديم، بل أقول إنَّا في حاجة إلى المنهجين معًا؛ في حاجة إلى المنهج القديم لنقوِّي في أنفسنا ملكة الإنشاء وفهم الآثار العربية التليدة، وفي حاجة إلى المنهج الحديث لنُحسِن استنباط التَّاريخ الأدبي من هذه الآثار.

ولقد كانت طريقة الجامعة في درس الآداب منذ سنين أدنى إلى تحقيق هذه الحاجة وأوفى بها حين جعلت للآداب درسًا خاصًّا ولتاريخها درسًا خاصًّا؛ فكان أستاذ الآداب يُعنَى بشرح النظم والنثر وبيان دقائقهما، وإظهار ما فيهما من أسرار البلاغة، والدَّلالة على ما يشتملان عليه من عيب. وفي ذلك من تقوية الملكات، وتقويم الألسنة، وإصلاح الذوق الأدبي ما نحن في حاجة إليه، وكان أستاذ تاريخ الآداب يتخذ ما ترك العرب لنا من الشعر والنثر مرآة يتبين فيها حياة الأمة في دينها وعلمها وسياستها، وفي ذوقها الأدبي والفنِّي، وفيما لها من حياة اجتماعية واقتصادية، فيفيدنا بذلك فائدتين: يُعلمنا مناهج البحث من جهة، ويُمثل روح الأمة في أطواره المختلفة من جهة أخرى، ولكنَّ الجامعة قد أعوزها المال، أو أعوزها الأستاذة المستشرقون، فجمعت بين الفنين لأستاذ واحد، ولسنا نشكُّ في أنَّها قد رجعت بذلك إلى حيث وقفت مدرسة القضاء، ومدرسة دار العلوم من هذا النحو في البحث عن حياة الآداب؛ أي إلى ما لسنا في حاجة إليه.

الجامعة عائدة إلى منهجها الأول متى وجدت المال، واستطاعت أن تدعو الأساتذة المستشرقين، أو أن يعود إليها طلابها في أوروبا، فلنمهلها الآن، ولنأمل توفيقها من إصلاح الآداب إلى ما نُريد.

كرَّه المنهج القديم إليَّ أبا العلاء، وأزال المنهج الجديد من نفسي هذا الكره، ووقفني من بعض الشعراء المحدثين والمتقدمين موقف الرجل الحر، لا يستهويه حب، ولا يصرفه بغض، وإنَّما المجيد والمسيء عنده سواء في الخضوع لقوانين البحث.

وقد أردت سنة أربع عشرة وتسعمائة وألف أن أُقدِّم إلى الجامعة رسالة أحوز بها امتحان عالميتها، فأخذت أتخيَّر موضوعًا لهذه الرسالة، وما أكثر ما يجد محب البحث من الموضوعات الأدبية في لغتنا ما لم يتناولها محقق بدرس ولا تمحيص.

عرض لي أن أدرس ما أحدثت الفارسية في العربية من الأثر أيام بني العباس، ولكنَّ جهلي بالفارسية حال بيني وبين هذا الموضوع المفيد.

وعرض لي أن أدرس الروح الديني فيما ترك الخوارج من الآثار الأدبية، ولكن قلة هذه الآثار، لا سيما بمكاتب مصر، قد حال بيني وبين القدرة على أن أصوِّر هذا الروح تصويرًا واضحًا جليًّا.

وعرض لي أن أدرس ما حدث من اختلاف مذاهب الشعراء في التعبير عن أغراضهم، صدر الدولة العباسية، ولكنَّ هذا الموضوع طريف وقلَّ من يفطن له، وليس من الحذق لمن أراد أن يكون مجددًا في الآداب أن يَفْجَأ النَّاس بما ليس لهم به عهد ولا صلة.

وعرض لي أن أدرس حياة الجاحظ، ولكنِّي لم أُوفَّق إلى أكثر كتبه، فقد ألَّف الرجل ما يزيد على ثلاثمائة كتاب ليس بين أيدينا منها عشرون.

ثم عرض لي أن أدرس حياة أبي العلاء، ذلك الذي أبغضته ونفرت منه، ولست أدري لِمَ حُبِّب إليَّ البحث عن هذا الرجل؟ ولِمَ كلفت به الكلف كله؟ ومع أنَّ كتبه قد ضاع أكثرها، فقد خُيِّل إليَّ أنِّي أستطيع أن أجد فيما بقي منها ما يشفي الغليل.

وقد سمعت النَّاس يتحدثون عن اللزوميات فلا يتفقهون فيها على رأي، وسمعتهم يصفون أبا العلاء بالإسلام مرة وبالكفرة مرة.

ورأيت الفرنج قد عُنُوا بالرجل عناية تامة، فترجموا لزومياته شعرًا إلى الألمانية، وترجموا رسالة الغفران وغيرها من رسائله إلى الإنجليزية، وتخيَّروا من اللزوميات والرسائل مختارات نقلوها إلى الفرنسية، وأكثروا من القول في فلسفته ونبوغه.

ورأيت بيني وبين الرجل تشابهًا في هذه الآفة المحتومة، لحقت كلينا في أول صباه، فأثرت في حياته أثرًا غير قليل.

كل ذلك أغراني بدرس أبي العلاء، وأنا أحمد هذا الإغراء وأغتبط به، فقد انتهى بي إلى نتيجة طريفة، ما كنت أنتظر، ولا كان ينتظر النَّاس أن يصل إليها باحث.

هذه النتيجة هي فهم فلسفة أبي العلاء، وردها إلى مصادرها ردًّا مجملًا، ثُمَّ فهم الروح الأدبي لهذا الحكيم، وقد كان من قبل ذلك شخصًا مُبهمًا لا يعرف النَّاس منه إلا اسمه تحيط به الشكوك والأوهام.

وضعت هذا الكتاب وقدمته إلى الجامعة، وكان امتحانه بين يدي الجمهور، وتحدَّث النَّاس من أمره بما عملوا وما لم يعلموا، وأرجف قوم بأنِّي قد جنيت على المسلمين، فأخرجت من بينهم رجلًا هو من خلاصتهم، أو جنيت على أبي العلاء، فأخرجته من بين المسلمين. ولو أنَّهم أجادوا التفكير واصطنعوا الأناة؛ لعرفوا أنِّي لا أملك أن أُدْخِلَ في الإسلام، ولا أن أُخْرِجَ منه أحدًا، وأن ليس على أبي العلاء بأس عند الله إذا كان مسلمًا فعَدَّه بعض النَّاس غير مسلم! ولو قد كانوا قرءوا الكتاب ودرسوه لعرفوا أنِّي لم أقل في أبي العلاء إلا ما قال في نفسه، ولم أصوره في هذا الكتاب إلا بما صوَّر به نفسه في اللزوميات وغيرها من كتبه، على أنِّي مع ذلك لم أُوفَّق إلى نشر الكتاب إبان تحدث النَّاس فيه؛ إذ كان الاستعداد للرحيل إلى أوروبا يحول بيني وبين ما يحتاجه ذلك من الفراغ والدعة، ثُمَّ مضى على هذا أكثر من سنة، وقضى الله أن أعود إلى مصر، وأن يُلِحَّ عليَّ أصدقائي في نشر هذا الكتاب.

وقد كانت همتي فترت عن العناية به والتفكير فيه حين شغلني عنه ما كُنت فيه من درس وتحصيل، ولكنِّي أذنت في نشره لأمرين؛ الأول: أنَّه يمثل طورًا من أطوار حياتي العقلية، وأنا رجل شديد الأثرة أحبُّ أن أكون واضحًا لمعاصريَّ، ولمن يجيئون على أثري من النَّاس وضوحًا تامًّا في جميع ما اختلف على نفسي من الأطوار، وهذا الكتاب يُمثِّل حياتي العقلية في الخامسة والعشرين، فلا بأس بإظهار هذا النوع من الحياة للناس. الثاني: أنَّ هذا الكتاب — ولا أريد بذلك انتحال فخر أو حرصًا على تمدح — يؤرخ الحركة الأدبية في مصر؛ فإنِّي لا أعرف قبل اليوم كتابًا ظهر على هذا النحو من البحث، وربما لا أغلو إن قلت: إنِّي لا أعرف كتابًا في الآداب العربية قد وضعه صاحبه على قاعدة معروفة، وخطة مرسومة من القواعد والخطط التي يتخذها علماء أوروبا أساسًا لما يكتبون في تاريخ الآداب. فأمَّا أنا فقد وضعت لهذا الكتاب خطة رسمتها رسمًا ظاهرًا في هذا التمهيد الذي يلقاك بعد الفراغ من هذه الكلمة، وتشددت في اتباع هذه الخطة فلم أهملها، ولم أشذ عن أصل من أصولها؛ حتى كاد الكتاب يكون نوعًا من المنطق أو هو بالفعل منطق تاريخي أدبي، ليس فيه حكم إلا وهو يستند إلى مصدر، ولا نتيجة إلا وهي تعتمد على مقدمة قد بذلتُ الجهد في استقصاء حظها من الصحة، ولست أزعم أنَّ نتائج هذا الكتاب كلها حق من غير شكٍّ، ولكنِّي أعتقد أنَّ إصابتها عندي راجحة، وأنَّها إلى اليقين أقرب منها إلى الشَّكِّ.

جعلت درس أبي العلاء درسًا لعصره، واستنبطت حياته مما أحاط به من المؤثرات، ولم أعتمد على هذه المؤثرات الأجنبية وحدها، بل اتخذت شخصية أبي العلاء مصدرًا من مصادر البحث، بعد أن وصلت إلى تعيينها وتحقيقها، وعلى ذلك فلست في هذا الكتاب طبعيًّا فحسب، بل أنا طبعي نفسي أعتمد فيه ما تُنتج المباحث الطبيعية، ومباحث علم النَّفس معًا.

وخصلة أخرى حببت إليَّ نشر هذا الكتاب، وهي أنَّه يُؤرخ حياة الجامعة المصرية، فهو أول كتاب قُدِّم إليها، وهو أول كتاب امتُحِن بين يدي الجمهور، وهو أول كتاب نال صاحبه إجازة علمية منها. ولست أبحث عمَّا يُمكن أن يكون لهذه الأولية من القيمة، وإنَّما أكتفي بهذه الأولية نفسها مغريًا بنشر الكتاب وتخليده وإذاعته بين النَّاس، ولست أتخذ لهذا الكتاب من أوليته فخرًا، وإنَّما أتخذ له منها معذرة إن كان فيه بعض النقص؛ لأنَّه فاتحة سيتلوها إن شاء الله من غيرها ما هو أكمل منها وأوفى.

في الكتاب ألوان من القصور أنا أعلم بها من غيري، ولكنِّي قد اضطررت إلى هذا القصور اضطرارًا حين لم أجد الآن سبيلًا إلى الكمال المطلق.

المقالة الأولى من هذا الكتاب مُفصلة تفصيلًا شديدًا، أو فيها إطالة وإسهاب، ولكنِّي تعمدت ذلك لأشرح طريقتي في البحث للنَّاس، ولأنَّ القراء جميعًا ليسوا على حظ واحد من العلم بحياة المسلمين أيام أبي العلاء.

والمقالة الثالثة من هذا الكتاب كانت تحتاج إلى شيء من الإطالة في المقارنة بين أبي العلاء وبين المتنبي، ولكنِّي أعرضت عن ذلك؛ لأنَّ هذه المُقارنة المطوَّلة تحتاج إلى درس مفصل مستقصٍ لحياة المتنبي، وأنا لم أظفر بهذا الدرس، كما أنَّ غيري من النَّاس لم يظفر به إلى الآن أيضًا.

والمقالة الرابعة من هذا الكتاب كانت تحتاج إلى شيء من البحث والإطالة في إحصاء التلاميذ والرواة عن أبي العلاء، والإشارة إلى ما أنتجت لهم صحبته، ولكني أعرضت عن ذلك؛ لأنَّ مصادر التَّاريخ التي كانت بين يديَّ حين كنت أؤلف هذا الكتاب لم تُسعفني بما كنت في حاجة إليه، ولأنَّ الوقت قد كان أضيق من أن يسع هذا العمل الكثير.

والمقالة الخامسة من هذا الكتاب كانت تحتاج إلى تفصيل في المقارنة بين أبي العلاء وبين أبيقور، ولكنِّي أعرضت عن التفصيل؛ لأنَّ فلسفة أبيقور لا يتقنها إتقانًا تامًّا إلا من قرأ في اللاتينية شعر لوكريس ونثر شيشيرون، وذلك ما لم أُوفَّق إليه الآن، ولعلَّ قراءة الترجمة الفرنسية لهذا الشعر وذلك النثر قد كانت تكفي، ولكن لا أكذب القُراء؛ لم أكن أعرف أنَّ هذا الشاعر وذلك الناثر قد لخَّصا فلسفة أبيقور تلخيصًا يمكن الاعتماد عليه، وإنَّما عرفت ذلك في أوروبا حين أردت أن أتخذ من المقارنة بين أبي العلاء وأبيقور موضوع رسالة فلسفية أقدمها لجامعة مونبلييه.

وقد كان من الحق أن أضع فصلًا موجزًا أو مطولًا للمقارنة بين أبي العلاء وبين عمر الخيام، ولكنَّ المصادر العربية تعوز الباحث عن عُمَرٍ، وآثاره في الفارسية والإنجليزية ممتنعة عليَّ لجهلي هاتين اللغتين، وهي في الفرنسية لا تصلح مصدرًا للبحث المستقصي.

ولم أتعمد أن يكون الكتاب مونق العبارة ولا رشيق اللفظ؛ لأنِّي لم أرد به إظهار التفوق والنبوغ في فن الإنشاء، وإنَّما أردت أن أُصوِّر رجلًا من رجال التَّاريخ تصويرًا صحيحًا.

فهذه هي الملاحظات التي آخذ نفسي بها قبل أن أظهر الكتاب للنَّاس، ولكلِّ قارئ الحق في أن يأخذني بما يعتقد أنَّه خطأ، وله عليَّ الحق أيضًا أن أناقش نقده، وأن أعترف بالصواب منه، ولكنِّي الآن على جناح سفر إلى أوروبا، وربما لا تُتاح لي قراءة الصُّحف المصرية كافة، فأنا أرجو من الذين يُريدون أن ينقدوا الكتاب أن يتفضلوا بإرسال نقدهم منشورًا في الصحف السيارة أو مكتوبًا في الرسائل الخاصة إلى ناشر هذا الكتاب؛ ليوصله إليَّ في أوروبا ولأتمكن حينئذ من درسه والنَّظر فيه.

طه حسين
١٤ ديسمبر سنة ١٩٥١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤