من البرج العاجي

١

ما أطول حديثنا الصامت في برجنا العاجي. هذا البرج الذي يحرسه «تنين الوحدة». وما أكثر تلك الخواطر التي تمر برءوسنا أحيانًا كالطيور العابرة دون أن نقتنص منها شيئًا. هنا داخل هذا الإطار وبين هذا السياج سأحبس ما يقع منها تحت ذاكرتي. وإن خواطري لكثيرة. لأن أوقات عزلتي طويلة. وليس لي علم بلعب النرد وغيره من وسائل قتل الوقت. فالوقت عندي هو الذي يقتلني لأني لا أعرف كيف أقتله. ولقد حاولوا كثيرًا في صباي أن يعلموني تلك الألعاب التي تلهي الناس عن أنفسهم في أوقات الفراغ. ولكني كنت أنسى دائمًا في المساء ما علموني إياه في الصباح. ولم ينفع في أمري تعليم ولا تفهيم. وخرجت من عهد الصبا دون أن أحذق لعبة أو أحجية. شيء واحد كان يلهيني ويسرني. وقد كان عندي بمثابة النرد والأحاجي؛ ذلك هو الجدل حول فكرة من الأفكار. ولكَم أتعبت كثيرًا من أولئك الذين كانوا يلعبون معي هذا الضرب من الشطرنج في وقت من الأوقات؛ لقد كنت أضيِّع عليهم نهارًا بأكمله دون أن أتبرم، وإن رءوسهم لَتكِلُّ فما أرحمُهم … وما أرحمُ نفسي … إن حب التفكير لَنقمة … آه لو علم الناس كيف يعيش الأدباء ورجال الفكر. إذن فليعلموا أن القدَر يوم دفع الأدباء إلى الوجود صاح فيهم ساخرًا: «اذهبوا فإن لكم الفكر ولكن …» ولم يُتم كلامه وابتسم ابتسامةً هي أبلغ من التعبير.

نعم … ما من أديب أو مفكر إلا أدرك أخيرًا بعد أن قطع شوطًا من الحياة أن شيئًا آخر ربما كان أجدى عليه من الفكر قد سُلب منه إلى الأبد … إنا نحسد أحيانًا بقية الناس … وإني لأتصور القدَر وهو يشيِّع الآخرين إلى باب الوجود قائلًا لهم: «اذهبوا فإن لكم الحياة … ولكن …»

أجل إنه يبتسم لهم كذلك عين ابتسامته الساخرة … ولكن هؤلاء الناس لا يفهمون قط أن القدَر سلبهم شيئًا … وهنا الفرق بينا وبين بقية الناس: إننا نحن رجال الفكر ندرك تمام الإدراك ما سُرق منا وما فقدنا … أما الآخرون فلا يعلمون … وهذا سر عذابنا نحن.

والآن، وقد تكشف لنا حياتنا الفكرية عن برج مرتفع لا خروج لنا منه … برج يملؤه السكون ولا نسمع فيه غير صدى أصواتنا الضائعة … فلنتكلم إذن بين تلك الجدران … فإن رجع الصدى يؤنس على الأقل وحشتنا.

٢

مضت أعوام عديدة على ذلك اليوم الذي شعرت فيه بغتةً بدوار الصعود الفكري، على أثر مطالعات كثيرة وتأملات عميقة في عزلة طويلة … وبدا ذلك على وجهي فسمعت طبيبًا يسدي إليَّ النصيحة أن أترك كل شيء من فوري إلى البحر، أستنشق الهواء وأغمض عيني بغير تفكير … لقد كنت أحسب التأمل كل شيء في حياة الأديب، وكنت أعتقد أن حياتي ستمضي قراءةً كلها وتفكيرًا على ذلك النحو وبذلك المقدار … فكنت أستهول العاقبة وأتساءل عن النتيجة.

ومرت الأيام فإذا بي أنصرف بعض الشيء عن المطالعة والتأمل … وإذا الأعوام تنفق في شيء آخر لم يكن في الحساب … هو البحث عن الجسم الذي تحل فيه تلك الأفكار الهائمة كالأرواح … هنا وضحت لعيني المعضلة … وفهمت أن التفكير في ذاته يسير، ولكن العسير هو أن أقيم «الفكرة» على قدميها كائنًا نابضًا يتحرك ويسير … إن القليل من عمر الفنان هو الذي يُبذل في التفكير الصرف، والكثير منه هو الذي يذهب في سبيل صنع ذلك اللحم والدم الذي ينبغي أن تسكنه الأفكار.

إن «الطبيعة» أستاذنا الأعظم — نحن الأدباء والفنانين — تفكر هي أيضًا … غير أنها لا تفكر «كلامًا» … فهي تجهل «اللغات الحية» … ولكنها تفكر «مخلوقات حية».

«تفكير» الطبيعة «أسلوب» … وإن طريقتها الواحدة في تركيب الكائنات جميعها، من عالم الجراثيم إلى عالم الأجرام، لهي وحدها التي تقرأ منها تفكيرها.

«الخلَّاق» في الفن أيضًا لن يستحق هذا الإسم حتى يصبح التفكير عنده مماثلًا لتفكير الطبيعة، فيملك تلك القدرة السحرية أو الهبة السماوية، التي بها يُخرج أفكاره من رأسه تجري لابسة أثواب الحياة.

كذلك خالقو الشعوب وبناة الحضارات، كل عبقريتهم أنهم لا يفكرون «كلامًا» وأن الأفكار والتأملات عندهم هم أيضًا لا تُكتب كما هي ولا تُقال، إنما ترى قائمة متحركة في صورة أمة ناهضة أو على شكل ثورة متفجرة.

ذلك معنى «الخلق» … وتلك هي «الأفكار» في لغة كل خلَّاق.

٣

طالما جلست في صباي ساعات طويلة أتأمل قوافل النمل تسير على الحيطان … وكنت أحيانًا أدنو منها وأصيح بأصوات مدوِّية … فما يبدو عليها أنها سمعت شيئًا؛ فالنظام هو النظام. والخطى هي الخطى … والتجارة الضخمة المحمولة على الأعناق، وهي جناح «صرصار» كبير … ما زالت تتهادى مطمئنة في طريقها إلى عاصمة المملكة العتيدة داخل ذلك الثقب البارز في أسفل الجدار … وكانت الجيوش قد قاربت المدينة … وخرجت جيوش أخرى تستقبل القادمين وتحمل عنهم بعض العبء. وكأن الجميع في فرح وحركة ولغط لا يصل صداه إلى مسامعي الغليظة … كما أن أصواتي الراعدة لا تبلغ آذان تلك المخلوقات الدقيقة، فحدثتني النفس أن أُحدِث حدثًا في تاريخ البشرية الصغرى، فأتيت بكوب من ماء وصببت مما فيه على القوافل الظافرة … ولبثت أنظر إلى الكارثة في ابتسام … فإذا شمْل الجيوش قد تمزق وإذا الذعر قد دب في الجموع … ولكن الفلول سرعان ما عادت تلتئم، وتحمل «التجارة» من جديد في حرص مستميت … عند ذلك أقصيت الكوب وقد تحرك قلبي وقلت في نفسي: إن هذه المملكة ولا ريب تأخذ الآن عبثي على سبيل الجد … وإنها ولا شك تحسب ما حدث الساعة ظاهرةً من ظواهر الطبيعة القاسية … فما هذا عندها إلا سيل العرم أو طوفان هائل أو قضاء هبط من السماء … وتأملت لحظةً شأننا، نحن «البشرية» الكبرى … وقلت: مَن أدرانا أنَّا لسنا أحسن حالًا من هذا النمل؟ ومَن أدرانا أن ما نسميه ظواهر جوية وطبيعية من زوابع وأمطار وقضاء وقدر ليس إلا عبث مخلوقات أخرى ذات أحجام وصِفات لا نستطيع لها تصورًا؟ ومن أدرانا أن ليست في هذا الكون أصوات هيهات لآذاننا الصغيرة أن تدرك وجودها … لمَ لا نكون نحن أيضًا نملًا أرقى من هذا النمل، وأحَط من نملٍ آخر من جوهرٍ آخر لا نعرف ما هو؟ إن الله لأعظمُ مما نظن … وإن حواسنا لأقلُّ إدراكًا لما في هذا الكون مما نتخيل.

٤

من أحبِّ المطالعات إلى نفسي كتب العالم الرياضي «هنري بوانكاريه» … عندي من مؤلفاته ثلاثة كتب: «العلم والطريقة» و«العلم والفرض» و«قيمة العلم» … قرأتها لأول مرة منذ عشر سنوات … وأعود إليها من حين إلى حين … إنها تسْحرني كما تسْحر الأطفال قصص ألف ليلة وليلة … فأنا الآن لا أقرأ كثيرًا كتب الأدب … لأني أنا نفسي أصنع كتبًا في الأدب … ولكني أحب أن أصغي إلى أولئك الذين يبحثون في صمتٍ عن الحقيقة … هؤلاء الذين عندهم ما يقولون ولكنهم يترفَّعون عن الكلام … لأن الحقيقة التي يحاولون أن يتصيدوا شبح خطاها خلف «المكرسكوبات» و«التلسكوبات» لأروع وأعظم من أن توضع في ألفاظ وعبارات … على أن ما يعنيني من كلام هؤلاء العلماء ليس الأرقام والمعادلات؛ أي «الوسائل» … ولا يعنيني كذلك ما وصلوا إليه من «نتائج» … ولكن الذي أقرأ من أجله هذه الكتب هو تلك الإشراقات الذهنية التي تلمع من خلال بحوثهم، فتضيء جانبًا من جوانب الفكر المهجورة … ليس العلم في ذاته هو الذي يهمني ولكن هي «العقلية العلمية» في مصادمتها ومواجهتها للأشياء … لا شيء يلذ لي مثل مجالسة «عالم» متسع الأفق … وهذا النعت لا ألقيه جزافًا … فإن من كبار رجال العلم من هم ضيِّقوا الأفق … أي سجناء معادلاتهم وأرقامهم، يصلون بها مع ذلك إلى نتائج باهرة في صميم العلم، ولكنهم قلَّما ينظرون إلى العالم الخارجي، وأعمالهم قلَّما تعني غير فئة صغيرة من زملائهم العلماء … إنما الطراز الذي أقصد، هو طراز رجل العلم المطبوع الذي يخرج بعد ذلك لينظر بعين العلم وعقلية العلم إلى الكون بمعناه الواسع … هي «فلسفة العلم» ما أريد، لا العلم نفسه … هنا بعد هذه القراءات يتضح لي أنا «رجل الأدب» كيف أن مخلوقًا آخر يسمى «رجل العلم» ينظر إلى ذات الأشياء التي أنظر إليها ويفكر في هذا الكون الذي أفكر فيه، ولكن بعين أخرى وعقل آخر … ومن يدري؟ لعل أكثر هؤلاء العلماء الذين ننعتهم باتساع الأفق هم أيضًا لا يلذ لهم شيء مثل قراءة الآداب، ومجالسة «رجال الأدب» … وهو الواقع … فما الأمر في باطنه إلا شوق وحب استطلاع نوعين مختلفين من هذا الحيوان المفكر.

٥

أمس خرجت من برجي العاجي إلى البرج الدائر، والبرج الدائر هو مرصد حلوان … دعاني إلى زيارته مديره … وهيأ لي المنظار الكبير مسدَّدًا إلى القمر … فذهبت يدفعني الشوق إلى استجلاء سر هذا الكوكب الجميل، الذي نظَم فيه شعراء الأرض نصف شعرهم، ودان له عشاق الأرض بنصف هنائهم … ورفعت عيني إلى تلك العين الذهبية التي طالما رعت بنورها نصف حياتنا، وسهرت على مسراتنا، وسكنت من أحزاننا … نظرت، وإذا أنا أتراجع أسفًا وألمًا … لا أحب أن أصف ما رأيت … ولكني أحب أن أسجد لله شكرًا إذ جعل لنا عيونًا لا تبصر إلا بمقدار … إن كل الجمال المحيط بنا إنما هو من صنع عيوننا القاصرة … والويل لنا إذا أبصرت أعيننا الآدمية أكثر مما ينبغي لها أن تبصر.

ذلك شأن القمر باعث الجمال على الأرض … كذلك شأن الشمس باعثة الحياة على الأرض … إنها تشرف علينا من مكان معين بمقدار … فإذا اقتربت منَّا أنملةً هلكنا حرقًا، وإذا ابتعدت عنَّا أنملةً متنا بردًا. إن يد الحكمة الأزلية قد وضعتها في الموضع الذي لا بد لها فيه من أن ترسل إلينا الدفء والخير والسلام.

ما أدق هندسة الكون! اللهم إني أعود إلى برجي وأنا شديد الإيمان بك، قريب الفهم لك، مدرك بعض الإدراك لمشيئتك في خلق الإنسان، مطمئن كل الاطمئنان إلى مراميك في إنشاء حواسنا الآدمية على هذا الضعف … إن ما اعتدنا أن نسميه ضعفًا وقصورًا في إدراكنا حقيقة الأشياء ليس إلا السياج الذي يحمي سعادتنا البشرية … فإذا خرجنا عن نطاق هذا السياج فقد انقلبنا مخلوقات أخرى لا تتصل بالأرض ولا بجمالها ولا بمشاعرها … مخلوقات ليست آدمية؛ فقد ترى غير ما يرى الآدميون … وقد ترى أبعد مما يرون … ولكنها لن تكون من أجل ذلك أسعد ولا أسمى ولا أنبل.

اللهم إنك مع قصورنا قد صنعتنا على خير حال، ومع جهلنا قد هيأت لنا أحسن مآل.

٦

كان إبسن يقول: «الرجل القوي هو الرجل الوحيد» … كان إيماني شديدًا بهذه الكلمة … وما برحت أرى فيها دستوري الذي لا ينبغي أن أحيد عنه؛ فأنا كلما انطويت على نفسي واعتصمت ببرجها أعطتني كل ما أريد من قوة ومنَعة … وكلما التمست ذلك عند الناس أو عند أصحاب الجاه والسلطان شعرت أنهم أضعف من أن يستطيعوا لمثلي خيرًا أو شرًّا … فليست قوتي المنشودة في ألقابهم ولا في ثرائهم إنما هي في شيء ليس في مقدور أحد أن يمنحنيه غير نفسي … فالدولة لا تستطيع ولن تستطيع أن تخفض أو ترفع من قدري وقيمتي في نظر الزمن والتاريخ … وهنا كل منعتي … فأنا إذن لا أحتاج إلى الدولة في شيء؛ لأنها لا تستطيع أن تمنعني أو تمنحني شيئًا ذا أثر في كياني الحقيقي.

إن التاج الذي يوضع فوق جبيني ليس في مقدور يدٍ صُنعه غير يدي … ولا جواهر تزيِّنه غير الجواهر المستخرَجة من كنوز نفسي.

٧

البرج العاجي عند أكثر الناس معناه اعتصام الكاتب بالسحب اعتصامًا يقصيه عن أحداث الدنيا وحقائق الوجود، وهذا غير صحيح … على الأقل بالنسبة إليَّ … فما من حدث استوجب تحرك القلم إلا حرك قلمي … وما من أمر هز البشرية إلا هز نفسي بل ما من قضية من قضايا الحياة الكبرى التي تمس الإنسان وتطوره وتقدمه إلا شغلتني ودفعتني إلى الجهر بالرأي حتى في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية … دون التفات إلى عواقب الرأي الحر والنقد المر … فما بالي أشهد تلميحًا بين آنٍ وآن من رجال الإصلاح إلى هذا البرج العاجي كأنه وكر قصِيٌّ يسكنه طائر منفرد لا يريد أن يحط على جيفة من جيف الأرض. وا أسفاه! كان بودِّي أن أكون هذا الطائر … ولكن العصر الحديث لا تمتنع عليه الأبراج والأوكار، فإن أزيز آلاته ودوي صيحاته قد أفسد سكون الأعالي على المفكرين والأطيار … لا يوجد اليوم الكاتب الذي لا يغمس قلمه في وحل البشر؛ لأن القلم اليوم عصا في يد الإنسانية بها تسير … لا مرود نكحل به عينيها … حبذا لو كان صنع الجمال كل مهمتنا … لقد كانت خير رسالة للقلم الارتفاع بالإنسان على «براق» الفكر إلى حيث ينسى في لحظة أو لحظات أنه من تراب الأرض خُلِق … ولكن الناس طلبوا إلى القلم مطالب وسخَّروه في مآرب وجذبوه إلى طينهم يتكئون عليه كلما خافوا الانزلاق … وكان لهم ما أرادوا … ونزلت من الأبراج أفواج الكُتاب ينخرطون في سلك الأحزاب … متوزعين في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع … مخدوعين بما يقال لهم من أن مراكز القيادة مكانهم، والله أعلم إن كانوا في هذا المكان وُضعوا أو أنهم حُشروا مع العبيد والمسخَّرين … قليل جدًّا من الكُتاب في مصر والشرق من يستطيع حقًّا أن يقود ولا يقاد … أولئك هم الذين يقودون من «أبراجهم العاجية» كما يقود الربان السفينة من برجه الزجاجي المرتفع، دون أن يغمره هرج النوتية أو يعمي بصره بخار الآلات … القيادة الحقيقية ينبغي أن تكون مرتفعة كالرأس في جسم الإنسان … وأن تكون منفصلة عن بقية الجسم إلا من بعض شرايين وأعصاب تنقل الأفكار من البرج إلى الأطراف.

ما من رأس يقع مع الأعضاء في صعيد واحد إلا رأس المخمور … ذلك الذي يسقط منتشيًا بخمر المطامع الأرضية، صريعًا بكأس الشهوات المادية.

ما أكثر الأقلام التي خدمت الأحزاب والنظم … بل ما أكثر الأقلام التي خدمت الإصلاح نفسه … ولكنها كانت تعلم وهي تفعل ذلك ويعلم عنها الجميع أنها قبل كل شيء إنما كانت تخدم أنفسها وجيوبها ومآربها.

البرج العاجي هو ألزم ما يلزم للقادة الروحيين. والبرج العاجي الذي أقصده هو السمو عن المطامع المادية والمآرب الشخصية. البرج العاجي الذي أريده لنفسي ولغيري من الكُتاب هو الوحدة … الوحدة بمعانيها العليا العظيمة: أي الاستقلال والحرية والكمال.

الرجل الوحيد البعيد عن تقلبات الأهواء، المرتفع عن مصطخب الأنواء، الكامل بنفسه … المكمِّل للآخرين … «البرج العاجي الخُلُقي» هو ما أريد. لا البرج العاجي الفكري … ليس من حق مفكر اليوم أن ينأى بفكره عن معضلات زمانه. ولكن من واجبه أن ينأى بخُلقه عن مباذل عصره وسقطاته … لأن أول خطوة القائد الروحي هي نحو «المثل الأعلى»، وأول صور المثل الأعلى هو «المثل الخُلقي». وأول من يبرزه القائد نموذجًا للمثل الخُلقي هو شخصه.

«البرج العاجي» عندي هو الصفاء الفكري والنقاء الخلقي … وهو الصخرة التي ينبغي أن يعيش فوقها الكاتب مرتفعًا عن بحر الدنايا الذي يغمر أهل عصره. لا خير عندي للمفكر الذي لا يعطي من شخصه مثلًا لكل شيء نبيل رفيع جميل.

لا يدخلن في الرُّوع أني أطلب إلى الكاتب حبس نفسه فلا يختلط قط بالناس … فليختلط ما شاء بأجناس البشر كافة … لكن على نحو اختلاط الأنبياء الذين يأكلون في الأسواق ويشاركون الناس كل ما في الحياة إلا الصغائر والآثام … فالكاتب قد يكون دائمًا بين الناس وهو مع ذلك في برج عاجي مرتفع … البرج العاجي المرتفع ليس سوى نفسه البيضاء التي ترتفع عن الدنس. إنه يقاسمهم كل شيء إلا ضعفهم الخُلقي والفكري … إنه مع الناس ليفهمهم ويرحمهم ويصورهم ثم ليرشدهم وليكون لهم القدوة والنبراس … إذا فعل الكُتاب ذلك في كل عصر لكان للبشرية شأن غير هذا الشأن.

إن مثلًا واحدًا أنفع للناس من عشر مجلدات … لأن الأحياء لا تصدق إلا المثل الحي … لهذا كان النبي الواحد بمثَله الخُلقي الحي وجهاده واستشهاده في سبيل الخير أهدى للبشرية من آلاف الكُتاب الذين ملئوا بالفضائل والحِكم بطون المجلدات … إن أكثر الناس يستطيعون الكلام عن المُثل العليا ولا يستطيعون أن يعيشوها … لهذا كان الأنبياء قليلين وكانت حياتهم إعجازًا.

فإلى البرج العاجي أيها الكُتاب … البرج العاجي بما فيه من صفاء فكري ونقاء خلقي … ذلك البرج الذي أحاول أن أجده في الوحدة … الوحدة المعنوية … أي الاستقلال والكمال والحرية!

٨

نفسي بطبيعتها لا تنزع إلى ترف الحياة … ولقد عشت إلى وقت قريب ضالًّا … ليس لي بيت مستقر ولا راحة موفورة … ولا حتى مكتبة خاصة تعينني على عملي الأدبي … إلى أن أوهمني بعض الناس أن مكانتي كأديب تقتضي أن أغير هذه الحياة … فأصغيت إلى هذا الكلام واتخذت لي مسكنًا أنيقًا في أجمل بقاع القاهرة يشرف على النيل … واقتنيت سيارة جميلة، وجعلت لي مكتبة تزينها التحف والتماثيل … وأكثرت من حولي الخدم يُعنون بأمري … وأعجبني قليلًا مظهري هذا الذي يماثل مظهر أدباء أوروبا المشاهير … وغرَّني الحال … وحسبت أننا نتمتع في الشرق بمثل ما يتمتعون من قوة وحرية ومنَعة … فانطلق قلمي مرةً يبدي رأيًا صريحًا في مسألة قيل إنها تمس السياسة … وإذا أنا أقع فريسة لإجراءات مهينة؛ فالتفتُّ يمينًا وشمالًا أبحث عن عالَم الأدب يتولى الدفاع، لا عني، بل عن حرية الفكر المهدَرة … فلم أجد أحدًا من الأدباء قد تحرك … ولم أرَ صحيفة قد همَّها الأمر … وخرست كل تلك الجرائد التي طالما رفعت صوتي على صفحاتها، واتفق الكل اتفاقًا طبيعيًّا على إهمال الموضوع … ولم يحفل أصدقائي ولا زملائي ولا قُرائي بما حدث لي … ولم يدركوا الخطر الذي يهدد الأدب والأدباء إذا هم شعروا يومًا أنهم لا يستطيعون أن يُخرجوا ما في نفوسهم.

على أن الحادث في جملته قد هز عقيدتي في منزلة الأدب … وفجعني لا في شخصي، ولكن في مركز الأديب في الشرق؛ فقد أيقنت أن ما يسمونه «المكانة الأدبية» إنما هي وهْم من الأوهام … وأن الأدباء أنفسهم هم المسئولون في أكثر الأحوال عن انخفاض شأنهم في المجتمع لخذل بعضهم بعضًا.

وأحسست من نفسي الذلة، فتركت سكني وسيارتي وخدمي، وعدت من جديد أعيش شريدًا، كما يستحق أديب في الشرق أن يعيش.

٩

ليس على الأرض أخطر ولا أقوى من آدميٍّ يعيش من أجل فكرة … هذا الآدمي الذي يركز كل وجوده في فكرة كما تتركز أشعة الشمس في عدسة، ليستطيع أن يحدث مثلها حريقًا مخيفًا أو نورًا وهَّاجًا ساطعًا … إن أغلب الأنبياء والرسل وقادة الكفر وعظماء التاريخ الذين قلبوا العالم أو ملئوه ضوءًا وجمالًا كانوا كذلك: أشعة متجمعة في عدسة فكرة … إنهم لم يعيشوا للحب والحياة؛ إنما عاشوا من أجل فكرة.

ذلك خاطر مرَّ برأسي في لحظة من اللحظات … ولست أدري أأنا مصيب فيه أم أنه عزاء جميل أُدخله على نفسي كلما ذكرت وأيقنت أني أنا أيضًا آدمي لم يُخلق كي يعيش للحب والحياة … لماذا أعطي دائمًا الفكرة ثمنًا أغلى من حياتي، دون أن أشعر ودون أن أريد؟ … آه لو أتيح لي أن أعيش حياتي كما أحب؛ ولو سُمح لي أن أقدِّر الحياة كما يقدِّرها السعداء من الآدميين! لقد منحني الله من أسباب النعيم ما لم يتيسر مثله للكثيرين، فلم أبسم ولم أسعد؛ فقد عافت نفسي مائدتي المنمَّقة وسيارتي اللامعة ومسكني الرحب … آه … إن أجمل أفكاري ما ظهرت إلا أثناء سيري البطيء على الأقدام … وإن ألذ أكلة عندي ما اقتصرت على لون واحد من الطعام … وإن خير مسكن لي هو حجرة واحدة أضع فيها كل ما يربطني بالوجود من كتب وورق وفراش وثياب … لقد صحت يومًا من أعماق نفسي: «اللهم أتم نعمتك عليَّ وجردني من كل هذا النعيم الذي لا أفهمه، واملأ قلبي بحب نورك وحده، فبه تزهر كل فضائلي الآدمية كما يزهر النبت تحت الشمس الحارة البارة!» وكان لي ما أردت، وانقطعت للفكرة وتجردت … ولكن …

لكن هل كل من تجرد من حياته في سبيل الفكر ينْظمه الزمن في سلك العظماء؟ لست أظن … وهنا الكارثة … هناك رجال خلعوا رداء الحياة دون أن يُلبسوا الفكر ثوبًا وضَّاء … أولئك هم تعساء الداريْن … أخشى أن يكون قد كُتب عليَّ مصير هؤلاء!

١٠

الرأي الصريح الحر قوة ينبغي ألا تخلو منها أمة من الأمم الآخذة بأسباب الحضارة … ووجود هذا الرأي ألزم من وجود البرلمانات في ضمان العدالة والحد من طغيان السلطات؛ لأن هذا الرأي لا يتطرق إليه عادة ذلك الفساد الذي يشوب أعمال النُّظم السياسية والاجتماعية؛ فهو صادر عن قلب حار نبيل قد ارتفع عن دنيا الأغراض والمجاملات.

على أن المشكلة هي دائمًا: كيف نعثر على هذا الرأي؟ قد نستطيع أن نعثر على العنقاء، ولكننا لن نستطيع أن نظفر في كل زمان بصاحب الرأي الحر الصريح … لماذا؟ لأن هذا المخلوق ينبغي أن يكون مركَّبًا تركيبًا مخالفًا لتركيب أغلب البشر … فلا بد أن يكون قد عرف كيف يستغني عن الناس، وأن يكون قد وطَّن نفسه على أن يمضي في طريقه دون أن يعبأ بسهام الناس التي أصابت جسده … وألا يكون له عند أحد حاجة ولا مطمع. وأن يكون محبًّا للوحدة معتادًا العزلة، قانعًا من الدنيا بأبسط متاع وأقل مئونة … ذلك أن أول خطوة في هذا الطريق الوعر يصادفها صاحب الرأي الحر، هي فقد الأصدقاء والأعوان … ثم يلي ذلك تألُّب الجميع عليه، لأنه لم يُرض أحدًا ولم يمالئ فريقًا ولم يعتصم بجاه جهة من الجهات، ولم يستظل بقوة من القوى … إنه وحده منبع كل شيء … وهو بمفرده الواقف في وجه جميع القوى متضافرة … إنه قد ينهزم وقد يتحطم وينهدم تحت ضربات الجميع، ولكن راية الرأي الحر تبقى خفَّاقة في الهواء عالية مرفوعة في يده الميتة.

حبذا لو كان لي هذا المصير العظيم! لقد أتاحت لي الظروف أن أطلِق رأيي ذات يوم حرًّا في بعض الأمور فأحسست في الحال أني فقدت كل سند من كل جهة من الجهات، ولم يعد لي صديق … ولم يبق حولي سوى عيون نارية تنتظر ساعة الانقضاض عليَّ والفتك بي … غير أن كل هذا لم يزعجني … فلقد شعرت في عين الوقت أن في يدي شيئًا يخفق عاليًا، أدركت أنه هو وحده الباقي.

١١

القوة الحقيقة للرجل هي أن يستطيع أن «يقول ما يريد وقتما يريد أن يقول» … والرجولة الحقيقية هي أن يبذل المرء دمه وماله وراحته وهناءه ودَعَته وطمأنينته وأهله وعياله وكلَّ أثيرٍ عنده وعزيز عليه في سبيل شيء واحد: «الكرامة» … والكرامة الحقيقية هي أن يضع الإنسان نفَسه الأخير في كفة وفكرته ورأيه في كفة، حتى إذا ما أرادت الظروف وزْن ما في الكفتين رجَحت في الحال كفة رأيه وفكره … كل عظماء التاريخ كانوا كذلك … بل إن مصر، الفقيرة اليوم في العظماء، قد عرفت ذات يوم رجالًا من هذا الطراز … رجال لم يترددوا في تضحية كل شيء من أجل فكرة، والنزول عن كل متاع من أجل رأي … بمثل هؤلاء الرجال ربحت مصر كثيرًا في حياتها المعنوية والفكرية … بل إني لا أبالغ إذا قلت إن الأمم لا تُبنى ولا تقوم إلا على أكتاف هؤلاء … وإن الخطر المخيف هو يوم تخلو أمة من أمثال هؤلاء … نعم … وإنه ليخالجني الآن شيء من القلق إذا نظرت حولي فلا أكاد أرى في مصر أثرًا لهذه الفئة العظيمة … فناموس اليوم هو وطء الفكرة بالأقدام ركضًا خلف الجاه الزائف والمال الزائل، وإنكار الرأي والجبن عن إعلانه حرصًا على الراحة وإيثارًا للطمأنينة … وهكذا قد خلت صفحة تاريخنا من أسماء العظماء هذه السنوات وعجَّت بلادنا بأصحاب الألقاب وحمَلة الشارات وراكبي السيارات! وحُقَّ لنا جميعًا أن نسأل هذا السؤال: ما هي المعجزة التي تُنهض هذا البلد وهو على هذا الخلق؟! وهل يطول غضب الله علينا فلا يُظفرنا بعظيم من هؤلاء العظماء الذين يستطيعون أن يردُّوا الاعتبار إلى قيمة الرأي، ويطهروا النفوس من درَن المادة، ويعيدوا المُثل العليا النبيلة إلى مجدها القديم، ويرتفعوا بالأمة كلها في لحظة إلى سماء الخُلق العظيم! إذا حدث ذلك فقد نجونا … وإذا لم يحدث ذلك فلا شيء ينتظرنا غير انحلال أكيد، وهبوط إلى مرتبة العبيد.

١٢

في طفولتي ظاهرة عجيبة لم أستطع لها حتى اليوم تعليلًا طبيًّا … لقد كنت أُصاب من فوري بحُمَّى تُلزمني الفراش أكثر من أربعة أيام كلما وقع بصري على جنازةٍ مارَّة في الطريق … وقد لبثت على هذه الحال ثلاث سنوات، من الثالثة حتى السادسة … وكان أهلي يعرفون ذلك عني … فكانوا يحرصون كل الحرص على أن يجنبوني منظر الجنازات … وإني لأذكر يومًا كنت مع جدتي في مركبة عائدة بنا من السوق إلى البيت … وكنت في أحسن صحة وأتم سرور … وإذا جنازة تعبُر شارعًا بعيدًا، أبصرتْها عين جدتي، فبادرت الحوذي راجية هامسة أن يحيد بمركبته عن ذلك الشارع سريعًا … وحسبت المسكينة أنها أفلحت تلك المرة في إنقاذي من الحُمى … ولكنها شعرت برعدتي … فالتفتت إليَّ … فإذا وجهي الشاحب يتصبب عرقًا … فأدركتْ أني لمحت الجنازة ساعة لمحتها هي … وأن الحُمى سرَت في جسمي وانتهى الأمر … ما العلاقة بين ذلك المرض الجثماني والخوف من الموت؟ لم يبحث أحد هذه المسألة … فلقد كانوا يكتفون باستدعاء الطبيب فيعالج الحُمى بعلاجها المألوف حتى أبرأ منها … ولم يخطر على بال أحد أن يسأل هذا السؤال الذي ألقيه على نفسي اليوم؟ أترى الموت كان يريد انتزاعي من الحياة؟ أتراها قصة «ملك الجن» التي رواها «جوته» في إحدى قصائده الرائعة: لقد حكى أن طفلًا تعلَّق بصدر أبيه ليحميه من ملك الجن الذي يغريه برائع الهدايا واللعب والأزهار كي يذهب إليه ويمضي معه … ولكن الأب حسب كلام ابنه عبث أطفال فلم يأخذ الأمر على سبيل الجد، حتى رأى ابنه يسقط من بين ذراعيه وقد فارق الحياة.

أترى الأطفال في صفائهم الملائكي يحسون ويسمعون وقْع أقدام ملك الموت؟ أذكر في طفولتي أيضًا حدثًا غريبًا وقع لعمةٍ لي طفلةٍ كانت تكبُرني إذ ذاك بعامين … لقد كنا نلعب في رهط من الأطفال كل يوم … وكانت لعبتنا واحدة لا تتغير … لأن هذه العمة الطفلة هي التي كانت تصر على تكرار هذه اللعبة بعينها: كانت تقع على الأرض ممثِّلة دور المريضة ثم تصنع كأنها تموت … وإني لأذكر أن قلبي كان ينقبض انقباضًا شديدًا لهذه اللعبة وكان صدري يضيق بها طول يومي … إلى أن رحلنا وفارقنا عمتي الطفلة: فما كاد يمضي عام حتى قالوا لي إنها ماتت.

تلك أمثلة ناطقة على الصلة الخفية بين الروح والجسد … إني فيما وقع لي، أعتقد أني كنت محلًا لصراع عنيف بين قوتين: قوة الموت؛ أي الحرية المطلقة في فضاء اللانهاية، وقوة الحياة؛ أي الحبس داخل جسم حي محدود … هاتان القوتان كانتا تتنازعان وجودي … وكانت الحرب بينهما سجالًا … على أن الجسم كان يتخاذل منهوكًا محمومًا في ميدان ذلك الصراع الخفي كلما ظهرت له قوة الموت أو الحرية في صورة محسوسة؛ كالجنازة، تستطيع حواسه المادية أن تشعر بها وتفزع منها … ومضت أيام الطفولة وأسدل العقل ستاره الصفيق على صفاء الروح … فلم تعد تسمع خطوات ملك الموت … وشُفيت من الحُمى … ولم يبقَ من أثر لتلك الحرب الضروس غير ذلك المظهر المعنوي الحالي للعراك القائم في نفسي بين الحرية الروحية والفكرية وبين ذلك الجسم المقيَّد بأغلال نواميسه وبيئته وحدوده الأرضية.

١٣

إني حر. إني حر حرية تكاد تخرجني أحيانًا من نطاق النوع البشري … إني حر من قيود الأسرة والتبعة … حر من أغلال الزمان والمكان، أتنقل فيهما بفكري … وقد أستطيع إذا شئت التنقل فيهما بجسمي … حر في النظر إلى الأشياء، فلم تعْمِ بصري عقيدةٌ من العقائد ولا مبدأ من المبادئ … حر المزاج فلم تستعبدني هواية من الهوايات ولا مكيف من المكيفات ولا عادة من العادات … حر العقل، حر القلب، حر الجسم. إني في وحدتي وحريتي أكاد أشبه لا آدميًّا من الآدميين، بل فقاعة انطلقت من كأس، أو فكرة شردت عن كتاب … لكني مع الأسف، على الرغم من كل ذلك، آدمي حي … لي عقل يجب أن يفكر داخل إطار إنساني محدود … ولي قلب يجب أن يمتلئ بعاطفة من العواطف … ولي جسم يجب أن يخضع لقوانين الحياة في الأجسام … وهنا سر عذابي ومنبع شقائي … إن حياتي حتى اليوم لا تريد أن تكون شيئًا غير ذلك الصراع الدائم الهائل بين روح الحرية المطلقة وبين نواميس كياني الآدمي … إن ذلك التمرد على هذه النواميس، الذي بدأ عندي منذ الطفولة، ما زال حتى الساعة قائمًا … لقد رفضت الطفولة وأنا طفل … فكانت لي أحيانًا مظاهر الشيوخ … ورفضت الخضوع لأحكام الزمن … فكنت أعيش أحيانًا الحاضر في المستقبل وأعيش المستقبل في الحاضر … واختلطت بذلك علاقتي بالزمن وارتبكت صِلاتي بالناس والأشياء … وحدتي كانت هي حصني، وأعتصم بها كلما أحسست أن أزمة توشك أن تعود من أزمات تلك الحرب الضروس بين الحرية والنواميس … إني يوم صورت «شهريار» في قصتي «شهرزاد» لم يخطر لي على بال أني أصور نفسي … شهريار مع ذلك كان أوفر حظًّا مني … فقد كانت إلى جانبه شهرزاد تجاهد جهاد الجبابرة كي تصلح في طبيعته الخلل … وتعيد التوازن الإنساني إلى كيانه المضطرب … ليست لي شهرزاد … إني وحيد … لقد تحررت وتجردت حتى من الرفيق والشفيق … إني أتألم أحيانًا آلامًا لا يعرفها الآدميون … وليست هنالك عين تستطيع أن ترى هذه الآلام … فإن وجهي الذي يبدو للناس هو من سوء طالعي قناع كأقنعة التمثيل عند اليونان … بارد الملامح، أبله القسمات، جامد النظرات، لا يثير في الناس شيئًا غير الفتور … وهو يخفي عنهم دائمًا ذلك الوجه الآخر الحقيقي الذي لم يره قط بشر … أنا أيضًا أستطيع أن أقول كما قالت الإلهة «إيزيس»: قناعي لم يكشفه بعدُ إنسان! … حتى عيني التي تذرف العَبرات ليست هي العين الظاهرة … ليس بيني وبين العالم الظاهر صلة … إن درجة احتمالي الألم النفسي بلغت حدًّا مروعًا واتخذت صورة قد تهول الناس لو اطلعوا عليها … ربما كنت قد تحررت أيضًا من الألم … ولكن آه … أيها الناس … أيها الناس … بي رغبة أن أصيح أحيانًا صيحةً أمزق بها الفضاء: إني سجين «حريتي»! إني سجين «حريتي»!

١٤

في ورقة منفصلة بين مخلفات «بيتهوفن» وجدت هذه الأسطر الدامعة: «الحب، ليس غير الحب، هو وحده الذي يستطيع أن يجعل حياتك سعيدة، آه يا إلهي! دعني أجدها أخيرًا، تلك التي في مقدورها أن تدعم فضائلي، تلك التي قد سُمح لي أن تكون زوجتي.»

ومات بتهوفن ولم يُسمح له … أترى الطبيعة عدو الفنان؟ تضن عليه بما تمنحه الآخرين … نعم … إنها لتقسو عليه وإنها لتغار منه أحيانًا وتقول له في لغتها الصامتة البليغة: أنت تطلب إليَّ أنا أن أمنحك الحب؟ لا، إني أمنحه كل الناس إلا أنت … إني أمنحه أولئك المساكين الذين لا يستطيعون أن يخلقوا شيئًا، أما أنت فتستطيع أنت نفسك أن تخلق «الحب» … إنك مثلي عبقرية خالقة … كل عملك في هذا الوجود أن تصنع «الحب» وتمنحه الناس.

وهكذا تتخلى الطبيعة غالبًا عن الفنانين العظام، وتتركهم يبحثون سدًى عن السعادة فلا يجدونها كما يجدها الآخرون مُلقاة كالفاكهة الناضجة ساقطة تحت الأشجار … إنما هي لهم شيء بعيد … كلما مدوا إليه أيديهم ابتعدت عنهم وتركتهم يائسين … عندئذٍ ينكبُّون طول حياتهم على كنوز نفوسهم وحدائقها اليانعة يستخرجون منها للناس فاكهةً من ذهب وفضة، تقصر الطبيعة أحيانًا عن تقديم مثلها … ولكن الطبيعة تنظر إلى الفنان نظرة التشفِّي مع بسمة السخرية.

– أفهمتني الآن، وعلمت أن كلينا يعيش في الحرمان، وأن سر وجودنا أن نعطي ولا نأخذ؟

فيقول لها الفنان في نبرة ألم: نعم، ولكنك أنت الطبيعة … أما أنا فآدمي مسكين … إنك لا تتألمين أما أنا فأتألم … إذ أرى الحياة تزول من تحت قدمي … ولم يُسمح لي بحظ قليل من الهناء الذي يُسخى به على الآدميين!

– الآدميين؟! ومن قال إنك منهم! عندما وُضع على منكبيك رداء «العبقرية والخلود» خُلع عنك في الحال بعض خصائص الآدميين!

١٥

«هتلر» ذلك الرجل الذي يعيش وحيدًا قويًّا لا يعرف المرأة ولا يذوق اللحم ولا الخمر ولا يفكر إلا في السيطرة على العالم وقيادة البشر، ذلك الرجل الذي لو خرجتْ من بين شفتيه كلمة رقيقة على مائدة السياسة الخضراء لتغير وجه التاريخ … قد شاء القدر أن يجلس أخيرًا إلى مائدة غداء في مونيخ، منفردًا مع كوكب لامع من كواكب الغناء، وقد خرجت من بين شفتيه هذه الكلمات: إن صوتك لصافٍ صفاء البلور النقي!

فقالت المغنية الجميلة في ابتسامة ساحرة: شكرًا.

فقال المستشار: أنا الذي ينبغي له أن يشكرك.

فقالت الغانية في شيء من العجب: على ماذا؟

– على مجرد وجودك في الدنيا، لا أكثر ولا أقل!

•••

قرأت خبر ما تقدم في إحدى المجلات الأوروبية وقد ختمت المجلة الخبر بقولها: «وقد سافرت المغنية بعد ذلك إلى باريس، فأراد هتلر أن يضع طائرته تحت تصرفها … أتراه قد وقع في الغرام؟ أي خلاص للبشرية إذا قنع هتلر منذ الآن بمكان رحب بالقرب من المرأة!»

وأحب أن أعلق أنا على هذا الخبر بقولي: أترى المرأة تنتقم دائمًا من ذلك العظيم الذي قضى حياته في البعد عنها وكرس جهوده لغير التفكير فيها؟ أوترى الرجل العظيم الذي طرح المرأة من حسابه وأخرجها من حياته يعيش إلى آخر أيامه قانعًا ناعمًا، أم أنه يشعر فجأة في لحظة من اللحظات أن امتلاك العالم بأسره لا يعدل أحيانًا امتلاك قلب امرأة؟!

١٦

أذكر أني ما قرأت بعض فقرات من «يوليوس قيصر» لشكسبير، إلا غمرني حزن عميق. قصة أخرى أذكر أيضًا أنها كانت تترك في نفسي عين الأثر: هي رواية فرنسية تسمى «نابليون المسكين» لكاتب فرنسي يسمى «برنار زيمر» يصور فيها الإمبراطور سجينًا في جزيرة سانت هيلانة، وقُصت أجنحة هذا النسر الهائل، وقُلِّمت مخالبه، وأمسى مخلوقًا بائسًا يهزأ به خادمه ويخفي عنه غليونه الذي يدخن فيه، ويهمله سجانه الإنجليزي ويدعه يتقلب طول الليل على مضجع الألم من مرض أضراسه، فلا يرحمه ولا يُحضر له طبيبًا ولا دواء ويلقبه «بالدب» الذي وضع في أنفه حلقة من حديد ويسمح لبعض الزائرين من السائحين أن ينظروا إليه خلسة من ثقب باب حجرته، كأنه أسد هرم رابض في قفصه بحديقة الحيوان، هذا الذي كان وحده يقيم العروش ويثل العروش … ويدب بحذائه العسكري على أديم أوروبا فتهتز لمشيته التيجان على رءوس الملوك … وكان يقول في صوته الحديدي: أنا وحدي «أوروبا». فتقول له أوروبا كلها: بل أنت «العالم» … نعم لا شيء يؤلم نفسي مثل رؤية «العظيم» يرى سقوطه بعينيه، ومع ذلك لقد احتفظ هذا العظيم بكبريائه حتى النفَس الأخير … فلقد كان يصر على أن يلقَّب بالإمبراطور، ولقد خاطبه في ذلك ذات مرة حارسه الإنجليزي قائلًا له: إمبراطور على مَن؟ وإمبراطور على ماذا؟

فلم يجد منه إلا تشبثًا، فأذعن رفقًا به أو سخرية منه، وترك له هذا اللقب الذي لا يغني ولا يفيد … ولبث هذا البطل المهجور يعيش في هذه الجزيرة المهجورة إلى أن مات، لا بين قصف المدافع ودوي الأبواق ودق الطبول وهتاف العالم من جميع الأركان … ولكن بين سكون النسيان، لا يشيِّع جثمانه العظيم غير خادم وسجان! يا لقسوة القدر! إن السماء لتنتقم أحيانًا من العظيم الذي يتوهم أنه بأعماله قد غيَّر وجه العالم، فتؤخر موته أيامًا عن الوقت الذي كان ينبغي فيه أن يموت، حتى يرى بعينيه قبل أن تُغلقا، أن العالم بخير لم يتغير فيه شيء بذهابه، ولم تخفت ضحكاته، ولم تقف برحيله عجلاته.

١٧

إن حب الملك «إدوارد» لليدي «سمسون» هز عصرنا هزة عنيفة … لكأن «قلب» العالم كله نبَض مع قلب الملك … وهتف متسائلًا: أليس للإنسان حق في الحب؟ أليس للملك قلبًا؟ … وجوابي: إن للملك قلبًا ورأسًا … أما قلبه فهو له … وأما رأسه فهو لشعبه … ولا سلطان لأحد على القلب … فإن هذا القلب لا يتوَّج ولا يبدو للناس … إنما الرأس المضيء بالتاج رمز الحُكم والعزة القومية هو وحده الذي يعني الناس … هنا يبدو سؤال: اختيار الملكة التي ستتوَّج، أهو من شأن القلب أم من شأن الرأس … كل الخلاف قائم الآن حول هذه المسألة … فلنترك الحل للأيام … إنما الذي أريد التنبيه إليه، هو النتيجة الاجتماعية التي سوف تتبع هذا الحادث الجلل … إن إشهار هذه القضية على هذا الوجه في العالم، سوف يملأ الأذهان بهذه الكلمة الجديدة: حق الإنسان في الحب، ولسوف تطغى على العالم موجة عاطفية، حتى لنرى الزوجة التي تهجر زوجها خلف قلبها … والرجل بيته خلف حبه، والفتاة ذويها وراء غرامها … فإذا سُئل هؤلاء في ذلك قالوا: هو الحق في الحب … وسوف ينسى الجميع، تحت غمرة هذه الموجة، الكلمة القديمة: إن الإنسان لا يعيش «للحب» وحده، إنما يعيش كذلك «للواجب».

١٨

يدهشني في حياة الملكة فكتوريا تلك الإرادة التي استطاعت بها أن تفصل بين «واجبها» كملكة تحكم، و«قلبها» كامرأة تحب … إنها كانت مشغوفة بزوجها الأمير «ألبرت» ومع ذلك أقصته أول الأمر في قسوة عن دفة المُلك وشئون الحكم، وهو الرجل الذكي الواسع الاطلاع، فكانت تدرس هي معضلات الدولة وتتركه هو يقتل الوقت بالقراءة وعزف الموسيقى … «آه ما أحوجني أنا إلى مثل هذه المرأة التي تتركني أقرأ وأكتب وأسمع الموسيقى، وتنصرف إلى حمل المسئوليات وحل مشاكل العيش …» شيء آخر يعجبني في تلك الملكة العظيمة: أنها كانت تقرأ … إني أحب الملوك والقادة الذين يقرءون … تلك هي الوسيلة التي بها يعرفون حاجات شعبهم … لقد قرأت فكتوريا بعض قصص «ديكنز» التي يصف فيها شقاء الطبقات الفقيرة وأحسَّت وهي في أبراج قصرها ما يعانيه ألوف من البشر، يطؤهم ظلم أرستقراطية جامحة بعرباتها الفخمة وخيولها المطهَّمة … فأدركت من خلال سطور ذلك الأديب كيف أن في بلادها عالمًا آخر مهمَلًا يئن من الجوع والبؤس، ولا يلتفت إليه أحد … فتركت الملكة الكتاب وقامت صائحة مرتاعة لا يهدأ لها قرار حتى مدَّت يدها إلى أولئك المناكيد فرفعت عن أعناقهم نعال الفئة الباغية، وأطلقتهم يعيشون في هواء الحرية والرخاء كما يعيش الآدميون. في مصر والشرق بغي وبغاة، وظلم وظالمون من جميع الأنواع … وفيهما كذلك فقر وشقاء وجهل وظلام في كل ركن من الأركان … ولقد يسألني سائل: أين هو الأديب الذي يصف كل هذا البلاء، ويصور هذه الدنيا التعسة المهمَلة التي لم تمتد إليها يد إصلاح منذ أجيال؟ جوابي عن هذا السؤال بسيط: هات من يقرأ، أُحضر لك من يكتب … إن الطاهي لا يوجَد إلا إذا وُجد الآكلون … إن الشرق لن يتغير حتى يعلم قادته كيف يملئون أدمغتهم بكل ما يمكنهم من فهم حال شعوبهم … إن ربان السفينة لا يركب البحر قبل أن يعرف بعض أسرار الريح والماء ونجوم السماء … فلنرجُ دائمًا من يمسك بالزمام أن يمسك أيضًا بالكِتاب.

١٩

«كل شيء يزدهر في مملكة تمتزج فيها مصلحة الشعب بمصلحة الملك»، تلك كلمة قالها «لابرويير» في كتابه «الأخلاق»، تقابلها كلمة أخرى في كتاب للهند عن رجل دخل على مليكه فقال له: «أيها الملك، إن بقاءنا موصول ببقائك … وأنفسنا متعلقة بنفسك …» وضعتني هذه الأقوال لحظةً موضع التأمل وقلت في نفسي إن هذه النظرة إلى «الملك» لا يمكن أن تكون وليدة الأوضاع الاجتماعية وحدها أو المبادئ السياسية أو العقائد الدينية … فالشرق والغرب لا يتفقان هكذا إلا على شيء يخرج من منبع طبيعتنا الإنسانية … إن الشعوب منذ فجر حياتها كانت دائمًا ترى الأمة هي الجسم والملك هو «الرأس» بمعناهما الطبيعي «الفسيولوجي» … هذا صحيح لا ريب فيه، والملك هو الحاكم المطلَق في نظام الملوكية المطلقة … أما والأمة في النظم الديمقراطية هي التي تتولى الحكم فمن الحق أن نتساءل عن صحة تلك النظرة القديمة … قليل من التأمل يهدينا إلى هذه النتيجة: إن الأمم في شبابها كالفتى، تغري عقله كل مظاهر القوة وتسيطر على رأسه كل أحلام الفتوة، فهي تجمع كل السلطة لتعطيها ذلك الحاكم المطلق الذي يدير كيانها ويحرك جسمها ويهز عضلاتها، إلى أن تمضي أيام الصبا وفورة الشباب وتدخل الأمة في طور الرجولة والاستقرار، فتحزم أمورها المادية بنفسها، وتترك ملكها يشغل بما يشغل به الرأس الحقيقي من شئون الفكر ومسائل الثقافة … وهنا نرى الملك في الشعوب الديمقراطية قد انصرف عن وظيفة الحُكم المادي إلى وظيفة أخرى تشبه وظيفة الرأس في جسم الإنسان المفكر؛ فينقطع هو إلى التوجيه الفكري لأمته وتشجيع العلوم والآداب والفنون وختم كل مظاهر النشاط الأدبي والمادي في الدولة بطابع الحضارة … فالملك في كل زمان ومكان هو الرأس دائمًا، على أنه في الأمة الفتية رأس فتًى، وفي الأمة العريقة رأس رجل.

٢٠

كل شيء أمامي في الريف يرتل نشيد السلام … فشجيرات الفول الخضراء ترقص مع النسيم، وترسل في الفضاء من حولي أريج زهرها الأبيض كما ترسل القبلات المعطرة … والبقرة ذات الأهداب الشقراء تتمطى في أشعة الشمس كأنها حسناء تستيقظ في فراش دافئ … والكلب رابض قد أغمض عينًا وفتح أخرى تلقي على الكائنات نظرات الرضا والصفاء … والدواجن والهوام والأرض السمراء وجداول الماء، كلها بأصواتها الصغيرة وأزيزها اللطيف وصمتها الدائم وخريرها الهامس تتراءى للمتأمل كأنها تتبادل حوارًا خفيًّا مفعمًا بكلمات الود والحب والإخاء الأبدي، وكأنها جميعًا في حركتها وسكونها جوقة موسيقية تخضع ليدٍ غير منظورة كي توقع لحنًا متناسقًا أزليًّا لا يسمعه غير الأنبياء والشعراء.

صوت واحد نشز في أذني عن هذه المجموعة: هو صوت الإنسان … متى ظهر ظهرت معه الفوضى، ونشأ الخلاف حيث لا ينبغي أن يكون خلاف … تلك طبيعته … وقد تكون تلك أيضًا عبقريته.

جلس إليَّ رجلان لا يختلفان في الزي ولا في اللغة ولا في اللهجة … لكن سرعان ما سمعت أحدهما يقول لصاحبه: أنت فلاح … أما أنا فعربي.

فعُنيت بالأمر، وبادرت أسأل الرجل السؤال الذي طالما ألقيته في مثل هذا الظرف: وما الفرق بين الفلاح والعربي؟

فأجاب الرجل بذلك الجواب الذي سمعته كثيرًا في مثل هذا الموضع: مروءة العربي وشجاعته وشهامته وإكرامه الضيف وحمايته الجار … ثم … ثم شرف النسب.

لم يدهشني ذلك ولكن الذي أدهشني حقيقة، وقد لا يصدِّقني البعض إذا ذكرته، هو أن هذا الرجل غير المتعلم قد أشار إلى صاحبه وقال: أما جماعة الفلاحين فما هم إلا أولاد توت عنخ آمون!

عجبًا! إذن منشأ الخلاف بين العروبة والفرعونية ليس أدمغة المفكرين والمثقفين … إنما هو في الريف وفي قلوب ساكنيه!

٢١

فكرة الضحية وإهراق الدم قربانًا للمعبود لم تزل باقية إلى اليوم … فالوثنية قد خلقت تقاليد لم يكن محوها من اليسير … إن ذبح الخروف في العيد الكبير إن هو إلا ظل باهت لتلك العهود التي كان يُدفع فيها الآدمي للذبح عند أقدام الهياكل … ولكن الزمن غيَّر الشكل ولم يغير المبدأ … إن الإنسانية في تطورها لا تمحو شيئًا غُرس في طبيعة الإنسان من قديم … ولكنها تبدل في لونه وطلائه، وتعدل في ملامحه، وتكسوه ثيابًا أخرى، وتسميه اسمًا جديدًا يتفق مع روح العصر الجديد … فالإنسان لا يتغير … إنما هو يغير ريشه كالطيور، وجلده كالثعابين … ولم يغب ذلك عن حكمة الأديان … فهي في تعاقُبها لم تنسخ كل ما رسخ من عقائد الإنسان، ولكنها أخذت أكثر هذه العقائد بالرفق … فهذَّبت من وسائلها وغاياتها … فالضحية الآدمية جعلتها ضحية من الحيوان، والغاية منها وقد كانت إرضاء المعبود وحده، حوَّلتها إلى إرضاء الله بإرضاء الفقير في يوم العيد.

هنالك شيء ينبغي أن نتدبره إذا أردنا إحداث انقلاب في حياة البشر … الحذر كل الحذر من أن نقتلع شيئًا من جذوره … فإن ما نبت في قلب البشر لا يُقتلع … إنما نحن نستطيع دائمًا أن نهذب ذلك الغرس وأن نميل به إلى حيث تريد ريحنا … وأن نبدل بما نشتهي ألوان أزهاره وثماره، وأن نولِّد منه أقوى الأشجار، وهكذا نخرج للحياة، مما كان وعلى أساس ما كان، ذلك الذي يقول فيه الناس إن عين الشمس لم تره … آه، ما أصدق تلك الكلمة: لا جديد تحت الشمس … نعم … إن يد «الطبيعة» لا تبرز جديدًا ولا تميت قديمًا ولا تمحو من الوجود … ولكنا تعدل وتبدل في الموجود … فلنتذكر دائمًا أن لا شيء ينعدم في الطبيعة … وليست «المادة» وحدها هي التي لا تنعدم، كما يقول الكيمائيون … كل شيء لا ينعدم في هذا الوجود … إن الطبيعة لا تعرف كلمة «العدم» ولكنها تعرف كلمة «التحول».

ذلك أسلوب الخالق الأزلي!

٢٢

إني أتجنب دائمًا رؤية خروف العيد حيًّا قبل العيد، وأتحاشى أن أدنو منه أو ألاطفه أو أعقد بيني وبينه أواصر صحبة أو مودة، خشية أن تمضي ساعات فإذا هو أمامي مشويًّا في طبق، ينظر إليَّ بعينين يسيل منهما الدهن والزبد، نظرات كلها ازدراء لما تكشَّف له من خلقنا الإنساني المنطوي على الخيانة والغدر! إني أتخيل دائمًا معاني هذه النظرات الهادئة العميقة التي تنبعث من عيون هذه الحيوانات الوادعة الأليفة … إنها لأبلغ في إنسانيتها أحيانًا من بعض نظراتنا الآدمية، التي يشع منها بريق جشع حيواني، ونهم مفترس، قد لا تعرفه غير الضواري والكواسر!

إني لأتخيل الحديث الذي يمكن أن يدور بيني وبين هذا الخروف لو أنه مُنح القدرة على الكلام: لماذا صنعتم بي هذا؟!

– لمجدك الأبدي.

– مجدي الأبدي! هذا الذبح والسلخ والحرق مرة في كل عام على مدى الدهور والأيام!

– نعم، هو مجدك الذي ينبغي أن تتيه به وتفخر وتُزهى على غيرك من الحيوان! إن دمك يُراق من أجل فكرة، وحياتك تُضحَّى في سبيل عقيدة!

– آه للإنسان، ما أبرعه في إلباس صغير الفِعال رائع الثياب!

– نعم، هنا مفتاح سموِّنا وسر عظمتنا!

– هنا الفرق بيننا وبينكم.

– نعم كل الفرْق.

– إن الغرائز السفلى ما زالت هي الناموس الأعظم لنا ولكم … ولم تستطيعوا مع قدرتكم وقوَّتكم أن تخرجوا عن نطاقها قيد أنملة.

– ولن نخرج.

– إنما كل عملكم أن تضعوا على حقائقها العارية رداء، كما وضعتم على أجسامكم العارية لباسًا … نحن العارون جسدًا وروحًا، وأنتم الكاسون جسدًا وروحًا … أما بعد ذلك فلا اختلاف بيننا وبينكم.

– هذا صحيح يا سيدي الخروف!

٢٣

حدث في الأسبوع الماضي أمرٌ أحب أن أسجله هنا: هو قيام القيامة في الجامعة ضد كتابيْن قيِّميْن، لأنه قد ورد فيهما طعن في الإسلام.

لا أريد أن أنظر إلى الأمر من ناحية التفكير الحر، ولا من حيث تأثير هذا الموقف في الحياة العقلية لبلد متحضر … ولكني أريد أن أبحث المسألة من جهة الدين نفسه … وهنا يبدو لي العجب: لماذا كل هذا الفزع كلما وقع بصرنا على عبارة تمس الإسلام؟ إن الكتب التي عالجت المسيحية وتعرَّضت للمسيح بالطعن والتجريح تُطبع وتُنشر في أوروبا المسيحية دون أن يخشى أحد على كيان المسيحية … ذلك أن الجميع يعلمون أن الأوان قد فات للخوف من مثل هذه الصيحات، وأن المسيحية التي عاشت عشرين قرنًا لا يهدمها عشرون كتابًا … كذلك نستطيع أن نقول في الإسلام … إن هذا الدين المتين الذي عمَر نحو أربعة عشر قرنًا وثبَت لأحداث الزمان، وشاهد دولًا تدول وعروشًا تزول وشعوبًا تولد وإمبراطوريات تُقام، لا يمكن أن يتعرض للخطر أمام كتاب يؤلَّف أو عبارة تُقال … إن هذا الفزع منا لأكبر مسبة لدين عريق عميق … كذلك يدهشني أن ينشأ هذا الفزع في جامعة عصرية، يؤمها شباب قد قطع مراحل الطفولة والصبا الأول وانغرست في قلبه العقيدة الحارة، فلا خوف الآن عليه من مناقشة المسائل العقلية في جو الحرية.

إني أعتقد دائمًا أن صحة العقل وصحة العقيدة كصحة الجسم، لا بد لها من الهواء الطلق حتى تكتسب المناعة … وأن حبس العقيدة والعقل في قفص من الزجاج، خوفًا عليها من خطرات النسيم، معناه إنشاؤهما على بنية عليلة وكيان سقيم.

٢٤

كلما ارتقى فكر أمة انصرفت إلى إتقان الصناعة وحذق الوسائل الفنية، وشعرت في الحال بافتقارها إلى المواد الأولية … فالصناعة غولٌ فاغر فاه يريد أن يلقف أكبر مقدار من المادة ليحولها إلى خلق جديد له وزن وثمن … أما الأمم العادية فهي مشغولة في أغلب الأحيان بإنتاج المادة الخام.

كذلك الحال في دولة الأدب والفن … فإن الأديب أو الفنان قبل أن يصل إلى مرحلة الانقطاع للفن والصناعة يكون شأنه شأن عامة الأفراد: يعيش الحياة المفعَمة بشتى الحوادث، الزاخرة بألوان المادة الصالحة، حتى يدعوه الفن إلى سمائه، فإذا هو يرى أن حذق أساليب الفن وإتقان أسباب الصناعة أمر لا بد له من تكريس حياة بأكملها … فإذا هو قد انصرف عن حياة الناس العادية بما فيها من وقائع هامة وتافهة وأحداث هائلة أو حقيرة … وانعزل في شبه «معمل» فني أو مصنع فكري يجوِّد فيه وسائله ليملك ناصية ملكاته، إلى أن يحس من نفسه أنه قد قطع في هذا السبيل شوطًا كبيرًا وأنه قد غدا صاحب صناعة … فيلتفت، فإذا أيامه التي قضاها في مصنع الفن قد فصلته عن الحياة الرحبة الصاخبة الزاخرة، وإذا حياته الآن فارغة إلا من جواهر الفكر ولُباب التأمل وتجارب الصناعة القلمية أو الفنية … وإذا هو محتاج لاستعمال فنه وصناعته إلى مواد أولية لا يدري من أين يأتي بها … لذلك يرجع أحيانًا إلى حوادث الماضي فينسج من ذكرياتها تلك الأثواب الجميلة التي تخرج عن مصنع فكره وفنه … لقد لحظ ذلك مرة شارلز ديكنز فقال وهو في سن الستين:

«إني دائمًا أتغذى وأغذي قصصي ومؤلفاتي بذكريات الطفولة والصبا!»

ما الأديب ذو الصناعة إذن إلا دولة صناعية في حاجة دائمة إلى المواد الأولية.

٢٥

«هل كانت علومك المدرسية ذات أثر فعَّال في إظهار مواهبك الأدبية!» هذا السؤال ألقته مجلة أدبية فرنسية على الروائي دورجليس، فأجاب: «إن الرجل الذي يهجم على الأدب وهو مزوَّد بتكوينه المدرسي وحده لا يمكن أن يكون غير كاتب ضعيف» … وقال الشاعر بول فاليري في مثل هذا المقام: «إن أساتذتي في المدرسة كانت لهم عن الأدب فكرة تدعو إلى الرثاء … يُخيَّل إليَّ أن الغباء وفقر الذهن وبلادة الشعور وضعف التصور وانعدام الخيال مواد مقرَّرة رسميًّا في المناهج الدراسية!»

لو سُئلت أنا أيضًا لما خرجت إجابتي عن هذا المعنى … فلقد فعلت المدرسة كل شيء لتُنفِّرني من الأدب، وتخيفني من اللغة … فوضعت بين يدي أسمج الكتب العربية معنًى وفكرًا، وأعسرها لغة وأسلوبًا، وأبعدها عن مخاطبة النفس المتفتحة لجمال الخليقة … لقد علمتني المدرسة كراهية الشعر العربي … وقد لبثت زمنًا لا أطيق الإصغاء إلى بيت واحد من ذلك الشعر السخيف الذي أُرغمنا على حفظه إرغامًا … شعر ليس فيه قطرة من ماء الشاعرية … إنما هو ضرب من تلك الحِكم والمواعظ المنظومة التي لاكتها الألسن ومضغتها الأفواه حتى أصبحت «تفلًا» جافًا لا نفع فيه … تلك مادة غذائنا الذهني … أما إذا اجتهدنا فقرأنا كلامًا جميلًا خارج المدرسة فإنا لن نلقى من المعلم غير التجهم والاستنكار.

وأذكر أن الأدب الإنجليزي أوحى إليَّ كتابة قصة تمثيلية صغيرة وأنا في المدرسة الثانوية فرفعتها فخورًا إلى مدرس الأدب العربي، فكان جزائي الإهمال المهين … على أن من الإنصاف أن أذكر أن معلِّمًا شجاعًا تجرَّأ يومًا فأطلعنا على أبيات عذبة رائعة للعباس بن الأحنف فأشرقت وجوهنا وانطلقت من قلوبنا آهة العصفور الذي أفلت من قفص وحلَّق في فضاء الطبيعة الباسمة الجميلة … فارتعد المدرس المسكين والتفت إلى باب القاعة خائفًا، كأنه اقترف جُرمًا هائلًا … منذ ذلك اليوم أدركت أن هنالك كنوزًا في عالم الأدب والشعر يخفونها عن عيوننا المتطلعة.

٢٦

سألني أديب: ما هو الأدب المصري؟ فقلت: ليس من السهل عليَّ الكلام في الأدب المصري … ولئن كنت قد فهمته ذات يوم على وجه من الوجوه، فإني الآن أريد أن أفهمه على وجه جديد، وأن أسير في طريق آخر … إن الفن في رأيي كالعلم … لذته في إحداث التجاريب … وما أحسب أني أصنع في الأدب والفن غير مجرد تجارب قد لا تؤدي إلى شيء … فإذا كنتَ جئتَ تلتمس عندي رأيًا قديمًا في الأدب المصري فإنك قد وقعت اليوم على رجل لن يقول لك ما أردت أن تسمع منه.

إنك تطلب إليَّ أن أقنعك وأقنع الناس برأي … ولكن أنا نفسي أريد أن أقتنع.

عقيدتي أن الأدب لا يتحدد معناه بالكلام، إنما يتحدد بالعمل … إن معالجتي مختلف الأساليب من عامِّي تارة ومن فصيح تارة أخرى، وتنقُّلي بين قوالب شتى في القصص التمثيلي والمرسل، وأنواع كثيرة من جد وهزل، لا يمكن أن يفسَّر بشيء إلا أنه بحث طويل عن ذلك الاقتناع الذي تسألني عنه.

إن أولئك الذين انتقدوا استعمالي بعض الأساليب لم يدركوا أن هذا كان لمجرد البحث وأن هذا لا يعني التمسك والدفاع عن أسلوب بعينه … إني الآن على الأخص بعيد كل البعد عن الاعتراف بكل تلك الأساليب … إني في حاجة إلى أن أهدم دائمًا ما أصنع لأعيد التجربة من جديد … إنك تحسبني أبالغ … ولكني أضع بين يديك المعضلة حتى تتبين مرمى هذا الكلام: إن الأدب المصري مرآة صافية لهذا البلد يصور أرضه وحياته وأهله.

هكذا يقول بعض الأدباء، وليس هنا موضوع القضية … إنما المسألة: كيف نصور حياتنا؟ بأي الوسائل وأي الأساليب؟ أنستجلب وسائلنا من الغرب ومستحدثاته وما وصل إليه من جد وكد وتجاريب؟ أم نتخذ وسائل الشرق بعد أن نضعها موضع البحث ونجري عليها التجارب حتى تخرج منها قوالب جديدة تستطيع أن تشيع في الغرب وتؤثر فيه كما أثَّر فيه القالب الشعري «الرباعيات»؟ إن الذين يريدون وسائل الغرب ينادون بالقصة … ولا بأس في ذلك، لأن القصة أيضًا خَلق شرقي قبل أن تكون في أدب الغرب … إنما الكلام: أنرجع بالقصة إلى منابعها الأولى في الشرق ومن ثمَّ نجري عليها الأعمال ونفرِّع منه الأشكال؟ أم نقبل من دون جدال ما أدخله الغرب عليها من تجديد؟

جوابي على مثل هذه الأسئلة الآن لا فائدة فيه … إني كما ذكرت ينبغي أن أجيب بطريقة أخرى: أن أغرق زمنًا في الكتب القديمة وأن أمسك بالقلم وأن أكتب صفحات لا عدد لها، تُمزَّق آخر الأمر ولا يبقى منها غير وريقات قليلة أنظر فيها كي أقول لك بعدها إن التجربة ألهمتني الجواب.

٢٧

تمر بي في الحياة لحظات أود فيها لو أسأل الله أن يفك أجزائي ويعيد بنائي، طبقًا لشروط أخرى و«مواصفات» جديدة، كما يقال في لغة أهل العمارة والهندسة، ولكن، سرعان ما أذكر كلمة «باسكال»: «لو أن أنف كليوباترا كان أكبر قليلًا مما كان لتغير وجه التاريخ» … هذا صحيح … ومن يدريني … لعل قائلًا يقول في أمري غدًا: «لو أن أنفه كان أصغر قليلًا مما كان لتغير وجه الأدب العربي الحديث» … ولكن الواقع الذي أوقن به أن تركيب الإنسان كتركيب العقاقير … فقليل من «السلامكي» على قليل من الشَّمر والينسون ينتج «مليِّنًا» للأمعاء … كذلك حياة كحياتي مع قليل من ميولي وقليل من مطالعاتي … يُنتِج أدبًا كأدبي … فكيف إذن يغير الله بعض عناصر تركيبي دون أن تتغير النتيجة كل التغيير؟ وما الذي يحمله على ذلك إلا رغبتي؟ ومتى كنا نُخلَق طبقًا لرغباتنا؟ لقد قرأت يومًا كلمة عني في إحدى الصحف يقول فيها كاتبها: «إنه يريد أن يعيش لفنه، ولفنه فقط» … فابتسمت وقلت: «أنا أريد؟» وهل لإنسان الحق في أن «يريد»؟! لو أني أردت أن أعيش لشيء آخر غير فني لما استطعت … كلمة «أريد» تبدو ساذجة مضحكة من أفواه البشر وهم في حضرة «القدر» … أنا لا أريد لأني لا أستطيع أن أريد … ما أنا إلا تركيب كيمائي مثل ذلك «المليِّن»، لا بد له «بهذه العناصر مجتمعة» أن ينتج هذا «المفعول» الذي يسمونه «الفن» أو «الأدب».

لا فرق في نظر «الطبيعة» بين «النحلة» و«الأديب» … كلاهما مخلوق يتنقل بين أزهار لينتج عسلًا آخر النهار … ومن هذه «المادة» الحلوة يصنع أحدهما بناء فصيلته ويقيم الآخر بناء أمته … ولو سُئلت «نحلة» عن رأيها فيما تفعل لما وجدنا عندها رأيًا ولا إرادة، إنما هي تفعل ما تفعل بدافع من تركيبها «البيولوجي» … كذلك «الأديب» مدفوع إلى التفكير والإنتاج بحكم هذا التركيب … ولطالما تفجرتُ ثائرًا: «لماذا ولمن أقتل نفسي بهذا العمل المضني؟» فأسمع الجواب من أعماقي: «إنك لا تنتج لشيء ولا لأحد … ولكن لأنك لا تستطيع أن تفعل غير ذلك، ما أنت إلا نحلة تفرز «الأدب» شاءت أو كرهت.»

٢٨

لبعض القراء ملاحظات تدل أحيانًا على جهل بطبيعة الأدب … من ذلك أن يعيبوا على الأديب تحدثه عن نفسه … أمثال هؤلاء القراء لا بد أن يكونوا من تلاميذ المدارس أو المتخرجين فيها حديثًا … فهم يخلطون بين «معلم المدرسة» وبين «الأديب الفنان»؛ فمهمة «المعلم» الأولى أن يلقن أصول المعارف وأن يفرِّغ في أذهان النشء مادة بعينها بغير أن يكون لشخصه دخل في الأمر … أما «الأديب الفنان» فلا يلقن شيئًا ولا ينبغي له … لأنه يخاطب قومًا يُفترض فيهم أنهم قد جاوزوا مراحل الدرس، فهو يُخرج لهم عصارة العلوم والمعارف والتجارب مقطَّرة من خلال «نفسه». إن كل ما نطلبه ونرجوه من رجال الأدب والفن أن يحدثونا عن كل خلجة من خلجات نفوسهم، وكل دقيقة من دقائق حياتهم وكل لمحة من لمحات أبصارهم، وكل ناحية من نواحي إحساسهم. إن «نفس» الأديب العارية هي كل ما ينبغي أن يضعه تحت أنظارنا … ومن لم يفعل ذلك فليس مطلقًا بأديب … فالأديب هو الآدمي الوحيد الذي خُلق لكي يفتح لنا نفسه لنرى من خلالها النفس البشرية قاطبة … ويتحدث إلينا عن نفسه فنرى من خلال حديثه كل تجاريب الإنسانية الشاعرة … وإن كل رجال الأدب العِظام ليسوا إلا آدميين حدَّثونا طول حياتهم عن أنفسهم … بوسائل شتى … وأنا كقارئ لا يروقني شيء مثل قراءة المذكرات التي يكتبها الأدباء والعظماء عن حياتهم الخاصة … والخطابات والرسائل التي تتناول مسائل تمس أشخاصهم … فنحن في تلك الكتابات المجرَّدة عن أثواب التكلف والصناعة نستطيع أن نهبط إلى أغوار تلك النفوس الرحبة الغنية، كما يهبط الغواص فجأة إلى أعماق البحار، فيفاجئ اللآلئ في أصدافها لم تمسها بعدُ يدٌ غريبة، تنتزعها لتدخل عليها زيف الصياغة … إن الفنان إذ يحدثنا عن نفسه وفنه وحياته الخاصة إنما يقدم لنا مادة فنية غير مصنوعة، إنما يترك رداءه الرسمي ليخرج إلينا بثياب البيت، في غير كلفة كأنه صديق … وهذا منتهى الإخلاص منه ومنتهى التكريم لنا.

٢٩

ها أنا ذا أهبط إلى برجي العاجي مع الشتاء … في الوقت الذي يهبط «الأب نويل» مع عيد الميلاد … إني أرى لحيته الطويلة البيضاء تمتد حول الكوكب الأرضي … لقد كان طرفها بالأمس في بلاد الجليد فإذا هي اليوم في بلاد الشمس والهلال … لقد طفت بالمدينة فرأيت عجبًا … لقد انقلبت القاهرة رأسًا على عقب … أنوار وأعلام وزينات وأفراح … والناس جميعًا مشغولون بإعداد سهرات العيد … والمسلمون قبل المسيحيين … والشرقيون قبل الغربيين … يتسابقون إلى الاحتفال بعيد ليس عيدهم … ولكنهم يريدون تقليد الأجانب … بل إني لأعرف بيوتًا وأُسرًا شرقية مسلمة تقيم في منازلها «شجرة الميلاد» أسوة بالأوروبيين … نعم، لقد ذهبت أعياد الشرق … فلم يعد أحد يأبه لعيد الأضحى أو الهجرة أو ليالي رمضان … إن أعيادنا تُقبل علينا فلا نبسم لها ولا نتأهب ولا نخرج لاستقبالها، إنما نحبس أنفسنا في بيوتنا كأننا نخجل منها ومن أنفسنا، فإذا جاءت أعياد الأجانب أسرعنا فخرجنا لها باشِّين مهللين، نحن في بلادنا نشارك الأجنبي في أعياده وهو على أرضنا لا يشاركنا في أعيادنا … وبذلك أفهمنا الأجنبي وعلَّمنا آلنا وأطفالنا منذ الصغر ازدراء ما هو شرقي واحترام ما هو غربي … وهكذا أثبتنا للعالم أن مجرد وطء أقدام الأوروبي أرضنا كافٍ أن يزلزل حصوننا المعنوية … نعم … لقد كان الغرب يخطر على باله كل شيء إلا أن الشرقي ينبذ من أجله حتى أفراحه الشرقية التاريخية العريقة بألوانها الزاهية وطابعها الأصيل … إني ليُخيَّل إليَّ أنَّ الغربي ذاته، ذلك الضنين بتقاليده، الحريص على تجميل خرافاته، يدهش لرؤيته وجه الشرق قد انطمست ملامحه بهذه السهولة وضاعت معالمه من الرءوس والنفوس وزال رسمه الحقيقي، إلا من تلك الصفحات الرائعات التي سطَّرها أمثال بيير لوتي وجيرار دي نرفال من الأوروبيين أنفسهم، الذين أُعجبوا بالشرق يوم كان الشرق يحتفظ برداء شخصيته، فلا يخلعه ليجري عاريًا كالشحاذ خلف الغرب … إني لم أرَ قط باعَتنا يصيحون «بعرائس مولد النبي» في الطرقات ولكنهم صاحوا البارحة بنداءٍ شقَّ الفضاء: «الأب نويل بقرش أبيض … الأب نويل بقرش أبيض!» وبهذا تم لذي اللحية البيضاء غزو الشرق!

٣٠

سألني من أيامٍ مؤلفٌ من المؤلفين عن فكرة غريبة قال أنها جالت بخاطره:

«ترى ماذا يفعل الإنسان إذا علم أنه سيموت بعد عام؟»

فقلت له: الجواب يتوقف على معرفة نوع هذا الإنسان وطبيعته وعمله.

فقال: أنا وأنت مثلًا … ماذا كنا نصنع؟

فأجبته على الفور: أنا وأنت؟ كنا ننكب في الحال على التأليف والكتابة ليل نهار.

فقال في دهشة: كنت أحسبك تقول العكس … وترى أن قرب الموت قد يجعلنا نطلِّق العمل ونفزع إلى حياة اللهو والمتعة أو على الأقل حياة الهدوء والراحة.

– نحن يا صاحبي نفعل ما يفعله كل أبٍ بارٍّ … فما الذي يصنعه الأب البار بأبنائه حينما يدنو منه الموت؟ ألا يتمنى أن يتركهم وقد اكتمل نضجهم، ألا يفكر ليل نهار في إتمام تربية هذه الأكباد حتى تقوى على المشي فوق الأرض؟ وأنا وأنت لسنا أكثر من آباء، لنا أكباد تمشي، لا على الأرض … لكن على الورق … فكيف نموت وفي خزائن أحدنا صفحات من كتاب لم يكتمل … وعلى مكتب الآخر قصص تعج بأشخاص نصف أحياء يطالبون بحقهم في الحياة، ويمسكون بتلابيب «مؤلفهم» لا يدَعونه يموت قبل أن ينفخ فيهم بعض الروح! إنه ليُخيَّل إليَّ أحيانًا أن حياتنا متصلة بحياة إنتاجنا وأن في أعماق كل «خلَّاق» شبه غريزة داخلية تدفعه إلى الإنتاج البطيء أو السريع تبعًا لطول حياته أو قصرها … إنا قد بعنا أنفسنا لشيطان «التأليف» ولن يتركنا هذا «الشيطان» في راحة إلا عندما نلفظ النفس الأخير.

٣١

يقع لي أحيانًا أن أهبط محلًّا عامًّا فيتقدم إليَّ شخص لا أعرفه، يحيِّيني تحية رقيقة ويقول: «أحد قرائك المعجبين»، ثم يمضي دون أن يزيد … ويحدث لي دائمًا في كل عيد أن أفض البريد فأجد بطاقات التمنيات ورسائل التهاني كأنها باقات الورد من قراء كرام لم تبصرهم عيني ولم يروني إلا فكرة تعيش في سياج السطور على أديم الصفحات.

هنا معنى الاتصال الروحي، أرفع ألوان الاتصال، وأسمى أنواع المشاعر … وإني ليملؤني العجب حينًا، ويداخلني الزهو أحيانًا إذ أجد في الشرق مثل هؤلاء القراء!

لكن مهلًا … فيمَ العجب؟ ألسنا القائلين إن الشرق هو قلب «الروحانية» النابض؟

إنما المدهش حقًّا هو أن نرى قراء الغرب يبعثون كل صباح ملايين الرسائل إلى كُتابهم المحبوبين! نعم، أين هذا الاتصال الروحي من ذلك! إذا قلنا إن الفرق في عدد القراء وانتشار الأمية أو التعليم هو السبب، لكذَّبتنا الأرقام والنِّسب، ولتبين لنا آخر الأمر أن الشرق متخلف في هذا المضمار على كل حال.

إن عيب الشرق هو «الكسل» … والقارئ الشرقي على وجهٍ عامٍّ رخو المزاج فاقد النشاط … إنه يطالع وتتأثر نفسه ويتفتح قلبه، ثم لا يلبث أن يتثاءب ويلقي الكتاب وينسى المؤلف وتخمد فيه الجذوة … ثم هو بعد ذلك كثير الإهمال قليل الاكتراث … فأين القوة الداخلية التي تدفعه إلى طلب الاتصال بذلك الروح الذي أنِس إليه؟

إنه «يستهلك» مادة الكتاب مثلما يستهلك مادة الطعام، دون أن يلقي بالًا إلى الطاهي الذي أعده لمائدته … وهكذا يتكشف الأمر عن هذه النتيجة العجيبة:

إن روحانية الشرق قد هبط بها «كسل النفس» إلى المادية، وإن مادية الغرب قد ارتفع بها «تيقظ النفس» إلى الروحانية!

٣٢

إن الحرب المستعرة المستترة داخل نفسي منذ ولدت، تلك الحرب التي لم تعرف يومًا الهدنة ولا السلام، جعلت مني رجل كفاح، دون أن أشعر أو أريد … إني لم أذق قط طعم الاطمئنان … إني لم أنعم قط براحة الاستقرار … لكأني دائمًا أمتطي ظهر جنيٍّ، وأركض خلف صيد وهْمي … ليس في الأرض حد يقف عنده ركضي … ماذا أريد؟ وماذا يُراد مني؟ لست أدري … إنه كفاح داخلي أَثْخن نفسي بالجراح … لكأنَّ القدر أراد إنشاء روحي على احتمال الطعنات … فقوة الروح هي في طاقتها هضم الألم، كما تهضم المعدة القوية بعض السم في الدسم … إن الرجل القوي ليس ذلك الصحيح الذي يعيش بمنجًى عن مرمى السهام … بل هو ذلك الجريح الذي يتلقى بجسده النصال من كل مكان، ويبقى جامدًا صامدًا. كان الأنبياء والعظماء من هذا الطراز؛ إن منظر النبي محمد وقد حثَا الناس على رأسه التراب، ومنظر المسيح وقد توَّجوه بإكليل الشوك، ليملؤني إيمانًا بأن العظمة هي في الكفاح، وأن أروح الكفاح هو كفاح النفس في سبيل احتمالها الضربات في صبر وابتسام … لقد أصابني ما يدمي من سهام الأقلام … ولكني كنت أقول في نفسي: «إني إذن حي؛ فالكاتب الحي هو الذي يُنهش كاللحم الحي، لأن الجيَف لا تُطعن ولا تُنهش، وما دمت حيًّا، فلا شيء في الأرض يمنعني من الركض على جواد الكفاح!»

٣٣

كنت أشكو ذات يوم عسرًا في الهضم وقلة في النوم، وأضيق ذرعًا بالأدب والأدباء، وإذا زائرٌ أديب يلح في طلب رؤيتي ولا يريد أن ينصرف حتى يُجاب إلى ما طلب، وعلمت أنه ممن لم يسبق لهم أن رأوني، فخطر لي خاطر سريع؛ ناديت تابعًا لي وأجلسته إلى مكتبي وطلبت إليه أن يقابل الزائر باسمي، وانتحيت جانبًا أقرأ إحدى الصحف. ولم يلبث الزائر أن دخل وسلم على تابعي في احترام قائلًا: يا أستاذ، إني سعيد جدًّا إذ استطعت أن أراك؛ فأنا من قرائك المدمنين، اقتنيت كل كتبك، وطالما رسمت لك في مخيلتي صورة أراها الآن طبق الأصل … فالحمد لله لم يخب ظني في شيء، إني أراك الآن كما تخيلتك من بين سطورك.

فطرحت من يدي الصحيفة ونظرت إلى الرجل محملقًا. أهذا الرجل جادٌّ صادق؟ لا شك عندي في ذلك، فكلامه مفعَم بالحرارة والإخلاص، ولكن كيف انطبقت الصورة «طبق الأصل» على غير الأصل بهذه السهولة؟! وجعل هذا الزائر يكثر من ترديد اسمي ويسبغه في اقتناع على سكرتيري الجالس إلى مكتبي، فشعرت بخلجة من شك هزت نفسي. ماذا بقي مني إذن؟ هذا هو «توفيق الحكيم» إلى مكتبه كما يعتقد الآن هذا الزائر، وتلك صورته كما ظهرت له من بين السطور. أما أنا فشيء لا علاقة له بهذا الرجل ولا بما قرأ. اسمي قد انفصل عني وانتُزع مني تلك اللحظة كما تنتزع الإمضاء عن «الكمبيالة»! وما أنا في تلك الساعة إلا كتلة من لحم ودم ملقاة على مقعد. وقد خُيِّل إليَّ أن لفظ «توفيق الحكيم» ليس أكثر من علامة أو «ماركة» توضع فوق كتب مثل ماركة «الفابريقة» فوق علب «الساردين»! إن بعض «الأسماء» لتتخذ لها أحيانًا حياة مستقلة عن أصحابها. وهذا «الاسم» هو وحده الذي يُباع ويُشرى في سوق الكتب والوراقين، ولدى الصحف والمجلات، أما الشخص، فقد لا يعني أمره كثيرًا من الناس. ولأول مرة أدركت أني غير موجود في نظر الجمهور باعتباري «شخصية آدمية» إنما الذي يعاملونه هو «الشخصية المعنوية». فمثلي في ذلك إذن مثل شركة «النور» و«الغاز» و«المياه»!

٣٤

في حياتي الفنية جانب مجهول أردت ألَّا أعترف به ورأيت أن أقصيه وأن أسدل عليه الستار؛ لأنه في نظري اليوم لا يتصل بأدبي ولا يجوز أن يدخل في عداد عملي … ذلك هو عهد اشتغالي بكتابة القصص التمثيلي لفرقة «عكاشة» حوالي عام ١٩٢٣م … غير أن المصادفة شاءت أخيرًا أن ألتقي بمن يُذكِّرني بهذا العهد، ويعرض عليَّ طرفًا مما كنا نعمل في ذلك الحين … ذلك روائي اشترك معي في قطعة موسيقية قام بتلحينها المرحوم كامل الخلعي … ثم انقطع عن الفن منذ ذلك الوقت وشغلته شئون الحياة … ثم اختلينا فجعل ينشد لي بعض أغاني رواياتنا القديمة وأنا في ذهول! شد ما تغيرتُ أنا وتغيرتْ نظرتي للفن مرات ومرات خلال تلك السنوات! ولكنه باقٍ كما كان على احترام تلك القواعد والمُثل التي كانت هدفنا ومرمى أبصارنا في الكتابة المسرحية … إنه فيما خُيِّل إليَّ لم يقرأ شيئًا مما أكتب وأنشر اليوم … فهو لا يعترف بعملي الآن … وهو إذ يحادثني في شئون الفن لا يبدي اهتمامًا ولا إعجابًا إلا بما كنت أصنع قبل ثمانية عشر عامًا … أما اليوم فأنا في نظره غير موجود … إنه يذكِّرني بأشخاص رواياتنا الغابرة كمن يذكِّر بأناس من أهل الحسب والنسب والكرم والشهامة لن يجود بمثلهم الزمان … فهو يترحم عليهم ويقول: «مضى كل شيء! ولن نرى مثيلهم أبدًا على خشبة مسرح من مسارح اليوم!» … هذا صحيح … وجعلتُ أتأمل قوله لحظة فخامرني شك في أمري اليوم وقلت في نفسي: «ألا يكون هو على حق؟ وأكون أنا قد ضللت وانحرفت عن طريق الفن الحق! إن فن المسرح فن مرجعه السليقة السليمة لا الثقافة الواسعة … إنه شيء والأدب شيء آخر … أتراني محتاجًا إلى ثمانية عشر عامًا أخرى لأكر عائدًا إلى ذلك النبع الذي بدأت منه ونأيت عنه؟»

٣٥

مَن المسئول عن فتور الحركة الأدبية الملحوظ في مصر؟ لا ينبغي أولًا أن نعلل ذلك بالحوادث الدولية، فإن الفتور كان دائمًا موجودًا في جونا الأدبي قبل أن تنشأ هذه الظروف … ثم إن المشاكل السياسية وتأثيرها في النفوس والشعوب لم تحلْ في أوروبا دون اهتمام الناس بشئون الفكر وعناية الجمهور بالكتب والأدب. فما زالت الصحف الأدبية تتحدث هناك عن ظهور الكتب الجديدة والأدباء الجدد بعين الحماسة التي تتحدث بها في كل زمان … وما زالت المسابقات الأدبية والجوائز السنوية تهز الناس وتثير نشاط الكُتاب كما تفعل في كل حين. فأحداث السياسة مهما يعظُم خطرها لا يمكن أن تشل في أي بلد متحضر حركة الفن والفكر … فالأمة الراقية شأنها شأن الإنسان الحي مهما يعرض له من الحوادث فإن رأسه دائمًا هو الرأس اليقظ الذي لا يني عن التفكير.

إذن ما بال هذا الرأس في بلدنا نائمًا؟ وما بال الناس لا يشعرون أن في مصر أدبًا يتحرك ويتطور، وأن فيها أدباء يعملون وينتجون؟ ما يكاد يمضي شهر حتى تخرج المطابع كتبًا في الشعر والنثر … وما يكاد يوم يولي حتى يجيئني البريد بكتاب جديد أو بديوان شعر جديد … كم من الأدباء الجدد والكُتاب الناشئين يُخرجون عندنا في كل عام أعمالًا جديرة بالكلام؛ بل كم من الأدباء الناضجين ينشرون آراء خليقة بالمناقشة؛ ولكن كل ذلك يمر في فتور كأنها نسمات في مدينة الأموات … ما العلة؟ العلة بسيطة: ما من أحد في هذا البلد يبدو عليه التحمس الملتهب لشئون الفكر والأدب … إن علة الفتور هي الأدباء أنفسهم … إنهم في ميدان الأدب أقل نشاطًا منهم في ميدان السياسة مثلًا … إنهم يكتبون في الأدب وكأنهم ناعسون … إن أقلامهم لا تثير في جو الفكر حراكًا … وهنا الفرق بين أدبائنا وأدباء أوروبا … إنهم هناك في يقظة أدبية، ومَن كان في يقظة استطاع أن يوقظ الآخرين.

٣٦

إني من الذين يعتقدون أن في مصر اليوم نهضة ملحوظة في الأدب والفن، وأن الأدباء والقراء يزدادون يومًا بعد يوم … على أن الذي يسترعي الالتفات ويدعو إلى القلق هو أن نتاج الذهن لم يبلغ بعد في قيمته المادية وأثره الاجتماعي المستوى المطلوب … لماذا؟ لأن هنالك عنصرًا آخر في هذا الشأن ما زال مفقودًا … إن قوة الأدب والفن في أمة لا ترتكز فقط على طائفتَي الأدب والقراء … هنالك طائفة ثالثة عليها يقع قسط كبير من عبء العمل، وإليها يُنسب بعض الفضل في إذاعة نتاج الذهن وإيصاله إلى متناول كل يد، وإحداث الضجيج حوله، والإعلان عن خطره … أولئك هم الوسطاء والتجار والناشرون … ففي فرنسا مثلًا ما يكاد يظهر كتاب جديد في باريس اليوم حتى تجده في صباح الغد معروضًا في أصغر قرية من قرى الريف الفرنسي … ووسائلهم في ذلك بسيطة، أوجِّه إليها نظر تجار كتبنا الكسالى المتواكلين. إنهم يعلمون أن الكتاب لا يُطلب عادة إلا في المحطة عند السفر؛ إذ هو خير أنيس في وحدة القطار … فتراهم قد جعلوا في كل محطة صغيرة أو كبيرة عربة يد صغيرة كتلك التي توضع عليها عندنا «البسطة» والفطائر والمأكولات … يعرضون عليها كل مستحدَث من الكتب، ويعهدون بها إلى صبي يمر بها على الرصيف أمام كل قطارٍ مارٍّ … هنا في مصر توجد فكرة عرض الكتب والمجلات في المحطات، ولكن الذي يؤسَف له حقًّا هو أن مصلحة السكة الحديدية المصرية قد منحت هذا الامتياز لرجل رومي لا يعرض غير الكتب والصحف الإفرنجية؛ لأن هذه المصلحة لا تنظر إلا إلى راحة المسافر الأجنبي والسائح الإفرنجي؛ أما نشر ثقافتنا في أنحاء بلادنا على يدها فهو مشروع لم تفكر بعدُ فيه.

لذلك سيظل الأدب والفكر وكل ما يتعلق بالتثقيف الذهني والروحي في بلادنا محصورًا في محيط محدود.

٣٧

يتساءل بعض الناس كيف لا يستطيع أدباؤنا أن ينتجوا إنتاج أدباء الغرب؟ أما أنا فأتساءل كيف استطاع أدباؤنا أن ينتجوا إطلاقًا، ولماذا هم ينتجون؟ إن موقف أدبائنا اليوم ليدعو إلى العجب … إنهم في موقف لم يقفه أدب ولا أدباء في عصر من العصور … إن المعروف في كل عصر أن الأدب يرعاه دائمًا تشجيع طبقة من الطبقات … ففي عهد الأرستقراطية كان في كنف الملوك والخلفاء والأمراء والنبلاء … يتبارون في حمايته … ويتسابقون في إعلاء كلمته … وفي عهد الديمقراطية الحديثة وانعدام الأمية انتقل أمره إلى يد الشعب المتعلم؛ فهو الذي يثيب الأديب بالتهافت على اقتناء كتبه … وهو الذي يحوطه بمظاهر الاحتفال والتقدير … أما أدبنا اليوم فهو حائر كاليتيم بين أرستقراطية لا وجود لها، وإن وُجدت فلا شأن لها بأدب ولا أدباء، وبين ديمقراطيةٍ اسمية في شعوب لم يتم تعليمها، فهي بعدُ لا تُعنى بأدب ولا أدباء؛ فإنا ننتج ونحن نعرف أن إنتاجنا لا يهم الحكام ولا المحكومين … وأن ثمرات هذا الفكر الذي أضعنا من أجله كل حياتنا الجميلة لن يجنيها غير نفر قليل ممن ينظرون إلى استشهادنا بعين الرثاء … نعم إن هو إلا استشهاد هذا الأدب في هذه البلاد … لا شيء غير ذلك … وإني قد ساءلت نفسي مرارًا: لمَن أنشر كتبي؟ فكان الجواب: إني إنما أفعل من أجل أولئك التسعة أو العشرة من الأدباء الكرام الذين يفهمونني لأنهم يعانون عين الألم، وينتظمون معي في سلك العذاب، ويدبُّون مثلي على أقلامهم في تلك الحياة الطويلة الجرداء، كأنها صحراء من الجليد لا يهب علينا فيها غير صقيع الإهمال من الشعب وأصحاب السلطان … ولكننا مع ذلك نسير … ونسير متجلدين، أيدي بعضنا في أيدي البعض كأننا منفيون في مجاهل سيبيريا … وما نحن في الحقيقة أكثر من ذلك … ما نحن إلا منفيون في مجاهل «فكرنا» الذي يجهله الناس!

٣٨

طالما صحت قائلًا إن الدولة لا تنظر إلى الأدب بعين الجد … بل إنه عندها شيء وهمي لا وجود له ولا حساب … وإني يوم ذكرت الدولة في مقام الأدب لم أرد منها تشريف الأدب بحمايتها؛ فالأدب شريف بدونها وهي لا تستطيع له تشريفًا، إنما هو الذي يستطيع — إذا أراد — أن يشرفها وينوِّه بها … إنما أردت من الدولة أن تنظم بوسائلها المادية أسواق الأدب المادية كما تنظم بقية المرافق الحيوية الأخرى حتى يتطهر من السماسرة والمستغلين … إني أردت من الدولة أن تصون نتاجنا من جشع الطامعين كما تصون مال الأفراد من عدوان اللصوص … فلقد كان كل عجبي أن الدولة لا تعترف بمصالح الأدباء اعترافها بمصالح الأفراد، فهي تتركهم نهبًا للناهبين؛ حيث تقوم وتقعد إذا استبد تاجر بسوق الغلال، أو استولى مرابٍ على بعض المال!

وأقول اليوم إن الأدباء أنفسهم لا يريدون أن يحملوا الدولة على الإيمان بحقيقة الأدب … بل إن الأدباء وقد أنكرتهم الدولة وأنكرت بضاعتهم لم يفعلوا شيئًا ولم يُبدوا حراكًا … بل إن الأمر قد بلغ من السوء حدًّا رأى فيه الأدباء نتاج أذهانهم يسقط في التراب كما تسقط ثمار الشجرة الناضجة، فلا يتحركون ولا يصيحون في الناس: أن أقبلوا واجمعوا هذه الفاكهة وانتفعوا بها واطلبوا المزيد حتى تنشط الشجرة للإثمار ولا يجف ماؤها من الترك والإهمال … ومن العجب أنهم يرون زبدة جهودهم تتلقفها أيدي الوسطاء من التجار الذين يتربصون بهم كما تتربص جوارح الطير بصغار العصافير فلا يحاولون المداولة فيما بينهم للخلاص من هذا المصير.

إن انعدام روح النظام بين الأدباء وتفرُّق شملهم وانصرافهم عن النظر فيما يربطهم جميعًا من مصالح وما يعنيهم جميعًا من مسائل قد فوَّت عليهم النفع المادي والأدبي وجعلهم فئةً لا خطر لها ولا وزن في نظر الدولة، ولقمةً باردة سائغة في فم التجار والوسطاء … تلك حال الناضجين المعروفين من أدبائنا أولئك الذين يتخذهم الناشئون من الأدباء مطمحًا لأنظارهم، ويرون فيهم قلمًا ذهبيًّا جميلًا، ويتحرَّقون عجلة وشوقًا لبلوغ مراتبهم، ويتوسلون إليهم أن يأخذوا بأيديهم ويقودوهم في هذا الطريق.

واجب الأمانة يدعوني أن أصارح الناشئين: إياكم أن تعقدوا الآمال الكبار على الأدب في بلادنا اليوم، إذا استمر الحال على ما ترون … فما أرض الأدب الآن سوى مستنقع مهمَل، حرام أن تُلقى فيه بذور … وحسبكم تلك الزهرات القليلة الوحشية التي نبتت من تلقاء نفسها على حواشيه فلم يأبه لها أحد ولم يعنَ بتعهدها وريِّها إنسان!

٣٩

التجارب هي إحدى وسائل «العلم» … ولعل ساعة «التجربة» هي أمتع لحظات «العالم» … خطر لي مرةً أن أقوم بتجربة غريبة ممتعة … أن أضع امرأة فاتنة بين طائفة من أدبائنا المعروفين … ثم أنظر بعد ذلك ما يكون … إني على ثقة أنهم لن يناموا ليلتهم قبل أن يسطر كلٌّ منهم على الورق أشياء قد تكون من أجمل ما كتب … إن المرأة الجميلة في مجلس الأدب لها فعل السحر، تستطيع بغير عصا أن تخرج جواهر البيان من أفواه الأدباء … إنا لا نكاد نجد أدبًا من الآداب العظيمة لم يروِ لنا خبر المرأة في مجلس أهل الأدب … فإذا راجعنا الأدب العربي القديم وجدنا ذكر الجواري اللواتي كالشموس، الضاربات بالعود، اللاعبات بالنرد، الراويات للشعر … وإذا نظرنا في آداب الغرب في كل عصر وجدنا أخبار «الصالونات» وما فيها من أقمار كلهن ذكاء وثقافة ودلال … نعم … وهل يمر يومٌ على أديب من أدباء الغرب لا يجلس فيه إلى مائدة تزينها باقات النساء الجميلات … فيلبث ساعة يتحدث إلى مَلكيْن رقيقين عن يمينه ويساره يقطر الوحي من شفتيهما ثم يعود إلى عزلته وكتبه وورقه ليمضي في إنتاجه الأدبي، هذا الإنتاج الذي نراه بعد ذلك آية من آيات الإعجاز … أما نحن فلا عربًا بلغنا ولا غربًا … ولا شموس حولنا ولا أقمار … ولكننا أدباء كالعناكب ننسج في الظلام ونعيش في الجدب والحرمان … ومع ذلك ننتج أحيانًا … وهنا حقًّا آية الإعجاز … إن أولئك الذين يتهمون أدبنا الحديث بالتقصير هم قوم ظالمون أو أغرار لا يبصرون … إن أدباءنا المعاصرين لجبابرة مستبسلون ومجاهدون ومستشهدون لم يعرف مثلَهم أدبٌ من الآداب … فما من أدب في التاريخ استطاع أن يظهر من ظروف اجتمعت على خنقه كهذه الظروف … اللهم إنَّا شهداء … اللهم إنَّا شهداء!

٤٠

«قرأت لك في مقال أنك تساعد ناشئة الأدب، واشترطت لذلك شروطًا … وإني راضٍ بها … وإليك ما يزيدك معرفة بي: إني قرَّاض تذاكر … أجري ضئيل يبلغ ١٢٠ مليمًا في اليوم … واطِّلاعي محدود … وذلك ناتج عن فقري … لا أقرأ غير بعض المجلات الأدبية، ولم أقرأ من الكتب غير بعض مؤلفات المنفلوطي وكتب أخرى … وكانت كتابتي جيدة في الموضوعات الخيالية فقط … ولكني منذ بدأت أتأثر بكم تغلبت طريقتكم عليَّ … وأنا قوي الذاكرة أميل إلى التفكير … وأستطيع أن أنفق في شراء الكتب الأدبية ما يقرب من نصف جنيه شهريًّا، كما أني أستطيع أن أختلس للأدب خمس ساعات يوميًّا … لعل في هذه الإيضاحات ما يهوِّن عليكم أمر مساعدتي على السير في طريق الأدب الذي تصفونه بأنه وعِر شائك … ولقد زاد إغرائي به ما نشرتموه أخيرًا من تحذير للشبان من الاشتغال به في هذا العصر …»

نشرت هذه الرسالة التي جاءتني ضمن عشرات الرسائل في هذا الموضوع لسبب واحد: هو عجبي وإعجابي بقارئٍ تلك حاله … يبذل عن طيب خاطر سدس مرتبه الشهري وقسطًا وافرًا من وقته في سبيل الأدب … إنه يذكِّرني بقراء أوروبا … أولئك الذين يخصصون جزءًا ثابتًا من ميزانياتهم للكتب ووقتًا منتظمًا معلومًا للقراءة … مثل هؤلاء القراء هم الذين قامت على أكتافهم نهضات أوروبا الأدبية وهم الذين ظهرت من بينهم أدباء أوروبا العظام … فإن الأديب لا يتخرج في مدرسة … إنما ينبت في حقل الكتب والمطالعات الشخصية. وفي الأدب الفرنسي الحديث مثَل صارخ لأديب من أصل بلقاني هو «باناييت استراتي» لم يكن يعرف الفرنسية ولكنه غرق سنوات في المطالعة وضن بماله القليل على الطعام وأنفقه في شراء كتب جعل يلتهم صفحاتها التهامًا … وإذا هو في يوم من الأيام قد استطاع الكتابة بالفرنسية، وإذا هو كاتب معروف يربح من كتبه الألوف … أعطوني إذن ألفين من طراز هذا القارئ وأنا أضمن لمصر نهضة أدبية رائعة وأدباء جددًا يسيرون في طريق المجد.

٤١

ينبغي أن نحترم أولئك الذين يحترمون الفكر … رأيت هذا الأسبوع واحدًا من هؤلاء … هو طبيب فاضل، طلبني في منزلي بالتليفون مرات، ثم زارني في مكتبي مرتين دون أن يظفر بلقائي … ولم ييئس … فحضر الثالثة فوجدني وأخبرني أنه يحتفظ بكل كتبي إلا كتابًا واحدًا، بحث عنه كثيرًا فلم يجده … وهو يدفع فيه الآن أبهظ ثمن حتى لا تنقص مجموعته المجلدة أفخر تجليد … فلم يؤثر في نفسي أيضًا هذا الكلام، وأحلته في اختصار إلى مكتبة باعته النسخة بضعف ثمنها … وإذا بخطاب شكر واعتراف بالجميل يصلني من هذا الرجل في اليوم التالي … شكر على ماذا؟ لست أدري … ولكني تأملت قليلًا، فخجلت … إن هذا الرجل يحترم الفكر في ذاته وينفق في سبيله الجهد والمال … إن هذا الرجل يشكرني وقد دفع ثمن النسخة، بينما أراني قد أهديت كتبي تورُّطًا أو حمقًا إلى أناس لم يُعنوا حتى بإرسال بطاقة شكر … وتذكرت أولئك الذين لا يفعلون شيئًا إلا أن ينتظروا أن نهدي إليهم كتبنا ليقرءوها متفضلين أو لا يقرءوها مهمِلين … مثل هؤلاء ينبغي أن نحتقرهم مهما تكن مكانتهم … إن الفكر ما ارتفع قدره يومًا إلا على أيدي رجال من طراز ذلك الطبيب الفاضل، وما صَغُر شأنه إلا على أيدي هذه المخلوقات التي تبذل مالها من أجل كأس خمر وتضن به على كتاب مفعَم بالحكمة … ولقد سرَت عدوى هذا «التسول» الأدبي إلى الهيئات العلمية والثقافية … فقد جاءني كذلك هذا الأسبوع خطاب من دار الكتب الحكومية تطلب نسخًا من كتابي الجديد هدية أو «صدقة»! وقد علمت أن الدار لها «مال» مخصَّص لاقتناء الكتب … ولكن ماذا نقول في زمن هانت فيه قيمة الفكر حتى بين الهيئات العلمية الرسمية. ألا فليعلم الناس منذ اليوم أني سأبطل عادة «الهدايا» ابتداءً من كتابي القادم … وإني لن أقدم جهدي إلا لقرائي المخلصين الذين يقدمون إليَّ جهدهم وعنايتهم ومالهم … أما الآخرون فلن أعترف لهم بوجود … فإني منذ اليوم لن أحترم إلا من يحترم فكري ويسعى إليه ويبذل فيه ما يستطيع!

٤٢

جاءني بريد «بيروت» هذا الأسبوع بمجلة أدبية فاضلة ما كدت ألقي نظرة على صدرها حتى وجدته زاخرًا بسب مصر ورجال الأدب في مصر … مع استنكار «لامتداد الأدب المصري والثقافة المصرية في أجواء البلاد العربية» … وبعد أن نفى الكاتب الكريم عن مؤلفات المصريين كل قيمة في بضعة أسطر، ختم الكلام بقوله: «إني أنكر هذه الثقافة اللقيطة ويعز عليَّ كلبناني عربي أن تؤخَذ بلادي بالتدجيل وتُخدع بالدعايات المجانية أو المأجورة.»

ما هو الدافع إلى هذا القول؟ أهو نقد الجهود في ذاتها حتى نستيقظ قليلًا ونرى أن قراءنا في البلاد الشقيقة قد بدءوا يسأمون إنتاجنا، ويستحثوننا على تجديد طرائقنا وتعزيز وسائلنا، حتى يظفروا ويظفر الأدب العربي الحديث بالنهضة الباهرة المنشودة؟ إن كان هذا هو قصد المجلة والكاتب فهو قصد نبيل، لا يسع مصر وكُتابها إلا أن يبعثوا إليهما من أجله أصدق عبارات الشكر.

أما إذا كان الباعث هو مجرد الغضب لأن مصر بالذات هي التي تنبعث منها أشعة الثقافة العربية الحديثة في الوقت الحاضر، فتلك عاطفة لا تشرِّف صاحبها ولا نحب نحن أن نسلِّم بوجودها، خصوصًا في بلد تربطنا به أواصر النسب.

ومع ذلك فهذا أمر لا ينبغي أن يكون موضع جدال، لأنه أمر يتعلق بالواقع.

فإذا كان الواقع هو أن نسيم الثقافة يهب علينا اليوم من جبال لبنان، فلا أحبَّ إلينا نحن المصريين من هذا … وهو خير لنا وأشرف من أن يهب علينا من جبال الألب.

غير أن الذي يؤلمني هو أننا معشر الشرقيين يكبُر علينا دائمًا أن نرى الفضل يأتينا من شرقي، ولا نغضب بل نفخر إذ يأتينا الفخر من غربي!

ولأرفع صوتي صريحًا: إن الشرق لن يقوم له قائمة إذا بقيت فيه ذرة من روح التنابذ والتحاسد … فإن لم يسعفنا التعاون والتساند فلنوقن بسقوطنا العاجل بين فكَّي الغرب النَّهِم.

٤٣

هل ينتظر اللغة العربية والأدب العربي الحديث في مصر مستقبل سعيد؟ لقد بدرت البوادر بشروع بعض الأجانب في الإقبال على تعلُّم اللغة العربية والاهتمام بمعرفة كُتَّاب مصر البارزين … من رأيي أن الحياة لن تدب في هذه اللغة وهذا الأدب إلا إذا ظفر بقرَّاء كثيرين من هذا العنصر النشط المثقف … وإني لأتخيل اليوم الذي يتم فيه ضم أجانب مصر أو أغلبهم إلى حظيرة قرائنا في لغتنا … هؤلاء الأجانب الذين يعدون القراءة غذاء ذهنيًّا له ضرورته في حياتهم اليومية، شأنه في ذلك شأن الحاجات الأولية؛ هؤلاء الآلاف القليلة من الأجانب التي لا يخلو منها شارع كبير في أي مدينة كبيرة من مدن هذه الدولة العربية اللغة؛ هؤلاء النفر الذين استطاعوا أن ينشئوا لأنفسهم صحفًا ومجلات بلغاتهم المختلفة وأن يضمنوا لها حياة وازدهارًا … ترى ما الذي يحدث لو أن هؤلاء فهموا أخيرًا أن استقلال مصر وسيادتها معناه سيادة لغتها وآدابها وفنونها، على الأقل فوق أرضها وفي حدود بلادها، وأن الخير والكياسة والمصلحة تقضي عليهم أن يكفوا عن تجاهل لغة الدولة، وأن يعيشوا بيننا كما يعيش كل أجنبي في دولة محترمة، يُعنى بتعلُّم لغتها والاطلاع على أدبها ومسايرة الحياة الذهنية والاجتماعية فيها؟ لا ريب عندي، لو وقع ذلك الحدث، في أن أدبنا سيتغير ويتطور في مثل لمح البصر، تطورات تثير الدهشة والعجب … ليس فقط لأن نتاج فكرنا سيرتفع شأنه في السوق، بل لأنه سيرتفع في ذاته من حيث الصنف والقيمة … فإن القارئ الجيد يخلق الكاتب الجيد، و«الزبون» المحترم يوجِد الحانوت «المحترم».

لكن … كيف نحمل الأجانب على ارتياد «حانوتنا» الفكري وأكثرهم قد استقرت في نفسه بغير علة فكرة الاستخفاف بلغتنا؟ ما هي الوسائل التي ينبغي لنا أن نتخذها لنزع هذه الفكرة عنهم وترغيبهم في بضاعتنا؟ هذا سؤال مطروح على القراء المثقفين.

٤٤

قرأت بين الرسائل التي جاءتني في موضوع نشر اللغة العربية بين الأجانب رسالة لم أرَ بدًّا من إثباتها هنا، لأنها قد عرضت في فقرات سبع، مسائل ينبغي أن توضع موضع التفكير … قال صاحب هذه الرسالة: كي ننجح في اجتذاب الأجانب إلى «حانوتنا» الفكري يجب أن نتبع ما يأتي:
  • أولًا: أن يتكلم المصريون جميعًا اللغة العربية في كل المناسبات، وألا يسمحوا لأنفسهم ما داموا يعيشون في مصر بالتكلم بأية لغة أخرى مهما ترتب على ذلك من نتائج.
  • ثانيًا: أن تكون جميع مكاتباتنا باللغة العربية، وأن نضطر الأجانب إلى قبول الكتابة إليهم بلغتنا.
  • ثالثًا: أن يكون التعليم في جميع المدارس الأجنبية في مصر باللغة العربية.
  • رابعًا: أن يوطد الكاتب المصري عزمه على أن يكتب للعالَم … إذ على الرغم من أن ما يكتبه لن يخرج عن حدود الأمم الشرقية الناطقة بالضاد، إلا أن مصر بالذات هي شبه عالَم صغير فيها من كل الأمم وكل الجنسيات.
  • خامسًا: العناية بأسلوب الكتابة، والارتقاء إلى السلاسة مع السهولة، وأن يجتهد كل كاتب في الكشف عن نفسه وغرضه في وضوح وصفاء.
  • سادسًا: أن تُعرَض المطبوعات بأثمان معتدلة لإغراء الأجانب بقراءتها.
  • سابعًا: أن تكون هناك رقابة على المؤلفات جميعًا فلا يُنشر منها إلا ما يستحق النشر، حتى لا نكلف الأجانب قراءة سخافاتنا المزرية.

تلك مقترحات صاحب الرسالة، وهي من غير شك كفيلة بتحقيق الغرض. لكن المعضلة في التنفيذ، فإن بعضها لا يمكن أن يقوم به غير حكومة قوية الشوكة مرهوبة الجانب، وبعضها يقع حمله على كواهل الأدباء.

وأعجبني قول هذا الأديب: إن الكاتب المصري ينبغي أولًا أن يوطن عزمه على أن يكتب للعالم كله. ولعل هنا مفتاح القضية كلها، فهل في مصر الآن أدباء يكتبون للعالم كله؟ ذلك موضوع يحتاج في بحثه إلى صفحات طوال.

٤٧

«… لم يتيسر لي قراءة كل كتبك … إنما الذي قرأته لك هو مقالات وقصص ومساجلات في الصحف والمجلات، ومع أن كل آرائك حرة وجريئة إلا أن رأيًا واحدًا هو الذي ملك شعوري وكياني: «إن مَن ملك قلبًا حارًّا ولسانًا حرًّا … فهو الذي يستطيع أن يسود العالم» … سيدي: إن قلبي لحار وإن لساني لحر، وبهاتين الوسيلتين يعظُم أملي في المستقبل، إني أعشق الجمال وأحب الأدب الرفيع ولكنهم يريدونني أن أكون معلِّمًا بإحدى المدارس الإلزامية … إن جو القرية يكاد يخنقني … أريد أن أؤدي رسالتي في الحياة، وهي رسالة الكاتب الموهوب، لا أن أعيش على هامش الحياة! إنه ليسرُّني أني استطعت إسماعك صوتي … فإن رأيت يا سيدي أن هذه النواة أهل للحياة فتعهَّدها بالغرس والري … لي من حسن الأمل فيك ما يجعلني أطمئن إلى أنك لن ترمي برسالتي في سلة المهملات …»

قبل كل شيء أحب أن أقول لصاحب الرسالة أن يحسن ظنه بحياته … فلئن كان هنالك إنسان يعيش على هامش الحياة، فهو أنا صاحب هذا البرج القصيِّ … إن جو القرية لا يمكن أن يكون خانقًا للقلب الشاعر … وإن مهنة التعليم والعمل على تكوين نفوس نبيلة، ونفخ روح الجمال في نشء ساذج، وإيقاظ عيون صغيرة على حسن الطبيعة، كل هذا خَلْق فني في ذاته … ولكننا لا نريد أن نرى الخَلق إلا في مقال يُكتب، ولا المجد إلا في هراء يُنشر … هنالك شعراء عظام ما فارقوا قراهم قط وما تركوا صناعاتهم الصغيرة قط … إن القلب الحار يسبغ الخير والجمال على ما حوله … ولو كان لصاحب هذه الرسالة قلب حار حقيقة لظهر لهذا أثر في قريته ومدرسته أولًا، ثم في مادة نفسه ثانيًا. فالقلب الحار يحتاج إلى وقود ليشع ولا يخمد، وأيسر الوقود الكتب … وصاحب الرسالة لا يقرأ كتبًا ولكنه يطالع مطالعات سطحية سريعة ناقصة … كلا … إن «القلب الحار» ليس كلمة تقال!

٤٦

ليس لي وحي … فإن آلهة الفن لم يشرفوني بإرسال ذلك الملاك ذي الأجنحة البيضاء، يبعثونه إليَّ في لحظة من اللحظات … إنما الوحي الذي أعرفه هو انكباب على المكتب سبع ساعات في عمل متصل … فإذا لم يأتِ وحي في خلال الساعات الطويلة … فإنه لن يأتي مطلقًا … على أن الصعوبة عندي هي إرغام نفسي على الجلوس إلى المكتب وتهيئة ذلك الجو العبق برائحة الخلق والإبداع، المشبع بروح التناسق والجمال … ذلك الجو الذي يمكن أن يخرج فيه شيء جميل … ولي في ذلك طريقتي التي تناسبني … وهي أن أدير «الجراموفون» وأستمع إلى الطفل الإلهي «موزار» ساعة من الزمن أو ساعتين، فإذا يدي في أغلب الأحيان تجري بعد ذلك على الورق … وإذا «الجراموفون» — وهو يقف من تلقاء نفسه — قد صمت منذ زمن طويل دون أن أشعر به، وإذا أنا مُحاط بصمت عميق لا يقطعه غالبًا إلا رنين الساعة الكبيرة تدق دقات أعرف منها أني غبت عن الوجود منكبًّا على العمل أكثر من خمس ساعات … والويل كل الويل لمن كان بينه وبيني ميعاد خلال ذلك الوقت … فإن كانت ثقته في دقة مواعيدي ما زالت قائمة وانتظرني، فإنه يجدني قد أبطأت عليه لا بأرباع الساعات ولا بأنصافها، بل …

٤٧

رأيت في نومي البارحة رؤيا أفزعتني: أني تزوجت … ولم تُبيِّن الرؤيا كيف تم ذلك … ولكني وجدت نفسي على فُرش وثيرة من الدمقس الأزرق في حجرة جميلة ذات سجف من حرير متألق متماوج الألوان كرقبة اليمامة … وسمعت حولي من يقول: هذا جهازها.

– جهاز مَن؟

– عروسك.

– ومَن الذي زوَّجني؟ ومَن العروس؟

– من بيت حسب ونسب … ذات جمال ومال وحلاوة لسان … وهي فرصة كان لا بد من انتهازها … وقد علت بك السن وكاد يفوت أوان الزواج.

– ومن انتهز لي الفرصة؟

– أولاد الحلال، من قرائك المعجبين الذين يهتمون لأمرك.

– شيء لطيف. وهؤلاء القراء المعجبون الذين زوجوني، كيف فعلوا ذلك، وأين وجدوا لي هذه العروس؟

– دعك من هذا الفضول، لا شأن لك بكل هذه التفاصيل. ولا تشغل بالك إلا بما أنت فيه من نعيم مقيم.

– والعروس، أسَبق لي رؤيتها؟

– لا، ستراها الليلة.

– عجبًا … وكيف يزوجونني ممن لم أرها … ونحن في القرن العشرين، أيها الناس … إن هذا جاوز الحدود.

– هي أيضًا لم ترك.

– أقرأتْ كتبي؟

– لو كانت قرأتْ كتبك لما تزوجتْك.

– وكيف إذن أقنعوها؟

– قالوا لها عنك كل شيء إلا الأدب والتأليف … فقد وجدوا من الحكمة وأصالة الرأي كتمان ذلك عنها إلى أن يتم العقد ويتعذر النقض.

وفتحت عيني في الصباح وأنا أقول: «اللهم أحمدك على استيقاظي قبل تمام العقد، وقبل مواجهة الفتاة بذلك العيب الذي لا يُغتفر … إن المرأة لن تتغير … إن شئون الفكر عندها شيء مخيف … وكم من شعراء وأدباء أخفوا على نسائهم كنوز عقولهم، ولم يظهروا لهن إلا كما يردنهم: رجالًا مبتذلين كبقية الرجال!»

٤٨

أترى الإخفاق في الحب هو الذي يثمر أحيانًا تلك المخلوقات الفنية التي ربحت من ورائها الإنسانية؟ يحلو لي دائمًا أن أتخيل أن هنالك ملاكًا حارسًا أو سجَّانًا قد وُكِّل به أمر الفنان أو المفكر أو الأديب، يسلط عليه «الحب» كلما وجد أن معينه قد نضب، ولا يأذن له بالنجاح في هذا الحب إلا بمقدار، حتى لا يشغل به عن الخلق والإنتاج … ولقد أمعنت في هذا الخيال حتى اعتقدت أن هذا الملاك حقيقة واقعة فكنت أناديه أحيانًا وأتوسل إليه أن «ارحمني ولا تضن عليَّ وكن كريمًا!» فكان يجيب قائلًا كالمخاطب لنفسه: «لن يخدعني مثلك … إني أعرفك وأفهمك … إن الحب لو ابتسم لك قليلًا لجريت وراءه ورميت في وجوهنا بالكتب والقلم والورق!» … وهكذا اعتدت أن أرضى بقسمتي ونصيبي … وأصبحت أرى أن كل ما قُسم لي من الحب هو الخروج منه بكتاب أو كتابين أعرضهما على «حضرة» الملاك السجان … فأنا إذن في واقع الأمر، لا فرق بيني وبين تلك الطيور والببغاوات التي يحبسونها في أقفاص حديقة الحيوان، يقدمون إليها قليلًا من «السكر» أو «الحَب» بمقدار لا يلهي أفواهها عن الكلام والغناء والثرثرة التي يطلبها الزوار والمستمعون.

فهل نطمع نحن «الببغاوات الآدمية» في أن يُلقى إلينا من وراء القضبان باقة سكر دفعة واحدة «نجرشها» بأفواهنا دون أن يُطلب إلينا الغناء أو البكاء؟!

٤٩

منذ عشرة أعوام عُقدت معاهدة على جبل «أولمب» بين «أبولون» و«كوبيدون» تتعلق بي … ولا أعرف على وجه التفصيل نصوص تلك المعاهدة … فلقد كانت معاهدة سرية … ولكن، يُخيَّل إليَّ أن «إله الفن» أراد أن يعتبرني من «مناطق نفوذه» فحرَّم على إله «الحب» أن يلقي سهمًا واحدًا من قوسه الذهبية إلى هذه المنطقة … وقد تبين لي في مواقف كثيرة من حياتي أن إله «الحب» قد احترم حقًّا هذه المعاهدة، وفي أحيان أخرى رأيت كأن «كوبيدون» ينظر إلى «قلبي» نظرات ملؤها المطامع الاستعمارية … وأنه يتحين الفرص والظروف … وإله الفن، كما هو معلوم، ينادي دائمًا بالحرية إذ لا فن بغير حرية مكفولة في كل زمان … وإله الحب ينزع إلى السلطة والسيطرة والعنف والتقييد بالسلاسل والأغلال … ولست أدري لماذا يذكِّرني هذا الصراع بينهما بالصراع القائم اليوم بين «إنجلترا» و«إيطاليا» … فإنجلترا بلد الديمقراطية والحرية، وإيطاليا رمز الدكتاتورية والسلطة المطلقة … ولقد وقع حديثًا نزاع بين الطرفين، فأغفلت المعاهدة وألقيت السهام، وأعلن الدكتاتور أنه افتتح المنطقة «الحرام» فلم يعترف له منافسه بهذا الفتح … وسارت الأيام سيرها وأنا راضٍ مطمئن اطمئنان «النجاشي» المسكين … إلى أن قرأت في البريد الأخير أن إنجلترا ستحمل العالم على الاعتراف بالفتح الإيطالي «للحبشة» … فوضعت يدي على «قلبي» وأدركت أن «الحرية» ليست إلا حمَلًا ضعيفًا تنتظره دائمًا أنياب الذئاب … وأن «المعاهدات» ليست إلا «محطات» انتظار لساعات الوثوب!

٥٠

أذاع المتحف المصري حديثًا في أنحاء العالم من خلال بوقين أحدهما من الفضة والآخر من النحاس، هما من مخلفات توت عنخ آمون … وقد كانت هذه الإذاعة أول صوت يخرج منهما منذ ثلاثة آلاف عام … قرأت هذا الخبر في الصحف كما قرأه الناس … وجاء الليل فتخيلت هذين البوقين قد أُعيدا إلى مكانهما بالمتحف، وقد سكنت الأصوات، ونامت الكائنات، فإذا هما ينهضان مستويين كأنهما ثعبانان، وجعلا يتحدثان:

البوق الفضي : عجبًا! ما هذه اللغة التي خرجت من فمي اليوم؟
البوق النحاسي : إنها لغة غير مفهومة، لعلها لغة بعض العبيد أو الأسرى الذين نأتي بهم إلى أرضنا من آنٍ لآن.
البوق الفضي : نعم … إنها ليست لغة توت عنخ آمون! لكن كيف سمح الحراس للعبيد والأسرى أن يحملونا بأيديهم، ويدنسوا أفواهنا برطاناتهم!
البوق النحاسي : هذا مما يثير دهشتي.
البوق الفضي : يا للعار! فمي الفضي يخرج منه مثل هذه الرطانة! هذا لم يحدث لي قط قبل الآن!
البوق النحاسي : وأنا لم يقع لي مثل هذا قبل اليوم قط!
البوق الفضي : وبعد … أنذعن لهذه الكارثة؟!
البوق النحاسي : لا … لا ينبغي أن نذعن.
البوق الفضي : وماذا نستطيع أن نفعل؟
البوق النحاسي : نستطيع أن نصيح وأن نرفع أصواتنا في أرجاء المكان ساخطَين متضرعَين، طالبَين صيانة حرمتنا وكرامتنا … فلا ينفخ فينا بعد الآن نافخ بغير لغة توت عنخ آمون … فمن أجلها صنعنا ووجدنا … فلتخرس أفواهنا إلى أبد الآبدين، إذا نطقت بغير لغة توت عنخ آمون!
البوق الفضي : وإذا أُجبرنا على النطق بغيرها؟
البوق النحاسي : حُقَّت اللعنة على من يجبرنا على ذلك!

وذهب من أمام عيني شبح البوقين … وثُبْت إلى نفسي وأنا أقول: «أهي لعنة أخرى كلعنة المومياء، ما زال أمرها خافيًا على العلماء!»

٥١

يذكرون أن كاتبًا شرقيًّا راعه افتقار بلاده إلى ما عند الغرب من أسباب القوة فقال: «أنا الشرق عندي فلسفات، فمن يبيعني بها طائرات!»

هذه الكلمة خطأ كلها … فليس عند الشرق اليوم فلسفات … وإن الشرق يوم كانت عنده الفلسفات كانت عنده أيضًا كل ضروب القوة المعروفة في تلك العهود … بل إن الفلسفات يوم كانت موجودة في أرضه فكَّر في اختراع الطائرات «عباس ابن فرناس»، وإن هذه الفلسفات يوم انتقلت إلى الغرب انتقلت معها بذور روح الاختراع التي أنبتت الطائرات … إن دماغ المهندس الذي يصنع الطائرة والغواصة والدبابة هو دماغ قد كونته الفلسفات والآداب والفنون، وزودته بملكات التفكير والتصور والخيال. أما الذين يظنون أن هذه المخترعات تظهر كالنبات البري في أمم دون أن تسبقها نهضات فكرية في مختلف الفنون، فأولئك هم الواهمون … إن الفكر هو أساس القوة … وإن الأمم التي تتباهى اليوم بالقوة المادية وحدها، إنما قامت فيها هذه القوة ذاتها على دعائم الفكر والمفكرين من أمثال أفلاطون ونيوتن وجوته وشيلر ونيتشه وفاجنر … إلخ؛ فهم الذين صنعوا «القوة المفكرة»: ذلك «الدينامو» الذي أساء الطغاة استعماله فحوَّلوه من أداة نعمة للإنسانية إلى أداة نقمة على البشر.

فإلى الذين بهرتهم القوة الوحشية في سلطانها الحاضر، فأنكروا سريعًا عناصر الحضارة الحقيقية وازدروا الأمم التي تتفانى في تجميل الحياة بالفنون والآداب، أسوق هذه الكلمة وأصيح: «تكلَّمي دائمًا يا آلهة الفكر والشعر، فإن سلطانك هو الباقي؛ فمن كلمات فيك يُصنع جوهر الحضارات، وما دمت أنت في الوجود، فإن الحياة تستحق الحياة، والإنسان يستحق أن يسمى إنسانًا.»

٥٢

نعم هي بالذات تضحية يبذلها الأديب الحر؛ إذ يضع قلمه الرفيع «مؤقتًا» في خدمة الوطن على صورة قد يأباها الأدب الحر الرفيع … هكذا فعلى «جيرودو» و«موروا» و«دوهاميل» وأغلب أعضاء المجْمع اللغوي الفرنسي يوم رأوا داعي الوطن يدعوهم إلى الكفاح … فانبثُّوا وتوزعوا على الصحف والراديو يجاهدون في تقوية روح الشعب بما في أقلامهم من مداد، وبما في شرايينهم من دم الرجولة والشرف … كتبوا ونشروا وأذاعوا، لا بحوثًا ودروسًا في مشكلات السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولكن صيحات حارَّة مدوية، تدعم إيمان الشعب الذي نخرت فيه ديدان قوى خفية، وهزت أركانه همسات أخرى مسمومة، قطرتها في نفوسه الدعاية الأجنبية.

كل ما يجدر بنا أن نعلَمه حق العلم … فإن أولئك الكُتاب العظام كانوا يدركون حين جنَّدوا أنفسهم في الصحافة والإذاعة، أنهم يضحُّون بأدبهم الحر وتفكيرهم الخالص وآرائهم الشخصية، وأنهم ينشرون صفحات مما يسميه بعض الأدباء والنقاد أدبًا رخيصًا سهلًا يسيرًا، موقنين أن هذا الإنتاج السريع الزهيد هو في عرف «الأدب الحق» عمل ضائع لن يُحسب لهم في سجل الأعمال الأدبية الباقية.

أما أن حركتهم تلك أفلحت أو لم تفلح فهذا ليس ذنبهم ولا شأنهم … فحسبهم أن قد أدَّوا واجبهم وضحَّوا أبلغ تضحية تُفرَض على أديب … وبعد، فما كان أيسر لي الآن من الصمت بين جدران برجي العاجي، ولكني ظننت واجبنا نحن رجال القلم، أن نصنع الساعة شيئًا لهذا البلد … وما دمنا لا نملك من صحة الجسم ما نبذل معه دمنا، فلنبذل على الأقل مِداد أقلامنا وحرارة أفئدتنا.

فهل نبخل ببذل هذه الأشياء نزولًا على إرادة الفلسفة العليا التي تقضي بالسكوت؟

٥٣

أبصرت اليوم من نافذة برجي «شهر يوليو» مقبلًا بخطًى سريعة وهو متدثر برداء أحمر كأنه قطع اللهب، وقد تصبَّب من جبينه العرق، وهو يقرع باب برجي ويصيح: أيها الغافل عن جسمه، القابع بين جدران سجنه … انطلِق قليلًا إلى نسيم البحار وهواء الجبال، وأرِح نفسك واسترح من نفسك!

فسمع الجواب من أعماق نفسي: وكيف يستريح من هذه النفس وهي تمتطي وجوده امتطاء؟!

فقال «الشهر»: أوَنذعن لهذا الفارس القاسي حتى يسحق المطية سَحقًا؟!

فقالت النفس: أهي رحمة منك بالمطية أم أنك تريد أن تأخذها مني لنفسك أيها الشهر اللعين!

– إنها ستجد عندي الراحة والنعيم … وسأقدم لها «علفًا» من فاكهة الجبال الغضة وزهر الغابات الجميل ونسيم صيفي العليل … أما أنت فماذا تجد عندك؟ إنك لن تقدمي إلى هذه المطية النحيلة غير «علف» من الحبر والورق والسهاد المضني والعمل المرهق والتفكير الطويل!

– سأعطيها النور الذي يضيء لها السبيل!

– لا تخدعيها بهذه الكلمات … ومع ذلك فإن عينيها في حاجة كذلك إلى الراحة والبعد عن النور … أقصي عن وجهها شهرًا واحدًا ذلك المصباح الذي لزمها طول الشهور!

– إنها لا تستطيع السير خطوة بغير ذلك المصباح.

– أقسم لك أن الزيت قد نفد من هذا المصباح.

دعيني أذهب بها إلى حيث تملؤه من جديد زيتًا خالصًا نقيًّا، يرسل الضوء وهَّاجًا قويًّا، لها وللآخرين من القراء والمريدين، طول عامها القادم … آمين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤