الفصل الحادي عشر

كان حافظ أفندي خالد جالسًا في بيته في الموهن الأخير من الليل مع زوجته فاطمة، وابنته فؤادة، وكان حافظ قد فرغ من الصلاة، وكانت فاطمة تصلي ركعات لله لا توجبهن فريضة ولا سُنة، وكانت فؤادة تقرأ في كتاب كبير في يدها ويسألها أبوها: ماذا تقرئين يا فؤادة؟

– حكاية عجيبة يا أبي.

– عمَّ تروي؟

– عن مقتل الحسن بن علي.

– كيف قُتل؟

– حكاية لا يصدقها العقل.

– احكيها لي.

– أنا يا أبي لا أصدقها.

– قولي أولًا ونبحث عن معقوليتها بعد ذلك.

– أرسل معاوية إلى زوجة الحسن واتفق معها على أن يعطيها مبلغًا كبيرًا من المال ويزوجها ابنه يزيد إذا قتلت الحسن.

– أعوذ بالله.

– وسقته السم وأحس به يسري في جسده، ثم أحس به يفتك به ثم أحاط به ألم قاتل حتى لقد كان يقول: لفظت بعضًا من كبدي، وكنت أقلبه بعود في يدي، وزوجته تشهد، وكأنها لم تفعل شيئًا.

ومات الحسن وذهبت الزوجة إلى معاوية لتنال الجائزة التي وعدها بها زواج يزيد والمال الوفير.

– وهل نفَّذ معاوية وعده؟

– بعض وعده.

– كيف؟

– قال لها: أما المال فهو لك، وأما يزيد فإنا نخاف أن تفعلي به مثلما فعلتِ بزوجك.

– لقد نالت جزاءها.

– إن كانت الحكاية صحيحة، فهي لم تنل جزاءها أبدًا؛ كان يجب أن تُقتل مئات المرات؛ إنها زوجة قتلت زوجها، لقد أعطته السم بيد لا يشك في ولائها، يد زوجته، إنها روحه الثانية، حياته، أتعرف يا أبي لماذا حدثت هذه الجريمة؟

– لأن الزوجة كانت امرأة مُجرمة.

– هناك سبب أهم من ذلك، لم يكن زواجها بالحسن عن حب، كان أغلب الزواج في ذلك الحين يتم عن غير حب.

– ومع ذلك لم تقتل كثير من النساء أزواجهن.

– لأنهن لم يتعرضن لمثل إغراء معاوية، من يدري ماذا كن يفعلن إذا تعرضن لهذا الإغراء.

– أكن يقتلن أزواجهن؟

– ما دام الزواج بلا حب فلا أحد يدري ماذا يحدث.

قالت فاطمة بعد أن سَلَّمت تسليمتين: فيمَ تتحدثان؟

– ألم تسمعي؟

– كنت أصلي.

– وأذناك، أين كانتا؟

– أنت تعرف أنني حين أصلي لا أسمع شيئًا.

– احكي لها الحكاية يا فؤادة.

– ثانيةً.

– كانت تصلي.

وقبل أن تبدأ فؤادة قصتها سمع ثلاثتهم ضجيجًا متخافتًا خارج الباب أعقبه طرق، وقال حافظ: مَن؟

وجاء صوت قوي ليس مرتفعًا: افتح.

وقال حافظ خائفًا: مَن؟

وجاء الصوت: عتريس.

وأعاد حافظ الاسم ذاهلًا: عتريس؟!

وجاء الصوت مرة أخرى يحمل نفس النبرة: افتح.

وقال حافظ لزوجته وابنته: ادخلا أنتما.

وحين دخلتا وأغلق دونهما الباب، ذهب إلى باب البيت ففتحه، ودخل عترس بعد أن قال لرفقة معه لم يتبين حافظ عددهم: ابقوا أنتم هنا.

وأقفل عتريس باب البيت الخارجي، وقبل أن يقعد سأله حافظ هالعًا: ماذا يا عتريس؟

– لا تخف يا عم حافظ، اقعد.

– هل هناك شيء؟

– أنا في بيتك، أهكذا تستقبل ضيفًا في بيتك؟

وقعد الرجلان، وحافظ يشعر بقلبه يكاد يقفز من صدره، فهو وجيب قوي، وهو هلع وخوف وتوجس، وراح يلصق الكلمات بعضها ببعض، حتى قال آخر الأمر: مرحبًا بك في بيتي يا عتريس.

– إنها كلمة لا تزيد.

وقال حافظ في نفسه: وهل المصاب إلا كلمة لا تزيد؟ ومرة أخرى راح يلصق الكلمات بعضها ببعض: أنا تحت أمرك.

وقال عتريس في هدوء وقد سرى في صوته حنين ونعومة لم يستطع حافظ أن يتبينهما: فؤادة.

وقفز حافظ عن كرسيه: ما لها؟

– أريد أن أتزوجها.

وظل حافظ واقفًا واجمًا فترة طويلة، حتى قال عتريس مرة أخرى: ماذا قلتَ؟

وظل حافظ صامتًا مرة أخرى، وعاد صوت عتريس إلى خشونته الطبيعية وهو يقول: ماذا قلتَ يا عم حافظ؟

وراح حافظ يرتعش بالألفاظ وهو يقول: ولكن فؤادة … فؤادة …

وقال عتريس: ما لها فؤادة؟

– لا أظنها تقبل، لا، لا أظنها، لا أظن.

وقال عتريس في هدوء عنيف بارد قاس: يظهر أنك لا تتبين الأمر على حقيقته، أنا عتريس، عتريس، أتفهم؟ وأطلب منك ابنتك فؤادة لأتزوجها، أتريد أن أضع لك الأمر بصورة أخرى؟ عتريس حين يريد لا بد أن يصل إلى ما يريد، أنت عندك أرض، وفي الأرض قطن الآن وأرز وأحيانًا يكون في الأرض قمح، وعندك ساقية، وعندك بهائم، وعندك أيضًا — عند اللزوم — زوجتك وعندك — عند اللزوم أيضًا — ابنتك فؤادة نفسها، وأنا عتريس، لعل الأمور واضحة في ذهنك الآن.

وفهم حافظ كل الفهم ولكنه عاد يقول: ألا تسألها؟

– هذا شأنك، تسألها أو تأمرها، اليوم السبت كتب الكتاب الخميس القادم.

– ولكن …

– أفهمت؟

– نعم.

وخرج عتريس وأقفل الباب من خلفه وقعد حافظ متهالكًا وراح ينظر من حوله ذاهلًا، دقائق قليلة تم فيها هذا جميعه، أهذا معقول؟! أيمكن أن يتسع وقت العالم كله ليتم فيه هذا الانقلاب في حياته؟ ولكنه تم في دقائق، الحجرة خالية، صامتة، كأن شيئًا لم يحدث، أحدث شيء؟ هل كان عتريس هنا؟ عتريس بأكمله بجميعه هنا، في هذه الحجرة، أقال ما قال فعلًا؟ كيف؟ كيف تستطيع هذه الدقائق الهينة التي يقطعها الزمن في احتقار واستهانة؟ كيف؟ كيف تستطيع أن تقلب حياتي كلها بهذا اليسر؟ ما هذا الصمت إذن؟ أين الضجيج الذي كان يجب أن يملأ الدنيا من حولي؟ ما هذا السكون؟ ما هذا الصمت؟ أينقض عتريس على حياتي جميعها يختطف معنى هذه الحياة؟ ثم يهوِّم الصمت ويشمل الكون هذا السكون البارد في غير اهتمام كأن شيئًا لم يحدث، لقد هدد، وما كان في حاجة إلى تهديد، إن طلبه وحده يحمل كل معاني التهديد، وفجأة يُفتَح باب الحجرة وتأتي فاطمة وفؤادة وتجلسان وتنظران إلى حافظ ولا تسألانه وينظر إليهما طويلًا طويلًا وهما شاخصتان إليه بلا حديث، وأخيرًا يقول حافظ: فؤادة.

وتدق فاطمة صدرها صارخة: ماذا؟

وتقول فؤادة: ماذا يا أبي؟

ويعود حافظ قائلًا بنفس النغمة الحانية الواجفة: فؤادة.

وتقول فؤادة: نعم يا أبي.

ويقول حافظ: إنه يريد فؤادة.

وتقول فاطمة صارخة حازمة: لا، لا، أبدًا.

وتقول فؤادة محاولة أن تُظهر عدم مبالاتها: ماذا يريد مني؟

ويقول حافظ: يريد أن يتزوجك.

وتعود فاطمة إلى صراخها: لا، لا.

وتقول فؤادة بهدوء وثبات: لا تخافي يا أمي، لن يكون هذا أبدًا.

ويقول حافظ في تداعٍ: وستتزوجينه.

وتقول فاطمة: ماذا تقول؟

وتقول فؤادة في هدوئها لا تزال: لن يكون هذا.

ويقول حافظ: يوم الخميس القادم.

وتقول فاطمة: هل تعي ما تقول يا حافظ؟

– لقد هدد بكل شيء.

وتقول فؤادة في غير مبالاة: ليهدد ما شاء، لن أتزوجه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤