الفصل الثاني

١

صرخ رئيس المحطَّة المنتصب على حافة الرصيف دافعًا المسافرين بطرف علَمِهِ الأحمر قائلًا: انتبهوا! احذروا القطار!

كان قطار بيروت على وشك الوصول إلى المحطَّة.

عند هذا كان قرويٌّ ذو لحية شهباء وجثة كجثة الجبابرة يريد المرور من بين الخطين إلى الرصيف المقابل فلم يسمع أوامر الرئيس.

فقال له هذا: يُحظر عليك المرور يا هذا فالقطار قادم!

فلم يكترث الرجل؛ لأنه كان أصم فنزل بهدوء عن الرصيف ووضع قدمًا على الخط فأسرع إليه السيد راغب وأخذه بين ذراعيه، إلَّا أنَّ القرويَّ كان أشد من الرئيس فعانده بحماقة وسعى إلى التخلُّص منه.

دامت المعركة زهاءَ دقيقتين بين القرويِّ والرئيس حتى أسفرت النتيجة عن انتصار هذا؛ لأنَّ قواهُ كانت قد تضاعفت أمام الخطر الداهم فتمكن من الرجل فحمله وألقاه على الرصيف، ثم وثب خلفَه كالح الوجه مضطرب الأعضاء!

إذ ذاك أدرك القرويُّ الخطر الذي كاد يقع فيه فقال بصوتٍ تخلَّلته الدموع: لقد أنقذتني! كنتُ على وشك الموت. لم أسمع شيئًا إني أصم! … آه! ما الذي كان قد حلَّ بأولادي؟ عندي ثلاثة أولاد لا يزالون أحداثًا! …

فغضب الرئيس وقال لهُ بصوتٍ ملؤهُ التأنيب: يا لك من بهيمة!

ثمَّ أبعد الرجل بإشارة غليظة لكيلا يتفطَّر من مشهده.

ولكنَّ المسافرين أخذوا يثنون على شجاعة السيد راغب، وكان بينهم نائب الإدارة يحيط به عددٌ من الناس، فجعل يتكلم عن بطولة الرئيس إلى أن قال له: لقد عرَّضت حياتك لخطر عظيم يا سيد راغب، فغدًا تذكر الجرايد عملك بإعجاب وثناء، وأودُّ أن أمنحك وسامًا تستحقُّه! … فلم يأبه الرئيس لهذه المنحة وقال: إنني لم أفعل إلا واجبًا محتمًا عليَّ، ولطالما أنقذت غيره من الرجال! فتحوَّل النائب إلى فتًى لابس قبعةً تزينها قددٌ حمراء يهتمُّ بأخذِ الأوراق من المسافرين وقال لهُ: وأنت يا عزيزي، ألا ترى أنَّ عملَ رئيسك يستحقُّ وسامًا؟ أتظنُّ أنه من الواجب أن يعرض الإنسان نفسه في سبيل مسافر؟ …

فنظر الفتى إلى النائب نظرة دهش واستغراب وقال: إنَّ من كان موظَّفًا في السكَّة الحديديَّة يتعوَّد اللعب بالأخطار!

– مرحى! مرحى! إن محطة جونية هذه لمدرسة تعلم البطولة! فأنا أعرف رئيسك السيد راغبًا من عهدٍ طويل، فهو مثال الموظَّفين ولا بدَّ لي من منحه وسام الاستحقاق. ولكن أنت أيضًا لي مدَّة غير قصيرة أراك فيها عند مروري من هناك، فكم لك من العمر؟

– ثماني عشرة سنة! فأنا موظَّف في جونية ولي ثلاث سنوات في وظيفتي. ما كدت أبلغ الرابعة عشرة من سني حتى سمح لي هؤلاء المفضلون بأن أتذوَّق مصاعب الخدمة في مكاتبهم العديدة.

– إذن فمتى تتعلَّم المتاجرة بالبضائع؟

– بعد خدمتي في الجندية.

– إنه لوقت بعيد! فإذا احتجت إليَّ يومًا … ما هو اسمك؟

– سالم، ولكنَّ الجميع هنا يدعونني فريدًا.

توصَّل فريد اليتيم إلى تحقيق حلمه فدخل في السكة الحديدية بعد أن تبنته السيدة فارس منذ ست سنواتٍ خلَت؛ فكان شديد الانتباه إلى وظيفته محبوبًا من رؤسائه الذين لم يألوا جهدًا في تشجيعه ودفعه إلى المثابرة في عمله ليذهب في مذاهب التقدم والفَلاح.

لم يكن فريد طماعًا، فمرتبه الصغير كان يكفيه لسد حاجته؛ وكان بعيدًا عن الاهتمام بالمال والمجد، إلَّا أنه كان يضمر في قلبه حزنًا عميقًا أدبَّ السأم في حياته.

بقي الفتى وهو في الثامنة عشرة من عمره سقيم البنية، مجعَّد ملامح الوجه، ذا خلقةٍ بشعة غريبة الشكل لا يتمالك الناظر إليها من الضحك.

كان فريد كريه المنظر إلَّا أنه كان يحب الفتاة ابنة أديب، وكيف لا يحبها؟ ألم ينشآ معًا تحت سقفٍ واحد؟ ألم يلعبا جنبًا إلى جنب طيلة أيام الحداثة؟

عندما بلغ الفتى الرابعة عشرة وترك المدرسة لينخرط في سلك الموظَّفين كانت ابنة أديب في الثالثة عشرة من عمرها، وكان جمالها قد برز بأبهى ما به وارتسمت عليه أمارات الزهوِّ والسرور.

كان للفتاة صوت جميل يملأ منزل العمَلَة بعذوبته المُسكرة، وكانت تتغنَّى به طيلة ساعات النهار؛ وعندما بلغت الخامسة عشرة وبرزت ذات صباح بثوبها الطويل وشعورها السوداء كانت كأنها ملاكٌ من ملائك الجنان.

شعر القرويُّون الفتيان أنهم ينقادون بفطرتهم الساذجة إلى تعشُّقها والميل إليها وفيهم الغنيُّ والجميل؛ ولكنَّ والدها كان يجيبهم بالسلب على طلبهم يدها مدَّعيًا أنها لا تزال صغيرة.

كانت أحلام الوالد بابنته كبيرة وكان يهيئ لها مهرًا يتسع لها به أن تقترن بأفضل شاب في لبنان.

ففي أحد الأيام قال لامرأته: إنَّ أراضينا لا تغلُّ علينا ما يكفي مئونة الحياة وما يتطلَّبُهُ منَّا مستقبل فتاتنا؛ فلقد خطر لي خاطرٌ عظيم وهو أن أبذر في كل مكان بذورًا مختلفة من الحمص والعدس وما شاكل ذلك، وأذهب إلى بيروت حيث أتفق مع كبار التجَّار على أن أرسل إليهم كميَّاتٍ كبيرة من هذه الأصناف، فبهذه الطريقة نتوصَّل إلى الثروة في وقت قريب.

وما عتَّم أن أخرج فكرته هذه إلى حيز العمل، فقلب أرضَه بمساعدة كثير من الفلاحين، وكان هو وامرأته يديران دفَّة الأشغال، فينهضان باكرًا ويصرفان النهار كلَّه في مساعدة العمَلَة وإرشادهم وتشجيعهم، حتى إذا جاء المساء اتجه الجميع إلى خوانٍ مركَّز على براميل أربعة تحت شجرة الطَّلْح، فجلس أديب في الوسط وسكب الخمرة في الكئوس.

كان معظم هؤلاء العمَلَة من الأرمن قادهم الأمل بالأرباح إلى سهول لبنان.

•••

كل مساء عندما يعود فريد إلى المنزل يجد الأولاد الأحداث ينتظرونه أمام القنديل فيجلس إليهم ويشرع يفسِّر لهم أمثولاتهم ويساعدهم على حل الأرقام الحسابية، ففي ذات ليلة بينما كان الفتى يشرح كيفيَّة رقم من الأرقام شعرت الفتاة الزرقاء بأنه يُخطئ فقالت له: إنك تخطئ يا فريد فما الذي يشغل فكرك؟ وبمن أنت تحلم؟

كان يسمع ضحكة الفتاة ابنة أديب وصوتها العذب يتصاعدان من النافذة المجاورة! آه، إنه لم يكشف لأحدٍ سرَّ حُبِّه الجميل! بل دفنه في أعمق أعماق صدره! ألم يكن من المضحك أن يحب وهو الفتى المسخ والفقير؟ ألم يكن من المضحك أن يحبَّ … من؟ أجمل فتاة! كان يحبها ويهرب منها خلافًا لبعض الفتيان الذين كانوا يختلفون دائمًا إلى منزل عمَلَة السكة! وكان عندما يرى لبيب راغب المتخرِّج من جامعة «القديس يوسف» في بيروت، وحامل البريد الفتى الذي خلف عزيزًا في وظيفته جميل هاني وغيرهم يترددون إلى منزل عمَلَة السكة، يقول في نفسه: هؤلاء أيضًا يفكِّرون في الفتاة ويحلمون بها!

ولكن بينا أصدقاؤه يحيطون بالفتاة ويتوددون إليها كان هو يمرُّ أمامها بدون أن يلتفت أو أن يوجِّهَ إليها كلمة، فتمتعض من تصرُّفه هذا فتقول له: أتمرُّ بدون أن تحيي يا فريد؟ ألا تقف دقيقةً واحدة تحت الشجرة؟ فيجيبها: لا يتسع لي الوقت للتحدث، فالصغار ينتظرونني في المنزل لأشرح لهم أُمثولاتهم.

– كان يجب عليك إذن أن تحترف حرفة التعليم! يظهر لي أنك تُسرُّ جدًّا بتحليل الأرقام الحسابيَّة والإعراب؟

وا حسرتاه! لقد نسي فريد وهو مستغرق في تصحيح الإعراب أن يُعرب قلبَهُ!

غير أنه كان شديد الفرح في تلك الليلة؛ لأنها كلَّمته وبسمت له! أجل، لقد كفاه غبطةً أن تحدثه وتنظر إليه وتجمع إلى تذكاراته التي يضنُّ بها إلَّا على الليل هذا التذكار الجميل!

٢

كانت تلك الليلة شديدة العواصف والأمطار حتى إنها حالت دون رقاد المزارعين في جونية. ولمَّا كان غدٌ أبكر أديب فقطر جواده على العجلَة وذهب مع امرأته لزيارة أراضيه والوقوف على الأتلاف.

كانت الشمس تنير بأشعَّتها المتلألئة بين الغيوم المنهزمة طرق المجاري والأودية التي تخلَّلتها الأوراق والأغصان المتكسِّرة والأدواح المستأصلة من منابتها؛ وعندما اجتاز أديب بعض كيلومتراتٍ بلغ سهوله الواسعة فرأى أن العواصف والسقيط قد أشفقت على مزروعاته فأبقتها ولم يمسَّ الهواءُ العاصف إلا أسلاك الحديد، حيث اتكأت رءوس الأغراس الخضراء؛ فهتف مسرورًا ورفع نظره إلى الله وقال: أحمدك اللهم! لقد أبعدتَ الضرر عني وكفيتني مئونة الخسائر! ثم ربط جواده إلى شجرة وأخذ يُعيد مع امرأتِهِ أسلاك الحديد إلى ما كانت عليه ويسندان إليها رءوس الأغراس المنطرحة على الأرض.

كان في طرف الحقل منحدرٌ يرتفع على مقربة من السلك الحديدي؛ فبعد أن صرف أديب بعض الساعات في العمل جلس على حافة العجلة؛ ليأخذ شيئًا من الزاد فخيل إليه أنه يرى عمادًا «تلغرافيًّا» على خط القطار، فأسرع ليتحقق ما رآه فتبين أن زوبعة الليل قد حطَّمت العماد الكبير فاضطرب اضطرابًا شديدًا ورجع إلى امرأته وقال لها: يستحيل علينا أن نرفع ذلك الثقل الهائل عن الخط؛ بيد أنَّ الخطر قريب؛ لأن القطار أصبح على وشك الوصول، فما العمل؟ يجب أن ننقذَ القطار من الداهية! …

فقالت المرأة ببسالة قليلًا ما تتفق للنساء: يجب أن نجد وسيلة قريبة، يجب أن نوقف القطار. أتعرف بأيَّة واسطة نتمكَّن من إيقافه؟

– بوضع علم أحمر في وسط الطريق. ولكن أين يتَّفق لنا أن نجد علمًا أحمر؟ عند هذا خطرَ له خاطرٌ فجائي فصرخ قائلًا: تنورتك الصغيرة!

فلم يكد يتلفَّظ بهاتين الكلمتين حتى سقطت التنورة الحمراء على قدميها، فأخذها أديب وربطها بقدر ما استطاع إلى مذراةٍ ذات أسنان مستطيلة وركض فاجتاز الحقل حتى بلغ المنحدر فتسلَّقه إلى الخط حيث ركز علمَه الأحمر!

بعد مرور خمس دقائق أبصر سائق القطار العلامة الحمراء فأوقف الآلة تجاه حقل أديب. عند هذا شرع الزوج وامرأته يقصَّان على مسمع السائق كيفية الحادثة، فنزل أحد المفتشين من القطار وبعد أن استجلى الحقيقة شكر الزوجين على صنيعهما الحميد قائلًا لهما: لقد أنقذتما القطار من خطرٍ عظيم أيها الباسلان! فلولا عَلَمُكما الأحمر لَما نجَت مئات من الأرواح! فسأطلع الشركة على جميلكما هذا!

في تلك الآونة كانت رءوس المسافرين تطلُّ من نوافذ القطار وقد ظهرت على محيَّاها أمارات السرور وخرجَت من أفواهها عبارات الشكر والثناء.

أمَّا القرويَّة فلم تتردَّد أن نزعَت قماشتها الحمراء عن أسنان المذراة ورفعَت على مرأى من الجميع وهي تبتسم ابتسامة جذَّابة تلك التنورة المرقَّعة، تنورة القرويَّة اللبنانية التي أنقذَت القطار.

أقام سكَّان منزل العمَلَة حفلةً جميلة لعائلة أديب في المساء نفسه، وبعد ثمانية أيام جاء السيد راغب إلى أديب وقال له: إن الشركة مُقرَّة بجميلك وهي تتوسل إليك أن تقبل منها جائزة قدرها خمسون فرنكًا. فغضب بطرس عندما شعر بزهادة المبلغ وقال: خمسون فرنكًا! خمسون فرنكًا فقط لقاء تضحية كهذه! إنَّ كفاءَ الشركة لكفاءٌ زهيد!

فعارضَه أديب قائلًا: لم أفعل ما فعلتُ في سبيل المال يا سيدي المدير، ولكنِّي لا أرفض مكافأة الشركة؛ لأنها غنيَّة … بشرط أن يُصرَف هذا المبلغ في إقامة مأدبة لعمَّال السكَّة تتصدَّرها أنت يا سيدي المدير؛ لكي يتمَّ فرحنا بك.

آه! إنَّ الخمسين الفرنك التي سمَحَت بها الشركة لا تكفي لدفع نفقات الوليمة! ولكنَّ عائلة أديب، تلك العائلة المضيافة، قلَّما أمسكت كيسها عن أحد.

•••

كانت الليالي عذبة مسكرة في شهر أيَّار الضاحك؛ ففي ذات ليلة مُدَّ الخوان تحت شجرة الطَّلْح المُزهرة، فجلس رئيس المحطَّة في مقدِّمة المدعوِّين؛ وكانت السيدة أديب تذهب وتجيء من المطبخ إلى الخوان فتحثُّ النساء على الأكل وتملأ القناني الفارغة أو تسكب الطعام في الصحون، في حين يكون الدسم يُنشد في المقلاة فوق نارٍ مضطرمة.

عند هذا كانت روائح أردية شفَّافة معطرة بعطر قديم تفوح من النساء وتمتزج بأشذاء العناقيد المتدلية من شجرة الطَّلْح أو بأريج الأوراق الذابلة على خصر الفتاة ابنة أديب.

أما النساء فكنَّ مرتديات أجمل ثيابهنَّ في تلك السهرة، حيث برزت السيدة فارس بردائها البسيط وشعورها الكستنائية، كأنها تسترجعُ عهد شبابها القديم.

والسيدة بطرس بثوب العُرس الأسود وقد رثَّ وتخرَّق فجُمِعَت أطرافُهُ المخرَّقة بدبابيس وغُطِّيت بأقمشة مزركشة.

وكانت عائلة عزيز من المدعوِّين إلى تلك الحفلة العائلية فجاءت من جونية، حيث كانت قد استوطنت وابتاعت بيتًا صغيرًا تحيط به الجنائن والكروم. لا تسلْ عن فرحها برؤية العمَلَة بعد غيبةٍ طويلة، فأخذت تحدِّثهم عن مزروعاتها ومواشيها الصغيرة وأولادها الذين وطَّدوا دعائم مستقبلهم.

أمَّا نجيب فكان يتحدث إلى الرئيس في حين كان بطرس ذو المزاج السوداوي يسخر من ثوب امرأته الجميل، ذلك الثوب الموثقة أطراف خرقِهِ بالدبابيس.

وفي طرف الخوان كان الفتيات يضحكون بملء أشدقاهم، بينهم ابنة أديب التي كانت تلجُّ على جميل الموظَّف الجديد في الشركة وتجتهد في استمالة أبصار فريد.

وعندما أوشكَت الوليمة أن تنتهي أخذ البعض يتناشدون الأشعار ثمَّ نهضوا للرَّقص، فأبعدوا المناضد إلى ناحية من الفسحة واصطفَّ العُجَّز على قدم الجدار ليفسحوا مجالًا للراقصين.

دارت حلْقة الرقص بين القرويين والقرويَّات فجلست السيدة فارس والسيدة أديب في الظُّلمة، وأخذتا تنشدان بصوتٍ بطيء أغاني «دبكة» يعرفها الجميع في القرية، في حين كانت العاملات ينحنين على عتبة المطبخ ليتفرجن على الرقص بدون أن يتوقفن عن غسل الصحون وتنشيفها.

في تلك الآونة كان القمر هلالًا ينفذ أشعته الفضية من بين الأغصان، فتطفو على الساقية ذات المياه الرقراقة وتعيرها لمعان الزجاج عندما تنعكس عليه أشعَّة الشمس.

لم يكن فريد يحسن الرقص، فكان جالسًا على قدم الجدار مع العجَّز ينظر إلى ابنة أديب تدور إلى ذراع جميل هاني كأنها خيالٌ أبيض يطفو على ظلمة الليل؛ وكان يتبع بنظراته حركاتها الخفيفة العذبة، وقد جُمعت إليها مهابة المساء وأسرار القمر، فأكسبتها ملامح جنيَّة ذات جواذب شعرية غميضة، فتمنَّى لو أُتيح له أن يصرف الليل كلَّه في النظر إلى تينك القدمين اللتين تلامسان الأرض بخفَّة الطائر. حتى إذا انتهت الفتاة من الرقص تحوَّلت إلى فريد وقالت له بغنج: ألا تودُّ أن ترقص يا فريد؟

– لم أتعلَّم الرقص.

– تعال معي أُعلِّمْك إياه بسهولة.

– لا، أخاف أن يضحكوا مني.

– إني ألومك يا فريد، فالرقص جميل! … ولا يجمل بك أن تبقى إلى جانب هؤلاء العُجَّز بينما الجميع يرقصون …

– لا، ليس من المحزن أن أبقى على ما أنا! …

– أنت دون الثامنة عشرة يا فريد، والذي ينظر إليك يظنُّك في الأربعين، ثمَّ إني لا أعرف ما يروق لك، ولقد تبيَّن لي أنَّك تكره كلَّ ما يلذُّ لغيرك.

– ومن قال لك ذلك؟ …

– إذن فأنت تُحبُّ الزهوَّ والشمسَ والأزهار؟

– كثيرًا!

– إذا كان ذلك فأودُّ أن أسرَّكَ وأُنوِّر أفكارك.

قالت ذلك ونزعت الأزهار من خصرها وألقتها بين يديه وهي تنشد أغنية جميلة، فتشنَّجت أصابع الولد المضطربة على الأزهار الملساء التي كانت على وشك الذبول؛ ثمَّ انتصب على قدميه وقد خُيِّل إليه أنَّهُ يسمعُ أصوات شبابه تصرخ في حنايا نفسه. وفجأةً ضمَّ الأزهارَ إلى صدرِه وانسلَّ بعيدًا عن العمَلَة حتى دخل غرفته الصغيرة ليجلس وحيدًا مع أفكاره!

في تلك الدقيقة كان القمر يملأ بأشعته الزرقاء الطافحة بالأحلام تلك الغرفة الضيقة، فجلس الولد على حافة السرير وفي يده الأزهار العطرة وأخذ يتسمَّع إلى نداء عذب يتصاعد من قلبه.

كان ذلك النداء أصوات السعادة!

ثم استسلم للبكاء فتناثرت الدموع على الأزهار العطرة فقال: ربِّ، أهذا هو الحب؟

٣

كانت السيدة بطرس مستلقية على كرسي من قش تقصُّ على مسامع جاراتها رواية غراميَّة قرأتها في جريدة «البرق»، حتى إذا وصلت إلى هذا المقطع: شعر المركيز الشابُّ بأنَّ فخًّا سريًّا قد انفتح تحت قدميه فسقط في هوَّة عميقة … قاطعها جميل هاني بقوله: عن أيِّ مركيز تتكلمين يا سيدتي؟

– عن الذي قرأتُ حوادثه في «البرق».

– آه! كنتُ أظنك تقصين حكاية حقيقية! …

فرفعت السيدة بطرس نظراتٍ ملؤها الشاعرية إلى نجوم الليل وقالت: إنَّ القصص الحقيقية لا تلذُّ كغيرها من القصص الخياليَّة يا سيد هاني، ولكن اصمت! … فأنا أقول ذلك بصوتٍ خافت؛ لأن زوجي لا يزال يعتقد أنني امرأةٌ خيالية.

فقال نجيب: إنَّ زوجَكِ غائبٌ الآن!

– ما الذي اضطره إلى البقاء في المحطَّة حتى هذه الساعة المتأخرة؟

فأكد لها جميل هاني بقوله: ليس زوجك في المحطَّة، فلقد مررت بمكتبه منذ هنيهةٍ فلم أجد أحدًا. فنهضت السيدة بطرس قلقة البال وقالت: إذن فأين هو؟ إنني لم أرَه منذ الظهر! ولكن لا بأس، بشرط ألا يكون مريضًا! وعلى كلٍّ فأنا ذاهبة إلى المحطة لأعرف سبب تأخره! فقالت النساء بصوتٍ واحد: إنَّا نتبعك!

أمَّا نجيب فاستلقى على ظهره من الضحك وقال: أنتِ لا تجهلين أنَّ زوجك يحبُّ رفع الكأس من وقتٍ إلى آخر، فهو بدون شك في خمَّارة يوسف.

فقالت السيدة أديب باحتقار: في خمَّارة يوسف؟ أوَيجوز لموظف في الشركة أن يتمرَّغَ بين الرعاة وسوَّاقي العجلات في خمَّارة يوسف؟

فقال جميل: ربما ذهب إلى جونية بدون أن يخبر أحدًا من أصدقائه، فأنا لا أذكر أني أبصرتُه في القطار الأخير، ولا ريب أنه ذهب في عجلةِ البريد بعد القطار.

عند هذا أسرع الرجال للاستطلاع، فقيل لهم: إن بطرس ليس في المحطَّة ولا في الخمَّارة، فلم يترددوا أن بدءوا يبحثون عنه على طرق الأسلاك الحديديَّة حيث تكثر الأخطار وتتوالى الحوادث؛ فتمتم فريد في مسمع نجيب قائلًا: إنَّ شبهًا غريبًا تبينته بين بطرس وبين مسافر ركب هذا المساء قطار باريس. والحق أقول: إنه لو لم يكن هذا المسافر مرتديًا برنسًا رماديًّا وقبعةً من قش لما استطعت أن أفرق بينه وبين بطرس.

– إنَّ ما تقولُهُ يا عزيزي لفظيعٌ، فلا تردده على مسمع أحدٍ من الرِّفاق، وتعال معي نطلع السيد راغب على ذلك.

فعندما سمع الرئيس ملاحظة فريد قطَّب حاجبيه وقال: إنَّ هؤلاء الرجال لخطرٌ عظيم على الإنسانية، فهم يلقون بذور الثورة في كل مكان.

ثم دخل الثلاثة إلى مكتب بطرس فرأوا قبَّعته وسترته ذات الأزرار الصفراء مطروحتين بدون ترتيب تحت المنضدة.

فتساءل السيد راغب قائلًا: لماذا يا ترى طرح إلى الأرض ثياب مأموريته؟

ثم أسرع إلى الدفاتر في الصندوق فرآه فارغًا فضرب المكتب بقبضته وقال: لقد نهب كلَّ شيءٍ وفرَّ هاربًا!

بقي نجيب وفريد في مكانهما لا يُبديان حركة وقد شعرا بأنه من العبث أن يدافعا عن بطرس.

ثمَّ تأوَّه فريد وقال: يا لله! بأي حزنٍ ستتلقَّى السيدة بطرس هذا النبأ المشئوم؟

فأجابه السيد راغب: إن لهذه السيدة يدًا في الأمر. فالسيد بطرس لم يكن رجلًا شريرًا بل كان محبًّا للهو، محبًّا للكسل. إلَّا أنه كان في بادئ أمره نشيطًا لا يدَّخر وسعًا في إرضاء رؤسائه، كان طمَّاعًا يرغب في الحصول على وظيفةٍ سامية في الشركة؛ ومع كل هذا كان يستهون العمل فيسدُّ بذكائه ورشاقته ما كان ينقصه من الغيرة والاجتهاد.

ربيَ بطرس في كنف عمٍّ كاهن قديم فاستقى منه شعائر مسيحيَّة صالحة، ولو عرفت امرأته كيف يجب أن تتعهد نفسه وتمحو سيئاته بإرشاداتها لكان رجلًا كاملًا.

آه! أُفٍّ من النساء الخياليَّات، النساء المختلطات، اللواتي لا يعرفن واجباتهنَّ نحو أزواجهنَّ فيستسلمن إلى الأهواء ويطفئن إيمانهنَّ غير مكترثات للعواقب الوخيمة!

آه! إنَّ هؤلاء الجاهلات يمهِّدْنَ لهنَّ مستقبلًا ملؤه الدموع والدماء!

فضرب نجيب يدًا على يدٍ وقال متأوِّهًا: يا للأسف! ماذا يحلُّ بهذه المسكينة التي لم تتعوَّد مصائب الحياة إذا لم يرجع بطرس ويندم على ما فعل؟ ماذا يحلُّ بها وبولديها إذا تركها تتخبَّط في ظلمات المصائب التي تنتظرها؟

ففكَّر الرئيس هنيهة وقال: إنَّ من الواجب أن نسعى لمساعدة هذه العائلة المسكينة. فلو عرفنا أين هو بطرس وأعدناه إلى وظيفته قبل أن تتبلَّغ الشركة أمر هربه فتطرده لقمنا بهذا الواجب بأسرع ما يتسع لنا؛ فالسيد بطرس رجل طيب وما دُفع إلى هذا العمل إلَّا في ساعة جنون طرأ عليه، ولا أظنه يتمنَّع عن الرجوع إلى صوابه إذا نصحه صديقٌ مخلص وخاطبه بلغة العقل الصائب. يجب أن نقوم بهذا الواجب يا نجيب.

– إنَّ بطرس لم يترك لنا عنوانه يا سيدي المدير، فيتعذَّر علينا اكتشاف مقره وتذهب مساعينا أدراج الرياح.

– من يعلم؟ ربَّما نتوصل إلى معرفة ذلك بواسطة امرأته؛ فهي تجهل كل شيء، ولكنَّها تعطينا تعليماتٍ صحيحة عن عادات زوجها وعلاقاته، وعن الأصدقاء الذين يعرفهم في صوفر أو في عالية أو في بيروت.

•••

عندما رأت السيدة بطرس أن زوجها لم يحضر مع العمال الذين ذهبوا للبحث عنه قلقت قلقًا شديدًا وقالت: لماذا تخفون عني حقيقة الأمر؟ … فهل حدث لبطرس حادث مشئوم؟ أجيبوا حالًا! فهل هو مريض؟ … أو جريح؟ …

فأدخلها الرئيس إلى مكتبه وبعد أن هدَّأ خاطرها أطلعها على كل شيء، فصرخت المرأة الجميلة قائلةً: لا يا سيدي، إنَّ زوجي لرجلٌ شريف فلا يرتكب مثل هذه الفظاعة! فتنهَّد الرئيس وقال: عسى أن يصدق ما تقولين!

فتحوَّلت السيدة بطرس إلى الحاضرين وقالت لنجيب: ما لي أراك لا تنتصر لبطرس يا نجيب؟ ألستَ أعلم به من سواك؟

– إن من ينتصر لرجل يا سيدتي يجب عليه أن يتحقق براءته. أنا لا أجهل أنَّ أهواء النفس تعمي أبصار الرجل أحيانًا وتخنق فيه صوت الضمير والعقل! ولا أنكر أننا معرَّضون جميعًا للوقوع في مكايد الحياة.

وهذا ما يمنعني عن أن أحتقر زوجك أو أدينه؛ إلَّا أنني أتكلَّم فقط عن حادثٍ وقع، وهو أن بطرس قد هرب هذا المساء … وتريننا نجتهد في إخفاء الأمر عن الشركة، ونسعى لاكتشاف مقر زوجك وإعادته إلى وظيفته؛ ولكن نحتاج إلى إشارة منك …

واستطرد الرئيس قائلًا: أجل، فأطلعينا على حالة زوجك في الأيام الأخيرة، ومَن كان يعاشر في جونية. لقد قال لي رفيقه في المكتب: إنه كان يكتب رسائل عديدة. أكان يحبُّ أولاده؟ أكان يهتمُّ بهم؟

– أجل، كان يذهب إلى جونية وكان يحب أولاده، إلَّا أنه لم يكن يُقَبِّلُهم لقذارة ثيابهم. ثمَّ إنه كان لا يجد شيئًا في البيت يتفق مع ذوقه، وكنت لا أقوم بعمل يرضيه فيغضب عليَّ ويشتمني، كان يعتبر كلَّ ما يلذُّ لي جريمة فيأخذ عليَّ قراءتي الروايات وانهماكي في التطريز.

أمَّا أغنياته الدائمة فكانت: ما هذا الخلل في البيت؟ … ما هذا الإفراط في المعيشة؟ … ما هذا التهاون؟ …

وكنت قد تعودت احتداده وغيظه فلم أكترث لشتائمه مهما كانت شديدة! آه! ما كنت أدري يومَ ذاك أنه أصبح يميل شيئًا فشيئًا عن تعلقه بي وبولديه، وأنه يبحث عمَّا يسليه بيته ويبغضه عائلته!

ولكن لا أُصدِّق ذلك، فالذي ينهج هذا المنهج يجب أن يُعدَمَ حاسة الشرف والضمير! إنني أعرف زوجي حق المعرفة، فهو لا يرتكب فظاعة كهذه! ويتركني عرضةً للمصائب مع ولديَّ الصغيرين! …

قالت ذلك وانطرحت على مقعدٍ من جلدٍ أخضر قرَّبهُ إليها رئيس المحطَّة، واستسلمت للبكاء والشهيق فجعلوا يلاطفونها ويهدئون روعها، إلَّا أنها لم تتعوَّد في حياتها أن تسطو على تأثراتها وتدفع المصائب بروح صلبة ورباطة جأش، فأخذت يداها تضطربان اضطرابًا شديدًا واهتزَّ جسدها من قمته إلى قدميه، فخشي الحاضرون أن يصيبها نوبةٌ عصبيَّة فحملوها إلى منزلها حيث بقيت جاراتها ساهراتٍ أمام سريرها طيلةَ الليل.

في أثناء ذلك تفقَّد الرئيس ونجيب دفاتر بطرس وأوراقه فثبت لهما أنَّه صحب معه مبلغ أربع مئة وستين فرنكًا كانت في صندوقه، فقال الرئيس: ليس في الأمر فرار فقط بل سرقة! … فأنا مضطرٌّ إلى التصريح بها أمام الشركة! مسكينة هذه المرأة، فسيلحق بها وبولديها عارٌ عظيم فوق أحزانها وتعاستها …

في تلك الآونة كان فارس واقفًا لا يتكلَّم إلَّا بما يراه مفيدًا فعندما سمع كلام الرئيس قال: ألا ترى أنَّ في أكياس العمَّال ما يضارع مبلغ أربعمئة وستين فرنكًا؟ وأننا نُعدَم الشعور إذا لم نجتهد في جمعها لإنقاذ شرف هذه العائلة المسكينة؟

فقال نجيب: لقد كان بطرس التعس رفيقًا لنا؛ ففكرتك جميلةٌ يا فارس وشريفة، وسأقوم بجمع الجبوة بنفسي.

فقال الرئيس وقد اغرورقت عيناه بالدموع: إنَّ من العزاء أن يصادفَ الإنسان في طريقه قلوبًا شريفةً كقلوبكم يا أصدقائي! أجل لقد أصبتم! فلنعطف على البؤساء؛ ولننحنِ فوق المصيبة بعاطفةٍ ملؤها الاحترام. قمْ بجمعِ الجبوة يا نجيب، والذي تحتاجون إليه لاكتمال المبلغ يدفعه لكم رئيسكم القديم …

كان الهزيع الثاني من الليل قد فات، ولكن لم ينم أحدٌ في منزل العمَلَة إلَّا السيدة بطرس المسكينة تحرسها جاراتها ويعتنين بها.

هزَّ نجيب كرم العمَّال فتناثرت الدريهماتُ من أكياسهم، تلك الأكياس التي تحتوي على التقتير القليل! إذ إنَّ مجرى الإخاء كان قد تدفق من جميع القلوب الورعة. عند هذا أخذ نجيب المبلغ ونزل إلى المحطة ليضعه بين يدَي السيد راغب فتبعه فريد وقال له: أودُّ أنا أيضًا أن أهب حصَّتي، فخذْ كل ما في كيسي!

فتوقف نجيب وشخص إلى الولد بنظرات ملؤها الإعجاب وقال: أجل يا عزيزي فريد، إنَّ ما صنعَه العمَّال هذا المساء لعمل شريف! ما ضرنا إذا كانت حياتنا ضيقة بائسة وأفكارنا لم تنبت في المعارف والعلوم، ففي قلوبنا شعائر ترفعنا إلى مستوى أسمى من مراتبنا، وتضعنا في أوجٍ عالٍ لا تبلغ إليه حظوظنا!

٤

مرَّت أيامٌ عديدة لم يظهر بطرس في خلالها. وفي ذات يومٍ تلقَّت امرأته كتابًا من بيروت جاء فيه أنَّ خلل بيتها دعاه إلى النزوح إلى أميركا، حيث مهَّدَ له أحدُ أصدقائه مركزًا يليق بهِ وأنه لا يعود إلى لبنان قبل مرور عشر سنوات.

وبعد أيام جاءَ أهلُ السيدة بطرس إلى جونية ليأخذوا ابنتهم وولديها، فعندما عرفَ الأبُ وهو في العقد السابع من عمره تفاصيل الحادثة أخذ يبكي حتى انتحب وقال: إنَّ الأربع المائة والستين الفرنك ستُرجع إليك بكاملها، إلَّا أنني أطلب منكم مهلةً لوفائها، فأنا طبيبٌ لا أملك مالًا وعندي بنتان لا تزالان في البيت! آه! يا أصدقائي، إنكم سعداء ببناتكم فهنَّ يشتغلنَ ويُساعدْنَ آباءَهنَّ العجَّز إذا لم يتوفَّقنَ إلى أزواجٍ صالحين. أمَّا نحن فبناتنا لا شاغل يشغلهنَّ إلَّا التطريز والعزف على «البيانو» حتى يصادفنَ الفتيانَ الأغنياء، وهؤلاء يميلون غالبًا عن اللواتي لا مَهَر لهن.

تركت السيدة بطرس جونية في منتصف شهر أيار قبل أن يخلف أحدٌ زوجها في وظيفته. فأخذ فريد على عهدته القيام بالوظيفة غير عابئٍ بالأتعاب والجهود التي تُستَوجَب لذلك. فكان المدير يقول له: إنَّ حميتك لا تلبث بدون مكافأة يا فريد، فالمفتش يتفحَّص عنك كلما زار الإدارة وستُجازى عن قريب جزاءً تستحقه غيرتُك ونشاطك.

كان الفتى يجتهد في عمله ويسعى في إرضاء رؤسائه بما أُوتيه من الحذاقة والنشاط، وكان وهو في مكتبه يفتح من حين إلى آخر درجًا سريًّا ويأخذ منه كتابًا من الشِّعر يضم نخبةً صالحة لأكبر شعراء العصر. كان فريد قد استظهر معظم هذه الأبيات الرقيقة، وبما أنه كان يستعذبها عهِدَ إليها بكنزِهِ الثمين، وهو زهرةٌ ذابلة وضعها بين طيَّات الكتاب ففاحت عطورها وامتزجت بأشذاء الأرواح المتنقلة بين سطوره.

كانت هذه الزهرة ذخيرته الوحيدة التي بقيت له من ابنة أديب، فكان يقبِّلها قائلًا: أتراها تحبني؟ أتُراها تعطف عليَّ؟

فهذه الزهرة الذابلة كانت تكفي لأن تنير مكتبه الساكن في ليالي الربيع وتضيء في ظلمات حياته المملة المتعبة! إلَّا أنَّ فكرةً أليمة كانت تُعذبه وهي أنه لا يجرؤ أن يكاشف الفتاة بسرِّه! …

•••

جاءَ عيد العنصرة فتأهَّب الزائرون صباحَ الاثنين وذهبوا لحضور القداس في كنيسة «سيدة حريصا»، وكان بينهم السيدة فارس وأولادها والسيدة أديب وزوجها ومعظم عمَلَة السكة الحديديَّة؛ فعندما بلغوا إلى قمة الجبل تراءَت لهم الكنيسة مُشرفةً على وادٍ من أخصب أوداء لبنان تتخلَّلُهُ المياه الزرقاء وتضيع بين الأدواح المسنة في مطارح الحقول!

انتهى القدَّاس فجلس الزائرون على الأعشاب أمام الكنيسة ليتناولوا طعامَ الصباح، وكانت الطيور تزقزق على الأغصان فتمتزج نغماتُها برقرقة المياه في الجداول الصغيرة.

وعندما أوشكت وليمة العملة أن تنتهي بسط لبيب راغب بضاعة الحلويات أمام أصدقائه.

في تلك الآونة كانت الفتاة ابنة أديب زاهرةً زاهية، وكانت عيناها المخمليَّتان ترسلان إلى قسمات وجهها أشعةً صفراءَ ذهبيَّة. أمَّا فريد فكان ينظر إليها سرًّا وقلبُه طافحٌ سرورًا وغبطةً فيقول في نفسه: إنها لا تعرف ما إذا كانت تحبني أم لا، ولكن يُخيَّل لي أنها ستحبني عن قريب.

فرغ الجميع من الطعام فتاهوا في الحدائق الكثيفة بين الصخور والكهوف التي تكتنف الكنيسة. كانت الكهوف مظلمةً باردةً، فدخلت الفتاة إلى أحدها ولم تكدْ قدمها تلامس حجرًا باردًا حتى صرخت مذعورةً وأخذت يد فريد الذي كان واقفًا إلى جانبها وقالت له: إنني خائفة يا فريد فاحرس عليَّ!

فقال لها بصوت خافت تراوده نبراتُ عاطفةٍ صحيحة: لا تخافي فأنا هنا!

وكانت يد هذا المُنقذ تضطرب اضطراب الورقة في يد الفتاة! فقالت له: إنك تضطرب يا فريد، فهل أنت خائف مثلي؟

– آه! ألا تُدركين أنَّ الاضطراب يحدث أحيانًا من شدة الفرح؟

فقادته إلى خارج الكهف وبأسرع من الوميضة أفلَتت يدها من يده وركضَت إلى أمِّها ثم أخذت تقفز مع الفتاة الزرقاء وشقيقيها الصغيرين.

ففكر فريد في نفسه وقال: إنها تحاول أن تُخفي ميلَها ولكنَّها فهمَت رغبتي. آه! بأيَّة ثقةٍ وهبتْني يدها! بأية عذوبةٍ كلَّمَتْني وبسمت لي! إنَّ هذه البسمة لا تقدر أن تخدَعَني … فهي تحبني! …

ولكنْ بعد مرور ثوانٍ قلائل في حين كان فريد يسرِّح أحلامه التائهة في مطارح الأشجار أبصر فتاةً في ميعة عمرها جالسةً أمام قدم شجرة، وإلى جانبها فتًى جميل ساجد على قدمٍ واحدة، يعلِّق زهرةً حمراء بين شعورها الحالكة، وسمع الفتاة تقول له: إذن فأنت تحبني من عهدٍ طويل؟ أعِدْ على مسمعي ذلك!

– أجل، أحبك! أحبك من عهد طويل! فيجب عليك أن تنتظريني بضع سنوات حتى أكمل دروسي؛ فستُمْسِينَ امرأتي يومًا! امرأتي الحبيبة! …

فابتعد فريد منكسر القلب؛ لأنهما كانا لبيب راغب وابنة أديب!

٥

بعد مضي وقتٍ قصير من ذلك التاريخ طلب جميل هاني الموظَّف الثاني يد الفتاة ابنة أديب، وكان شابًّا حسنَ الذوق ليِّن العريكة في السادسة والعشرين من عمره، تعلَّقت به عائلة أديب وتوسَّمَت فيه عريسًا صالحًا للفتاة؛ إلَّا أنَّ هذه رفضت طلبه بالرغم من توسُّلات أهلها وإصرارهم، فتركوا لها فرصةَ أسبوعٍ تفكِّر فيها، ولكنَّها صرحت لهم بأنه من العبث أن تتحد به فقطعوا الرجاء.

عندما قُطِعَ بالفتى أحسَّ بأنَّ شعائره قد مُسَّت فهجر منزل عائلة أديب وسكن عند بوليت، فأثار هذا المنهجُ مكمن الاستياء من صدور العَمَلة، فقالوا للسيدة أديب: إنَّ ابنتك قد أخطأت خطأً عظيمًا؛ لأنها لن تجدَ أفضلَ من جميل هاني زوجًا لها؛ ثمَّ إنَّ منهجَها هذا يدفع الجميع في جونية أن ينسبوا إليها الكبرياء، إنك تدلِّلينها فلا تدعينَها تغسل الصحون بيدها مخافةَ أن تسودَّ أو تتجهَّم؛ كوني على ثقةٍ بأنَّ طالبي الزواج يعرفون ذلك، ويعرفون أيضًا أنَّ فتاةً نشأت على مثل هذه التربية لا تلبث أن تصبح معجرفةً متصلفة؛ ولا يجهلون ما يتوجَّب لها من الحلي والزين، وأن ابنةً ساذجةً مقتصدة أفضل بكثير من ابنةٍ لا تعرف جمالًا إلَّا جمالَ البهرجة الفارغ …

فلم تكترث السيدة أديب لهذا الكلام فأجابتهم: كونوا على ثقةٍ يا أصدقائي بأنَّ ابنتي لا تُعدَم قرينًا صالحًا. أفلا ترون الفتيان يتسابقون إلى منزلنا ويحيطون لها إحاطة السوار بالمعصم؟ فهذا شكيب النجَّار وعيسى الموسيقي واسكندر ابن الحلَّاق، فما على ابنتي إلا أن تومئ بإصبعها لتحظى بالذي ترغب فيه؛ إلَّا أنها لم تكترث مرَّة لهؤلاء الثلاثة ولم تحدثها نفسُها يومًا بأن تلتفت إليهم التفاتةً واحدة.

•••

مضى عامٌ كان نادرَ الشتاء فيبست مزروعات أديب وحلَّت به خسائر جمة حتى اضطرَّ إلى بيع أراضيه لوفاء ديونه، عند هذا تحوَّل المعجبون عن الفتاة؛ لأنها أصبحت بلا مَهر، فقالت أمُّها ذات يوم: إنَّ ابنتنا تهزل من يومٍ إلى يوم! آه! ما ضرَّنا لو زوَّجناها قبل هذه الحوادث التي طرأت علينا! ما ضرَّها لو اقترنت بجميل هاني! … إنها لتخاف المستقبل فتضعف وترق …

لا، إنَّ الفتاةَ لم تكن تأسف على تحوُّل القرويين الفتيان عنها، بل إنَّ حسراتها كانت بسبب لبيب راغب الذي كان قد ترك المدرسة منذ الصيف الماضي ليتابعَ دروسه في بيروت.

كانت الفتاة ابنة أديب قلقة البال لا يهدأ لها روع ولا يقر لها قرار فتشجعت ذات يوم وذهبت إلى السيدة فارس وأطلعتها على سبب حزنها ثمَّ قالت لها: أودُّ أن تكتبي لي وتسأليه عمَّا عزم أن يفعل. ألم يطلب مني أن أنتظره؟ لقد انتظرته ورفضت أيدي الطالبين لأجله!

أمَّا السيدة فارس فلم تتردد أن كتبت له كتابًا رصينًا، وبعد أيام قلائل جاءها جوابٌ مطوَّل مبهم، هذا فحواه:

سيدتي الفاضلة

لا يمكنك أن تتصوَّري كم كانت مفيدةً لي نصائحك وتوبيخك! فأنا أستحقُّ بعضها ولي حاجةٌ قصوى بالبعض الآخر. أجل، كنت رصينًا يومَ حريصا، وكنت أحبُّ الفتاة أو بالحري كنتُ أعتقدها حبًّا، تلك العاطفة المضطرمة التي تأجَّجت برهةً في مخيلتي الحديثة. في ذلك العهد كنتُ لا أزالُ في مدرسة جونية وكنتُ لا أعرف فتاةً إلَّا تلك الابنة اللطيفة التي كانت رفيقة حداثتي، فضلًا عن أنني كنت أجهل متطلباتِ الحياة فلم أنظر إليها بسوى مقلةِ شاعرٍ لا يُدرك عواقب الأمور. إلَّا أنَّ الأشهر القليلة التي صرفتها في بيروت بين فتيان أكثر حكمةً ودرايةً مني فتحتْ لي غلفَ عينيَّ وأرتني حقيقةَ الحياة كما هي، لا كما يتصورها الخياليون. أجل يا سيدتي، إنَّ اتِّحادي مع الفتاة ابنة أديب يكون سببًا لشقائي وشقائها وحجرَ عثرةٍ في طريقي وطريقها؛ لأنَّ ذوقي لا يتفق مع ذوقها وأفكاري لا تتفق مع أفكارها، فابنة أديب جميلة وجذَّابة عند العَمَلَة في جونية وليس في قاعات بيروت ومنتدياتها؛ فالأفضل أن نضعَ حدًّا بيننا وأن يتَّجه كلٌّ منَّا إلى الوجهة التي قُدِّرَتْ له، أشكرك يا سيدتي على تكرُّمك بأن تكوني صلةً بيني وبين الفتاة لا تعدم وسيلةً من أن تقول لها الحقيقة وتعزِّيها. قولي للصديقة ابنة أديب لتنسيني! …

فتنهَّدت الفتاة وقالت في نفسها: آه! أجل، سأنسى! سأنسى بسرعة!

كان الغضب يثور ثورته في مكمن عواطفها، ذلك لأنها انتظرته مدَّة طويلة وكانت تبني عليه آمالها الكبيرة وتتوسم في زواجها حياةً ملؤها السعادة والهناء، فأُحبطت تلك الآمال في ساعةٍ واحدة وتهدَّمت مباني أحلامها خشبةً خشبة!

أجل، نحلَت الفتاة الجميلة فتحوَّلت عنها نواظر العشَّاق في حين كانت رفيقاتها القرويات قد زففن معظمهنَّ إلى فتيانٍ صالحين وبقيت هي رهينة البيت، هي التي طالما خسفهنَّ جمالها!

ذات يومٍ كانت تتيه في ساحة المنزل فسمعت أحد الناس يقول: فتاة بلا مَهر فتاة بلا راغبين! …

فتأوَّهت وقالت في نفسها: إذن فلا حُبَّ في هذه الحياة؟ أليسَ مَن يحبني؟ …

وفجأةً مرَّت على وجهها أخيلة فكرةٍ فقالت: بلى، فريد! إنَّه لم يفاتحني بذلك ولكني تبيَّنت حبَّه مرارًا!

ثمَّ أسرعت إليه فرأته منحنيًا على جدولِ ماءٍ يركز دولابًا أزاحه التيَّار عن مكانه، فنادته بصوتٍ خافتٍ، فالتفت إليها فقالت له: لقد سقطت ثمار الخوخ تحت الشجرة ولم أملأ سلَّتي هذا المساء، فتعالَ ساعدني لئلَّا يعتقد والدي أنني أتهاون في عملي!

قالت ذلك وتواريا في الروض المجاور، كان الروض ملآن بأقفار النحل يفوح منه أرج العسل والسكر، وكانت أغراس القرع الأحمر تزحفُ على الحضيض الجاف، والحرازين العديدة تركض بين الحجارة والصخور، وتتسلَّق الجدران ذات الألوان الذهبية. فعندما بلغا إلى شجرة الخوخ وضعت الفتاة سلتها على الأرض وجلست على جدار صغير بدون أن تكترث للثمار وقالت: فريد! فريد! إني شقية تعسة! …

ثم أطلعتُه على كل شيءٍ بجرأةٍ غريبة، واستطردت قائلةً: لقد أصبحت أحتقره وأبغضه، ولا أُريد أن أسمع عنه شيئًا! … ولكنْ حالتنا الرقيقة أبعدَت عني كل محبٍّ حتى أصبحت يائسةً من الزواج!

فتمتم فريد بصوتٍ مختنق قائلًا: أمَّا أنا فأعرف واحدًا يحبُّكِ يا حضرة الفتاة!

فأجابته محدِّقة فيه: هذا أنت! لقد حزرت ذلك قبل الآن … فاسمع: أنت لا تزال حديث السن يا فريد وعمرك لا يزيد عن عمري أكثر من سنة واحدة؛ فيجب عليَّ أن أصبر حتى تعود من الجنديَّة. إلَّا أني لا أجهل خصالك الشريفة ومزاياك، فهي أسمى من جواذب لبيب راغب المتكبر، تلك الجواذب الخارجية التي لا جوهر لها؛ نعم، إني بحاجة إلى حبك يا فريد! … فمدَّ لي يدك واتخذني خطيبة لك! …

ثم بسطتْ له يدَها فأخذها بيد مضطربة وعيناه تنثران الدموع وقال: أنت خطيبتي! أنت خطيبتي! …

وكانت أسراب النحل توارت في الفضاء المعطَّر بنكهة الثمر والخوخ المتساقط من الأشجار.

٦

باع أديب أراضيه الواسعة وكرومه العديدة ولم يبقَ له إلَّا بقعة صغيرة من الأرض عزمَ أن يشتغلَها مع امرأته؛ عند هذا أُلقيَت مصالح البيت على عاتق الفتاة، فاضطرَّت أن تقوم بغسل الصحون وتنظيف النوافذ ونشلِ الدلاء من البئر حتى إنها سئمت هذه الحياة التي لم تتعوَّدها، فأصبحت تغفل كنسَ بعض الزوايا القذرة وترتيب الثياب وإعداد الأواني، ولا تنتبه إلى ملحوظات أمها في ذلك.

أمَّا الفتيات فكنَّ يستغربنَ تودُّدها إلى فريد الذي كانت تزدريه فيما مضى فيقلنَ في نفوسهنَّ: إنَّ فقرَ والديها بدَّل طباعَها القديمة وقادها إلى الإدراك، فأطماعها الماضية قد انطفأت اليوم وأصبحت لا تنظر إلى أعلى من مستواها.

وأمَّا جميل هاني الذي لم يكن قد انتهى إليه اتفاقها مع فريد فقد حاول أن يعود إلى التحبُّب إليها.

ففي ذات يوم بينما كانت الفتاة واقفةً في غرفة الانتظار في المحطَّة تترقَّب حضور البريد فتح الباب وبرز منه رأس جميل هاني، فانفتلت الفتاة من مكانها إلا أنه تقدم إليها باسمًا وقال: لماذا تتبرَّمين منِّي يا حضرة الآنسة؟

– لأنَّك حردتَ عليَّ منذ سنتين.

– لا، لم أحرد عليكِ مع أنه كان يحقُّ لي ذلك. ألم ترفضي يدي؟ ألم تكرهي قربي؟ ألم يزعجْك وجودي في منزلك؟

– إنَّ أحقاد الرِّجال لشديدة! والذي تقولُه لي الآن قديمٌ جدًّا يا سيد هاني.

– أمَّا جمالك الذي يزداد يومًا عن يوم فليس بالقديم يا حضرة الآنسة.

فاحمرَّ وجهُ الفتاة من شدَّة الفرح وقالت: ولكنَّ البعض يقولون: إنني نحلتُ وأصبحتُ شاحبةَ اللون …

– نعم، وسبب ذلك هو أنَّ مَن يكون في عمرك يحتاج إلى سلوى، فأنتِ تصرفين أيامك بالحزن والكآبة كالزاهدات. اسمعي، فستقام في الأحد القادم حفلة لطيفة في جونية فهل تحضرين؟

– لقد وعدَني والدي بأن يصحَبني معهُ.

– إذن فذَكِّريه بالوعد ولا تحرميني من الرقص معك في الحفلة.

– بطيبة خاطر.

– وهل تحقَّق لك الآن أنني سليم من الأحقاد؟

– بدون شكٍّ!

عندما جاءَ الأحد توسَّلت الفتاة إلى والدها أن يصحبَها إلى الحفلة فنزل عند توسلاتها فرقَصَت مع جميل هاني في وسط القاعة على مشهد من الحاضرين.

كان فريد في مكتبه يوم ذاك فلم يشهد الحفلة؛ وكانت الفتاة قد طلبَت منه أن يستأذنَ مديره ليذهب معها فأبى ذلك قائلًا: إنَّ السيد راغب سيبقى في المحطَّة، فإذا رجوتُ منه أن يسمحَ لي بذلك فيشك برصانتي ويعتقد فيَّ ما لا أودُّ أن يعتقدَه.

آه! كان فريد مجرَّدًا من حاسة الزهو، وكانت كلمة «الواجب» منطبعة على شفتيه.

أمَّا جميل هاني فمع تعلُّقِهِ بوظيفته وانتباهه إلى واجبه كان يعرف أن يعطي لكلِّ ساعةٍ حقَّها؛ فلا يفوته أن يعطي ملحوظاتِه إلى ابنة أديب ويقول لها مُشيرًا إلى ثوبها الحريري: هذه الشريطة تليق بردائك وهذه لا تليق به إلى ما هنالك من المجاملات التي تستحسنها النساء.

أمَّا فريد فلم يكن له أقلُّ ذوقٍ في ذلك، فلقد قال ذات يومٍ للفتاة لبيبة: إنني ما أحببتك مرَّة كما أحببتك وأنت مرتديةٌ ثوبك اليومي وقبَّعتك الصفراء.

•••

أخذت الفتاة تفكِّر في أمرها منذ ذلك اليوم وقد استاءت من نفسها؛ لأنها أسرعت في إعطاء وعدها لفريد بدون أن تتروَّى في الأمر.

وفي ذات يومٍ شعر الفتى بأن جميل هاني أصبح يتردَّد كثيرًا إلى منزل أديب فجاءَها غاضبًا وقال لها: إنَّ الفتاة التي ترفض يد شابٍّ لا يحق لها بعد ذلك أن تستقبَلهُ في بيتها! فأجابته الفتاة: إنَّ ما تقوله الآن لعادة قديمة!

– قديمة عندكِ وحدك! فلقد تراءَى لي أنك تتودَّدين إليه.

– لأنه لطيف معي يا فريد، فهو يختلف عنك اختلافًا واضحًا! فأنت لا تفتح فمك إلَّا عندما ترغب في التوبيخ!

– يا لبيبة!

– أجل، إنَّ اصطلاحاتك في الحب قد بدأت تزعجُني يا فريد! ثم يجب عليك أن تعرفَ أنك في التاسعة عشرة من عمرك ولا يتسع لك أن تتزوَّج قبل انقضاء خدمتك في الجنديَّة … فأنا لا يسعني أن أبقى مدَّةً طويلة في منزل والدي حيث أراني أفني شبابي في العمل الشاق كأحقر الخادمات! …

– ولكن أتعتقدين أنك تتملَّصين من الخدمة في بيتك عندما تتزوَّجين؟

– لا أدري إلَّا أنني سأكون سعيدة باتحادي مع جميل هاني! …

قالت ذلك وأعطَتهُ ظهرَها وانسلَّت إلى غرفتها بدون أن تكترثَ به.

فأطلق فريد زفرة محرقة في صدره وقال: لقد أصابَت! فستكون سعيدةً مع جميل! إنها لا تحبني! … فأنا فقيرٌ وسمج! إلا أنها خطيبتي، ألم تعدْني بالمحافظة على عهدها؟

ثم اتجه إلى غرفته واتكأ على حافة نافذته يفكِّر! وبعد هنيهةٍ سمعَ لغطًا تحت شجرة الطَّلْح فشخص إلى مصدر الحركة فأبصر المدير وجماعة من النساء بينهنَّ السيدة أديب رافعةً ذراعيها إلى السماء وهي تقول: يا إلهي! … يا إلهي! …

فأطلَّت السيدة فارس من الباب وسألَت قائلة: ماذا جرى؟

فصمتت الأصوات! وساد السكون!

فاقتربت السيدة فارس من الجماعة وقالت مذعورة: إنَّ في الأمر حادثة تتعلق بي! قولوا حالًا! فهل طرأ طارئ على فارس.

فقال لها المدير: هدِّئي روعك!

فقالت: ولكن تكلم! لا تخف! هل طرأ طارئ؟

– أجل، طارئ!

– أطلعني عليه! هل مات فارس؟

– لا لم يمت، ولكنَّه يطلب أن يراكم وهو الآن في مستشفى «بيروت» فعجلوا بالذهاب حالًا قبل أن يفوتنا القطار.

فألحَّت النساء بمرافقتهم ولكنَّ السيدة فارس رفضت ذلك وقالت: لم يبقَ لدينا من الوقت إلَّا خمس وثلاثون دقيقة فجيب أن تساعدوني. فتقدم فريد من المدير وسأله قائلًا: كيف وقع الحادث يا سيدي؟

– آه يا ولدي، لقد أمسكت الحقيقة عن هذه المسكينة! إنَّ فارس قد أُصيبَ بحروق فظيعة في حين كان يقوم بواجبه، وهو الآن في المستشفى يتردَّد بين الموت والحياة، ولكنَّ حالته تنذر بخطر عظيم، وقد لا يمضي عليه وقت قصير حتى يسلِّم الروح!

٧

وصلت السيدة فارس وأتباعها إلى المستشفى فوجدت زوجها في حالة خطرة؛ فعندما أبصر فارس امرأته وأولاده ضمَّهم إليه وقال: لست آسفًا على حياتي؛ لأنها كانت سعيدة وصالحة!

ثم التفت إلى فريد وقال له: لقد أصبحت رجلًا يا فريد فأنا أعهد إليك بعائلتي.

قال هذا وضمَّ الصليب إلى صدرِه الميت واستطردَ قائلًا بصوت لا يزال قويًّا: إلهي! لقد قمتُ بواجبي بدون أن أُفكِّر بهم! … إلَّا أنني أموت مغبوطًا؛ لأني واثق بك، عالمٌ أنك لا تميل عنهم في طريق الحياة.

تلفظت شفتاه بهذه الكلمات وأسلم الروح!

صدرت أوامر الشركة بأن يُحتفلَ بمأتمِهِ احتفالًا مهيبًا، فمشت فيه الجموع المؤلفة من رؤساء الشركة ومديري مكاتبها وتلامذة الفنون والجمعية الكاثوليكية بأعلامها؛ وكانت الأكاليل تتراكم فوق الأكاليل، وقد كُتبَ على بعضها هذه العبارة الملأى بالشعور الحي والإقرار بالجميل: إلى الشهيد الذي مات في سبيل إنقاذنا!

مشت الجموع الغفيرة في هذا المأتم حاسرة الرأس خاشعة الطرْف وعندما وصل الموكب أمام المحطَّة لفظ رؤساء الشركة مراثيهم، في حين كانت امرأة الميت وابنتها وولداها يصغون إلى المراثي بخشوع واحترام، وقد أمسكوا الدموع مهابةً وإجلالًا مخافة أن يدنِّسوا بها هيبةَ البطولة الراقدة.

وقف الرئيس أمام عجلات القطار الملأى بالزهور وصرخ قائلًا: إنَّ هذا البطل الشهيد لم ينلْ وسامَ الشرف ولكنَّ حسراتكم وإعجابكم قد دفنته في كفن المجد. أجل، إن التضحية في سبيل الواجب لأعظم من رموز البطولة؛ وموت هذا الرجل الباسل أحقُّ بالإكرام من موت الجنديِّ في ساحة القتال! …

عندما وقف القطار أمام محطَّة جونية انطلقت الدموع من العيون والزفرات من الصدور، في حين كان القرويُّون والقرويات يلقون الأزهار على التابوت، وقد قطفوها من حدائقهم وسهولهم.

وبعد ساعة حُملت الجثَّة إلى مقبرة القرية حيث وقف الرؤساء ثانيةً وودَّعوا الراحل بِمَرَاثٍ مؤثرة!

إلَّا أن راغب تقدم إلى الحفرة وعلى محيَّاه أمارات الأسى يعلوها اصفرار غريب، ورفع رأسه في الشعب ثم بسط ذراعه فوق الضريح وقال بصوتٍ تخلَّلَتهُ الدموع: وداعًا يا فارس! وداعًا أيها البطل! وداعًا أيها الصديق! ليس الرؤساء أو الرفاق هم الذين يبكون عليك الآن، بل الإخوة المحبون، الإخوة المعجبون! إنَّا آسفون عليك من صميم أفئدتنا ولكنَّنا من صميم أفئدتنا مفتخرون! أنتَ راحل إلى حيث تكافأ كفاءً يليق بك، بعد أن تركت لنا مثلًا شريفًا يقوينا على التمسك بالواجب! لا يا فارس إنَّ العمَلَة الذين يحيطون بك الآن لن ينسوا تضحيتك العظيمة الملأى بالأمثولات الصالحة. ارحل! … فلقد وفَّيت ما عليك للمجد، وبذَرتَ بذور الجهاد المقدَّس في صدور إخوانك! … وداعًا يا فارس فلقد عرفناك حقَّ المعرفة وأحببناك! …

٨

لقد أصبحت رجلًا يا فريد، فأنا أعهد إليك بعائلتي! هذه الكلمات التي تلفظ بها فارس الميت أقلقت بال فريد قلقًا أليمًا! أعهد إليك بعائلتي! عبارةٌ مريبة رسمَت هذا الولد الفتى أبا عائلةٍ وهو في التاسعة عشرة من عمره.

إنَّ يتيمَ أمس، ذلك الفقير المعدم، أصبح اليوم مضطرًّا أن يدفعَ إلى عائلتِه المتبنيَّة ذلك الدَّين الثقيل، دين العرفان بالجميل! فكان يقول في نفسه: يجب أن أفرحَ! فعندما كنتُ في الثانية عشرة وهبتُ كلَّ ما لديَّ للعالم ليتَّسع لي يومًا أن أعضد عائلة فارس وأقف لها حياتي وقواي! لقد سنحت لي الفرصة اليوم؛ فذلك المحتضر عهد إليَّ بعائلته فيجبُ أن أحقق أحلامي الماضية ولو قامت دونها مصاعب الحياة! …

رضيَ فريد بكلِّ هذا فأضحى يحافظ على عائلة فارس محافظة الوالد على أولاده؛ عند ذلك شعرت الفتاة لبيبة بأنه فقير لا يملك شيئًا، وأنَّ على عاتقه حملًا ثقيلًا ربما ينوءُ تحته فأخذت تميل عنه شيئًا فشيئًا؛ لأنها ترغبُ في البهرجَة عن الحياة الساكنة!

أيعدل الفتى عن ابنة أديب أم يخون عهده وينكث بوعده للميت؟ فكرةٌ طالما تنازعت فريدًا الصغير وهو مستغرق في تأملاته! فكرةٌ طالما أسهدتْهُ الليالي وحيدًا على حافة سريره!

آه! إن الشابَّ ليحتاج إلى بعض السعادة في حياتِه!

ففي ذات يوم بعد أن قهر الولد نفسه وانتصر على تلك الأنانيَّة التي تزحف حتى إلى النفوس الكريمة الطيبة، التقى بلبيبة وأرجع لها وعدها.

وعندما اختلى بنفسه قال: أيَّة جريرة أقترف إذا قلت لها: لقد أصبح من الصعب عليَّ أن أقترنَ بك وأكون لك زوجًا؛ لأنني رضيت بأثقال تلك العائلة؟ ثم عاد إلى نفسه فقال: وإذا بقيتْ تحبني؟ إذا قالت لي بكل ما في قلبها من الألم: إذا حقَّ لك ألا تضحي بنفسك فهل يحقُّ لك أن تُضحي بي؟ إذا قالت ذلك فماذا أُجيب؟

أجل، كان لا بدَّ للبيبة أن تقول ذلك لو كانت تحبُّ فريدًا، ولكن هذه الفكرة لم تخطر لها، فاحمرَّت وتضايقت عندما سمعته يحطِّم قيودَ حبِّهِ بكلماته النهائية، تلك القيود التي حطمتها قبلَه في ساعةٍ من ساعات كبريائها! ولكنَّها قالت له: إنك مديون بكثير من الواجب لعائلة فارس! … ولا يمكنك أن تتملَّص من وفائه! … وعندي أنَّ من الجبانة والجحود ألا تقوم بوعدك وتساعدَ هذه العائلة المنكودة، فالرجل أفضل له أن يضحي بسعادته من أن يرفض تتميم ما عليه من الواجبات المقدسة!

ثم أضافت إلى ذلك قولها: أنا لا أجهل أنك كنت تحبني … وأثق كل الثقة بأنك تسعدني لو اقترنت بي.

فتشجع فريد وأجابها: إنَّ لكِ من يحبك غيري، فتقدرين أن تتزوَّجي من جميل هاني فهو قد أنهى خدمته العسكريَّة ويستطيع أن يقترنَ بك بوقت قريب …

– آه! أتوسَّل إليك ألَّا تُعيد على مسمعي مثل هذا الحديث!

كانت حركاتها تحاول أن تخدعَه بالحزن إلَّا أنَّ بريقَ عينيها كان يخون حالة نفسها فتلمع فيه هذه الكلمات: لقد كنتَ حاجزًا لي وحجرَ عثرةٍ يا فريد! أمَّا الآن فقد انسحبت من طريقي؛ لأنَّ الشرف والواجب أوجبا عليك أن تنسحب! لقد أصبحتُ حرَّةً بفضل شرفك وواجبك، فأودُّ أن أتزوَّج بأسرع ما يمكنني، فلقد كفى بنات جونية هزءًا بي! …

عرف فريد أن يقرأ ما في عيني الفتاة إلَّا أنه هرب من أمامها منكسرَ القلبِ دامعَ المقلتين!

•••

بعد مرور أيام قلائل طلب فريد إحالته من وظيفته إلى وظيفةٍ أسمى فقال له المدير: أصبتَ يا عزيزي فقد حُقَّ لك أن ترتقي في مهنتكَ بعد أن خدمت في جونية خدمةً نشكرك عليها ويشكرك جميع رؤسائك؛ فاكتب طلبَك لأصدِّق عليه وأُساعدك بكل ما يتَّسع لي.

كان فريد شديد الاضطراب فرغب أن يهجرَ جونية قبل أن يأذنَ وقت خطبة لبيبة؛ وعندما أطلع السيدة فارس على عزمه النهائي وأخبرها أنه ضمن مستقبله، عاد إلى حزنه واستسلم للآلام الشديدة! إلَّا أنَّه شعر بعد ذلك بحاجته إلى المؤاساة فاتجه ذات مساء من أيام الخريف إلى قبر فارس ليبحثَ عن عزاءٍ هناك.

كانت المقبرة الصغيرة قائمة في وسط حقل قريب من القرية وقد تخلَّلتها الصلبان السوداء وحفَّت به الأعشاب المزهرة وساد عليها سكون مهيب!

سجد فريد أمام الضريح حيث حفرت هذه الكلمات:
هنا يرقد فارس الذي مات موت البواسل.
لقد نسيَ نفسه ليُنقذَ الغير، فالله لن ينساه؛ فليرقدْ بسلام!
وبعد أن صلَّى فترةً قصيرةً تنهَّد وقال:
أيها المستريح في كنف السلام هبني قوةً أنتصر بها على ضعفي.
أيها الرجل الفدائي، يا من نسيت نفسك لتنقذَ الغير امنحني أن أنسى نفسي وآلامي وغرور الحياة! ولا تضنَّ عليَّ بتلك الصلابة التي تمكِّنني من القيام بواجبي حتى النهاية.

إيه صديقي فارس، إن مستقبلي يتراءى لي فارغًا وحياتي لا عذوبة فيها!

ثم أجهشَ بالبكاء والنحيب، وقد لذَّ له أن يستسلم للحسرات أمام الضريح وفي سكون الحقل!

كان يظنُّ نفسه وحيدًا لا عين ترقبه؛ لأنه لم يرَ خيال ولدٍ لطيفًا يقترب منه بين أشجار السرو.

كان هذا خيال الفتاة الزرقاء وقد جاءت لتزيِّن ضريح والدها بطاقاتٍ من الأزهار حملتها تحت ذراعيها.

وقفت الفتاة وراء فريد وقالت لهُ بصوتٍ ملؤه الحزن: لماذا أنت تبكي يا فريد؟

فانتبه الولد من غيبوبة الحزن وقد استغرب نبرات الفتاة، إلَّا أنه لم يلبث أن عاد إلى نحيبه بأشدَّ ممَّا كان عليه، فاستطردت قائلةً: لقد تغيرت طباعك منذ أيام يا فريد … فلماذا طلبت إحالتك من جونية؟ أَبودَّك أن تهجرَنا؟

– أجل!

– ولكن لماذا أنت حزينٌ إلى هذا الحدِّ؟ ماذا صنعوا بك؟

– أشياء لا أستطيع أن أقولها لك!

– آه! أتظُنُّ أنني لم أحزر؟ إنني في الثالثة عشرة من عمري يا فريد! أترغب في أن أقول لك ما هو سبب شقائك؟ هو أنك تحب لبيبة وهي لا تحبك! …

– أجل، لقد حزرتِ … ثم إنها تحبُّ فتًى سواي وتريد الاقتران به!

– مسكين أنت يا فريد!

– آه! لقد أخطأت بقولي لك ذلك! … لأنك لا تدركين هذه الأمور.

– بل أدركها، فلقد أصبحت في عمرٍ أستطيع به أن أفهم آلامك وأرثي لك.

– إنَّ عطفك ليواسيني يا عزيزتي، ولكنني استسلمت لآلامي استسلامًا لا يحقُّ لي. أتريدين أن أساعدَك في وضع الأزهارِ على الضريح؟

– بطيبة خاطر؛ ولكن أحتاج إلى ماءٍ عذبة أملأ بها آنيتي.

– إذن فاتبعيني. إنَّ بالقرب من جدار المقبرة ساقية ماءٍ صغيرة.

كانت الساقية مختبئة تحت أغراس الخيزران ونباتات النعنع فانحنى فريد فوق الماء الجارية ليملأ الآنية الصينيَّة وجلست الفتاة على الأعشاب وأخذت تهيئ أزهارها.

كانت أغراس المقبرة قد لامستها أنامل الخريف فغطَّت الأرض بثوبٍ من الأوراق الذهبية فقالت الفتاة الزرقاء: إذن تود أن تهجرنا يا فريد، وتترك البيت حزينًا بعدك؟

فأجابها الفتى بشيء من الحدَّة: ولكن سيحتفل بخطبة لبيبة في ذلك البيت! لا، لا أقدر أن أرى تهيئة ذلك العرس! آه يا عزيزتي! أنتِ لا تدركين ما هو الحب! …

فتركت الفتاة الأزهار تسقط من يدها ونظرت إلى السماء بعينيها الأثيريتين، وبعد أن وقفت صامتةً أمام السر العظيم، شاخصة إلى الغيوم التائهة قالت بصوتٍ ساذج مضطرب طفَت عليه عذوبة المساء: ما هو الحب يا فريد؟

– الحبُّ؟ آه! وهل أنا أدري ما هو الحب؟ هو أن ينتظرَ الإنسان سعادةً تجعل الحياة جميلةً وعذبة ولا يجد إلَّا مصائب وآلامًا! هو الليل الذي يهبط بعد الفجر!

عند هذا أخذت الفتاة تفكِّر! ثم رفعَت إليه نظرها وقالت: ألا يقدر الإنسان أن يحب مرتين يا فريد؟

– لماذا تسأليني عن ذلك يا عزيزتي؟

– لأني أراكَ لا تزال في ميعة صباك ويتراءى لي أنك ستجد في طريقك فتياتٍ يحببنك أكثر من لبيبة! …

– أتعتقدين يا عزيزتي أن الفتى يستطيع أن يحب مرتين؟ لا، إن القلب إذا وهبَ نفسه لن يرجع عن هبته، بل إنه يختبئ في حبٍّ واحد حتى إذا ما هزئ بذلك الحب يجف القلب ويموت كهذه الأغراس التي يذبلها الخريف ثم يجددها الشتاء!

فنهضت الفتاة لتضع الأزهار على ضريح والدها فتبعها فريد بدون أن يرى الدموع تتناثر من مقلتيها الزرقاوين!

مسكين هذا الولد إنه لم يختبر الحياة ولم يعرف أنَّ الله أجرى في قلب الرجل كما أجرى في الطبيعة ينبوعًا من التجدُّد لا ينضب. إنه لا يدري أيضًا أنَّ الربيع يُزهر الأغصان كلَّما أعراها الشتاء!

٩

– إلى اللقاء!

– عن قريب!

– لا تضنَّ علينا بأخبارك!

– وفَّقك الله!

كان جمهورٌ من الموظفين واقفين على الرصيف يودعون فريدًا قبل ذهابه إلى بيروت ليستلمَ وظيفته الجديدة؛ وكان الرئيس راغب حاملًا تحت ذراعِهِ علَمَه الأحمر وهو يقول: إلى اللقاء أيها الصغير، يجب أن تسير إلى الأمام وتبرهنَ عن ثباتك وتفانيك. تذكَّر هذه العبارات الثلاث:
في القطار السريع يتجه المرءُ إلى واجبه.
في القطار المستقيم يتجه إلى رفاقه.
في القطار البطيء يتجه إلى ملذَّاته …

عند هذا تقدَّم نجيب من فريد وضمَّه إليه بعاطفةٍ وقال له: كنتَ لي بمقامِ ابن حبيب يا عزيزي، فسأذهب عن قريب إلى بيروت لأراك.

تحرَّك القطار، فأطلَّ فريد من النافذة فرأى الفتاة الزرقاء تبكي إلى جانب أُمِّها الكئيبة فقال في نفسه: الوداع يا أصدقائي المخلصين ويا عائلتي الكريمة! الوداع يا ماضيَّ الجميل! …

ثم أخذت المحطَّة تبتعد عنهُ رويدًا رويدًا فتضاءلت على نظره الجدران البيضاء والنوافذ الخضراء والأرصفة الضيقة وقصر المياه والحديقة الجميلة حيث ترقد أحلام حداثته العذبة.

عند هذا شخص إلى الأبعاد وعيناه تبحثان عن منزل العَمَلة فأبصر السطح الأسود يتصاعد مظلمًا إلى سماء تشرين الملأى بالغيوم وشعاع المغيب ينعكس على نوافذ السيدة فارس؛ وتراءت له شجرة الطَّلْح العارية من الأوراق تهزهز أغصانها المستبقية على أطرافها بعض أوراقٍ ذهبية صفراء!

فتنهَّد الفتى وقال: إيه منزلي القديم! يا مأوى حداثتي وأحلامي! …

وفجأةً استيقظت في صدره حياته الماضية فتذكَّر أوجاعه وأفراحه ومرَّت في مخيِّلته آماله البعيدة وأحلامه اللذيذة المتصاعدة من ظلمات الماضي، فخيل له أنها تتمتم في مسمعه قائلةً: أتعرفنا بعد؟

لم يكن منزل العمَلَة مأوى حداثتِهِ الساذجة وشبابه الطافح بالآمال فقط، فكم من فاجعةٍ جرت له بين جدرانه القديمة وكم من مشهدٍ عذبٍ وحادثٍ رهيب!

شرع فريد يسمِّي الرجال والنساء الذين عاشوا في ذلك المأوى واحدًا بعد واحد، فيستيقظ أمامه في كل اسمٍ تاريخ طافح بالذكريات. إنَّ تاريخ منزل العمَلَة هو مختصر تاريخ الإنسانية جمعاء.

بعد فترةٍ قصيرة توارى المنزلُ عن بصره؛ فنزعَ أفكارَه من تلك التذكارات المحزنة وعزم ألَّا يفكِّر إلَّا في وكالته الجديدة التي عُهدَ بها إليه.

إنَّ المرتَّبَ الصغير الذي منحتهُ الشركة لأرملة فارس سمح لها أن تنتظرَ فريدًا حتى يُنهي خدمته العسكريَّة.

مَن يدري؟ ربما يرتقي فريد إلى وظيفة رئيس في الشركة … ربما يتوصل إلى وظيفة مفتِّش للمعادن.

آه! كان أملُهُ الوحيد أن يتمكَّن من مساعدة أبناء السيدة فارس؛ كان أملُهُ الوحيد أن يرى بطرس ناجحًا في عملِهِ، وبولس كاهنًا كما تنبَّأ له الأب يوحنا!

والفتاة الزرقاء، ماذا يحلُّ بها؟ آه! كان يتوقَّع لها مستقبلًا باهرًا ويرجو لها زوجًا صالحًا تصرفُ معهُ حياتها بحبٍّ وسلام!

•••

اتبع أحلامك يا فريد! فالمستقبل المبهم لن يخونَ أمانيك! اتبع أحلامك بنشاطٍ وحميَّة، فلا يعلم أحدٌ في أيِّ طريقٍ يقوده الله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤