أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير

من أعظم أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير فقدهم كل ثقة بأنفسهم؛ وهو من أشد الأمراض الاجتماعية، وأخبث الآفات الروحية، لا يتسلط هذا الداء على إنسان إلا أودى به، ولا على أمه إلا ساقها إلى الفناء وكيف يرجو الشفاءَ عليلٌ يعتقد بحق أو بباطل أن علته قاتلته؟! وقد أجمع الأطباء في الأمراض البدنية أن القوة المعنوية هي رأس الأدوية، وأن أعظم عوامل الشفاء إرادة الشفاء، فكيف يصلح المجتمع الإسلامي ومعظم أهله يعتقدون أنهم لا يصلحون لشيء، ولا يمكن أن يصلح على أيديهم شيء، وأنهم إن اجتهدوا أو قعدوا فهم لا يقدرون أن يضارعوا الأوروبيين في شيء؟!

وكيف يمكنهم أن يناهضوا الأوروبيين في معترك وهم موقنون أن الطائلة الأخيرة ستكون للأوروبيين لا محالة؟! فصال مثلهم مع هؤلاء مثل أولئك الأقران الذين كان يبطش بهم سيدنا علي — رضي الله عنه — في وقائعه؛ فقد حدثوا أنه سمعت له في صفين أربع مئة تكبيرة، وكان من عادته — كرَّم الله وجهه — أنه يكبِّر كلما صرع قرنًا، فقيل له في ذلك؛ فأجاب: كنت إذا حملت على الفارس ظننت أني قاتله؛ فكنت أنا ونفسه عليه.

وهكذا أصبح المسلمون في الأعصر الأخيرة يعتقدون أنه ما من صراع بين المسلم والأوروبي إلا سينتهي بمصرع المسلم ولو طال كفاحه، وقر ذلك في نفوسهم، وتخمَّر في رءوسهم، لا سيما هذه الطبقة التي تزعم أنها الطبقة المفكرة العاقلة المولعة بالحقائق، الصادفة عن الخيالات — بزعمها — فإنها صارت تقرر هذه القاعدة المشئومة في كل نادٍ، وتجعل التشاؤم المستمر والنعاب الدائم من دلائل العقل وسعة الإدراك، وتحسب اليأس من صلاح حال المسلمين من مقتضيات العلم والحكمة وما زالت تنفخ في بوق التثبيط، وتبث في سواد الأمة دعاية العجز؛ إلى أن صار الاستخذاء ديدن الجميع إلا من رحم بك، وكانت روحه من أصل فطرتها قوية عزيزة.

ولم تقتصر هذه الفئة على القول بأن حالة المسلمين الحاضرة هي متردية متدنية لا تقاس بحالة الإفرنج في قليل ولا كثير بل زعمت أن التعب في مجاراة المسلمين للإفرنج في علم أو صناعة أو كسب أو تجارة أو زراعة أو حرب أو سلم أو أي منحى من مناحي العمران هو ضرب من المحال، وشغل بالعبث لا يليق بالعاقل إتيانه، وكأن المسلمين من طينة، والإفرنج من طينة أخرى، فعلوُّ الإفرنج على المسلمين أمر لا بد منه؛ وكأنه كتب في اللوح المحفوظ وجفَّ به القلم، ولم يبقَ أمام المسلمين إلا أن يعلموا كونهم طبقة منحطة عن طبقة الإفرنجة ويعملوا بمقتضى هذه العقيدة.

وكثيرًا ما وقعت لي مجادلات مع هؤلاء المفلسفين بالفارغ صغار النفوس، ولم يكن يدخل في عقولهم المنطق، ولا يعظهم التاريخ، ولا ينفع في إقناعهم علم الطبيعة ولا التشريح، ولا يحيك بهم استنتاج ولا قياس؛ وذلك لما غلب عليهم من آفة الذل، ومرض الاستخذاء، وقد أحس الأوروبيون بما عند المسلمين من هذه الحالة الروحية الموافقة لمصالحهم الاستعمارية، فصاروا يروجونها فيهم، ويقووون عندهم هذه العقيدة، فانطبق على هؤلاء الناعقين بالبين الآية الشريفة: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا.١
ولم يكن الإفرنجة وسعاتهم ودعاتهم بملومين على ترويج هذه النظريات التاعسة بين المسلمين؛ لأنها مما يسهِّل الاستعمار ويمهِّد طرقه ويكفيهم المقاتلات والمنازلات ويوفر عليهم المزاحمات والسابقات، ويجعل لهم التفوُّق بلا نزاع، والتسلُّط دون جدال ولكن العجب كل العجب من هؤلاء المسلمين الذين أمرهم الله ليتصفوا بالعزة ويتسموا بالأنفة ويستوفوا تمام الرجولة كيف كانوا ينقادون لهذه الأضاليل التي مآلها عبوديتهم للأجانب، لقد صدق فيهم كلام الله — تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.٢

وأكثر ما كانوا يؤكدونه للناس من عدم قابلية المسلمين هو استحالة قيامهم بالمشروعات العمرانية والأعمال المادية وكل ما يتعلق به حساب ورقم أو مساحة وقياس؛ فإذا قلت لهم: إن كان المسلمون لا يحسنون هذه العلوم كما تزعمون فكيف استطاعوا أن يؤثروا هذه الآثار الباهرة التي يؤمها السياح من أقاصي الدنيا وكيف ملئوا مصر والشام والعراق والمغرب وإيران والهند والقسطنطينية وغيرها مباني ومؤسسات تبهر الأبصار وتحير الأفكار وكانت لهم معامل ومناسج ودور صناعات متنوعة وغير ذلك مما يعد في الصناعة من الطراز الأول؟ أجابوك: قد كان هذا قبل أن يرقى الإفرنج هذا الرقي الحديث، وقبل أن يكشفوا أسرار الكون التي كشفوها وغير ذلك مما ليس بجواب عن هذا الخطاب والموضوع، هو في واد، وهذا في واد.

فنحن نريد أن نقول: إن كل من سار على الدرب وصل، وإن المسلمين إذا تعلموا العلوم العصرية استطاعوا أن يعملوا الأعمال العمرانية التي يقوم بها الإفرنج، وإنه ليس هناك فرق في القابلية البشرية؛ ولكن على شرط أن ينفض المسلمون عن أنفسهم غبار الخمول، ويلغوا هذه القاعدة التي قد كانت من أسباب شقائهم زمنًا طويلًا؛ وهي أن كل عمل عمراني في الشرق لا بد من أن يستعار له شركة أوروبية لتقوم به وإلا فلا يستطاع عمله، ولقد أتت التجارب بعد ذلك بما يثبت فساد هذه النظرية بتمامها، وتمكن المسلمون في كثير من البلاد من إنشاء شركات صناعية وتجارية وتأسيس معامل ومناسج ودور صناعة نجحت نجاحًا باهرًا كذب مزاعم تلك الفئة المثبطة وصيَّرها موضوعًا للهزء.

ولما عزم السلطان عبد الحميد الثاني العثماني على مد سكة حديدية من دمشق إلى الحرمين الشريفين قوبل هذا المشروع أوانئذ بمزيد الاستغراب تبعًا للعادة، ومن الناس من ضحكوا به وقالوا: نحن نرى أنفسنا عاجزين عن إنشاء طريق عجلات، فكيف نستطيع أن ننشئ سكة حديدية طولها يزيد عن ألفي كيلو متر وأنَّى لنا المال والعلم اللازمان لمشروع عظيم كهذا؟! وأغرب من تشاؤم المسلمين وشعورهم بالعجز عن القيام بهذا العمل أن المهندس الألماني الكبير مايستر باشا الذي انتدبه السلطان لرئاسة مهندسي هذا الخط هو نفسه كان لا يعتقد إمكان إنشاء هذا الخط، وكان هذا الرجل صديقي فسألته مرة عن رأيه فيه فقال: لي إنه يرجو إيصاله إلى معان وهي مسافة أربع مئة كيلو متر من دمشق، فأما مده من معان إلى المدينة فيكاد يكون من المستحيل. فسألته: هل ذلك من عدم وجود المال؟

قال: على فرض وجد المال فإن دون إنشاء الخط موانع طبيعية يتعذر التغلب عليها؛ فإن السكة يلزم لها ماء في كل محطة، والماء لا يوجد إلا في محطات معدودة، وإن أنشأنا صهاريج تملأ بماء المطر لم يؤمن أن الحرارة في الصيف تنشف بشدتها مياه الصهاريج، وهناك صعوبة أخرى وهي أن الخط سيمتد في أمكنة كلها رمال، وقد تهب الرياح السافياء فتأتي برمال تغطي الخط، ولا يمكن منع ذلك إلا بزرع الحلفاء والقصب والطرفاء، وكل هذا يلزمه ماء حتى ينمو؛ وأين الماء من تلك الأراضي؟! هذا كان كلام المهندس الكبير لي من جهة الطبيعة، ثم ذكر الخطر الواقع على الخط من أعراب البادية.

فأما أنا فكنت معتقدًا خلاف اعتقاد الآخرين قائلًا بأن ليس ثمة صعوبات لا يستطاع تذليلها، وكنت من الذين ينددون بالمتشائمين والمتهكمين، ونظمت في هذا المشروع قصيدة أحث بها الأمة على التبرع لأجله، وتبرعت أنا من جيبي بخمسة عشر جنيهًا، وذكرت ما سيكون لهذا الخط من الفوائد العمرانية والاقتصادية والعسكرية؛ فضلًا عن تسهيل الحج الذي هو هدفه الأسمى، وكان مطلع قصيدتي:

ألا يَا بَني الإسلام هَلْ مِنْ مُسَاعِد
لِفِعل سَمَاويّ المثوبة مَاجِد

فلما طبعت القصيدة ونشرتها سلقني الكثيرون من أولئك الغربان بألسنة حدادٍ؛ وكأني كفرت في تنويهي بمشروع يربط الشام بالحجاز ويختصر المسافة بينهما على الحجاج من ٤٠ يومًا إلى أربعة أيام وهزءوا ما شاءوا، وتمنطقوا بقدر ما أرادوا، ولكن كل تلك الفلسفة لم تجدهم فتيلًا ونجز الخط الحديدي من دمشق إلى المدينة المنورة؛ وهي مسافة ألف وأربع مئة كيلو مترًا، ولولا خلع السلطان عبد الحميد لكان قد تم إلى البلد الحرام، ولكن من بعده فترت الهمة بإكماله، وجاءت الحرب وعواقبها فقضت بإهماله.

ثم إن هذا الخط جاء من أبدع الخطوط الحديدية في العالم، صادفت مرة فيه أحد كبراء مسلمي الهند من أعضاء مجلسها الأعلى وهو ممن تثقفوا ثقافة إنكليزية محضة وتخرج من جامعة أكسفورد فقال لي: لا يوجد في نفس إنكلترة سكة حديدية تضاهي في الإتقان هذه السكة، ولو لم أشاهدها بعيوني ما صدقت بوجودها. وبالفعل لم يصدق كثير من المسلمين أخبارها فأرسلوا وفودًا يشاهدونها بأعينهم، فكان المسافر يصل من دمشق إلى المدينة في ليلتين، وكانت دمشق تستفيد كل سنة من هذا الخط ما يقارب ٢٠٠ ألف جنيه، وعمرت القرى التي مر بها الخط، وارتفعت أثمان الأراضي ارتفاعًا مدهشًا، وتضاعف عمران المدينة المنورة أضعافًا، هذا فضلًا عما توفر من المشاق والأخطار على الحجاج والزائرين، والتجار والمسافرين.

وأما الصعوبات الطبيعية التي كانوا يقدرونها فلم يصح منها شيء، وأما الأعراب فلم يقع منهم على الخط أدنى اعتداء، وكان عند كل محطة من محاط الخط قلعة فيها جند للمحافظة، وكل تلك المحطات والقلاع كانت مبنية أمتن بناء، ولما كان لا يتاح لغير المسلمين دخول أرض الحجاز فكان إنشاء الخط؛ أي القسم الداخل منه في الحجاز كله على أيدي مهندسين مسلمين، حتى إن مايستر باشا الألماني نفسه لم يتجاوز في إشرافه بلدة تبوك.

ولما ذهبت إلى المدينة المنورة زائرًا للنبي وذلك سنة ١٣٣٠هـ، كنت أسمع أن عدم مد الخط الحديدي من المدينة إلى مكة نشأ عن اعتراض قبائل العرب من حرب وغيرها، وأنهم لا يسمحون بمرور الخط في أراضيهم، ففحصت هذه القضية فوجدت أكثرها هراءً وافتراءً، وسألت شيوخ القبائل عما يقال من معارضتهم في إنشاء السكة؛ فقالوا: لو كنا معارضين لإنشائها لعارضنا ذلك من أول دخولها في أرض الحجاز، والحال أننا كنا مساعدين للحكومة على هذا المشروع بكل قوانا، فسألتهم التوقيع على عريضة للدولة يطلبون فيها تمديد هذا الخط من المدينة إلى مكة فوقَّع عليها جم من أولئك المشايخ، ولم تكن الدولة عهدت إليَّ بهذه المهمة، وإنما قمت بها خدمة للوطن وللملة.

ولولا طروء الحرب العامة بعد ذلك بقليل لكان بوشر بمد الخط الحديدي من المدينة إلى مكة، فلما انتهت الحرب العامة واحتلت إنكلترة فلسطين وفرنسا سوريا كان أول ما توجهت إليه همم الإنكليز والفرنسيس هو تعطيل هذا الخط الحديدي الذي يربط القطر الشامي بجزيرة العرب ويقرب صلات المسلمين بعضهم ببعض.

وكم احتج المسلمون على تعطيل هاتين الدولتين لهذا الخط الحيوي للشام والحجاز، وكم أبدوا وأعادوا في أن هذه السكة الحديدية الحجازية كانت تركيا قد جعلتها من جملة أوقاف المسلمين فلا يحق لدولة أجنبية أن تعبث بأوقافهم! فلم يكن ذلك ليقنع تينك الدولتين بالاعتدال ورفع الاعتداء، ولا تزال هذه المؤامرة الفظيعة على هذا الحق المقدس من حقوق المسلمين نافذة إلى يوم الناس هذا، فإذا قام شخص مثلنا يذكرهم بهذا الاعتداء القبيح ضاقت صدورهم به ودسَّ عليه الإنكليز في السر، وطعن عليه الفرنسيس في الجهر، ونعتوه «بعدو فرنسا» وما أشبه ذلك.

والحال أننا إنما نريد صلاح أحوال بلادنا، ولا نضمر لأحد سوءًا، والشاهد الذي نقصده هنا هو ما سبق إنشاء سكة الحجاز من تشاؤم كثير من المسلمين، واستهزائهم واستنكارهم وتأكيد أنه خط محال إنشاؤه، ومشروع يكون من قلة العقل تعليق الأمل به، وهذا مثال من أمثلة كثيرة لا يمكن استقصاؤها من كثرتها؛ فقلَّما تدخل بلدًا من بلدان الإسلام، ولا يوردون لك من هذه الأمثال.

وكما ظن المسلمون أنهم لا يحسنون شيئًا من المشروعات العمرانية، وأنه لا بد لهم من الأوروبي حتى يدخلوا الإصلاح في بلادهم، وأنه من دون الإفرنجي لا يقدرون على أية عمارة ولا مرفق ذي بال، كذلك ذهبوا إلى أنه لا حظ لهم في الأعمال الاقتصادية أصلًا، وأن كل مشروع اقتصادي إسلامي صائر إلى الحبوط إن لم تكن له أركان إفرنجية، وقد طال نومهم على هذه العقيدة الفاسدة حتى لم يبق في بلادهم شيء اسمه اقتصاد إلا كانت إدارته بأيدي الإفرنج أو اليهود، وحتى لو دعا منهم داع إلى تأليف شركة تجارية أو صناعية أو زراعية لم يدخلها صاحب رأس مال من المسلمين إلا إذا كانت إدارتها بيد إفرنجي أو يهودي، وكلمة الجميع عندهم: نحن لا يخرج من أيدينا عمل ولا نصلح لشيء.

وقد بقي اليهود والإفرنجة يتمتعون بخيرات بلاد الإسلام قرونًا وحقبًا طوالًا دون مزاحم ولا مراغِم، ويستدرون فيها أخلاف كل صنعة، ويستورون زناد كل مرفق إلا ما ليس له بال حتى ولو قدّر ما ضاع على المسلمين في ظل هذا الوهم بالمليارات وعشرات المليارات ما كانت فيه مبالغة وكأن المسلمين لم يوجدوا في الدنيا إلا عمَلةً أو أكرة يشتغلون بأيديهم، ولا يشتغلون بعقولهم.

وبهذا السبب خلا الميدان في بلاد الإسلام لأصناف الأجانب يركضون فيه جياد قرائحهم وعزائمهم، ويجمعون الثروات التي ليس وراءها متطلع لمزيد؛ وذلك على ظهور المسلمين ومن أكياسهم، وقد يكثر التحدث بما يصيب الأجانب من هذه المكاسب الطائلة التي كان أهل الإسلام أولى بها؛ لأنها من بلادهم ولا تحفزهم همة ولا تأخذهم غيرة فيجربون الخب في الحلبات الاقتصادية إلى أن نبغ في مصر محمد طلعت باشا حرب، فكان في هذا الباب أمَّة وحده، وأدرك بواسع عقله وثاقب فكره أن ليس في هذا الموضوع شيء يفوق طاقة المسلمين، ولا مما يتعذر وجود أدواته عندهم، وأن قصورهم فيه عن مباراة الأجانب لم يكن إلا من آثار ذلك التوهم القديم الذي هو أنهم لا يحسنون الجري في أي ميدان من ميادين الاقتصاد، وقد وجدت عند هذا الرجل في جانب رجاحة العقل وسداد الحكم همة بعيدة قعساء، ونزعة وطنية صافية من الأقذاء، سالمة من الأهواء، فاجتمعت فيه جميع الشروط اللازمة لمن شاء أن يبدأ بالشرق بنهضة اقتصادية تزاحم بالمناكب وثبات الأجانب، ومما يندر في الرجال الجمع بين الحساب الدقيق والخيال الواسع، وهما قد انتظما جنبًا إلى جنب في دماغ طلعت باشا حرب، فكانت سعة خياله مساعدة له على الإقدام نحو المشروعات التي هي مظان الأرباح، وكانت دفة حسابه مساعدة له على نجاحها، وضمان أرباحها، وبالاختصار اقتحم طلعت حرب معركة هي الأولى من نوعها في المجتمع الشرقي.

وعندما باشر جمع رأس المال الذي كان حدده لإنشاء بنك مصر وهو ٨٠ ألف جنيه عانى في ذلك أهوالًا، ونحت جبالًا؛ وذلك لما ران على عقول المسلمين من أنهم لا يقدرون على الاستقلال بعمل اقتصادي، وأن كل عمل منهم في هذا السبيل حابطٌ من نفسه، هابطٌ على أم رأسه، فلما أخذ طلعت باشا حرب يتقاضى أغنياء مصر المشاطرة في هذا المشروع لبوا نداءه؛ حياءً منه، لا اعتقادًا بأنه سيأتي بثمرة، وبقيت ثقتهم بأجمعها في بنوك الأجانب، وما زال معولهم عليها إلى أن شاهدوا بأعينهم النجاح الذي كاد يكون معجزة في نظرهم، وارتفع رأس مال بنك مصر من ٨٠ ألف جنيه إلى مليون جنيه، واحتوت خزائنه من الودائع على عدة ملايين من الجنيهات، واشتمل على أملاك وملفات وشركات متعددة متنوعة تقدر بملايين أخرى من الجنيهات؛ بحيث زادت الأموال التي تحت تصرف البنك على عشرين مليون جنيه، وكل هذا في ثماني عشرة سنة أنشأ فيها طلعت باشا حرب ومدحت باشا يكن ورفاقهما على حساب بنك مصر شركة مصر للغزل والنسج التي معملها في المحلة هو من أكمل وأعظم معامل الغزل والنسيج في العالم يعمل فيه ١٨ ألف عامل يندر فيهم غير المصري، ويسد من المنسوجات القطنية ثلث حاجة القطر المصري بأجمعه، فيكون قد وفر على المملكة المصرية ثلاثة ملايين جنيه سنويًّا، كانت من قبل تخرج من جيوب المصريين لتدخل في جيوب الأوروبيين.

وهناك من توابع بنك مصر شركة مصر لنسج الحرير، وشركة مصر للتمثيل والسينما، وكل هذه نالت معروضاتها الجوائز الكبرى في المعرض الدولي الباريزي سنة ١٩٣٧ ثم شركة مصر لمصايد الأسماك، وشركة مطبعة مصر، وشركة مصر للطيران، وشركة مصر للسياحة، وناهيك بشركة مصر للملاحة البحرية وما أنشأته من المنشآت الجواري كالأعلام؛ مثل: زمزم، والكوثر، والنيل، وغيرها؛ مما كاد يكون كالأحلام، فصار الحجاج يبلغون الحجاز على بواخر يرون بها أنفسهم في مثل قصور الملوك؛ فراهةً، ورفاهة، وراحة، ونعيمًا، ومقامًا كريمًا، وصار سياح مصر الكثيرون إلى أوروبا في فصل الصيف يركبون تحت العلم المصري الشريف بواخر لو قرنت ببواخر الأمم الأوروبية لحلَّت بينها في الصف الأول، هذا بعد أن قضينا كل الدهر نسير ونسري في البواخر الأجنبية ونؤدي إليها أموالنا بلا سبب سوى قصور هممنا عن إنشاء بواخر خاصة بأوطاننا؛ بها ركوبنا، وعليها نقل بضائعنا، وليس هنا محل تفصيل مشروعات طلعت باشا حرب باعث النهضة الاقتصادية في الشرق لنخوض في هذا العباب، ولا مقصدنا تمجيده والإشادة بمآثره ولو بالحقيقة، وإنما كان إيرادنا هذه القصة على سبيل المثال لما كان عليه المسلمون من الجبن في المواطن الاقتصادية إلى أن هب هذا الرجل مدير بنك مصر فأيقظهم من سباتهم، وأعلمهم أنهم رجال كما الأوروبيون رجال، وأنهم إذا شحذوا غرار عزائمهم وأعملوا أسنَّة قرائحهم قدروا على ما يقدر عليه الأجانب من الأعمال الاقتصادية الكبيرة.

وها نحن أولاء الآن نرى العاملين في بنك مصر وفي الشركات المضافة إليه ثلاثين ألف مستخدم وعامل كلهم مصريون؛ إلا النادر الأندر، وهكذا بدأ المسلمون يقتحمون معارك الحياة الاقتصادية في كل فن من فنونها، وتولدت عندهم في أنفسهم ثقة كانت محجوبة عنهم من قبل؛ بحيث إن أحمد حلمي باشا والسيد عبد الحميد شومان من فلسطين أسسا في القدس بنكًا كل رأس ماله خمسة عشر ألف جنيه، وتوفقا — بحسن إدارتهما — إلى أن صيرا هذا البنك العربي الوحيد في القطر الشامي من البنوك المعدودة ذوي الفروع الكثيرة صار يشتمل على خمس مئة ألف جنيه.

وكذلك أسسا بنكًا زراعيًّا شاطر في تأسيسه أكثر من خمسة آلاف مساهم من عرب فلسطين، وبلغ رأسماله نيفًا ومئة ألف جنيه، فسدَّت بهذين البنكين الأمة العربية في فلسطين حاجتها، واستغنى ذوو الحمية منها عن الالتجاء إلى بنوك الأجانب، وفهم الناس أن هؤلاء ليسوا فوق الشرقيين، وأنهم لا يعجزون.

إنما جئنا بهاتين المسألتين للاستدلال على الأضرار الفظيعة التي كان يحدثها بالمسلمين عدمُ ثقتهم بأنفسهم.

ولعلهم بدءوا يتعافون الآن من هذا المرض الاجتماعي المهلك، والله غالب على أمره.

هوامش

(١) البقرة: من الآية ١٠.
(٢) التوبة: من الآية ٤٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤